المحلي أولاً: في صراعات وانهيار الفصائل السورية

17 آب/أغسطس 2017
 
لطالما أثار الانهيار السريع لفصائل تنتمي للجيش السوري الحر في إدلب ومحيطها (ريف حلب الغربي، ريف حماة الشمالي) أسئلة واستغراباً من المراقبين، بسبب الحجم المفترض لهذه التشكيلات مقارنة بالعدد الأصغر لجبهة النصرة (جبهة فتح الشام، هيئة تحرير الشام)،
وساعدت حملات جبهة النصرة سابقاً على صعود حركة أحرار الشام كبديل معتدل لهذه الفصائل وللمجتمع المحلي، ولكن الحركة أيضاً تعرضت لحملة من قبل هيئة تحرير الشام في تموز/ يوليو 2017م أدت إلى شبه انهيار في الحركة وتحول الهيئة إلى الفصيل المهيمن في إدلب.

إن تتبع الديناميات المحلية للصراع ومستوياته المتعددة وجذور الثورة الشعبية والفصائل المقاتلة، قد تقدم تفسيراً أفضل للظاهرة وحجم هذا الانهيار. ففي آذار 2011م بدأت في مدينة درعا احتجاجات شعبية كبيرة أخذت طابع انتفاضة مجتمع محلي ضد السلطة المركزية لنظام الأسد، ولم تلبث أن توسعت الانتفاضة لتأخذ هذا الطابع المحلي في مناطق عديدة من سوريا وتتوفر على حواضن شعبية وتتحول إلى شعارات ثورة وطنية شاملة، خاصة في الأطراف خارج المدن الكبرى، ومن ضمنها محافظة إدلب. ونشأت المجموعات الأولى للعمل المسلح من المدنيين والضباط المنشقين عن الجيش الرسمي تحت عنوان "الجيش السوري الحر" ككتائب مناطقية وامتداد للمجتمع المحلي قبل أن تجري محاولات تنظيمه ومأسسته ضمن فصائل أو تحالفات عسكرية، ورغم تحولات المشهد الفصائلي إلا أن الكتائب المناطقية وارتباطها بمجتمعاتها المحلية بقيت الوحدة الأساسية والعامل الأكثر ثباتاً وأهمية في تحولات المشهد العام.

الاستقطاب بين الثورية والجهادية

نشأ استقطاب وصراع متراكم مع توسع الظاهرة الجهادية في سوريا عامة، وفي إدلب خاصة، والتي تحولت إلى أكبر تجمع للقوى الجهادية والإسلامية المختلفة مع الوقت: ما بين التنظيمات الجهادية (وأبرزها جبهة النصرة) وشعاراتها المتعلقة بتحكيم الشريعة والتجارب الجهادية العالمية ورفع الرايات الإسلامية من جهة، وما بين نشطاء وقوى الانتفاضة الشعبية (وأبرزها تشكيلات الجيش السوري الحر) وشعاراتهم المتعلقة بالحرية والدولة الوطنية وعلم الاستقلال من جهة مقابلة؛ بينما حاولت حركة أحرار الشام المحافظة على موقع وسط بين الطرفين وكسب الشرعيتين الثورية والجهادية مع انحيازها المتصاعد (والذي أصبح شبه محسوم مؤخراً) لناحية القوى والشعارات الثورية المحلية.

حظيت فصائل الجيش الحر بأوسع قاعدة اجتماعية وامتداد جغرافي مع تسليح جيد، ولكنها بقيت متفرقة دون هيكلية تجمعها فيما عدا عنوان "الجيش الحر"، ورغم إدراكها أنها مستهدفة من قبل جبهة النصرة ككل، إلا أنها تصرفت غالباً من منطلق فصائلي أو مناطقي لدى هجوم الجهاديين على فصائل أخرى وفضلت الحياد وانتظار دورها، أو محاولة التفاهم بشكل منفرد مع جبهة النصرة. وبعد حملة جبهة فتح الشام الأخيرة خلال مؤتمر الأستانة الأول، اجتمعت الفصائل المدعومة من غرفة الموم ضمن غرفة عمليات بقيادة العقيد فضل الله حجي من فيلق الشام المقرب من تركيا، ولكن لا يمكن المراهنة حالياً على تماسك أو بقاء غرفة العمليات هذه، خاصة بعد انهيار الأحرار وتوقف برنامج الدعم الأمريكي.

وتتشابه حركة أحرار الشام من حيث بنيتها ككتائب محلية مع فصائل الجيش الحر، ولكن مع وجود مؤسسة وأيديولوجيا ساعدت من قبل على تماسكها وتوسعها وعلى مواجهة جبهة النصرة والتحول لأكبر قوة مسيطرة في المحافظة، وتقديم نفسها كبديل معتدل للشبان المتحمسين للشعارات الإسلامية، أو لفصائل الجيش الحر التي تشعر بالتهديد، وتدخلت أكثر من مرة للدفاع عن المجتمع المحلي أو حلفائها ضد جبهة النصرة مع حيادها في كثير من الأوقات، ولكن ذلك انتهى بهزيمة الأحرار السريعة مؤخراً أمام هيئة تحرير الشام(هتش).

ورغم أن جبهة النصرة استطاعت بناء شبكات تأييد ومناصرة في هذه المناطق إلا أن بنيتها اعتمدت على الأفراد المنتسبين للتنظيم، واعتمدت على قوى معينة داخلها في مواجهة الفصائل مثل قاطع البادية (مجموعات تتمركز في ريف حماة الشرقي والمناطق الجنوبية من إدلب) وجيش النصرة (وهو وحدة عسكرية منظمة تعتبر قوات نخبة داخل الجبهة) والمقاتلين الأجانب، ولم تتحصل على حواضن مجتمعية صلبة فيما عدا استثناءات قليلة.

المجتمع المحلي: الوحدة الأساسية في المعادلة

حافظت المجتمعات المحلية إلى درجة كبيرة على انحيازاتها وشكل استجابتها الأول للانتفاضة الشعبية وطابع التشكيلات المسلحة التي انطلقت منها، حيث يلاحظ أن الحواضن المحلية الأولى للانتفاضة الشعبية وبداية تشكل الجيش السوري الحر مثل جبل الزاوية ومعرة النعمان والأتارب وكفرنبل وسرمدا حافظت على طابعها الثوري المحلي وعلى رفض المجتمع المحلي –ومواجهته- لنفوذ جبهة النصرة والجهاديين، رغم قدرة جبهة النصرة على تفكيك بعض الفصائل التي كانت في هذه المناطق بشكل أسهل من قدرتها على مواجهة المجتمع المحلي، كما حصل في مدينة الأتارب التي كان مقاتلوها عماد حركة حزم التي فككتها جبهة النصرة في آذار 2015 ولكن لم تستطع الجبهة إلى اليوم إيقاف الاحتجاجات الشعبية ضدها أو تثبيت نفوذها في البلدة، وكذلك معرة النعمان حيث أجبرت المظاهرات الشعبية الغاضبة ضد "هتش" على الخروج من المدينة رغم عدم قدرة الفرقة 13 (فصيل الجيش الحر في المعرة) على منعها عسكرياً، وقد تكررت مشاهد مقاومة المجتمع المحلي ضد سيطرة هتش أيضاً في سراقب والأتارب وحزانو وبلدات أخرى خلال المعركة الأخيرة بين أحرار الشام وهتش وأدت إلى أن تبقى هذه البلدات تحت  سيطرة المجتمع المحلي وطرد هتش من المدينة أو منع اقتحامها من الأساس.

كما يمكن ملاحظة أن القواعد الأولى التي نشأت فيها حركة أحرار الشام الإسلامية مثل سهل الغاب بقيت تشكل قواعد مقاتليها وقوتها المواجهة لنفوذ جبهة النصرة (فتح الشام، تحرير الشام)، وهي في الوقت نفسه كانت حواضن للمظاهرات السلمية في البدايات أيضاً، وإن كان بعضها قد اختار الحياد في المعركة الأخيرة مثل بنش.

بينما استطاعت جبهة النصرة تثبيت نفوذها بشكل أسهل في المناطق التي شهدت نشاطاً أقل للانتفاضة في البدايات أو تأخر خروجها عن سلطة النظام أو لم يطور المجتمع المحلي فيها تجربته الثورية ومؤسساته وفصائله، إضافة إلى عدم تماسك المجتمع المحلي نفسه أو تطوير عصبيات فاعلة، مثل سلقين وحارم ومدينة إدلب رغم أن المجتمع المحلي فيها لا يشكل حاضنة أو قبولاً للجهاديين بالضرورة.

التماسك الذاتي للفصائل

إضافة إلى تماسك المجتمع المحلي، فقد كان هناك تفاوت في قدرة الفصائل على الصمود أو حشد المجتمع للقتال معها، بسبب عوامل تتعلق بمدى شعبيتها أو تجاوزاتها لدى المجتمع، أو تماسك قيادة وهيكلية الفصيل نفسه وكاريزمية القائد، أو سيطرة الفصيل على مساحة جغرافية خاصة به.

إضافة إلى ذلك ساهمت هشاشة بعض المواقف السياسية للفصائل أو عدم استجابتها لدعوات التوحد في التشكيك بشرعيتها أو جدوى الدفاع عنها من قبل الحواضن نفسها المنحازة إلى الجيش الحر أو من عناصرها أنفسهم، وهو ما عملت دعاية جبهة النصرة على تغذيته لدى العناصر، بإعلان أن خلافها مع قيادتهم "المنحرفة" فقط، ولم تعمل هذه الفصائل على بناء انتماء صلب أو عقيدة قتالية لدى أفرادها –الجدد خاصة- ضد الجهاديين، مقارنة بالعقيدة القتالية الصلبة لدى الجهاديين ضد خصومهم، وهو ما ضاعف هشاشة التنظيم الذاتي مع هشاشة الشرعية والحاضنة أيضاً لدى قسم من هذه الفصائل.

ورغم أن الدعم الخارجي (بالنسبة للجيش الحر أو المجموعات الإسلامية) قد أمدّ هذه الفصائل بتسليح وتمويل جيد، إلا أنه أضعف قدراتها على التوحد وزاد من حرص قياداتها على كياناتهم الخاصة، وقد تم قطع الدعم عدة مرات عن فصائل عقدت تحالفات أو اندماجات فيما بينها، إضافة إلى إغراءات لمكونات أخرى بالانفصال، وهو ما أثر على قدرات المواجهة والتماسك أيضاً، إضافة إلى تأثير محتمل لتعدد الداعمين وسياساتهم على العلاقات أو الصراعات البينية.
 
 
على سبيل المثال ولإظهار الفروق، في الحملة التي قامت بها جبهة فتح الشام بعد الأستانة يناير 2017، تمكنت الجبهة من السيطرة على المستودعات الضخمة لجيش المجاهدين في بلدة الحلزون وكذلك على مقرات الجبهة الشامية دون حدوث اشتباك يُذكر، بينما استمر القتال العنيف قرابة أسبوع في منطقة جبل الزاوية دون أن تتمكن الجبهة من هزيمة صقور الشام الذي يحظى بتأييد وشبه تطابق مع المجتمع المحلي في بلدة سرجة ومحيطها والذي اعتبر هجوم الجبهة نية "احتلال" لمناطقه من قوة غازية، وهو الأمر الذي تكرر مؤخراً في هجوم هتش الكبير على أحرار الشام في تموز / يوليو، حيث كانت مجموعات الصقور المنضمة للأحرار بالإضافة لمجموعات الأحرار في سهل الغاب هي التي قاومت هجوم هتش بضراوة واستطاعت حماية مناطقها.

بينما ساعدت الخلافات الداخلية في جيش المجاهدين وعدم وجود منطقة جغرافية خاصة به إضافة إلى عدم محاولة جبهة فتح الشام نفسها اقتحام مناطق ريف حلب الغربي المناهضة لها، ساهم في عزل المعركة بالحلزون وعدم حماسة عناصر الفصيل للدفاع عنه ككل.

يمكن ملاحظة الأمر نفسه في مناطق مختلفة من سوريا، خاصة في الغوطة الشرقية التي شهدت أحداث اقتتال داخلية دامية منذ 2016م وما زالت تتجدد، ورغم الخلافات التي تبدو أيديولوجية أو بسبب داعم خارجي بين الفصيلين الرئيسين (فيلق الرحمن وجيش الإسلام)، إلا أن العوامل المناطقية والحساسيات السابقة على الثورة بينها كانت العامل الأبرز في هذه الاختلافات والتي تغذت لا شك من الاختلافات المذهبية وصراعات النفوذ والتدخلات الإقليمية.

خاتمة

لا شك أن الضعف الهيكلي والأزمات الذاتية لفصائل الجيش السوري الحر كانت العامل الأهم في ضعف تماسكها على المدى الطويل، أو ضعف مواجهتها الحالية لهيئة تحرير الشام (سابقاً: جبهة فتح الشام، جبهة النصرة)، ولكن انحسار فصائل أو تفككها لا يعني بالضرورة تفكك المقاتلين والكتائب المناطقية المشكلة له، ولا تفكك الحواضن المحلية التي ما زالت تتبنى شعارات الجيش الحر، والثورة الشعبية، وتناهض نفوذ الجهاديين، وتشكل غالبية البلدات الرئيسة في ريف إدلب وحلب رغم عدم وجود تنظيم عسكري مركزي يجمعها، ما يضعف قدراتها على المواجهة. وقد فشلت أحرار الشام أيضاً بالصمود أمام هتش لأسباب قريبة من فصائل الجيش الحر بالإضافة إلى عامل التقارب الأيديولوجي سابقاً.

 يبقى من المهم التأكيد أن السيطرة العسكرية لا تعني تأييد المجتمع المحلي بالضرورة، وأن القوة الأخيرة التي لم تُهزم في مقاومة التطرف حتى الآن هي هذا المجتمع الذي قاوم سلطة الأسد الديكتاتورية من قبل بالطرق نفسها، وهذه المجتمعات يجب دعمها في مطالب الحرية وحياتها اليومية وليس الاصطفاف إلى جانب الاستبداد والتطرف ومعاقبتها عبر سياسات حرب الإرهاب وتهميش الجوهر السياسي للثورات الشعبية.
أحمد أبازيد

كاتب وباحث سوري، له دراسات ومقالات منشورة في مراكز دراسات ومواقع متعددة. متخصص في دراسة شؤون الجماعات القتالية في سوريا، كما يكتب في قضايا فكرية عديدة.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.