لكنها أصبحت أكثر وضوحاً ورسوخاً بعد أن عاد هو ليوضحها ويدافع عنها في العام الأخير لولايته، عبر الحوار الذي أجراه معه جيفري غولدبيرغ في مجلة "The Atlantic" (1).
تتبدى حالة الاستعصاء تلك بمجموعة نقاط مترابطة، ومتناقضة، ومحصلتها صفرية، حيث هناك أولاً، أنظمة عسكرية أو دينية، أو عسكرية/دينية هجينة، مستحيلة الانصلاح الذاتي، لكنها مستحيلة الاسقاط أيضاً دون سقوط الدولة معها، وسقوط الدولة أمر غير مرغوب دولياً، ولاسيما بعد تجربتي العراق وأفغانستان، كما أنه لا يعني واقعياً سوى السقوط في الفوضى، وبالتالي التطرف والخراب الكلي، غير القابل للضبط أو السيطرة.
وهناك ثانياً، ثورات شعبية حالمة بالتغيير دون "امتلاك مسبق" لأدوات التغيير لا السياسية ولا الاقتصادية ولا الاجتماعية، ولا العسكرية بكل تأكيد، فالسياسة كانت ممتنعة قبل الثورات ومُحتكرة من السلطات الأحادية والمانعة للتعدد، وما يعنيه ذلك من انعدام وجود تيارات سياسية فاعلة ومنظمة، أو جاهزة لتشكل بديل سياسي ممكن عن السلطات المرغوب إسقاطها، والسياسة أيضاً بقيت ممتنعة بعد الثورات نتيجة الحرب؛ الطاردة لكل سياسة، التي شنتها الأنظمة تجاه شعوبها، وهي حرب مفتوحة وشاملة ووجودية، رأيناها تحصل في ليبيا واليمن، ونراها في سوريا كيف تحرق البلد وأهلها دون توقف منذ خمسة أعوام متتالية، بينما عاد العسكر ذاتهم إلى السلطة، وبطريقة أسوأ من السابق، في مصر. أما الاقتصاد فقد بقي، بالمجمل تقريباً، مملوكاً للدولة/النظام وزبانيتها ورجالها المرتبطين عضوياً ومصلحياً بالأنظمة، وهو ما شكّل ويشكل عقبة هامة أمام التغيير، على اعتبار رأس المال جبان بطبيعته، وبطبقته المالكة أيضاً. وأخيراً من الناحية الاجتماعية، لم يكن لدينا مجتمعات مدنية قوية ومستقلة بمؤسساتها ونقاباتها قبل الثورات، بل مجتمعات مُذرّرة، لا هي تقليدية تماماً، بالمعنى العصبوي "العصبيّة"، ولا هي حديثة، بالمعنى المنظم للمجتمعات الحديثة. تلك المجتمعات التي أدى العنف السلطوي تجاهها خلال الثورات، إلى تفتتها بنيوياً، وانهيار الجدران العائبة لتساكنها الوطني، وعودتها الاجبارية نحو الهياكل الأهلية ما دون الوطنية بحثاً عن الحماية والأمان.
وهناك ثالثاً، نظام المجتمع الدولي المتوَّج "بعقيدة أوباما" الأكثر تأثيراً في حال الاضطراب الاستراتيجي الحاصل، والأكثر تعبيراً عن تبدلاته في القرن الجديد. فالنظام الدولي الذي كان متجهاً نحو اللامركزية والتعدد القطبي بشكل بطيء قبل الثورات العربية، ساهمت سياسة أوباما، الأقرب "للهنتغتونية"، بتسريع انفلاته من القبضة الأمريكية السابقة دون أمل بالعودة. ويمكننا التوضيح بأن نظام القطب الواحد، والمركزية الأمريكية، الذي ابتدأ مع نهاية الحرب الباردة، وصل نهايته مع احتلال العراق 2003، ليبدأ بعدها بالاتجاه نحو التعدد القطبي مع صعود الصين واستعادة روسيا لجزء من عافيتها، وتشكيل مجموعة بركس، والفشل الأمريكي في القيادة الواحدة، ثم الأزمة الاقتصادية الأمريكية العالمية عام 2008.
لكن انعدام القطبية الدولية بدأ يتحول إلى فوضى على صعيد دولي، لاسيما بعد نجاة الأسد من العقوبة إثر استخدامه للسلاح الكيماوي في غوطتي دمشق، حيث كان المعنى الحقيقي لعدم معاقبة الأسد، هو انهيار مبدأ الحماية الإنسانية، السائد منذ تسعينيات القرن الماضي، والذي ينص على عدم احترام سيادة الدول، وضرورة التدخل، عندما يوجد حاكم يرتكب المجازر والإبادة الجماعية ضد شعبه. لنلاحظ منذ ذلك الوقت كيف أصبحت دول كثيرة أقل التزاماً بالشرائع الدولية، وأكثر انفلاتاً تجاه داخلها المحلي وخارجها الدولي، وأكثر جرأة في تجاوز الإرادة الأمريكية، حتى وصل الأمر مؤخراً بالملك سلمان "ملك السعودية" أن يرسل أمير الرياض لاستقبال رئيس أقوى دولة في العالم في سابقة دبلوماسية تحمل الكثير من المعاني في طياتها.
قال الملك الأردني، عبدالله الثاني، بعد تراجع أوباما، في اللحظات الأخيرة، عن الضربة المقررة للنظام السوري عام 2013: "يبدو أنني أؤمن بالقوة الأمريكية أكثر مما يؤمن بها أوباما نفسه" (2). هذا الكلام، لم يكن لسان حال الملك الأردني وحده، بل كان تعبيراً عن حال معظم الأنظمة والشعوب في العالم، حيث كان سائداً ما يشبه العقيدة العالمية، أن الولايات المتحدة هي الموجه الأساسي للسياسة الدولية، وعندما تقول شيئاً، إن كان صراحة أو غمزاً، فهي إذاً ستقوم بفعله، وتوجيه الأمور نحوه. ولذلك نرى مثلاً كيف كان تعليق هيلاري كلينتون؛ المستاءة من تراجع أوباما، والمعتادة على النمط التقليدي لعلاقة أمريكا بالعالم، وهو ما يسميه أوباما ساخراً "كتاب واشنطن لإدارة اللعبة"، حيث قالت: "عندما تقول إنك ستضرب فيجب أن تضرب، ليس هناك خيار" (3). أما في مصر حيث كان سائداً منذ أنور السادات ما يشبه "السنّة السياسية التحليلية فيما يخص العلاقة بالقوى العظمى، والتي تقول: إن الولايات المتحدة تملك 99% من أوراق اللعبة الإقليمية. وهذا التصور، أصبح بالفعل هو المهيمن على مخيال من يقبله أو يرفضه على حد سواء. حتى أنه امتد ليكون تصوراً حاكماً فيما يخص اللعبة الداخلية، فنجد مصطفى الفقّي، سكرتير حسني مبارك السابق لشؤون المعلومات يقول: إن الولايات المتحدة يجب أن توافق على شخص أي رئيس جديد لمصر" (4). وهذا ما بقي سائداً لدى الطبقة السياسية المصرية حتى ما بعد الثورة الأولى، فقد رأينا كيف اندفع الرئيس السابق محمد مرسي مثلاً، ليغلق السفارة المصرية في سوريا، فور تلقي إشارة أمريكية، غير مباشرة أصلاً، بموقف حازم ضد نظام الأسد. لكن الوضع انقلب تماماً بعد 2013، ووضوح الرخاوة الأمريكية والتردد الأوباموي، حيث اندفع السيسي، وعلى العكس من مرسي، نحو الانفلات والتحرر من كل الاشارات والتنبيهات الخارجية، ولاسيما الأمريكية منها، وأصبح حديث المؤامرة و"أخونة" كل منتقد لسياسة السيسي، داخل مصر وخارجها، مسألة تندِّر بقدر ما هي تعبير عن الحال "التراجيكوميدي" الذي وصلت له مصر السيسيّة.
لكن ما علاقة "عقيدة أوباما" بكل ما يحدث، ولاسيما في الاستعصاء الثوري الحاصل في شرق المتوسط؛ في سوريا بشكل مُركَّز، وفي المنطقة العربية بشكل متصل، لكن أقل تركيزاً؟
يعتقد أوباما بشكل عميق، أنه لا أمل من الصراع "القبلي" الحاصل في المنطقة، وأنه ليس على أمريكا الحرب في "ديار المسلمين"، ولا الغوص في مستنقعات الشرق الأوسط مجدداً، إلا في حال التعرّض لإسرائيل طبعاً، (حيث يعتبر عدم الدفاع عن إسرائيل فشلاً أخلاقياً بالنسبة له كرئيس)، وبتعبير آخر إن "الشرق الأوسط منطقة يجب تفاديها" (5) ولذلك فهو يشجع كلامياً كل من إيران ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية، على حل الخلافات السياسية الدينية بينهما وتقاسم الهيمنة أو الشراكة في المنطقة، وليس لديه أي مشكلة في أن تغوص روسيا في أوحال الحرب السورية، ولا أن تنخرط إيران وميليشياتها الشيعية في سوريا، حيث يعتبر اوباما أن هذه المنطقة خرجت بالمجمل تقريباً، من تهديد الأمن القوي الأمريكي، ولاسيما بعد راحة إسرائيل المطلقة للخراب المحيط بها، وبعد الاتفاق النووي مع إيران، وسحب الكيماوي من سوريا، وبعد نهاية الاعتماد الأمريكي على النفط الخليجي، وبعد التوجه الأمريكي نحو المحيط الهادئ لملاقاة الصعود الصيني الذي حذّر منه مطولاً صموئيل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات.
لا يخفي اوباما انحيازه، غير المباشر، لإيران في الوجه الكلّي للصراع في المنطقة، وذلك ضمن مبدأ عبر عنه مازحاً، (والجدُّ يبرز أكثر في المزاح) حيث قال لمحاوره: "كل ما أحتاجه في الشرق الأوسط هو حفنة من الطغاة الأذكياء" (6). لكن انحيازه لطغيان الملالي لا يرتبط بالوجه الايجابي لإيران، بقدر ما يرتبط بالوجه السلبي للسعودية في وعيه السياسي، حيث يمقت اوباما الحلف التقليدي الوطيد والقديم بين المملكة وأمريكا، ويحمّل الفكر الوهابي السعودي مسؤولية الإرهاب الإسلامي المنتشر في العالم، دون أي اعتبار للسياسة الأمريكية السابقة عليه، والتي كانت الحاضن والممول الأكبر لهذا الإرهاب إن كان أثناء المواجهة مع السوفييت في أفغانستان، أو عند خذلان الصحوات السنية في العراق وتسليم البلد لإيران وللشيعة العراقيين، دون أدنى اهتمام بمصير الأقلية السنية، التي واجهت القاعدة هناك، لتعود إليها، بعد الخذلان الأمريكي.
من ناحية أخرى يرى أوباما أن الدور السعودي في بلده الذي عاش فيه طفولته الأولى "إندونيسيا" كان هدّاماً، عندما أرسلت السعودية الآلاف من الخطباء المُموَّلين لنشر الفكر الوهابي هناك، وإذا عرفنا أن أوباما عاش بلا أب، وأن والده قتل في الصراعات القبلية في كينيا عندما كان الطفل أوباما بعمر الأربع سنوات، يمكننا أن نفهم مسألتين "تحليليتين": أولاهما كره أوباما للصراعات القبلية والدينية ولمؤدياتها، فيقول مثلاً: "توجسي من القبلية يدخل في تكويني حرفياً. فأنا أفهم النزاعات القبلية، وأدرك سلطة الانقسامات القبلية حيث قضيت حياتي كلها أخوض فيها. إنها في النهاية مصدر الكثير من الأفعال المدمرة" (7). وثانيهما ضعف استعداده لممارسة دور الأب المسؤول؛ المفقود لديه، وميله الحقيقي نحو توزيع المسؤوليات، الذي يضمر في العمق رغبة في الهرب من المسؤولية. لذلك تراه سعيداً بفكرة "القيادة من الخلف" التي مارسها في ليبيا، لينسحب منها بعد فترة وجيزة، تاركاً ليبيا تواجه انقساماتها وخرابها، وهو ما يذكرنا بترك أفغانستان بيد طالبان بعد تخريبها وانقضاء الحاجة الأمريكية منها إثر سقوط الاتحاد السوفييتي.
إن تأثير سياسة أوباما بما يعتريها من تردد يقابله العناد أحياناً، ومن تخبط يقابله الانفصال والتعالي، ومن صعوبة اتخاذ القرار وسهولة التراجع عنه..، لم يترك تأثيره في السياسة العالمية فحسب، بل ترك الكثير من التخبط والفوضى وعدم الفهم أحياناً، ضمن الإدارة الأمريكية ذاتها، حيث يظهر الكثير من التباين في المواقف الرسمية بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون والكونغرس.. الخ، حتى أن وزير الخارجية جون كيري لم يعلم أصلاً بتراجع اوباما عن ضربته، مثلاً، حتى حلول الليل الذي كانت فيه الضربة مقررة، والعديد من العاملين والمستشارين في الإدارة لم يصدقوا أنه سيرسم خطاً أحمر في البداية، ثم لم يصدقوا أيضاً كيف تراجع.
في المحصلة، باتت القوى الفاعلة في المنطقة، والمتدخِّلة فيها، تدرك تماماً أن الإدارة الأمريكية لن تفعل شيئاً حقيقياً ومباشراً لخروج المنطقة من استعصائها القائم، لذلك نرى التكالب الروسي الإيراني على سوريا لا يجد من يردعه أو يقف في طريقه سوى الشعب السوري وحده، والموقف التركي بات أكثر انشغالاً بالتصعيد الكردي، وأقرب للتبادل الخدمي مع أوروبا، لتخليصها من أزمة اللاجئين مقابل المال ومفاوضات التأشيرة الأوروبية للأتراك، والسعودية مشغولة بحربها في اليمن، والتوازن الاستراتيجي المتأخر مع إيران، ومصر تغلق أبواب السياسة على نفسها، لتفتح أبواب الدعم العسكري والأمني لبشار الأسد، والجميع يكافح الإرهاب علناً، ليغذيه في السرّ، وليبقى تنظيم داعش هو الجوكر، الذي يستفيد من الجميع، لكي يبادلهم الفائدة، ويفيدهم جميعاً بأن يقمعوا الشعوب التي ثارت للحرية، فوجدت نفسها في مواجهة إرهاب الأنظمة، ذلك الإرهاب الذي صنع؛ عبر عنفه الجذري، إرهاباً يشابهه في الدرجة ويعاكسه في الاتجاه، ليعيشا معاً وليتبادلا الخدمات فوق أحلام شعوبنا وجثث أبنائها.
1- انظر الحوار كاملاً تحت عنوان "عقيدة أوباما"، The Obama doctrine على الرابط التالي: link
2- المصدر ذاته..
3- ذاته..
4- انظر، مقال بعنوان "أم الدنيا.. ضد الدنيا وخارجها" والكلام هنا بتصرف.. link
5- عقيدة أوباما، ذاته.
6- ذاته..
7- ذاته..