ربِّ.. نريد نُوحاً من ضعف الرقة وأهلها!

03 نيسان/أبريل 2017
 
النساء وكتابة يوميات الحرب في سوريا (3-2)
 
ربِّ.. نريد نُوحاً من ضعف الرقة وأهلها!
 
فقدت أثر الفرنسيتين الصاهلتين في محل النت منذ أن بدأت حرب السيطرة على الموصل قبل أكثر من ثلاثة أشهر: من الممكن أنهما ذهبتا مع زوجيهما إلى هناك.
أما القنوات الإخبارية فتصر على تأكيد انتصارات يحققها الجيش العراقي، والميليشيات، في الموصل. في المقابل، نسمع من الموصليين النازحين – اللاجئين في الرقة أن ذويهم يؤكدون بشكل يومي من خلال الاتصالات أن المعارك لا تزال بعيدة عن الموصل، وحتى إذا دخلت قوة عسكرية أحد الأحياء في أطراف الموصل الغربية، أو الشرقية، فهذه تكون عملية استدراج من قبل التنظيم الذي يعود ليحاصرهم ويدخل عليهم انتحارييه وسياراته المفخخة.
آخر الأخبار من "سوريا المفيدة"، قبل أن ينتزع التنظيم الصحن اللاقط من سطح بيتنا، كانت تقول إن روسيا بدأت تخفيض أعداد الطائرات وسحبت حاملة الطائرات "كوزنتسوف".
 
يوم عادي
في منتصف كانون الأول الماضي، مضى شهر تماماً على آخر غارة روسية على وسط مدينة الرقة أحدثت مجزرة جديدة. مع ذلك، ظلت طائرات التحالف تحوم في سماء المدينة، وتضرب الريف القريب غالباً، وأحياناً المدينة. لكن الترويع والتدمير الأكبر ظل من نصيب الطائرات الروسية.
قبل تحطيم الدش، والتهديد بعواقب خطيرة في حال تكرار المخالفة، كنت في السوق بعد يوم من استعادة داعش السيطرة على تدمر. هو يوم عادي من أيام كانون الأول الماضي في الرقة، كنت أتسوق على الرغم من توقعاتي وتوقعات الناس أن الطيران الروسي سيضرب في أي لحظة. الحياة في الشارع تسير بشكل طبيعي في يوم بارد ومشمس معاً، تزدحم فيه السيارات والناس المشاة.
كنت أمشي مستعجلة، كالعادة، حتى أنهي مهامي وأعود سالمة، بينما كان بعض عناصر داعش يحتفلون باسترجاع تدمر. استمر إطلاق الرصاص لساعة تقريباً، والناس كانوا مدركين أن الرد سيأتي من فوق رؤوسهم في أي لحظة، فقد تعودنا في الرقة أنه كلما حدث شيء في العالم يتبناه التنظيم نكون نحن ثمن الانتقام منه.
بعد وصولي إلى البيت بأقل من ربع ساعة، دخلت إلى غرفتي لأحضر شيئاً. وما إنْ فتحت باب الخزانة حتى دوى انفجار رهيب تعجز الكلمات عن وصفه. لم أستوعب، فبدأت أصرخ. البيت اهتز، وأصوات تحطم الزجاج تتابع مع انفتاح النوافذ والأبواب، وهجوم الغبار إلى داخل البيت. الضربتان الثانية والثالثة كانتا أقوى، وكان صراخي الثاني أقوى من الأول، وأنا أتوقع أن الصاروخ التالي سينفجر في بيتنا. أحسست بخدر رهيب في جلدة رأسي من شدة عزم الانفجار، ومن الخوف ربما، حيث فقدت الإحساس بالزمان، أو المكان، وتحولت وظائف الحواس إلى الفوضى المعتادة، التي لا تشبه سابقاتها. في مثل هذه اللحظات لا تملك إلا أن تخاف، أو أن تخاف إلى حد معين. وعليك أن تجد طريقة تسيطر فيها على نفسك.
دخلت الغرفة ابنة أخي "شام" ذات الثلاث سنوات، واحتضنتني. وعندما حاولت أن تفلت مني لتخرج من الغرفة، تشبثت بها وسحبتها لأبعدها عن الباب. توقعت أن تكون الضربة التالية هناك في أي لحظة! التصقنا أنا وهي ببعضنا، وجلسنا على الأرض، وأنا ممسكة بيديها. كانت تظن بروحها الطفلة أنني ألعب معها، وأحاول أن أخبئها عن الآخرين. كنت أدفن وجهها في صدري، وهي تقول "ما تشوفنا الطلالة.. عمة الطلالة دلبت عوا". كنت أحضنها لأتماسك بعد الصدمة، أكثر حتى من تفكيري بحمايتها. لكن بعد لحظات، كنت أقول في نفسي: إذا كان هذا القلب الصغير مستهدف بهذا الجنون فينبغي علي أنا أن أتماسك. شام كانت هادئة.
هذه اللحظات استغرقت أقل من عشر دقائق، قبل أن يهدأ تردد اهتزاز الهواء، وتصل رائحة الدمار والدم والغبار. الفوضى كانت كبيرة في الشارع، وهذا ما تبين بعد ذلك.
 
امرأة مستطرقة
بعد دقائق، دخلت امرأة بيتنا، فالباب مفتوح، وارتمت على الأرض. كانت مصابة بشظية في وجهها، وذعرها أشد درجة من الموت. وما لا يحتاج إلى شرح أنها كانت في الشارع لحظة القصف، فدخلت إلى أقرب بيت صادفته هرباً من الغارة التالية. أحضرت غطاء وغطيتها، بينما كانت ترفع إصبعها وتتشهد همساً. أمسكت بيدين من ثلج بين يدي، وأنا أتابع نظراتها الغائمة والغائبة. سألتها عن اسمها، فهمست: لا أعرف. لم أستغرب. حاولنا إيجاد سيارة لنسعفها، فلم نجد. كان الشارع لا يزال في حالة فوضى، بينما أغلقه عناصر التنظيم بأشرطة ملونة تطوق مكان الانفجارات. بقيت بقربها أحاول تشجيعها مع أنني أكثر خوفاً منها. كان خدها مفتوحاً على طوله، فحاولت تجفيف الدم كي لا يدخل عينها. بعد قليل، سألتها عن رقم هاتف منزلها، فاستطاعت أن تتذكره. وبعد نصف ساعة تقريباً جاء أخوها وأخذها.
بعد الحادثة، لم أستطع مغادرة البيت لأيام. وعندما خرجت أخيراً، شاهدت منظر الدمار الذي سمعت أصواته، وشاركت الناس ذهولهم من نوعية الصواريخ التي يمكن أن تحدث كل هذا الخراب، وتقتل كل هؤلاء الناس في دقائق. كان الشارع على طول مئتي متر تقريباً مدمراً. وبعض البيوت أصبحت أثراً بعد عين، وبعضها بقي منه القليل. ومن دُمر بيته، ولم يمت، كان يفكر أين سيسكن، وكيف سيتدبر بدل الإيجار!
 
حسبة معطرة
أرضنا سوقنا نحرثها بالمشي، لكنني كنت مضطرة هذه المرة إلى استئجار تكسي بالمشاركة. ركبنا مع سائق تكسي، فسألنا: أخواتي إذا كنتن متبرجات لا تركبن معي. وبدأ الحديث، فقال: البارحة كنت في الحسبة. بقيت ساعة في التحقيق. والله لم أفعل شيئاً. كل القصة أن أربع نساء ركبن معي (واحدة غير مسموح لها بركوب تكسي، لأن الشيطان يكون ثالثهما). مع ذلك، استوقفتني الحسبة، فسألتهم لماذا؟ فقال عنصر منهم أنه رآني منذ قليل أرش عطراً في السيارة. وأنني أحاول إغراء النساء برش العطر في السيارة. أجبته: "والله يا شيخي مو عطر. والله ملطف جو من رائحة الفيول والبنزين. أردت التغطية على رائحة البنزين فقط". لم يقتنع، فأخذني أنا والنساء إلى مقر الحسبة. النساء أخذوهن إلى الطابق الأعلى لتكشف عليهن "الأخوات" إن كن متبرجات أم لا، على الرغم من أنهن محجبات تماماً، حتى عيونهن بالكاد تظهر. حققوا معي ساعة حتى تأكدوا أن العلبة هي علبة ملطف جو، وليست عطراً!
 
تلفزيون "الدولة"
بدأ تلفزيون "البيان" بثه الأرضي في بدايات هذه السنة في مناطق سيطرة "الدولة"، بعد أن بدأت منذ أشهر حملة لإزالة الدشات، واضعة عقوبات سجن وجلد لكل من يخالف الأوامر. القناة تبث أخباراً وبرامج دينية، وتسجيلات للعمليات الانتحارية، ومشاهد إعدام. إضافة إلى برامج عن تدريب أشبال الخلافة، مترافقة بأناشيد التنظيم ذات اللحن الرتيب المعروف. وبذلك، أصبح المصدر الوحيد للمعلومات في الرقة هو "البيان". في الحقيقة، هذه الخطوة تطبيق للمثل "الزن على الأذن أقوى من السحر". وهي وسيلة في كل بيت للإقناع بأنهم "دولة الخلافة"، وبأنهم المخلِّصون، وأنهم الأقوى، وكل ما عداهم باطل. وهي طريقة ليعيش الناس على حكاياهم وأفكارهم.
 
الخروج من الرقة
يتساءل كثيرون: لماذا يتأخر من يستطيع الخروج من الرقة عن تنفيذ ذلك؟ ولماذا يبقى طالما هو ليس معهم؟ وبعضهم يجزم أن كل من بقي في الرقة هو معهم.
هذا أمر بعيد تماماً عن الحقيقة. صحيح أن لبعض الناس مصالحاً معهم، وأن بعض الناس يقتنع بخطابهم، لكن الأغلبية بقيت في الرقة بسبب انعدام الخيارات، أو من صعوبة الظروف المادية. لقد تبين للناس أن حرب السنوات الطويلة قد تستمر لسنين أخرى قبل أن يستقر الوضع. ففي الرقة، كما في مدن أخرى، الناس لا تستطيع ترك مكان عيشها ورزقها، وبيوتها، خاصة بعد أن شاهدوا حال الناس النازحين في سوريا، واللاجئين خارجها.
وأي رَقِّيٍّ يحسبها: أستطيع التعايش مع الخطر والموت، لكن كيف سأعيش لسنين غير معروفة جارَّاً ورائي عائلة فيها الطفل والشيخ، أو العاجز، أو المريض، لأضعهم في ظروف العوز إلى كل شيء. يقول الشخص في نفسه: لو كنت أعرف أنها مدة معينة لخرجت، ولكن إلى متى؟ هذا السؤال لا يستطيع أحد الإجابة عنه. وهذا القرار ليس قرار شخص واحد، فكل شخص مرتبط بأشخاص، وعليه أن يفكر بهم قبل الخروج. ففي بيتك، أو بلدك، تستطيع أن تتدبر أمورك كيفما كان، يقول الواحد منهم. وفوق كل ذلك، ولمن يقولون: لماذا لا يخرج الناس إذا لم يكونوا معهم، فهل الحل هو خروج كل الناس، خروج كل هذه الآلاف. وإن قرروا الخروج، فإلى أين؟
هذا بينما تهيأ داعش لمعركة الرقة القادمة، دون ساق، أو قدم، بإلزام الدكاكين برفع سواتر ترابية أمامها، أو وضع أكياس من الرمل. كذلك يُقال إن التنظيم حفر أنفاقاً استعداداً لحرب في الشوارع. كما أصدر أمراً أن يكون لباس الرجال شبه موحد، بلبس الثوب المحلي، لكن القصير، أو اللباس الأفغاني، كي لا يميز المهاجمون بين الأهالي وعناصر داعش!
أما الأنفاق فيبدو أنها إشاعة، فأهالي الرقة يعرفون أن حفر الأنفاق غير ممكن، خاصة في المناطق القريبة من الفرات، فحفر بضعة أمتار يعني انبجاس الماء من الأرض، ما يعني أن حماية النفق تحتاج إلى حلول هندسية مكلفة في المال والوقت، وتحتاج إلى مهندسين، وليس مجرد حفاري أنفاق!
خيار الأهالي المحدود كان الهروب نحو الريف الشرقي في القرى التي سيطرت عليها "قوات سوريا الديمقراطية"، وحلفاؤها من "قوات النخبة"، بعد أن حُوصروا بين تضييق داعش، وغموض توجهات القوات الكردية، وجشع المهربين الذين يطلبون من كل شخص 300 ألف ليرة للخروج به نحو الريف الشمالي، دون ضمانات.
 
الصاروخ الجلاد
استلقيت في فراشي مرغمة على تذكر أصوات انفجار الصواريخ المتتابعة، لأعترف للصواريخ بما تريد. فبعد كل واحد منها، نصل إلى حافة الموت، ثم نعود. أقول: لم يحن دوري بعد، فقد انفجرت في مكان ثان. استلقيت منهكة بعد أن مارست لعبة اختبار الموت السريع. لم أنم، ولم أكن صاحية. أدرك أني بقيت على هذه الحالة حتى الصباح. لم أتقلب، بل تصلبت على جهة واحدة. كان دماغي لا يزال يستعيد أصوات تخلخل الهواء، فدخلت في حالة تشبه الهلوسة. كنت أردد كلمات تحاول مواجهة الصوت الوهمي للانفجار الذي كان لا يزال يتردد. بقيت أردد هذه الكلمات حتى الصباح: يا رب! نريد نوحنا. أين نوحنا، وليصنع الفلك الذي يريد، وأن لا يلتفت لسخرية الأقوياء والمكذبين والكاذبين. نريد نوحاً من ضعفنا. سئمنا قوة الأقوياء التي تجر بؤسنا وحلمنا.
هذا ما تفعله الطائرات بنا حين تقسمنا إلى خائف، وغير مبال. هذا ما فعلته الثورة في البداية، حين قسمتنا بطريقة مختلفة إلى موال ومعارض. ثم انقسم المعارضون إلى معارضين لبعضهم، وإلى أسماء كثيرة ورايات أكثر، وولاءات تبعاً للأهداف المختلفة.
نعيش في ظل الموت البشع الممتد من السماء إلينا، والمحيط بنا على الأرض. لا نمارسه، بل نعيشه. يصحو معنا من نومنا، يرافقنا في كل خطوة، ويشرب معنا الشاي. يجلس معنا على المائدة، بل يرافقنا حتى إلى الحمام. يمشي في دمنا، وعلى بشرتنا، كحلزون، ويتثاءب كقط، وينتظر اللحظة المناسبة ليخدش لحظات هدوء قد نمر بها. نراقبه، أو يراقبنا، بحذر، في السماء وفي الأرض، ليتحول فجأة إلى عين هائلة من النار والدخان تبتلعنا عندما يبدأ الهدير، أو الصهيل.
 
هلوسات سياسية
قبل يوم واحد من تنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، نتذكر أنه كان أثناء حملته الانتخابية ينتقد أوباما من أنه يضيع عنصر المفاجأة في حربه على تنظيم "الدولة"، عنصر المفاجأة هذا لا يفاجئ غير المدنيين الذين لا يملكون أي وسيلة ليتفادوا القصف المفاجئ، فهذه البلاد ليست معدة للحرب مع أنها "دولة المقاومة". ولا يوجد فيها بناء واحد ليكون ملجأ في الحالات الطارئة. والمدنيون لا يملكون في كل الأحوال سوى خيار البقاء في بيوتهم انتظاراً للموت.
نحن في انتظار تفسير ترامب وفريقه لعنصر المفاجأة، بعد أن اختبرنا كمدنيين كل أنواع المفاجآت، وأصبحت خبرتنا معقولة بأصوات الطائرات والصواريخ والقنابل؛ نعرفها من صوتها، ومن نوعية الانفجار عندما نشاهده.
كانت الأخبار تقول، قبل أن ندخل في منطقة الظل، والتعتيم الإعلامي، أن حاملة الطائرات الروسية الوحيدة "كوزنتسوف "غادرت سوريا في اتجاه سواحل ليبيا، وأن الجنرال خليفة حفتر قام بزيارتها.
كنت أتابع الخبر، فانفجرت بالضحك، عندما تخيلت حفتر فلاحاً يريد فلاحة أرضه، وحفر بئر، أو أكثر، فيها، لسقايتها. الرجل لديه عمل يريد إنجازه، والصواريخ الروسية هي الأفضل للفلاحة وحفر الآبار، وقد أثبتت جدواها في حلب عندما أخرجت الماء من تحت الأرض. ضحكت من ألمنا، فنحن لا نملك إلا أن نخاف ونبكي، أن نخاف ونضحك، وأن نخاف ونتابع الحياة.
ملكة العائد

كاتبة وصحافية من الرقة لها عدد من المواد المنشورة بالاسم المستعار "فرات الصافي".

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.