"الدانة" السوداء التي أصابت مدينة دير الزور

20 شباط/فبراير 2017
 
جلس خالد مندهشاً أمام التلفاز حين سمع مذيعة القناة الفرنسية الرابعة تتحدث حول أن هجمات باريس التي حدثت في تشرين الثاني /نوفمبر من عام 2015، قد تم التخطيط لها في مدينة دير الزور السورية، وتابع بعدها أحد المسؤولين قائلاً: إن "الطائرات الفرنسية سوف تحرق الأرض هناك".
لم يعرف وقتها خالد الذي قضى 27 عاماً من عمره في تلك المدينة الصغيرة التي تقع شرق سورية، ماذا يفعل؟!، وهو يعيش اليوم منذ خمسة أعوام في مدينة "بوردو" الفرنسية، وعاد ليسترجع ذكرياته بين شوارع تلك المدينة البسيطة المجاورة لنهر الفرات في شرق سورية.
جرّت مدينة دير الزور وريفها الأنظار إليها، بعد أن سيطر تنظيم "الدولة الإسلامية" في منتصف عام 2014 على الأراضي التي خرجت عن سيطرة النظام السوري لصالح المعارضة، ووجد السكان أنفسهم فجأة محاصرين بين مطرقة النظام وسندان التنظيم المتشدد مما دفع غالبيتهم للهرب نحو باقي المحافظات أو إلى خارج البلاد وعلى الأخص إلى الدول الأوروبية التي أعطتهم حق اللجوء، أما من بقي فهم من غير القادرين على تحمل تكاليف السفر.
 
انشطار المدينة
 
يخضع القسم الأكبر من أحياء المدينة المسكونة بالإضافة إلى كامل الريف تحت سيطرة التنظيم، فيما حافظ النظام على قواعده في أحياء الجورة والقصور وهرابش والبغيلية، والتي تمثل نسبة 20% من مساحة الأحياء السكنية، بالإضافة إلى ذلك يحكم النظام سيطرته على مطار دير الزور العسكري الذي يمتد على رقعة جغرافية واسعة توازي مساحة المدينة بشكل كامل، وينصب مدفعيته فوق التلة المطلة على كامل المدينة والتي كان الأهالي في السابق يدفنون فيها موتاهم.
ومنذ بداية عام 2015 المنصرم فرض التنظيم الذي شغل العالم بجرائمه، حصاراً خانقاً على مناطق سيطرة النظام، بعد أن قطع طريق دير الزور – تدمر، وسيطر على كامل البادية السورية، وبالنسبة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية فان عدد المدنيين المحاصرين داخل أحياء النظام بات يفوق عدد المحاصرين داخل مناطق سيطرة المعارضة السورية في باقي سورية، وقد أوضحت فاليري آموس مديرة المكتب وقتها، أن عدد المدنيين الذين لا تستطيع وكالات الإغاثة إيصال المساعدات الإنسانية إليهم ارتفع من 212 ألفاً في نهاية شباط /فبراير إلى 440 ألفاً في مارس 2015، كما أشارت آموس أمام مجلس الأمن الدولي إلى أن 228 ألف شخص إضافي هم "محاصرون من قبل تنظيم داعش في أحياء دير الزور، والتي تسيطر عليها قوات النظام".
تدهورت الأوضاع بشدة في الأحياء المحاصرة بسبب النقص الحاد في المواد الغذائية والصحية والأدوية، رافق ذلك انقطاع تام في التيار الكهربائي، وتوقف متقطع للمياه، ونقل أحد السكان المحاصرين صورة سوداوية عن ما يجري هناك، حيث قال: "إن العذاب هنا أكبر وأشد، لا يوجد ما نستطيع أكله أو التدفئ فيه"، مضيفاً أنه يريد الخروج هو وأبنائه لكن لا يستطيع بسبب منع قوات النظام ذلك.
وأشار الشخص ذاته الذي رفض الافصاح عن هويته أنه خسر 24 كيلوغراماً من وزنه، لافتاً إلى أنه "لا يكترث لذلك، فهو ما زال يحتمل"، متابعاً حديثه أن "ما يحرقه هو تأوّه أولاده الثلاثة الذي لا يقوى على سماعه. منذ أيام لم يحصلوا إلا على علبة من سمك السردين وأربعة أرغفة من الخبز وكيلوغرام واحد من البطاطا، هم الذين أصبحوا أشبه بالأشباح وتميل بشرتهم إلى الاصفرار في حين يبدو الوهن والكآبة واضحَين على وجوههم".
وأوضح مدير مرصد "العدالة من أجل الحياة" في دير الزور جلال الحمد أن برنامج الغذاء العالمي يواصل عمليات إسقاط المساعدات الإنسانية للمحاصرين في أحياء مدينة دير الزور، وذلك منذ تاريخ 10 نيسان /أبريل 2016، مضيفاً أن المساعدات تتضمن مواد الغذاء الأساسية وهي: (العدس- السكر- الزيت- زبدة الفستق- رز- فاصولياء- رب البندورة- برغل- ملح- سمنة).
ويعمل المرصد على توثيق الانتهاكات في المدينة وانطلق عمله مع بدأ الحصار على المدينة، ولاحظ المرصد أن عمليات توزيع المساعدات تتخلها عدد من الانتهاكات مما يمنع تخفيف الحالة الإنسانية الصعبة داخل تلك الأحياء، وأهم هذه الاننتهاكات هي سطوة عناصر الأمن والاستخبارات على المساعدات الغذائية وسرقتها.
 
الثقب الأسود

تتعرض المراكز الحيوية في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" في دير الزور للقصف بشكل مركز، ومنها المشافي والمدارس والأسواق والمناطق السكينة، ووثقت منظمة "دير الزور 24" سقوط 1347 مدنياً في مختلف مناطق دير الزور خلال عام 2016.
وقال مدير المنظمة عمر أبو ليلى إن "المدنيين القاطنين في مناطق التنظيم ليست بأفضل حال من المدنيين المتواجدين في المناطق المحاصرة"، مضيفاً أن المدنيين هناك "لم يسلموا من بطش (التنظيم) وتسلطهم على المدنيين وارتفاع الأسعار وإغلاق العديد من المحال التجارية وازدياد حالات الفقر بكثرة، إضافة إلى القصف من مختلف أنواع الطائرات".
 
عائلة نازحة من مدينة دير الزور
 
وأوضح أن معاناة المدنيين زادت بعد بدء عمليات التحالف الدولي في 23/09/2014 وكان الضحية الأكبر لها هم المدنيين.
ودمرت طائرات التحالف جميع الجسور التي تربط بين مدن وبلدات ديرالزور على ضفتي نهر الفرات، وباتت تستهدف أي محاولة للعبور عبر القوارب الصغيرة، وهو ما شكل كارثة إنسانية لأهالي المنطقة، حيث بات من الصعب عليهم الوصول إلى المدن الكبرى التي يوجد فيها أساسيات العيش والخدمات من مراكز صحية وأسواق.
 
صراع طويل ضحيته المدنيين

يعيش سكان دير الزور تحت قصف النظام واستبداد عناصر التنظيم، ويرفض أحد الطرفين التنازل للآخر، إذ أن دير الزور مدينة هامة استراتيجيا فلها آبار نفط، وهي نقطة الوصل بين الرقة، التي يسميها التنظيم عاصمته، ومدينة الرمادي العراقية، بيد أن المدنيين هم الذين يعانون من القتال المستمر والطغيان.
ويحاول النظام السوري إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بجدوى قدرته على محاربة الإرهاب عبر وساطة روسية وإيرانية، لذلك يصر على الإمساك بمناطقه في مدينة دير الزور، وهو الأمر الذي بات يتسبب في إبقاء العمليات العسكرية قائمة بين مد وجزر وسط المدنيين، دون إمكانية حسم المعركة لصالح أحد الطرفين، مع العلم أن معارك القضاء على التنظيم المتشدد مؤجلة في دير الزور إلى حين هزيمته في الرقة والموصل أولاً.
وفي هذا الشأن دعم النظام السوري تشكيل فرق عسكرية من أهالي المدينة الهاربين إلى دمشق تحت مسمى "حشد دير الزور" لطرد عناصر التنظيم من المدينة، وفي التوازي مع ذلك أعلن الحشد الشعبي العراقي عن استعداده الدخول إلى سورية بعد الانتهاء من عمليات الموصل.
أما تنظيم "الدولة الإسلامية" وبعد الهجمة التي أخذ يتعرض لها في العراق وسورية، وخسارته لمناطق عديدة، بات يسعى لإحراز نصر معنوي يبثه لمؤيديه، ويرفع من معنويات مقاتليه، وحاول عدة مرات التقدم والسيطرة على كامل أحياء المدينة لكنه فشل في ذلك، كما أخذ يعمل على قصف المدينة بقذائف الهاون بشكل يومي مما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا في صفوف المدنيين.ومن الواضح أن معاناة المدنيين مستمرة في كل الأحوال، سواء تحت حكم التنظيم أو النظام.
 
تأثر سكان المدينة بأحداث العراق

تأثر سكان مدينة دير الزور وريفها بما حدث في العراق إبان الغزو الأمريكي لها في عام 2003 أكثر من أي محافظة أخرى في سورية، وذلك لعدة عوامل أولها القرب الجغرافي والتداخل العشائري، حيث أن محافظة دير الزور ملاصقة لمحافظة الأنبار، وأغلب العائلات في المدينة ينحدر أصلها من عشائر العراق، إضافة إلى قرب العادات والتقاليد والتبادل الثقافي، فلم يكن هناك منزل في دير الزور يخلو من المحطات الأرضية العراقية التي كانت تبث على مدار اليوم البرامج العراقية.
جميع هذه العوامل ساقت الشباب إلى العراق للقتال إلى جانب المجموعات الجهادية التي ظهرت هناك بعد الإطاحة بالنظام العراقي السابق، وكما لفت سكان المدينة في شهاداتهم إلى أن أغلب هؤلاء الشباب كانوا من فئة الطلبة الجامعيين، ولم يحملوا الفكر الإسلامي المتشدد، أو فكر أيديولوجي، ومع هذا فقد كان لذلك الأثر البالغ في قدوم قادة تنظيم القاعدة إلى ريف دير الزور الملاصق لحدود العراق والذي خرج عن سيطرة النظام السوري منذ منتصف عام 2012، وتشكيل فرق عسكرية لهم.
 
ما قبل التنظيم

إلى حين وصول تنظيم "الدولة الإسلامية" لدير الزور في منتصف عام 2014، فان السيطرة الحقيقية بمعظمها كانت لفصائل "الجيش السوري الحر" على حساب الفصائل الإسلامية، بالرغم من الأحاديث التي تقول إن تنظيم القاعدة في سورية انطلق من قرية "الشحيل" بريف دير الزور.
وهذا ما أعطى مجلس المحافظة المشكل من قبل وحدة المجالس المحلية التابع للمعارضة السورية القدرة على تشكيل "محاكم قضائية" بقيادة قضاة منشقون عن النظام السوري، واعتمدوا فيها القانون العربي الموحد، الذي يحوي على أحكام مدنية لا تقبل بها الفصائل الإسلامية، كما تم تشكيل "جهاز شرطة" و "الدفاع المدني".
وحاولت "الجبهة الإسلامية" التي كانت تضم فصائل معروفة بتوجهها الإسلامي كـ (أحرار الشام وجيش الإسلام وصقور الشام ولواء التوحيد)، إغراء عدد من الفصائل القوية في محافظة دير الزور وشملها تحت رايتها من خلال تقديم الدعم المادي والعسكري والسياسي لها، لكنها فشلت في كل مساعيها.
وقد رفضت أغلب فصائل المعارضة السورية المعتدلة في دير الزور مبايعة التنظيم بعد دخوله إلى مدينة دير الزور دون قتال، وأصرت على متابعة القتال ضد قوات النظام السوري داخل المدينة، وهذا ما أجبر التنظيم على القبول بهم، وأطلقوا عليهم لقب "الأنصار"، دون إعطائهم الميزات التي يحصل عليها عناصرهم كالمعاشات الشهرية المرتفعة والرعاية الصحية لعائلاتهم.
وترافق ذلك مع رفض العديد من العشائر والعوائل المبايعة، ومنها عشيرة "الشعيطات"، التي قتل منها المئات على يد عناصر التنظيم، الأمر الذي دفع التنظيم إلى أن يكون أكثر صرامة لإرهاب السكان، فتم تحريم التدخين، ومنع الرجال من لبس بنطال "الجينز"، وفرض شكل معين من حلاقة الشعر، كما فرض على المرأة لباس مكون من "عباية سوداء وقفازات سوداء"، إضافة إلى وضع "النقاب".
وبات من الواضح أن معاملة التنظيم تتباين حسب رضاه على السكان، فهو يستخدم الحكم القاسي لإكراه الناس على الركوع ومبايعته، ويعيش معظم سكان دير الزور هذه المعاملة القاسية، إلى حين قبولهم بشروط التنظيم والرضوخ له بشكل كامل.
كما قضى التنظيم على جميع الهياكل المحلية التي شكلها سكان المحافظة في الفترة مابين عامي 2012 و 2014 كبديل عن مؤسسات النظام السوري، ما حرم المحافظة من دعم جميع المنظمات الدولية، ما نتج عنه إعادة انتشار عدة جوائح مرضية ومنها شلل الأطفال بسبب عدم توفر اللقاحات، والتهاب الكبد من النوع (A)، والأمراض الجلدية كاللشمانية، كما أدى إلى إغلاق جميع المدارس التي كانت تدرس الطلاب المناهج التعليمية التي أصدرتها الحكومة المؤقتة المنبثقة عن المعارضة السورية، وتعويضها بمدارس شرعية وإدخال الأطفال بمعسكرات لتعلم القتال.

يوم الدانة

لم ينم خالد بعد تلك الليلة خوفاً مما قد يلحقه به من آذى إذا عرف جيرانه أنه من مدينة دير الزور، وأخذ يبحث عن أساليب لتغيير وجه نظر الفرنسيين بسكان المدينة، وبعد عدة أيام جمع عدد من المثقفين الفرنسيين وبدأ يطلعهم على حال سكان المدينة، ويحاول إقناعهم بأن ما حصل هو ليس من صنع أولئك المدنيين البسطاء، والمغلوبون على أمرهم، وعلى جميع سكان العالم مساعدتهم والوقوف إلى جانبهم باعتبارهم ضحايا كضحايا الهجمات الإرهابية التي طالت باريس.
لكنه اصطدم ببعض المتشددين الذين اعتبروا أن هذا التنظيم "حظي بدعم من السكان الذين أصبحوا حاضنته الشعبية"، مضيفين أن هؤلاء وأولادهم باتوا يهددون العالم، هذا الكلام أثار غضب خالد، ودفعه للرد على هذا الكلام عبر القول أن الدول الغربية هي من أدت إلى هذه النتائج في الشرق الأوسط، بعد أن عملت طوال سنين على احتلال دوله، وتجهيل السكان، وذكر الحاضرين بيوم "الدانة" وهو اليوم الذي قصفت فيه القوات الفرنسية دير الزور في عام 1945 وسقط فيها عشرات الضحايا، و"الدانة" التي تعني القنبلة بلهجة أهل المنطقة، لم ينسى شدتها من عاش تلك الأيام، والتي كانت محاولة لوقف الاحتجاجات الشعبية التي طالبت بإنهاء حالة الاحتلال.
غيث الأحمد

صحفي من سوريا، عمل على تغطية الأحداث في سوريا مع العديد من الصحف المحلية والعربية. يهتم بالكتابة الاستقصائية إضافة إلى القضايا الاجتماعية والإنسانية.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.