وقالت الخمينية للوهابية: لنخلّص العالم منك..
وصلت حدة التشنج الإيراني إزاء السعودية، ذروةً غير مسبوقة، دفعت آية الله خامنئي إلى إصدار فتوى تُجيزُ زيارة كربلاء في العراق، بدل الحج إلى مكة. التشنج السياسي الراهن، وإن استند إلى أرضية النزاع المذهبي، إلا أنه بات بدوره مساهماً في تخليق تمايز جديد بين الشيعة والسنّة، لا بل والتأثير في قيم الرأسمالية الغربية.
لطالما كان للدِّين في المشرق توظيفٌ سياسي، تستخدمه البنى الحاكمة كأداةٍ لتعميم وجهة نظرها عن العالم. وما الانشقاقات الإسلامية، في شكل طوائف ومذاهب ومدارس وطرق، في أحد وجوهها، سوى توظيف للدّين في مسار صراعات سياسية. ويتماشى هذا التوظيف للدين مع شكل الدول المشرقية تاريخياً، فهي شديدة المركزية، قائمةٌ على نمطِ إنتاجٍ سُلالي "قرابي"، تؤول إليها مُلكية الأرض، وتقوم برعاية شبكات الرّي. نمط إنتاج يوصف أيضاً بالإروائي، أو الريعي. الأمر لم يختلف بعد اكتشاف النفط، فصارت الدول المشرقية صاحبة الحق في ريعه.
الصراع المستجد بين إيران والسعودية، وهما الدولتان الريعيّتان المعتمدتان على استخراج النفط وبيعه، يتقوّى بالفروق بين المذهبين السنّي والشيعي، إلا أن توظيفه بات تجاوزاً لتلك الفروق، إلى حدّ تخليق هويات جديدة على شاكلة "الخمينية" و"الوهابية". فولاية الفقيه، في طور هجومها الشرس على السعودية، أعادت إحياء الوهابية، ونسبت إليها كل شرور العالم، كما ورد في مقال وزير الخارجية الإيرانية، جواد ظريف، في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، بعنوان "فلنُخلّص العالَم من الوهابية".
السعيُ إلى إثبات الاختلاف، دفع الخمينية إلى تجاوز الحج إلى مكة بزيارة كربلاء، ما دام متعذراً وصول الحجيج الايراني إلى السعودية، من دون ضجيج السياسة المذهبية معهم. مليون حاج إيراني دخلوا العراق، لمباشرة طقسٍ جديد، يكاد يقطع نهائياً بين الشيعة والسنّة، مُحولاً إياهما إلى ما يشبه دينَين مستقلين، تبدو فيهما "الخمينية" و"الوهابية" كمذاهب.
إيران الحريصة على توصيف السعودية بالوهابية، تغفل أن الخمينية هي توأم الوهابية بالمعنى السياسي. فبعيداً عن الخلافات المذهبية والفقهية بينهما، تتشارك الخمينية والوهابية خصائص الشعبوية المنقلبة إلى هيمنة سلطوية. فالوهابية السنّية والخمينية الشيعية، مُركَّبان عقائديان رافقَا صعودَ طبقتين سياسيتين جديدتين في الدولتين، في أزمنة وظروف مختلفة. وإن كانت الوهابية قد انحسرت مع الزمن لصالح مُركّبٍ دولتيّ في السعودية، قائم على التحالفات القبليّة والثروة النفطية والعمالة الأجنبية والانفتاح على الأسواق العالمية، فإن الخمينية ما زالت على أشدّها كعقيدةٍ محرّكة للنظام الإيراني. وإذا كان نظام الحكم السعودي قد تمكّن من ترويض الوهابية وتحويلها الى أحد وسائله للسيطرة، فالخمينية على النقيض من ذلك، صارت روح الاستبداد الديني في إيران.
إشكاليات المجتمع الإيراني، الأقلُ تجانساً من الناحية الإثنية والمذهبية، مقارنةً بنظيره السعودي، والمُنهك بفعل العقوبات على النظام الإيراني، تُجبرُ الخمينية في سياق تبرير هيمنتها عليه، على تخليق أعداء خارجيين بشكل مستمر، كسمةٍ شمولية للخمينية. وبوصفها استثماراً للمظلومية الشيعية، تجد الخمينية في معاداة عموم السنّة، استعادةً لأحقيّة الإمام عليّ وذريته في السلطة. لذا، يبدو خطابها التحريضي ضد الوهابية في السعودية، متوافقاً مع عدائها للسنّة في سوريا والعراق، وهم من خلفيات كثيرة لا تكاد الوهابية تشكل جزءاً بسيطاً منها. حرب إيران في سوريا والعراق، وإن تماشت مع خطابٍ مُعادٍ للمنظمات التكفيرية، إلا أنها في العمق باتت تتمثل في دعم مسارات التطهير العرقي لعموم السنّة. كما أن إقصائية الخمينية للسنّة والعرب في إيران، تفوق بكثير إقصاء السعودية للشيعة فيها؛ فالسعودية، وبفضل مردود الريع النفطي، سعت إلى ضمّ الشيعة فيها اقتصادياً وإقصائهم سياسياً، في حين أن أثر العزلة الخمينية دفع إيران إلى إقصاء السنّة والعرب فيها، سياسياً واقتصادياً.
المسألة بالمعنى الطائفي، باتت تتجاوز مظلومية الشيعة، إلى ثارات الخمينية. فالنظام الإيراني لا يغفر للسعودية دعمها لصدام حسين في حرب السنوات الثماني. كما لا يغفر لدول الخليج انخراطها في المنظومة العالمية وتمتعها بمردود الريوع النفطية، في حين كانت إيران معزولةً تنهشها العقوبات.
إلا أن الخمينية عاشت انقلاباً مفاهيمياً بعد إنجاز الاتفاق النووي مع أميركا، وباتت تُقدِّمُ ذاتها كوصيٍ على الإسلام، أكثر موثوقيةً من الدول السنيّة. فخمينيةُ ما بعد الاتفاق ترى نفسها صاحبة الحق في الشرعية الإسلامية، وهي تُقدم لذلك صيغتها للحكم: الدولة/الميليشيا. فعبر "الحرس الثوري" ووكلائه الإقليميين، يمكن ضبط "الإرهاب" السنّي. قد تكون هذه هي البضاعة التي قايضتها إيران مع الغرب في "الاتفاق النووي"، في ظلِّ السرية التي رافقت المحادثات الطويلة بين الطرفين: إرهابٌ مُتحكَّمٌ فيه مقابل إرهابٍ مُنفلت؛ إرهابٌ مُوجَّه ضد إرهابيين.
الرأسماليات الغربية، وعلى رأسها أميركا، الفاقدة لشهية نشر "الديموقراطية" في العالم، لم تجد ضرراً في إضافة الخمينية إلى مجموعتها الخاصة من الأنظمة التسلطية والاستبدادية، الموالية لها، رغم الاعتراض السعودي. على العكس، فالسوق الإيرانية البكر، بالنسبة إلى الرأسمالية العالمية، تمثّل فرصةً لا تُفوَّت. كما أنه في الإمكان تطويّع الخمينية في المنظومة العالمية، بزجّها في معارك نفوذ ضمن الشرق الأوسط.
تعاملُ الخمينية مع الغرب، أشبه بسلوك الزوجة الجديدة التي تشترط طلاق عريسها من الزوجة القديمة "الوهابية" قبل الزواج. وإذا كانت الرأسمالية الغربية قد رأت إمكانيةً في الحفاظ على الزوجتين معاً، والاستفادة من كلٍ منهما لإخضاع الأخرى. فبهذا المعنى، هل صار ممكناً الحديث، على طريقة ماكس فيبر، عن "روح الرأسمالية والأخلاق الإسلامية"؟
مازن عزي
كاتب وصحافي سوري
مواد أخرى لـ مازن عزي
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.