كما تبدو في دراسة أكاديمية تعود إلى نهاية عهد الانتداب الفرنسي
اعداد وتقديم :د. محمد م ارناؤوط كتابة: نجم الدين الرفاعي
ازداد الاهتمام في سورية خلال السنوات الأخيرة بالمكوّنات الإثنية والطائفية التي ظهرت على السطح مع انفجار "صندوق باندورا" في 2011، ونشرت الكثير من المقالات والدراسات التي تجمع مابين هو تعريفي وتسطيحي ومابين هو استقصائي وأكاديمي واستخباراتي يخدم أجندات مختلفة.
ومن هذه الأقليات الاثنية اجتذب الأكراد الاهتمام الأكبر خلال السنة الأخيرة، مع أن الاهتمام بهم تزايد مع انفجار الحراك الشعبي في القامشلي 2004 للمطالبة بحقوقهم المشروعة، ووصل إلى ذروته في خريف 2015 مع طرح الأكراد للإدارة الذاتية ثم للاتحاد الفدرالي في آذار 2016 الذي يقوم في جوهره على حق الأكراد بإقليم متنازع على حدوده ومكوّناته، علما بأنّ بعض المكوّنات الكردية تحفظت عليه.
ويشير المقال الأول الذي نشر في هذا الموقع عن "الجغرافية البشرية للأكراد في سوريا" لمهند الكاطع، ومدى الاهتمام به والتعليق عليه، إلى ما يسمى "لعبة الأرقام" في البلقان التي تمهد وتبرر للتغيرات السريعة على الأرض مع النزاعات. فلدى كل طرف تاريخه ومراجعه وأدبياته وأرقامه التي تثبت وجوده وانتشاره وحقوقه، وهي ماتتناقض مع مالدى الطرف الاخر من تاريخ ومصادر ومراجع وأدبيات وأرقام. وإذا ماأخذنا مكدونيا (برميل البارود في المنطقة الذي كان السبب في أكثر من نزاع وحرب) نجد أن الأرقام حول البلغار والسلاف والصرب والألبان والأتراك وغيرهم تختلف من طرف إلى آخر ومن سلطة الى أخرى، لأن كل سلطة تأتي لتفرض على الأرض أرقامها.
ومن هنا ، ولأجل أرشفة المعطيات والدراسات عن الأقليات الاثنية في سورية ، وجدنا من المفيد أن نعيد نشر أول دراسة أكاديمية سورية نعرفها عن هذا الموضوع تعود الى نهاية عهد الانتداب الفرنسي ، مع الملاحظات التالية :
يُعتبر المؤلف من أوائل السوريين الذين درسوا العلوم السياسية خارج سوريا (الجامعة الامريكية) نظراً لعدم وجود مثل هذا التخصص في الجامعة السورية. وقد تخرج المؤلف عام 1946 بعد أن قدم رسالته "المشاكل السياسية الداخلية في سوريا" ، التي تناول في أحد فصولها "الأقليات العنصرية" كما يسميها (ص 47-63).
نشر هذا الفصل من الأطروحة في العدد الرابع لعام 1947 من مجلة "الأبحاث الاجتماعية الصادرة عن الجامعة الأمريكية في بيروت، وهي واحدة من أقدم المجلات الأكاديمية في المنطقة التي لاتزال تصدر الى الان باسم "أبحاث". ويشير العدد المذكور من المجلة إلى أنه نظراً لأنها أصبحت تشمل "جميع الأبحاث من اجتماعية وغيرها" فقد تقرر أن يكون اسمها ابتداءً من العدد اللاحق "الأبحاث" فقط.
تعتمد الدراسة على مقالات موسوعية ومصادر ومراجع في الفرنسية والإنكليزية والعربية، بالإضافة الى مقابلات مع شخصيات سورية معروفة وذات صلة (جلال السيد وسعد الله الجابري وفارس الخوري) والبرفسور الأرمني في الجامعة الأمريكية باروناك توماسيان.
تكشف الدراسة هنا عن وجود أطروحة دكتوراة رائدة في الحقوق بالفرنسية لباحث سوري (حلمي اللحام 1912-1973) بعنوان "مشكلة الأقليات في سورية"، الذي درس أيضا العلوم السياسية في باريس وتخرج من قسم الدراسات الدبلوماسية في معهد العلوم السياسية. وللأسف فإن هذه الأطروحة لم تترجم في دولة الاستقلال ولانعرف عنها شيئاً.
من الواضح أن الدراسة كُتبت في 1945 أو بداية 1946 لأن فيها مايشير الى استمرار الانتداب الفرنسي الذي انتهي بالجلاء في نيسان 1946، حيث يقول المؤلف في نهاية الدراسة "إن زوال الانتداب وحده كاف لأن يحل مشكلة الأقليات العنصرية في سوريا الى حد بعيد".
بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى (النظرة الى الأقليات وموقف الأقليات من الوطن السوري الجديد)، فإن أهمية الدرسة تكمن في كونها توثق حالة الأقليات الإثنية الأكبر في سورية (الأرمن والأكراد والشركس والاشوريين) في عام 1945، وبالتحديد وصولها وانتشارها وأعدادها وعلاقاتها مع المكونات السورية الأخرى حتى ذلك الحين.
الأقليات العنصرية في سوريا
نجم الدين الرفاعي
لم يكن هناك أقليات عنصرية تستحق الذكر في هذا القطر قبيل عهد الانتداب، ولو سلّمنا جدلاً بوجود بعض الفئات الكردية والجركسية والأرمنية إلا أن السياسة التي كان يتبعها العثمانيون تجاه رعيتهم لم تكن لتفرق بين شعب وآخر بشرط أن يكون الأفراد من المسلمين. فكان كل مسلم يتمتع بما يتمتع به غيره دون أي اعتبار لعنصريته ولغته وتاريخ قومه([1]). وقد كانت المشكلة التي تُدعى بمشكلة الأقليات ناتجةٌ عن سبب ديني إبان العهد العثماني لم تكن لتمت إلى العنصرية بشيء. ولهذا فإن مشكلة الأقليات العنصرية هي مشكلة طارئة على هذا الوطن، نشأت فيه منذ عهد قريب تحت تأثير عاملين:
أولاً: عامل اليقظة القومية التي أضعفت من قوى الدين كأساس لتربيط الأقوام المختلفة، والتي كان من نتائجها أن أخذت شعوب الإمبراطورية العثمانية تطالب باستقلالها وحريتها، تحدوها غاية واحدة، هي جمع شمل أبنائها تحت راية دولة موحدة تقوم على أساس قومي. لذلك أصبح وجود أي فئة من تلك الشعوب- الطامحة لخلق كيان خاص بذاتها – ضمن دولة أخرى لا تمت إليها بصلة من الناحية القومية، مدعاةً لاعتبارها أقلية عنصرية، ينظر إليها نظرة الحذر ولا يؤتمن جانبها.
ثانياً: عامل السلطة المنتدبة التي كان من غاياتها في سوريا إضعاف الروح القومية العربية بخلق شتى الميول والنزعات([2]). ولهذا لم تتورع السلطة الفرنسية عن إدخال عناصر مختلفة بغية القضاء على وحدته القومية، فأباحت للكلدان والأشوريين والسريان من مهاجري خربوط وديار بكر أن يدخلوا سوريا وأقطعتهم الأراضي وأعطتهم الأموال، وأباحت للأكراد الطريدين من تركيا والأرمن أن يدخلوها وأعطتهم كل الحقوق والامتيازات الوطنية ثم فرّقتهم إلى مستعمرات ووضعتهم في المراكز المختلفة فصاروا أكثرية في القامشلي وجرابلس وقرق خان والحسكة ثم أصبح لهم وزن في حلب أيضاً([3]). هذا فضلاً عما فعله الفرنسيون لإيقاظ النعرات الانفصالية بين تلك الأقرام.
وهكذا نجد أن الأغلبية من الأقليات العنصرية الموجودة حالياً في سوريا، هي وليدة عهد الانتداب إذ أنها استوطنت هذه البلاد واكتسبت حقوق أبنائها الشرعية في إبانه بفعل سلطة الدولة المنتدبة. وأهم هذه الأقليات، هي الأرمن والأكراد والشركس والأشوريون. وسنسعى الآن لدرس تاريخ كل منها في هذا القطر مع تبيان أوضاعه وميوله بشكل مقتضب بسيط.
1- الأرمن: تقع بلاد أرمينيا بين البحر الأسود وجورجيا من الشمال، وهضاب أذربيجان والجهة الجنوبية من بحر الخرز من الشرق، والضفة العليا لنهر الدجلة من الجنوب، ثم سهول الفرات الغربية من الغرب.
إن هذه الحدود الجغرافية لم تشكّل دولة ذات كيان موحد إلا مرة واحدة في التاريخ وذلك في عهد ديكران الكبير قبل التاريخ المسيحي بقرنٍ واحد([4]). وما عدا تلك الحقبة من التاريخ فإن بلاد أرمينيا قد وقعت بالتتالي تحت سلطة الميديين الفرس فالسلافيين فالرومان الشرقيين فالعرب المسلمين. ولعل السبب في ذلك يعود إلى طبيعة هذه البلاد الجغرافية وإلى أن أرمينيا كانت خلال تاريخها محاطة بإمبراطورية قوية دأبها السيطرة والتوسع([5]).
ولما حدثت الحروب الصليبية على مسرح الشرق الأدنى تمكّن الأرمن بحكم حلفهم مع الصليبيين من إحداث مملكة كيليكيا ودعوها باسم أرمينيا الصغرى، غير أنها لم تلبث أن زالت من معالم الوجود يوم قوّض صرحها المماليك في القرن الرابع عشر للميلاد. أما أرمينيا الكبرى فإنها خضعت للنفوذ التركي منذ القرن الحادي عشر حين احتل السلطان ألب أرسلان عاصمتها عقب انتصاره على الإمبراطور رومانوس. وفي بداية القرن التاسع عشر أخذ الروس يتوسعون على حساب الإمبراطورية العثمانية في المقاطعات الشمالية من أرمينيا- ولقد تمّ لهم بعض ما ينشدون- حتى غدت بلاد أرمينيا في الوقت الحاضر مقسّمة بين تركيا وروسيا وإيران([6]).
كان الأرمن يعيشون ضمن الإمبراطورية العثمانية على أساس ملّي، أي أن الدولة كانت تعترف بهم كطائفة دينية لها ما لغيرها من الامتيازات والحقوق. ولقد تمتعوا بجوٍ مملوء بالحرية، وكان العثمانيون ينظرون إليهم كعنصر كبير الفائدة للدولة خاصة فيما يتعلق بالناحيتين: التجارية والصناعية([7]). على أن هذه الحالة لم تبق على ما كانت عليه في العهد الأول بل طرأ عليها تغيير أساسي عقب الحرب الروسية سنة 1877-1878م، فقد أصبحت العلاقات التركية الأرمنية بعد ذلك التاريخ قاسية صعبة، وحدثت مذابح عديدة ذهب ضحيتها ألوف من أبناء هذا الشعب. وكانت الدول الأوروبية الكبرى تتدخل بين حين وآخر وتجبر الحكومة العثمانية على تحسين حالته حسبما تتطلبه حاجاته المحلية، مع تأمين سلامته من هجمات الأكراد.
إلى ذلك الحين لم تكن أغلبية الشعب الأرمني واعية قومياً، إلا ما ندر من المثقفين اللاجئين إلى أوروبا. لذلك تأسّست الجمعيات السرية الأرمنية وبدأت تعمل على إيقاظ الروح القومية بين مجموعة الشعب الأرمني وتحثه على تعلم لغة قومه والتحرر من ربقة النير العثماني. وكان العثمانيون في أول الأمر غير مبالين بتلك اليقظة القومية، ظناً منهم أن الشعب الذي يتغنى بتاريخه وأمجاده لا يشترط أن يثور لأجل الحرية والاستقلال في يوم من الأيام([8]). وعندما أخذت الحركة تتطور سريعاً وبدأت تظهر أهميتها بالفعل، لاحظ الأتراك خطرها وصاروا يناوئونها بشدة وصرامة كانت تزداد بازدياد مقاومة ذلك الشعب الثائر. وهكذا نجد أن الروح القومية كانت تلتهب عند أبناء أرمينيا يوم اندلعت نيران الحرب العظمى، فكان لهم ما كان لغيرهم من الوعود التي جاد بها الحلفاء. تلك الوعود التي ما لبثت أن انهارت أمام الرفض التركي بالتنازل عن أية قطعة من أراضي تركيا أثناء مفاوضات الصلح التي دارت في لوزان سنة 1922- 1923، فكانت النتيجة أن شتت شمل الأرمن وتفرقوا بين مختلف الأقطار. فنالت سوريا منهم عدداً كبيراً([9]).
إذا ما استثنينا بضعة آلاف من الأرمن المقيمين في حلب منذ أواخر القرن التاسع عشر، لا نجد أية مستعمرة أرمنية في هذا القطر قبل حلول الانتداب. فالهجرة الأرمنية الواسعة حصلت أثر الجلاء الذي تمّ عن كيليكيا بعد "تفاهم" أنقرة سنة 1920، ثم حصلت هجرة واسعة أخرى سنة 1922 عقب الانتصار التركي على اليونان. هذا فضلاً عما كان يتسلل من جماعات صغيرة دون انقطاع. ولقد كان عمال الانتداب في سوريا يشجعون تلك الهجرات ويمدون أصحابها بالمال.
انتشر هؤلاء المهجرون الأرمن في جميع أنحاء سورية، غير أن الأغلبية منهم سكنت حلب وبيروت والإسكندرونة ودمشق، وبنت لنفسها أحياء خاصة في تلك المدن. لأن الأرمن أينما ذهبوا ومهما كانت الظروف، يؤسسون كنائسهم بالقرب من مدارسهم ويعيشون متكتلين حولها، وهم يفعلون ذلك قصد المحافظة على وحدتهم القومية التي لاقوا من أجلها شتى ضروب الاضطهاد([10]). ولقد فشلت السلطات المنتدبة في إسكان بعضهم في القرى والمزارع، لأنهم لم يساهموا كما توقعت تلك السلطات في إغناء البلاد وتحسينها الزراعي مثلما كان شأنهم في جهات الأناضول. ولعل السبب في ذلك يعود إلى خوفهم من السكنى بين أكثرية مغايرة لهم بالعنصر والدين وحبهم أن يعيشوا متكتلين حول بعضهم داخل المدن حيث يعمل أغلبهم في الصناعات الصغيرة.
إن الإحصاء للأرمن الذين يعيشون في سوريا قبل الهجرة إلى روسيا مؤخراً هو التالي([11]):
1-محافظة دمشق:
أ-
مدينة دمشق
309، 18
ث-
قضاء النبك
28
ب-
قضاء القنيطرة
68
ج-
قضاء وادي العجم
14
ت-
قضاء الزبداني
5
ح-
غوطة دمشق
8
المجموع
432، 18
2-محافظة حلب:
أ-
مدينة حلب
291، 58
ح-
قضاء الباب
838
ب-
قضاء جرابلس
934، 2
خ-
قضاء كرد داغ
589
ت-
قضاء اعزاز
825، 1
د-
قضاء منبج
358
ث-
قضاء الجسر
334
ذ-
قضاء ادلب
295
ج-
قضاء المعرة
170
ر-
قضاء حارم
20
المجموع
654، 65
3- محافظة حمص: 850 في الأقضية والمدينة
4- محافظة حماه: 507 في الأقضية والمدينة.
5- محافظة حوران:
أ-
قضاء درعا
116
ت-
قضاء الزاوية
2
ب-
قضاء ازرع
106
المجموع
224
6- محافظة الفرات:
أ-
قضاء الرقة
688، 1
ت-
قضاء ابو كمال
37
ب-
دير الزور
005، 1
ث-
قضاء جرابلس
741، 2
المجموع
471، 5
7- محافظة الجزيرة:
أ-
القامشلية
941، 1
ب-
الحسجة
405، 1
المجموع
346، 1
8- محافظة جبل الدروز: 389
9- محافظة اللاذقية: 736، 2
المجموع العام : 252، 96
إن هذا الشعب الذي يعد مغايراً لأبناء هذا القطر العربي من حيث اللغة والتقاليد والعنصر، والذي يطمح لغير ما يطمح إليه أبناء البلاد الأصليون، قد فرض عليهم حتى بتجمعاته الكبيرة داخل المدن، تلك التجمعات المنعزلة الخطرة بالنسبة إلى وحدة البلاد القومية. ولقد منحت السلطات المنتدبة أفراد هذا الشعب جميعهم الجنسية السورية وما يترتب عليها من حقوق. فأصبحوا يمثلون في دوائر الدولة السورية وينتخبون إلى مجالسها الإدارية والنيابية. هذا على الرغم مما أظهره بعضهم من العداوة الواضحة تجاه قضية البلاد الوطنية في الثورة التي وقعت سنة 1925، وفي غيرها من المناسبات، وعلى الرغم من أنهم لا يزالون يحتفظون بلغتهم ويشكلون كياناً خاصاً ضمن المجموعة السورية. وعلاوة على ذلك فإن تمركز الأرمن على الشكل المعهود وكثرتهم العددية أدت إلى انخفاض مستوى المعيشة في سوريا وإلى خلق أزمة اقتصادية بين الطبقات العاملة لأبناء البلاد دامت عدة سنين([12]). لهذا نجد أن السوريين العرب ينظرون إليهم حتى اليوم نظرة ملؤها الشك والارتياب، لأن موقف الأرمن أثناء الثورة السورية، وفي غضون عهد الانتداب ثم تكتلهم وانعزالهم داخل المجتمع السوري، وأخيراً ذلك الأثر الذي أحدثوه في أول الأمر من الناحية الاقتصادية، جميع هذه الأمور جعلت أهالي البلاد لا يطمئنون إليهم بل يوجسون منهم خيفة على وحدة الوطن واستقلاله. ونحن لا نستغرب هذه الشكوك وذلك الحذر اللذين يظهرهما السوريون تجاه هذا الشعب ما دام لا يزال منعكفاً على ذاته لا يشارك سكان البلاد الأصليين حياتهم الاجتماعية ولا يبدي أية رغبة في الامزاج والتعرب هذا فضلاً عن أنه ما زال محافظاً على طابعه القومي وانقساماته السياسية التي نشأت قبل مجيئه إلى سورية. فالأرمن اليوم يتبعون سياسة حزبية خاصة تقتصر عليهم. وهم لا يشاركون البلاد حياتها السياسية إلا ضمن الجهاز الحكومي حيث يوجد بعض الأفراد الذين يمثلون طائفتهم بحكم القانون. أما ما عدا ذلك فلهم – كما أسلفنا- أحزابهم الخاصة التي وإن اختلفت من حيث التفاصيل والأسلوب إلا أنها جميعاً تتجه نحو غاية واحدة يحددها مبدأ واحد وهو بناء وطن قومي أرمني يضم أبناء هذا الشعب في ظل دولة حرة مستقلة.
لهذا يجد الأرمن الذين يعيشون في هذا القطر العربي أنفسهم، كما يقول الأستاذ باروناك توماسيان أمام أمرين. الأمر الأول هو الذهاب إلى أرمينيا السوفياتية التي ترحب بمقدمهم فيعيشون بين أخوانهم في تلك الديار. والأمر الثاني هو البقاء في سوريا مع العلم بأنه لا بد لهم من التعرب والتنازل عن فكرتهم القومية وما ينتج عنها من تكتل وانعزال([13]).
والظواهر تدل على أن حل مشكلة الأقليات الأرمنية في هذه البلاد ستأتي عن طريق هذين الأمرين. إذ أن هنالك فئة كبيرة من الأرمن العمال ترغب في المهاجرة إلى أرمينيا السوفياتية، وهذه الفئة وجدت لهذه الغاية جميع المساعدات والتسهيلات. فقد غادر البلاد إلى روسيا عدد كبير منهم في الآونة الأخيرة. كما أن من سيبقى منهم من الأغنياء وأصحاب المصالح أصبح موقناً بأن مصلحته تقتضي عليه بالتعرب إن كان حقاً يبغي حياة هادئة مطمئنة.
2- الأكراد: إن بلاد الأكراد الأصلية والموطن الذي يطالبون به اليوم، هو كردستان. وهي منطقة جبلية تتخذ شكل الهلال وتمتد من ولاية لورستان الفارسية إلى خربوط فملتقى فرعي نهر الفرات، على طول يبلغ 900 كيلو متراً من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي وعرض يبلغ 100 إلى 200 كيلو متراً.
هذه المنطقة مقسمة من الناحية السياسية بين تركيا والعراق وإيران والقوقاس التابعة للاتحاد السوفياتي. وهنالك أكراد يقطنون غير هذه البقعة من الموطن التاريخي، موزعون في أقطار مختلفة كمصر وسوريا والأفغان([14]).
إن صروف الدهر وتقلبات الزمان حالت دون تحقيق رغبات هذا الشعب المحارب في سبيل استقلال بلاده، ولكنه ظل في أغلب الأوقات ينعم بنوع من الحرية الذاتية ضمن البلاد التي كان يعيش فيها. وإن ضربنا صفحاً عن تاريخه القديم نجد أنه منذ أن تأسست الإمبراطورية العثمانية، كان سلاطين بني عثمان يتخذون الأكراد وقسماً من منطقة كردستان واسطة لعراكهم مع الصفويين الفرس. ولقد نتج من أثر هذا العراك الذي لعب فيه الأكراد دوراً عظيماً أن بدأو يشعرون بأهميتهم السياسية. ولما استقرت الحدود التركية الفارسية، والتفت السلاطين إلى الحقل الداخلي كي يثبتوا نفوذهم ضمن الإمبراطورية الجديدة، استعانوا بهؤلاء القوم في تثبيت ذلك النفوذ وتحقيق السلطان المركزي. لكن العثمانيين لم يضمروا خيراً لهذا الشعب ولم تكن موافقتهم على منح الاستقلال الذاتي للأمراء الأكراد في مقاطعاتهم إلا حركة سياسية دفعتهم إليها الظروف في بادئ الأمر. فلما سنحت لهم الفرص لم يألوا جهداً في تنفيذ مآربهم والقضاء على ذلك الاستقلال. حتى أنه لم يأت القرن التاسع عشر على نصفه حتى زالت آخر المقاطعات الكردية من تركيا (بطليس، حكاري، سليمانية) ([15]).
ثار الأكراد مرات عديدة في غضون ذلك القرن لمقاومة السياسة العثمانية الرامية إلى القضاء على الحرية الذاتية التي كانوا يتمتعون بها منذ القديم، ومنذ فجر القرن العشرين ظهرت إلى الوجود حركة كردية قومية كانت تستهدف تحرير كردستان وتوحيدها.
وتأسست لهذه الغاية عدة صحف ومجلات باللغة الكردية عقب ثورة الاتحاديين. وحينما انتهت الحرب العامة الأولى وانعقد مؤتمر الصلح الدولي في فرساي، سمع ذلك المؤتمر لمطاليب الوفد الكردي برئاسة الجنرال شريف باشا. فكان هذا الأمر داعياً لوضع بنود خاصة بالمسألة الكردية بمعاهدة سيفر سنة 1920، التي اشترطت في قسمها الثالث (البند 62، 63، 64) الحكم الذاتي وأخيرا الاستقلال في المناطق المكونة من أكثرية كردية([16]). بيد أن النهضة القومية التركية ونضال الغازي مصطفى كمال جعل هذه الشروط لاغية المفعول حتى أنه لم يذكر عنها أي شيء بمعاهدة لوزان سنة 1923([17]). وهكذا وجد الأكراد أنفسهم بالأخير مقسمين من الناحية السياسية بين عدة دول يتباينون عن أهلها عنصراً ولغة وتاريخاً.
من هذه الدول التي تحوي أقلية كردية، دولة سوريا. والأقلية الكردية التي نجدها في هذا القطر تقسم إلى قسمين. قسم استوطنها منذ القديم أو خلال العهد العثماني- وأغلبيته قد تعرف بالعادات واللغة – وقسم دخلها إبان عهد الانتداب الفرنسي إثر الثورات التي قمعها الأتراك الكماليون بشدة وقساوة. ولهذا أرى من المستحسن أن نتعرض لدراسة وضع كل من هذين القسمين على حدة.
إن دخول الأكراد إلى هذه البلاد واستيطانهم للقسم الشمالي من سوريا وبالأخص منطقة الجزيرة العليا يرجع بتاريخه إلى القرن الخامس عشر للميلاد. والظاهر أن السبب في ذلك يعود إلى الهجرات التي كان يقوم بها أولئك القوم طلباً للعشب وحياة السهول في بعض فصول السنة. لكن القبائل العربية كانت دائماً تحول دون استقرار أكثرهم في هذه الربوع. وهكذا فإن استيطان الأكراد في سوريا لم يبدأ بشكل واسع إلا في نهاية القرن السادس عشر، واستدام بعد ذلك حتى القرن الثامن عشر([18]). ولقد تمت تلك الهجرات الواسعة في الغالب تحت تأثير العوامل السياسية. فإن رغبة الدولة العلية في الإفادة من خصائص الأكراد الحربية كانت السبب في نقل بعض القبائل الكردية إلى جهات معينة من الإمبراطورية العثمانية. هذا فضلاً عن أنها كانت تبغي من وراء ذلك تبديد شمل الجماعات الكردية القاطنة في كردستان([19]).
إن العناصر الكردية التي تعيش اليوم في القطر السوري موزعة على طول الحدود التركية – السورية في ثلاث مناطق تكاد أن تكون متصلة بعضها ببعض. وهي منطقة الجزيرة العليا، منطقة الفرات، والمنطقة المسماة بكرداغ. وهنالك أيضاً بعض الفئات الكردية في دمشق وغيرها من المدن السورية.
أهم هذه المناطق الثلاث في الوقت الحاضر هي منطقة الجزيرة العليا وذلك بسبب قدوم اللاجئين الحديثين من تركيا وهي تمتد ما بين نهر دجلة ونهر الخابور. وأشهر العشائر الكردية الموجودة فيها هي (الأليان) و(الكوجر) و(المرسينية) و(الملية)، وجميعها تتعاطى الزراعة وتسكن أمكنتها الحالية منذ قديم الزمن. ومما يلفت النظر أن شيوخ هذه القبائل جميعاً يدعون نسبهم إلى أصل عربي صميم ويعتزون بهذه النسبة، وقبائلهم لا تنكر عليهم هذه النسبة ولا تكون مقلقة ومزعزعة لرئاستهم، بل على الضد من ذلك مثبتة ومؤكدة لهذه الرئاسة. ومن أمثلة ذلك أن شيوخ الملية يدعون نسبهم إلى بيت العبدي ويقولون أن هذا البيت في الأصل من قبيلة (الرولا) كما أن شيوخ الكيكية يدعون أنهم من بيت (الرستم) وهم بيت ينتمي إلى الهاشميين([20]).
يتراوح عدد هؤلاء الأكراد بين الأربعين والخمسين ألفاً من النفوس. وهذا التقدير قريب من الحقيقة، ونضطر إلى استعمال العدد التقريبي لعدم وجود إحصاء رسمي. لقد كانت تلك القبائل الكردية حتى سنة 1925 جميعها تدفع (الخوة) وهي بمثابة الجزية إلى رؤساء عشيرة شمر، ولكن سطوة الحكم الفرنسي قد منعت هذه العادة وأنقذت الأكراد منها([21]). وهم اليوم كما كانوا من قبل يحسون بضعف وعجز تجاه العرب، فلا ينافسونهم مكانتهم الاجتماعية، ولم تقم في رؤوسهم فكرة التقدم على العرب وما يزالون يعتبرون أنفسهم تبعاً للعرب وحاشية لهم. لهذا كله لم يقم خصام عنصري بين العرب والأتراك في تلك المنطقة وأغلب الأكراد هناك يسلكون طريق التعرب.
أما المنطقة الثانية، وهي منطقة الفرات فتمتد من قضاء عين العرب حتى سروج، ولقد كان أول من سكن هذه المنطقة من الأكراد في القرن الثامن عشر، البرازيون([22]) هؤلاء يدعون لأنفسهم أصلا عربياً. ولقد تعربوا بالفعل، وهناك فئة منهم تعيش الآن في مدينة حماة. أما الآن فإن تلك المنطقة تسكنها عشائر شيخان، وكيتكان، وعلاء الدين، وبيجان، وكثير من هذه العشائر قد امتزج بالقبائل العربية القاطنة حوله.
والمنطقة الثالثة وهي منطقة كرد داغ أو ما يدعوه البعض بجبال الأكراد، تسكنها العشائر الكردية التالية: العيكلي، شككلي، وطورو، وكلها متحضرة تتعاطى الزراعة وتربية المواشي، إن أغلب هؤلاء قد تعربوا بعاداتهم، وكثير منهم يتكلمون اللغة العربية.
وهنالك كما أسلفنا، بعض الأكراد الذين يعيشون في المدن السورية كدمشق، لكن هؤلاء جميعاً قد تعربوا إلى درجة يصعب معها تمييزهم عن السكان الأصليين. إن جميع هؤلاء الأكراد الذين هاجروا إلى سوريا منذ العهد العثماني، يعيشون بسلام ووئام مع إخوانهم أبناء البلاد. لقد تعربت فئة كبيرة منهم، ومن بقي على لغة وعادات أجداده فهو في طريق التعرب بفعل عامل الزمن وعامل الدين الذي يربطهم مع الأكثرية من سكان البلاد، ثم عدم وجود دولة كردية يمكنهم أن يتجهوا بأنظارهم إليها.
وهكذا فإن أكراد سوريا القدماء كانوا دائماً على وفاق وتفاهم مع أبناء البلاد العرب في خدمة الوطن المشترك؛ ولم يظهروا أية نية أو رغبة في الحكم الذاتي في تلك الأمكنة التي يكونون الأغلبية من سكانها. غير أن السلطة المنتدبة كانت تحاول أن تعيق تمثيل هؤلاء الأكراد في المجموعة العربية، وذلك بواسطة الدس بينهم وفتح أبواب الهجرة إلى سورية أمام اللاجئين من أكراد تركيا الثوريين.
أصبح من الأمور الواضحة أن السياسة الفرنسية في سوريا كانت قائمة على تجزئة هذا القطر إلى عدة دويلات بغية السيطرة عليها. وتبعاً لذلك كان الفرنسيون ينهجون أية خطة من شأنها أن تزيد في انقسام البلاد وتفككها. لهذا وقفوا موقف المرحب والمشجع من الهجرة التي قام بها أولئك الأفراد المطرودون من تركيا حتى أنهم خلال عشر سنوات من سنة 1925 إلى 1935 دخل إلى هذا القطر من الأكراد المشردين ما يقارب 25000 – الخمسة والعشرين ألفاً([23]). ولقد منحت السلطات هؤلاء المهاجرين الجنسية السورية بالإجمال دون أي اعتبار لمصلحة البلاد. وما كاد هؤلاء الضيوف الجدد أن يستقروا حتى أخذوا يثيرون القلاقل والمشاكل ويعملون على فصل الجزيرة لتحقيق رغبة طردهم الأتراك من أجلها. وكان ذلك بمساعدة الفرنسيين الذين حاولوا سنة 1936 أن ينظموا مضابط تتضمن طلب أهل الجزيرة نظاماً خاصاً أو حكماً لامركزياً ليقدم هذا الطلب حال إجراء التفاوض بين الفرنسيين والوفد السوري. فقامت حركة معاكسة لهذه الرغبة ونشط الوطنيون واستثاروا همم القبائل العربية والكردية معاً ونظموا مضابط بطلب الاتصال التام وشجب كل فكرة انفصالية، وتأييد الوفد السوري والاستقلال التام في كل محتوياته. ففشل الفرنسيون ومن معهم من الأكراد والأشوريين وغيرهم لأن المضابط الإيجابية الوطنية قد ضمت أكثر من تسعين بالمئة من السكان([24]). وهكذا نرى كيف أن بعض الأكراد المهاجرين إلى سوريا خانوا البلاد التي آوتهم ومنحتهم حق المواطنة، وكان الأجدر بهم أن يتعظوا بأخوانهم القدماء الذين عاشوا بملء الحرية متفاهمين مع أبناء سوريا، وأن يعلموا بأن معونة الأجنبي لا تدوم.
يقول الدكتور حلمي اللحام في رسالته عن مشكلة الأقليات في سوريا بأن وضعية العناصر الكردية في سوريا تتطلب من الحكومة أمرين: أولاً، أن تسحب الجنسية السورية من أولئك المهاجرين الذين عملوا على إثارة الفتن والإساءة إلى البلاد، لكن دون أن تضطرهم إلى الرحيل عن البلاد. وأن تجري بحقهم مفعول قانون اكتساب الجنسية فيما إذا برهنوا عن إخلاصهم وتعاونهم في المستقبل. ثانياً: أن تسعى إلى رفع مستوى القبائل الكردية وتحضيرها، وأن تساعد بالطرق الإيجابية على إكمال تمثيلها من قبل المجموعة العربية([25]). ورغم ما أجده في هذين الحلين من الحق، إلا أنني أرى بأن مسألة سحب الجنسية لا داعي لها الآن، هذا عدا عن أنها ليست من الحلول الملائمة للظرف السياسي الحاضر.
3- الجركس: يطلق هذا الاسم على تلك المجموعة من القبائل التي ترجع بأصلها إلى الجهة الغربية من القوقاس وإلى قسم من الشاطئ الشرقي للبحر الأسود. إن هذه القبائل التي كانت تسكن هذه الجهات، قاومت بعنف مدة طويلة من الزمن حملات الروس المتتالية التي بدأها عليها بطرس الأكبر. وفي غضون حرب القرم قام الجراكسة بحركة ثورية ضد الروس ما لبثوا أن دحروا بعدها فكان الانتقام منهم شديداً للغاية حتى أن أغلبهم قد هاجر في تلك الأثناء. ولقد بلغ عدد المهاجرين منهم بين 1864-1878 أربعماية ألف وزعهم الأتراك العثمانيون على مختلف أنحاء الإمبراطورية. فنالت سورية منهم عدداً وافراً([26]). ولم يكن تمركز الجراكسة في هذا القطر من الأمور السهلة في بادئ الأمر، لأن الدروز قاوموا ذلك التمركز الذي حصل بالقرب منهم بشدة وعناد ولم يذعنوا للأمر الواقع إلا بعد مضي سنين عديدة([27]).
إن الجراكسة الذين يقطنون سورية في الوقت الحاضر يبلغ عددهم العشرين ألفاً تقريباً، وهم موزعون كما يلي([28]):
1-حوالي 1000 في جهات العلويين.
2-حوالي 2500 في جهة حلب خاصة في خناصر ومنبج.
3- حوالي 1.750 في دير الزور.
4- حوالي 1500 في منطقة حماه.
5- حوالي 3.500 في منطقة حمص.
6- حوالي 1.500 في منطقة دمشق.
7- حوالي 2.900 في القنيطرة إلى الجنوب الشرقي من دمشق.
8- حوالي 6000 حوالي القنيطرة في عدة قرى يسكنها الجراكسة.
يعتنق هؤلاء القوم الديانة الإسلامية، وجميعهم من أتباع المذهب السني إلا ما ندر من الشيعة. لذلك فهم من الناحية العقيدية ينتمون إلى الأكثرية من السكان، غير أنهم يختلفون عن تلك الأكثرية من حيث العنصر واللغة والتاريخ. وهم حتى هذا اليوم يتكلمون لغتهم الخاصة فيما بينهم ويشكلون كتلاً منعكفة على ذاتها أينما وجدوا.
كان الجراكسة في عهد الانتداب الفرنسي ينقسمون إزاء الحركة الوطنية في سوريا إلى قسمين: قسم أظهر شعور الإخلاص والترابط تجاه الوطنيين المناضلين، وعمد إلى مساعدتهم بكل الوسائل دون إبطاء أو ملل، وأغلبه من الأفراد المسنين القدماء الذين ما زالوا يحفظون لهذه البلاد حسن وفادتها وضيافتها، والذين ما زال العنصر الديني يطبعهم بطابعه. وهذه الفئة من الشراكسة تبدي رغبة شديدة في التعرب لأنها تعتقد أن مصيرها أصبح معلقاً بمصير البلاد. أما القسم الآخر المكون بأغلبيته من الشبيبة الناشئة، فقد تعاون مع الأجنبي في محاربة القضية الوطنية، وكان يبدي نشاطاً كبيراً في بعض الأحيان لحمل السلطات على اعتبار الجراكسة أقلية عنصرية معترف لها ببعض الحقوق. ولقد ذكر الدكتور حلمي اللحام في رسالته عن الأقليات في سوريا بعض المطاليب التي تقدم بها نفر من الجراكسة إبان الانتخابات التي جرت لإيجاد المجلس التأسيسي نذكرها بالإيجاز([29]).
1- الاعتراف بحقوق الأقلية الجركسية وتمثيلها في المجلس النيابي.
2- جعل القنيطرة منطقة مستقلة لهم.
3- إنشاء معهد ثقافي للشراكسة وتعليم اللغة الجركسية في جميع المدارس الابتدائية في جبلان.
4- أن يكون للجراكسة حرية الرأي والاجتماع، وكذلك أن تكون هنالك حرية تامة للصحافة الجركسية.
هذه هي بعض المطالب الذاتية التي كانت ترددها بعض الفئات الجركسية مدفوعة بذلك من الفرنسيين الذين اتبعوا سيادة التفرقة لكي يتمكنوا من السيطرة على هذا القطر العربي، ولكن حالت دون تحقيقها عقبات مختلفة أهمها انتشار هؤلاء القوم في أماكن متعددة بعيدة عن بعضها البعض. وعلى أثر هذا الإخفاق أخذ عدد الجراكسة الموالين للقضية الوطنية يزداد يوماً بعد يوم خاصة بعد أن أدركوا بأن الفرنسيين قد أركبوهم طريقاً خطراً وأنه لا يستبعد أن يتخلوا عنهم في أي وقت من الأوقات.
فالحركات التي قام بها الجراكسة خلال عهد الانتداب كان الدافع لها عمال فرنسا في سوريا. أما اليوم فهم لا يكونون أي خطر على كيان البلاد، وذلك بشهادة أولي الأمر([30])، وبدليل الأسباب التالية:
أولاً: أن الجراكسة في سوريا لا يزيدون عن العشرين ألف شخص، وهم مبعثرون في جميع أنحاء الوطن السوري. لذلك نجد أنهم لا يكونون أي خطر من الناحية العددية.
ثانياً: إن القسم الغالب منهم يعتقدون بوجوب تعربهم واندماجهم ضمن المجموع. وقد بدأ هؤلاء بالفعل بتدريس أبنائهم اللغة العربية وبتوجيه ناشئتهم توجيهاً وطنياً.
ثالثاً: ليس للجراكسة أي ادعاء تاريخي في هذا القطر وهجرتهم إليه واضحة الأسباب، هذا فضلاً عن أنها ترجع إلى عهد قريب.
4- الأشوريون: على الرغم من كل الادعاءات التي يظهرها الأشوريون المعاصرون، فإن انتسابهم إلى الأشوريين القدماء الذين ازدهرت مملكتهم في الهلال الخصيب في القرن السابع للميلاد لم يثبت بعد([31]). والذي نعلمه عن هؤلاء اليوم هو أنهم كانوا في القرن التاسع عشر يقطنون المنطقة الجبلية في (هكارى) وبعضهم كان يسكن الجهة الشمالية من بلاد العجم. وكذلك كان هنالك فئة منهم تعيش في روسيا([32]). فلما اندلعت نيران الحرب العامة الأولى انحاز الأشوريون الذين كانوا تحت سلطة العثمانيين إلى معسكر روسيا وحلفائها وجاهروا الأتراك علناً بالعداء. غير أن الأتراك تمكنوا من طردهم من الجبال التي اعتصموا بها، فكان لا بد لهم والحالة هذه من الالتجاء إلى مدينة أورميا من بلاد فارس التي كان يحتلها الروس آنذاك. وحينما نشبت الثورة البلشفية تحرج موقف الأشوريين إلى درجة دفعتهم لأن يبذلوا جهوداً جبارة للالتحاق بالقوات البريطانية في يالعراق([33]).
منذ ذلك الحين والآشوريون يعيشون في العراق، إلى أن تمكن بعضهم من المهاجرة إلى روسيا والاستيطان في ربوعها، وليس من شأننا في هذا الفصل أن نذكر شيئاً عن مراحل القضية الأشورية في القطر العراقي. بل نكتفي بأن نشير إلى أن ثورتهم على الحكومة العراقية قد انتهت بالتجاء عدد منهم إلى سوريا، وكان ذلك نتيجة لقرار عصبة الأمم آنئذٍ([34]).
احتجت البلاد في ذلك الحين على إيوائهم في سوريا، غير أن الفرنسيين قد طاروا فرحاً بقرار عصبة الأمم هذا ولم يبالوا بالاحتجاجات، لأنهم كانوا ميالين إلى حشد كل الأجناس في منطقة الجزيرة لعلها يوماً تدين لهم بالطاعة والخضوع. استقر هؤلاء الأشوريون على ضفتي نهر الخابور الأعلى بين الحسجة ورأس العين، في مزارع بعضها ملك للدولة وبعضها اشترتها السلطات من الأفراد، وأسست لهم ناحية سموها ناحية الخابور مركزها موقع تل التمر. وكان عددهم يتراوح ما بين 10-12 ألف فقط، ويؤكد الخبيرون اليوم أنه لم يبق من هؤلاء الأشوريين الأعداد يتراوح بين 5- 6 آلاف([35]).
يدين هؤلاء القوم بالمذهب الأرثوذكسي المسيحي وهم لا يزالون على طراز قبائل عصبية. منح الفرنسين هذه الأقلية الجنسية السورية بالإجماع، وذلك بعد مضي خمس سنوات على دخولها البلاد، كانت تتمتع خلالها بجميع الحريات والحقوق التي تتمتع بها أبناء سوريا. وهكذا عملت فرنسا مرة أخرى على إدخال عناصر أجنبية إلى هذا القطر بغية تنفيذ مآربها في فصل الجزيرة واستثمارها إلى الأبد. لهذا لا غرابة أن يجد المرء هذه الأقلية تسعى جهدها لبقاء الانتداب الفرنسي وتثير الفتن بقصد فصل الجزيرة من الوطن الأم. وبزوال الانتداب قد زال الخطر من هذه الأقلية البسيطة التي يمكن للمرء أن يتكهن بأنها لن تلبث طويلاً قبل أن تذوب في المجموع إذا تمكنت الحكومة من اتباع سياسة رشيدة تجاه الأقليات.
من كل ما تقدم يمكننا أن نستنتج أمرين هامين:
1-أن هذا القطر العربي كان خالياً من العناصر الدخيلة عليه قبل عهد الانتداب إلا ما كان من فلول ضئيلة من الأكراد والجركس وغيرهم ممن كانوا في الطريق التعرب، لا يشعرون بأي وعي قومي مناويء لشعور الأكثرية من السكان. بيد أن انحلال الإمبراطورية العثمانية أثر الحرب العالمية الأولى وما جره من تشريد وهجرات لكثير من الأقوام التي كانت تعيش فيها، ثم وجود فرنسا كدولة منتدبة في هذه البلاد تعمل لمصلحتها وبقائها أدى على الأيام إلى دخول عناصر مختلفة إلى ربوع سوريا واستيطان تلك العناصر فيها بحكم ما لاقته من تشجيع من السلطات المنتدبة التي كانت تعمل على إضعاف العنصر العربي في هذه الأصقاع. ولئن تساءل المرء عن الأسباب التي دعت الفرنسيين إلى منح تلك الأقوام الجنسية السورية بالسهولة المعهودة فإنه لن يجد جواباً غير (الدافع الإنساني) ذلك الدافع الذي لا يظهر تأثيره إلا عند الشعوب الضعيفة التي لا تقدر المحافظة على كيانها. وإلا فكيف يفسر وجود فئات من الأرمن والأشوريين في فرنسا ممن لا يزالون يحملون صفة اللاجئين دون أن تبيح لهم الحكومة الفرنسية حق التجنس بجنسيتها([36]). فمما لا شك فيه أن فرنسا قد ارتكبت خطأ بمنحها الجنسية السورية على ذلك الشكل الجماعي لأولئك الملتجئين- ولو أنها قد فعلت ذلك نوعاً ما – وفقاً لما تم عليه الاتفاق في معاهدة لوزان أو لما صدر من قرارات عن عصبة الأمم([37])، غير أن المتتبع لسياستها في هذه البلاد لا يجد غرابة في هذا الفعل. لأنها كما أسلفت كانت ترمي إلى تجزئة القطر السوري وخلق النعرات الانفصالية بين أبنائه. إذ أنها لم تكتف بإدخال تلك العناصر إلى سوريا بل كانت تعمل ما في وسعها على الدوام لبعث النعرات الانفصالية بينهم وخلق مشكلة عنصرية يحدق خطرها على كيان البلاد، فيكون ذلك سبباً دائماً لتدخلها وتسلطها.
2-أما الأمر الثاني فهو أن الأقليات العنصرية الموجودة حالياً في سوريا لا تشكل خطراً كبيراً على مستقبل البلاد، كما تشكل بعض الأقليات الموجودة في دول أوروبا الوسطى مثلاً خطراً على الدول التابعة لها. وأن زوال الانتداب وحده كاف لأن يحل مشكلة الأقليات العنصرية في سوريا إلى حدٍ بعيد، إذ أنه لن يوجد بعد اليوم من يحرك تلك الأقليات ويثير بينها الدسائس لحملها على مناوأة القومية العربية والتخوف منها.
وهنالك أسباب أخرى تدعو إلى التفاؤل بالنسبة لهذه المشكلة، وإلى استبعاد خطرها الوهمي الذي يسيطر على بعض النفوس:
1-أن عدد بعض الأقليات لا يتجاوز البضعة آلاف وهم مبعثرون هنا وهناك في أرجاء البلاد.
2-توجد فئة كبيرة بين تلك العناصر ممن تجمعها رابطة الدين مع السكان. وهذا أمر له تأثيره ومفعوله.
3-أما الأقلية الأرمنية، وهي أكبر الأقليات، فقد بيّنا فيما سبق الطريقة لحلها .
وعلى كل فإن كلمة خطر لا وجود لها. وإذا بقيت سوريا من الضعف الكياني على الحال التي هي عليه الآن فإن مجرد وجودهم في البلاد سيكون خطراً أما لو صارت البلاد قوية فإنهم يصبحون أضعف من أن يؤلفوا شيئاً يلفت النظر. وأن موقف الحكم الوطني ويقظته هو الذي سيحدد هذه المعاني ويجيب عليها. ولا نعلم أن مقداراً ضئيلاً من الأقليات في مملكة من ممالك العالم كونت خطراً على تلك الممالك ما دامت في حال الحيوية والنشاط. وكل ميكروب يدخل جسماً نشيطاً صحيحاً مصيره الموت. أما الميكروب الذي يدخل في جسم هزيل يعاني سكرات الموت فإنه يستحوذ على هذا الجسد ويتحكم فيه ثم يهلكه.
وما ندري أي النوعين من الأجساد ستكون هذه البلاد.
المراجع
([1]) W. Talcott, Turkey: A World Problem; p. 85-86.
([2]) G. Antonius, Arab Awakening, p. 369.
([3]) عبد الرحم الكيالي، رد الكتلة الوطنية، ص 39.
([4]) Streck, Armenia, In Eney, Of Islam.
([5]) R. Blanchard, Asie Occidentale, t. III de la collection de geographie universelle, p. 125.
([6]) H. Lahham, Le Probleme Minoritaire en Syrie, p. 290, and Streck, “Armenia”. Ency. Of Islam.
([7]) Mandelstom, La Societe des Nations et les Puissances devant le Probleme Armenien, p. 34.
([8]) Pornot, Revue de deux mondes, 15 Avril, 1922, p. 919.
([9]) H. Lahham, p. 298.
([10]) Babikian, Civilisation and Education in Syria & Lebanon, p. 168.
([11]) H. Lahham, p.308-310.
([12]) سعيد حماده (النظام الاقتصادي في سوريا ولبنان)، ص26:
"على أن زيادة الأيدي العاملة التي نتج عنها هبوط في الأجور كانت من العوامل الفعالة في زيادة الإنتاج خاصة في تشييد البنايات وفتح الرق وتعبيدها وإصلاحها. إن الأرمن بسبب حذاقتهم في الأمور الصناعية ساعدوا على إحياء عدة صناعات وطنية، على ممر الأيام".
([13]) من مقابلة مع باروناك توماسيان – أحد الأساتذة الأرمن في جامعة بيروت الأمريكية .
([14]) V. Minorsky, “Kurds” in Ency. Of Islam.
([15]) V. Minorsky, “Kurds” Ency. Of Islam.
([16]) Bletch, Chirbuh, La Question Kurde, ses origins et ses causes, p.26.
([17]) Bletch, Chirbuh, p. 40-42.
([18]) P. Rondot, La France Mediteraneenne et Africaine, Fascicule I, p.99.
([19]) P. Rondot,p. 100.
([20]) H. Lahham, p. 257.
([21]) من مقابلة مع جلال السيد.
([22]) H. Lahham. P. 258.
([23]) P. Rondot, p. 99.
([24]) من مقابلة مع جلال السيد.
([25]) H. Lahham, p.301.
([26]) L.Massignon, Anuaire; p. 325.
([27]) H. Lahham, p.236.
([28]) H. Lahham, p.237.
([29]) H. Lahham, p.238-241.
([30]) من حديث مع سعد الله الجابري، وفارس الخوري.
([31]) E. Reclus, Nouvelle Geographie Universele t. 9, p.4 &11.
([32]) Les Activites de la Societe des Nations; I, Etablissement des Assyriens, Geneve, 1935, (Secion d’information) p.8.
([33]) Marquis Theodoli, Journal Officiel de la S.D.Dec. 1932, p. 1964.
([34]) Les Activites de la Societe des Nation, I’Etablissement des Assyriens, Geneve, 1935, (Section d’Information), p.26.
([35]) من حديث مع جلال السيد
([36]) H. Lahham, p. 317.
([37]) Treaty of Lauzanne, Article 37-45, & Permanent Mandates Commission, Minutes of the Twenty Seventh Session (1935), p. 209.
مؤرخ كوسوفي / سوري ، اشتغل في جامعة بريشتينا وفي عدد من الجامعات الأردنية (1974-2017) . يشتغل في تاريخ بلاد الشام والبلقان خلال الحكم العثماني والعلاقات العربية- البلقانية . من مؤلفاته "معطيات عن دمشق وبلاد الشام الجنوبية في نهاية القرن السادس عشر" و "دراسات في بلاد الشام في القرن السادس عشر" و "دراسات حول الحكومة/ الدولة العربية في دمشق 1918-1920" و "ودراسات في الصلات العربية – البلقانية في التاريخ الوسيط والحديث" و"البلقان من الشرق إلى الاستشراق" الخ .
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.