حوار مع البروفيسور وائل حلاق حول الشريعة والإسلامويّة والدّولة العلمانيّة الحديثة (2 من 2)
السؤال الخامس: بماذا تردّ على نقّادك الذين يقولون إنّ وصفَك لجلّ المفكرين العرب بأنّهم "مقلّدة" للغرب يعني، فيما يعنيه، تكريسًا للخصوصيّة الثقافيّة. وكما تعلم أستاذ حلاق، فإنّ هذه التهمة جاهزة مسبقًا لكلّ من يفكّرون بالشرط الحديث نقديًّا، وذلك، كما تعلّمنا، لغلبة فكرة التقدّم على مخيالنا الحديث، وأيضًا لاعتقادنا الحداثويّ بأنّ التقليد جامد ولا يتطوّر.
هل يمكنك إلقاء الضوء على ثنائيّة الخصوصيّة والكونيّة؟ وكيف أنّ اداعاءات الخصوصيّة هي اداعاءات مركزيّة في أوروبيّتها بوصف كلّ ما هو غير أوروبيّ ‘خصوصيّ‘ في حين أنّ كلّ ما تنتجه أوروبّا ‘كونيّ‘؟
وائل حلاق: أعتقدُ أنّ سؤالك سؤال ثاقب بلا حدّ، وينطوي على براعة الإشكال الذي تطرحه. إنّني أظنّ أنّ المشروع الإمبرياليّ-الكولونياليّ لأوروبا مرتبطٌ، بنيويّاً، بعصر التنوير الذي أنتجَه -لأنّه عُضِّدَ تحديداً ضمن علاقة ديالكتيكيّة مع مشروع أوروبا الكولونياليّ- سرديّة كونيّة حدّدت روح وماهيّة إمبرياليّته. بمعنى آخر، قلّما يُفهَم أنّ الحداثةَ الغربيّة وخطابها الأنواريّ الكونيّ التقدّمويّ كانا يقعان في قلب المشروع الكولونياليّ نفسه وجزءاً لا يتجزّأ عنه؛ وما من فصلٍ فعليّ يمكن فعله بين الاثنين بحال. ولم يكن نجاح هذا المشروع في أوروبا فحسب، بل وفي المستعمرات أيضاً بقدرٍ ما، إن لم يكن بشكل كبير؛ فهو نجاحٌ أوروبيّ نجحَ في إعادة هندسة عقل المُستعمَر. وما عقيدة التقدّم التي لا تُساءَل والتي لا ترقى إلى الشكّ في أوساط الأسيو-أفريقيين سوى برهان قويّ على هذا النجاح. وإنّنا لنراهُ رأي العين يوميّاً. ومع ذلك، لما كان الحال أنّ الدّولة قلّما يفهمها المسلمون، فإنّني أعتقدُ أنّ ثيولوجيا التقدّم (وأنا أشدّد على هذه التسمية) يُساء فهمها كذلك.
والحال أنّني أسمّي الاعتقاد بالتقّدم ثيولوجيا لأنّه يقوم بدوره تقريباً كدينٍ، وهو دينٌ يتمّ تربية الأطفالُ عليه وفيه. إلّا أنّ الأكثر أهميّة من ذلك هو أنّ هذه الثيولوجيا لا تُساءَل من قبل معتنقيها ومتّبعيها. غير أنّه خلافاً لكثيرٍ من الثيولوجيّات، كان التقدمُ مدمّراً بصورة ملحوظة تحت مسمّى الأخوّة والمساواة، حيث ألحقَ الخرابَ بالعالم في نصف قرنٍ بصورةٍ أكبر ممّا قد أنزلته المسيحيّة بأوروبّا لمدّة ألف سنة. وإنّه من المُسْتبدَه والمسلّم به بصورة كبيرة أنّ الغالبيّة العظمى من النّاس، بمن فيهم عددٌ غفيرٌ من الباحثين والمفكّرين البارزين، لا يفكّرون حتى في ثيولوجيا التقدّم هذه، أو في آثارها العميقة حتى على طريقة تفكيرهم.
لقد أصبحت عقيدة التقدّم هي سواء السبيل كطبيعةٍ ثانية. كما إنّ مفهوم التقدّم موقفٌ أيديولوجيّ، يعالجُ ويحدّد سلفاً قواعد الخطاب لصالح هذا الموقف، ومن ثمّ يكبح رؤى منافسة من أيّ نظرٍ واعتبار. وهذا هو السبب في كون أنّ استدعاء سرديّة معادية للتقدّم يتمّ اعتبارها ضرباً من ضروب الهرطقة، وتتمّ مهاجمتها باعتبارها نوستالجيّة في أحسن الأحوال وبدائيّة أو "قروسطويّة" في أسوئها. إذ إنّ أيّ أحدٍ يظنّ أنّ الماضي أفضل من الحاضر (أو المستقبل) يتمّ تصنيفه كنوستاليجيّ، وكمحافظ، منتمياً إلى العصور الوسطى، وأنّه شخصٌّ ضلّ سواء السّبيل بنوعٍ ما. والحال أنّ التقدّم ليس مجرّد استبعاد للتاريخ من النّظر والبحث، لأنّ التاريخ يستدعيه كلّ أحدٍ في كلّ منعطف. والتاريخُ كتقدّم ليس كائناً في لغتنا فحسب، بل إنّه يشكّل هذه اللغة. لكن، إذا كان التاريخُ جزءاً من ثيولوجيا التقدّم، فإنّه يكون كذلك لإظهار أنّ التاريخ يكون في المؤخرة دائماً. والحال أنّ هذا الموقف الأيديولوجيّ إنّما يُتمّ تحديده مسبقاً إلى حدّ ما بواسطة إقصاءٍ قبْليّ لأيّ زعمٍ في التاريخ يتعارض مع الأفق التقدمويّ، وهو الأفق الذي وجدَ سلاحاً خطابيّاً للدفاع في العقيدة الاستراتيجيّة للتقدّم.
وهناك تناقضٌ في تصوّر هذه الثيولوجيا للتاريخ، لأنّها هي نفسها ناجمة عن رؤية تاريخيّة للعالم (Weltanschauung)، بحيث تستخدم التاريخ لتسويغ وشرعنة نفسها، لكنّها تتنكّر للتاريخ في الآن نفسه عندما يُستخَدم التاريخ لصالح تأويل يتعارض مع رؤيتها الخاصّة. بمعنى آخر، ليس التاريخ الحداثيّ، مثله مثل النظريات العرقيّة، منافقاً فحسب، بل إنّه أيضاً مُعَدٌّ خصيصاً لتصنيف الماضي في تراتبيّات، مما يجعل ماضياً ما متفوقاً على ماضٍ آخر؛ ومما يجعل، في خاتمة المطاف، الحاضرَ متفوقاً على كلّ الماضي؛ حتّى إنّ المستقبل غير المعلوم يصبح، بطريقةٍ مبهمةٍ، متفوقاً على الحاضر! وبالتالي، فإنّ هذه العقيدة، عن طريق تقييد متزمّت للتاريخ، تبرّر وتعقلن ممارسات الحاضر، وتُلبسه لبوسَ السّلطة التفوقيّة للكلام عن أيّ شيءٍ وعن كلّ شيءٍ يُعتبر واقفاً خارج معاييره.
وأيّاً كان الحاضر هو أفضل أم لا، فإنّه من غير المسموح لأيّ أحد أن يسائل هذه الفرضيّة ويشكّك فيها دون أن يدفع ثمناً باهظاً. وعليه مثلاً، فإنّ استدعاء إيتيقا ما في تقليدٍ تاريخيّ (مثل الطريقة التي عاشت بها بعض المجتمعات في العالَم) لغرض إرشادنا في إعادة تقييم انغماس المشروع الحديث في تدمير الطبيعة عادةً ما يُعد نوستالجيا، ذلك لأنّ الأدوات التقدميّة للحداثة مجسَّدةً في حنكتها التقنيّة، يُقال إنّ لديها القدرة بنفسها على مداواة هذه الآثار التدميريّة. إذا لم يكن هذا طغياناً، فلا أعرف ما هو الطغيان إذاً.
لقد أصبحت عقيدة التقدّم هي سواء السبيل كطبيعةٍ ثانية. كما إنّ مفهوم التقدّم موقفٌ أيديولوجيّ، يعالجُ ويحدّد سلفاً قواعد الخطاب لصالح هذا الموقف، ومن ثمّ يكبح رؤى منافسة من أيّ نظرٍ واعتبار. وهذا هو السبب في كون أنّ استدعاء سرديّة معادية للتقدّم يتمّ اعتبارها ضرباً من ضروب الهرطقة، وتتمّ مهاجمتها باعتبارها نوستالجيّة في أحسن الأحوال وبدائيّة أو "قروسطويّة" في أسوئها. إذ إنّ أيّ أحدٍ يظنّ أنّ الماضي أفضل من الحاضر (أو المستقبل) يتمّ تصنيفه كنوستاليجيّ، وكمحافظ، منتمياً إلى العصور الوسطى، وأنّه شخصٌّ ضلّ سواء السّبيل بنوعٍ ما. والحال أنّ التقدّم ليس مجرّد استبعاد للتاريخ من النّظر والبحث، لأنّ التاريخ يستدعيه كلّ أحدٍ في كلّ منعطف. والتاريخُ كتقدّم ليس كائناً في لغتنا فحسب، بل إنّه يشكّل هذه اللغة. لكن، إذا كان التاريخُ جزءاً من ثيولوجيا التقدّم، فإنّه يكون كذلك لإظهار أنّ التاريخ يكون في المؤخرة دائماً. والحال أنّ هذا الموقف الأيديولوجيّ إنّما يُتمّ تحديده مسبقاً إلى حدّ ما بواسطة إقصاءٍ قبْليّ لأيّ زعمٍ في التاريخ يتعارض مع الأفق التقدمويّ، وهو الأفق الذي وجدَ سلاحاً خطابيّاً للدفاع في العقيدة الاستراتيجيّة للتقدّم.
وهناك تناقضٌ في تصوّر هذه الثيولوجيا للتاريخ، لأنّها هي نفسها ناجمة عن رؤية تاريخيّة للعالم (Weltanschauung)، بحيث تستخدم التاريخ لتسويغ وشرعنة نفسها، لكنّها تتنكّر للتاريخ في الآن نفسه عندما يُستخَدم التاريخ لصالح تأويل يتعارض مع رؤيتها الخاصّة. بمعنى آخر، ليس التاريخ الحداثيّ، مثله مثل النظريات العرقيّة، منافقاً فحسب، بل إنّه أيضاً مُعَدٌّ خصيصاً لتصنيف الماضي في تراتبيّات، مما يجعل ماضياً ما متفوقاً على ماضٍ آخر؛ ومما يجعل، في خاتمة المطاف، الحاضرَ متفوقاً على كلّ الماضي؛ حتّى إنّ المستقبل غير المعلوم يصبح، بطريقةٍ مبهمةٍ، متفوقاً على الحاضر! وبالتالي، فإنّ هذه العقيدة، عن طريق تقييد متزمّت للتاريخ، تبرّر وتعقلن ممارسات الحاضر، وتُلبسه لبوسَ السّلطة التفوقيّة للكلام عن أيّ شيءٍ وعن كلّ شيءٍ يُعتبر واقفاً خارج معاييره.
وأيّاً كان الحاضر هو أفضل أم لا، فإنّه من غير المسموح لأيّ أحد أن يسائل هذه الفرضيّة ويشكّك فيها دون أن يدفع ثمناً باهظاً. وعليه مثلاً، فإنّ استدعاء إيتيقا ما في تقليدٍ تاريخيّ (مثل الطريقة التي عاشت بها بعض المجتمعات في العالَم) لغرض إرشادنا في إعادة تقييم انغماس المشروع الحديث في تدمير الطبيعة عادةً ما يُعد نوستالجيا، ذلك لأنّ الأدوات التقدميّة للحداثة مجسَّدةً في حنكتها التقنيّة، يُقال إنّ لديها القدرة بنفسها على مداواة هذه الآثار التدميريّة. إذا لم يكن هذا طغياناً، فلا أعرف ما هو الطغيان إذاً.
وبالتالي، فإنّ الحداثةَ، تقدميّةً في جوهرها، دائماً ما تعتني بنفسها وفقاً لشروطها هي، ولم تعد بحاجة إلى المرشد القديم الذي كان يأمرُ ويرشدُ. وعليه، فإنّ ثيولوجيا التقدّم هي شكلٌ قويّ من أشكال السيادة. ويمكن للحداثة أن تهتمّ بنفسها وبالآخرين وفق شروطها؛ لكن، مع كلّ تحقيقاتها المثيرة والتي لا مثيل لها للمعرفة والتمرّس التقنيّ، فلا يزال تدمير النّظام الطبيعيّ، بمن في ذلك البشر أنفسهم، جارياً دون هوادةٍ وخارجاً عن نطاق سيطرتها. "إنّنا نعلمُ ما هو الأفضل دائماً"، حتى إنّنا نعرف الأفضل ممّا عرفته أنفسنا منذ فترة سحيقة.
لا تقوم فكرة التقدّم على الحقائق الإيتيقيّة الأبديّة، وإنّما على العلم التقنيّ بحيث تكون المرجعيّة النهائيّة للحقيقة هي نفسها. وإنّنا نعلمُ دائماً ما هو الأفضّل لأنّ العقلانيّة والعلمَ والتقنويّة (technicalism) قد وضعت أسس الحقيقة وأملت قواعدها. وأيّاً ما قالَ العلم والعقلانيّة، في أيّ مرحلة من الزمن، فهو الحقيقة. فالتّرياق العلميّ للمرض يُصبح الحقيقةَ إلى أن يتسبّب في خطرٍ يتجاوز المنافع التي كان من المفترض أنّها مرجوّة منه أصلاً، وإلى أن يُخترَع ترياقٌ آخر -وأيضاً يكون حصيلةً للتقدّم-. ولا تسألُ عقيدةُ التقدّم أبداً لماذا يوجد المرض أصلاً، كما إنّها لا تسأل أسئلةً أخلاقيّة ووجوديّة عميقة بشأن النّسق الذي ينتج أمراضاً كهذه، وبشأن بُناه وأنماط إنتاجه. فما أنْ يتمّ مساءلة النّسق في كليّته، فإنّ العلمَ بحدّ ذاته الذي ينتج العلاج سيتمّ مساءلته، رغماً عنه، وسيتمّ تقويضه في نهاية المطاف. ولذا؛ تعيشُ عقيدة التقدّم، مثلها مثل النّعام، في الرمال، تحيا في اللحظةِ، وهي لحظة غير يقينيّة، لحظةٌ حقيقتُها بقدر ما هي عابرة بقدر ما هي منتشيةٌ بالحقيقة الأخرى التي سيتمّ إنتاجها. ولا يمكن لعقيدة التقدّم أن تلتمسَ التوجيهَ من الماضي، لأنّ الماضي رغم "بساطته"، يفرض عليها واجب أن تسأل الأسئلة الكبرى التي ليست مهيأة للتعامل معها وسؤالها. كما لا يمكنها أن تكفلَ حقيقتها الخاصّة ضدّ المستقبل، والذي دائماً له سلطة الإلغاء والإبطال المطلقة. فأنْ نحيا في عالم التقدّم، فهذا يعني أننا نحيا في حُلْمٍ -أي نحيا دائماً في حالةٍ دائمة من التّوق والعمل دون استيفاءٍ حقيقيّ.
لا تقوم فكرة التقدّم على الحقائق الإيتيقيّة الأبديّة، وإنّما على العلم التقنيّ بحيث تكون المرجعيّة النهائيّة للحقيقة هي نفسها. وإنّنا نعلمُ دائماً ما هو الأفضّل لأنّ العقلانيّة والعلمَ والتقنويّة (technicalism) قد وضعت أسس الحقيقة وأملت قواعدها. وأيّاً ما قالَ العلم والعقلانيّة، في أيّ مرحلة من الزمن، فهو الحقيقة. فالتّرياق العلميّ للمرض يُصبح الحقيقةَ إلى أن يتسبّب في خطرٍ يتجاوز المنافع التي كان من المفترض أنّها مرجوّة منه أصلاً، وإلى أن يُخترَع ترياقٌ آخر -وأيضاً يكون حصيلةً للتقدّم-. ولا تسألُ عقيدةُ التقدّم أبداً لماذا يوجد المرض أصلاً، كما إنّها لا تسأل أسئلةً أخلاقيّة ووجوديّة عميقة بشأن النّسق الذي ينتج أمراضاً كهذه، وبشأن بُناه وأنماط إنتاجه. فما أنْ يتمّ مساءلة النّسق في كليّته، فإنّ العلمَ بحدّ ذاته الذي ينتج العلاج سيتمّ مساءلته، رغماً عنه، وسيتمّ تقويضه في نهاية المطاف. ولذا؛ تعيشُ عقيدة التقدّم، مثلها مثل النّعام، في الرمال، تحيا في اللحظةِ، وهي لحظة غير يقينيّة، لحظةٌ حقيقتُها بقدر ما هي عابرة بقدر ما هي منتشيةٌ بالحقيقة الأخرى التي سيتمّ إنتاجها. ولا يمكن لعقيدة التقدّم أن تلتمسَ التوجيهَ من الماضي، لأنّ الماضي رغم "بساطته"، يفرض عليها واجب أن تسأل الأسئلة الكبرى التي ليست مهيأة للتعامل معها وسؤالها. كما لا يمكنها أن تكفلَ حقيقتها الخاصّة ضدّ المستقبل، والذي دائماً له سلطة الإلغاء والإبطال المطلقة. فأنْ نحيا في عالم التقدّم، فهذا يعني أننا نحيا في حُلْمٍ -أي نحيا دائماً في حالةٍ دائمة من التّوق والعمل دون استيفاءٍ حقيقيّ.
وعليه، فلا أساس لثيولوجيا التقدّم ولا مرجعيّة، اللهمّ إلّا نفسها. فهي المصدر الخاصّ لسلطتها، وهي، على هذا النّحو، إلهٌ سيّدٌ، كما قد قلتُ. ولمّا كان من المفترض أن يكون هذا الإله مستقلّاً من الناحية العقلانيّة، كما نفترضُ جميعاً أنّه كذلك، فإنّ هذا الإلهَ قرّرَ، عن طريق العلم والعقل، أنّ الأسئلة الكبرى للماضي لا يمكن إلقاء السّمع إليها لأنّها متحجّرة وغير ذات صلةٍ بتقدّم الحضارة الحديثة، والعلم والعقل الحديث، وهذا الأخير كونيّ بطبيعة الحال. ولكن تبقى حقيقة الأمر أنّ أسئلة الماضي لا تزال غير مأبوهٍ لها لأنّه لا شيء في ثيولوجيا التقدّم يجبرها على التفكير في الأسئلة الأخلاقيّة المعمّقة التي تُزعج البنى الأساسيّة للحداثة. والحال أنّ هذا العجز ليس متأصّلاً فحسب في الثيولوجيا؛ بل إنّه أيضاً حصيلة للثيولوجيا التي هي نفسها نتيجة للوضع المترنّح لتلك البنى أصلاً. وتُحلّ مشاكلها دائماً من داخل تلك البنى، لكنّه من المؤكّد أنّ هذه الحلول ليست إيتيقيّة بالمرّة. وإذا تظاهرت هذه الحلول بأساسٍ إيتيقيّ، فإنّه اعتبارٌ أداتيّ تفرضه مقتضيات اللحظة. وهذا بالضبط السبب في أنّ ثيولوجيا التقدّم ترفض الاشتباك مع الأسئلة الأخلاقيّة بقولبتها باعتبارها نوستالجيا، وباعتبارها ليست شيئاً يتدّعى كونه محاولة لاسترجاع "استبداد الأخلاقيّة"، غاضّةً الطرفَ عن حقيقة أنّ الموقف العقائديّ لهذه الثيولوجيا هو، من الناحية الفكريّة، لا أقلّ قمعيّة واستبداديّةً.
تُؤسَّس ثيولوجيا التقدّم، بحكم تعريفها، على أنّ للزمنِ بنيةً تيولوجيّةً متجانسةً، وبأنّه لا مفرّ من هذه البنية، وبالتالي بأنّ المراحل الماضية من التاريخ كانت عبارة عن مراحل تحضيريّة لهذه المراحل المتأخرة، والتي كانت، بدورها، مجرد وسيلة للوصول إلى الذروة المُعدَّة للتقدّم الإنسانيّ الفعليّ: أي الحداثة الغربيّة. ولم تكن بنية الزّمن هذه (والتي يُساء فهمها بشّدةٍ في الغرب، لكن على الأخصّ في العالمين العربيّ والإسلاميّ) مجرّد مقتضى منطقيّ لثيولوجيا التقدّم؛ إنّها، بالأحرى، أيّدت وشرعنت بقوّة الأحداث وتطوّرات الحاضر، لأنّ تطورات الحاضر هذه اعتُبِرَتْ قدراً محتوماً وبالتالي لا مفرّ منها. بيد أنّ هناك بعداً آخرَ بالنسبة إلى فكرة التحديد المُسبق (predetermination): وهي أنّ كلّ التاريخ -الذي مُعدّ هو نفسه لبزوغ الحداثة- لا يتمّ تطويره بشكلٍ كافٍ، وبالتالي "لم يبلغ رشده" بعد. والحال أنّ الاستنتاج المنطقيّ لنمط التفكير هذا هو أنّه ما من ثقافةٍ أو "حضارة" تقع خارج أوروبا الحديثة أو سابقة عليها ستتمتّع بالصلاحيّة، والكفاءة، والتطوّر الأخلاقيّ والفكريّ نفسه. ومهما كانت تلك الحضارات ذات قيمةٍ -من ناحيةٍ ثقافيّة أو غيرها-، فإنّها تمّ استهلاكها في التحضير لغاية أعلى، خارجها وبما يتجاوزها. أمّا السبيلُ الوحيد أمام تلك الحضارات لتجنّب مصيرها كعلفٍ للماشية نحو المسيرة التاريخيّة فكان، ولا يزالُ، متمثّلاً في اللحاق بالحضارة "الحقّة" و "الراشدة".
متخلّلةً ما اصطلحَ عليه بعض الفلاسفة بـ"بنية الفكر الغربيّة للهيمنة"، غدت ثيولوجيا التقدّم، في كافّة أشكالها تقريباً، تُبَنْين التاريخَ تحديداً بطرقٍ متمركزةٍ أوروبيّاً، وهي الطُّرق التي لا يُردك متضمّناتها كثيرٌ من الغربيين وغير الغربيين، بمن فيهم العلماء والمفكّرين العرب والمسلمين. فمثلاً، نظر الفيلسوف الفرنسيّ كوندرسيه إلى النّكسات في التاريخ باعتبارها، إذا جازَ لنا التعبير، "أخطاءً" إرشاديّة يمكن لأوروبا، وهي قمّة الحضارات، أن تتعلّم تجنّبها. طبعاً، فالأخطاء دائماً ما تقع في مكانٍ ما خارج أوروبا. ويبدو أنّ كافّة مجتمعات الماضي، بصرف النّظر عن الجغرافيا والزمن، قد عاشت وماتت من أجل، وتحضيراً لـ، أوروبّا الحديثة ورؤيتها للعالم. وهذا ما نراه عند فولتير الذي حاججَ بأنّ البواعث الحاكمة للتأريخ كانت منصّبة للانتفاع بكافّة تاريخ العالم لخدمة التنوير. وبنى هيغل الحريّة الشخصيّة على متن نظريّته حول تاريخ الروح. فحروب التاريخ وعنفه وفظائعه هي، في واقع الحال، مفضيةٌ إلى تهذيب الرّوح وتحسينها. والحال أنّ هناك شيئاً ما مميّزاً ومتفوّقاً في نظريّة هيغل بشأن فترة الحداثة، وهي الفترة التي كانت كلّ التواريخ السابقة بمثابة تواريخ تحضيريّة لها. فلا يزال هذا الفهمُ، وهذه الثيولوجيا، قائماً معنا في القرن الحادي والعشرين، وهو قويّ الآن بشكل لم يكن عليه في أيّ وقت مضى. حيث يتخلّل حتى بنية الإنتاج الفكريّ الإسلاميّ، لا سيّما خلال نصف القرن الماضي. وقلّةٌ، للأسف، هم من يدركون آثار وعواقب هذه الثيولوجيا الدوغمائيّة، الأمر الذي يجعل السّواد الأعظم ماضياً في سبيل "تحديث الفكر الإسلاميّ" ببلاهةٍ وسذاجة فكريّة رهيبة.
لا تشكّل النظريّة الأنواريّة للتقدّم التاريخَ وحده فحسب، كما بيّنا، بل أيضاً تشكّل بنى اللغة الحديثة بحدّ ذاتها، وهي اللغة التي لا تعكس فقط بدورها رؤية للعالم للهيمنة على الطبيعة والإنسان، بل تشكّل وتنقل الهيمنة نفسها أيضاً. ولعلّه ما من فكرةٍ أو عقيدة قويّة في العقل الحديث كما هي هذه النّظريّة. فقد كرّست قانوناً للتطوّر التاريخيّ، وفلسفةً للتاريخ، وبالتالي كرّست، كنتيجةٍ لذلك، فلسفةً سياسيّةً. وما من فكرةٍ كانت أكثر أهميّة في الحضارة الغربيّة الحديثة -والحالية- مثلها، كما بينّ ذلك غير ما واحدٍ، وهي أقوى الأفكار أو القيم الأوروبيّة التي غدت تسيطرُ على الطرق التي نرى بها التاريخ ونكتبُه؛ بما فيها تاريخنا كعربٍ ومسلمين. وكان لهذه الفكرة تأثيرٌ كبيرٌ في الشؤون العموميّة والخصوصيّة على مدار القرنين الماضيين، ولم تحزْ فكرة هذا النفوذ والتأثير مثلما حازت هذه الثيولوجيا. وكونها وعاءً للأيديولوجيا، فإنّ ثيولوجيا التقدّم تخلقُ أتباعاً مؤمنين يؤمنون بأنّهم على الحقّ المبين مطلقاً، ودائماً ما يجدون أنفسهم في مجابهة مع الآخرين الذين هم، من وجهة نظرهم، في ضلالٍ مبين. وذلك هو التزّمت في أحسن أحواله. والحال أنّ ما يجعل هذه الثيولوجيا مغويةً بشدّة هو أنّها، خلافاً للثيولوجيات الأخرى من النّمط التقليديّ، لا تعترفُ بنفسها كثيولوجيا، والشيء الأكثر مأساويّةً أنّ المفكرين العرب والمسلمين لم يفهموا تجذُّرَها في تصوّر التاريخ الذين يتبنّونه هم أنفسهم دون فهم مغزى وآثار هذا التبني. وهذا التبني هو الذي أفقدهم ليس فقط حريّة تفكيرهم، بل تاريخهم الخاصّ وهويّتهم.
السؤال السادس: هدفَ كتابك نشأة الفقه الإسلامي وتطوره إلى زعزعة الخطاب الاستشراقيّ الذي يؤرّخ للحقبة التاريخية التي تشكلت فيها الشريعة الإسلاميّة. هذه الزعزعة التي تريد أن تؤسّسها انطلقت من إرساء منهج واضح: يجب أن يشارك الخطاب المزعزِع (بكسر الزاي) بعض الافتراضات والمقدّمات الأساسيّة للخطاب الاستشراقيّ المزعزَع (بفتح الزاي). ذلك أنّ عدم المشاركة هذه، كما تشير، هي من المسبّبات الأساسيّة لحرق الجسور المعرفيّة بين الذّات والآخر، لا سيّما أنّ علم التاريخ يقوم على معطيات وافتراضات أساسيّة لا يمكن تجاهلها، وأنّ هذا التجاهل سيكون بمثابة قطع الطريق للوصول للآخر. وفي كتابك تاريخ النظريات الفقهيّة في الإسلام، تشير إلى أنّ زعزعة الهيمنة الغربيّة الاستشراقيّة لا يمكن تحقيقها من خارج نطاق هذا الفكر.
أستاذ حلاق، ندرك بأنّك تضع هذا المنهج من أجل تغيير مفاهيم الآخر لبناء الجسور المعرفيّة بين الذات والآخر، لكن أليست هذه المنهجيّة تنطوي على مخاطرةٍ ما غير محسوبة النتائج: لماذا يجب أن تكون زعزعة الخطاب الاستشراقيّ، حتى تكون ذات كفاءة، من داخله، وأن تشاركه بعض افتراضاته ومعطياته الأساسيّة؟ أليست هذه تمثل عملية إدخال صيغ ووحدات لغوية إلى الإسلام تنتمي إلى المخزون اللغويّ الحديث؟ أليست هذه محاولة شبيهة بمحاولات بعض الإسلاميين الليبراليين عندما يركّبون بين الديمقراطيّة والشورى، المواطنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحكم الإسلاميّ -لا الدّولة الإسلاميّة كما توضّ لنا في الدّولة المستحيلة- والحداثة... إلخ والتي تؤاخذ عليهم ذلك انطلاقًا من عدم المقايسة بين نظم الإسلام ونظم الحداثة؟
بمعنى آخر، كيف يمكن التوفيق بين قولك إنّ هناك معطيات وافتراضات باتت أساسيّة في علم التاريخ الحديث لا يمكن تجاهلها في دراسة التاريخ الإسلاميّ، علمًا بأنّ ثمة فارقًا جوهريًا بين علم التاريخ الحديث والعلم القديم (العلم الإسلاميّ)، فالأول تحرّر ممّا يسمّيه المفارق/الوحي في التاريخ لصالح علم ثنائي الدلالة يقيم علاقة مباشرة مع التاريخ والطبيعة (من هنا ظهرَ المنهج التجريبيّ القائم على الفرضيّة) ما شكّل افتراضاته ومعطياته الأساسيّة اللذين يتحرّكان بموجب نظام معرفي علمانيّ ضمنيّ يشكّل خلفية الرؤية للظواهر التاريخيّة. وهذا يشتغل بطريقة مختلفة عن العلم الإسلاميّ ثلاثيّ الدلالة؛ إذ يقوم على القياس أو التوسط، وليس الفرض. ما يجعل علم التاريخ الحديث سببيًّا ينطلق من فرضية تحلّ محل القياس ليصبح السؤال إذا ما كانت تنطبق على الواقع أم لا بغرض الضبط والتحكم. بينما علم التاريخ الإسلامي أخلاقيّ، إنجازيّ أكثر مما هو خبريّ، لا يحتاج لإثبات مشروعيّته واتساقه بقدر ما هو لضمان سلوك حسن يقوم على الفعليّ لا عمّا ينبغي. أليس ذلك يجعلنا أمام نظم معرفيّة غير متقايسة تستعصي على التقريب وتعطل بناء الجسور المعرفيّة؟
وائل حلّاق: أنت تطرح أحد الأسئلة الأكثر عمقاً وأهميّةً، وهو سؤالٌ يشكّل التحدي الأكبر في نقد الحداثة. في الواقع، لقد اضطلعتُ بهذا السؤال في الكتاب الذي أتممته لتوّي عن الاستشراق (والذي سيصدر عن مطبعة جامعة كولومبيا بعد بضعة أشهر*)؛ وبمعنى هامّ، فإنّ جزءاً معتبراً من الكتاب يشتبكُ مع هذا السؤال ويحاول حلّ الإشكالات الشائكة التي يثيرها هذا السؤال. ولستُ متأكّداً من أن هذا هو المكان الصحيح للولوج في إشكاليّةٍ حبّرت عشرات الصفحات في الكتاب. لكن دعني أحاول إيجاز ردّ ما.
أولاً، إنّه من الحقائق البديهيّة أنّنا لا يمكننا التحدّث من خارج الحداثة، ببساطةٍ لأنّنا لا نستطيع إبستمولوجيّاً أن نصلَ مباشرةً إلى واقعٍ خارج الحداثة من داخل الحداثة. فهذه استحالةٌ إبستمولوجيّة. وبالنسبة إلى أحدٍ يدعي مقدرةً كهذه، فإنّ زعمه ذلك يعادل الزعمَ بأنّه يُمكن نقله عالمٍ تاريخيّ آخر، أو أنّ الزمان التاريخيّ يمكن استعادته كتجربة معيشيّة أو مُعاشة. لذا؛ إذا سُمِحَ لنا بتبصّر في جانبٍ من جوانب الواقع الخارج عن الحداثة، فسيكون تبصّراً، بحكم الواقع، مموقعاً في الحداثة. وعليه، يجب علينا الكفّ عن الوهم بأنّنا يمكننا الوقوف خارج الحداثة في نقدها. فليس هناك مساحة نقديّة قائمة في العالم اليوم تقع خارج محيط الحداثة وجوّها، ذلك لأنّ النقد نفسه -كما نعرفه اليوم- قد صِيغَ وشُكِّلَ كظاهرة حداثيّة مميّزة (بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ أشكالاً معيّنة من النّقد لم تكن موجودة قبل الحداثة؛ بلى، كانت موجودة، لكنّها كانت محكومة، مثلها مثل أيّ شيءٍ آخر، بمنطقٍ داخليّ مختلف، وهو ما يجعلها أنواعاً أخرى من النّقد).
ومع ذلك، لا ينبغي أن يعني ذلك كلّه -وفي الواقع لا يمكن ذلك- أنّه من المستحيل تدمير الحداثة من داخلها عن طريق النّقد. حلّي لذلك، أو الحلّ المرجوّ، هو تأسيس نقدي على نظريّة البارديغمات التي طرحتها في كتابي الدوّلة المستحيلة وتوسّعتُ فيها في كتابي القادم عن الاستشراق. وربّما يوضّح اقتباسٌ من مقدّمة الكتاب القادم عن الاستشراق بوضوح تلك المسائل: “على الرّغم من أنّ نقطتي الانطلاقيّة تبدأ من كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، فإنّني أواصل توسيع دائرة البحث حولها، مضيفاً تشابكاً تاريخيّاً وفلسفيّاً، واصلاً إلى الذروة بتحاشي سرديّته وأساساتها السياسيّة إلى حدّ كبير. بمعنى آخر، على الرّغم من أنّ الكتاب يبدأ بالسياسة باعتبارها موضعاً للنقد، فإنّهي ينتهي بنطاق فكريّ مختلف كليّةً، وذلك بالتحديد هو الهدف منه. وبالتالي، فهذا الكتابُ مقالةٌ في المبادئ الأخلاقيّة التأسيسيّة والبنى الإيتيقيّة التي تقع في مجموعة معقّدة من العلاقات مع الحداثة، كقالبٍ من الإنكار والسّلب في معظمها، لكن أيضاً كموضع للنقد التصحيحيّ. فقد يبدو، في الإبستمولوجيا والنّسق العقلانيّ الذي تمّ تأسيس وجوده على استبعادٍ مبدئيّ لرؤى معيّنة وأنماط من التفكير، أقول فقد يبدو أنّ أيّ دعوة لفكرٍ كهذا من شأنها أن يُحكَم بالفشل عليها حالما يُدعى إليها.
ومع ذلك، وكما سيحاجج هذا الكتابُ على الدّوام، فإنّ الأدائيّة (performativity) والتشكّل الخطابيّ والمعرفة وبنى السّلطة إنّما هي أمور ديناميكيّة، ودائماً ما تخلّف داخل النطاقات المركزيّة -بحكم ديناميكيّتها- فَتحات وشقوقَ وتصدعاتٍ وفجواتٍ وتمزقات متناقضة مع البنى البراديغميّة. والحال أنّ المشروع الحديث مليءٌ بتلك التصدعات والشقوق، لأنّه تحديداً ينكرها، والظنّ بأنّها لا يمكن أن توفّر لنا ما أسميته بالنقد التصحيحيّ ليس اقتراحاً متناقضاً فحسب، بل اقتراح يُؤبِّدُ بكلّ بساطة الإماتة الاستعاريّة لموت المؤلف لدى فوكو. والحال أنّ التفكير من خلال تلك الفتحات والشّقوق والتصدعات، ومنح الاستثناءات والإبْكامات حضوراً فاعلاً، وإحياء ما جعلته النطاقات المركزيّة هامشيّاً وغير ذي صلةٍ - تلك هي كلّها المعاني الحقيقة الوحيدة للنّقد".
ومع ذلك، وكما سيحاجج هذا الكتابُ على الدّوام، فإنّ الأدائيّة (performativity) والتشكّل الخطابيّ والمعرفة وبنى السّلطة إنّما هي أمور ديناميكيّة، ودائماً ما تخلّف داخل النطاقات المركزيّة -بحكم ديناميكيّتها- فَتحات وشقوقَ وتصدعاتٍ وفجواتٍ وتمزقات متناقضة مع البنى البراديغميّة. والحال أنّ المشروع الحديث مليءٌ بتلك التصدعات والشقوق، لأنّه تحديداً ينكرها، والظنّ بأنّها لا يمكن أن توفّر لنا ما أسميته بالنقد التصحيحيّ ليس اقتراحاً متناقضاً فحسب، بل اقتراح يُؤبِّدُ بكلّ بساطة الإماتة الاستعاريّة لموت المؤلف لدى فوكو. والحال أنّ التفكير من خلال تلك الفتحات والشّقوق والتصدعات، ومنح الاستثناءات والإبْكامات حضوراً فاعلاً، وإحياء ما جعلته النطاقات المركزيّة هامشيّاً وغير ذي صلةٍ - تلك هي كلّها المعاني الحقيقة الوحيدة للنّقد".
ولديّ نقطة أخيرة ههنا: لقد قلتُ قبل قليل أنّ الحداثة يمكن تدميرها، والنّقد هو المنهج الأوحد للتدمير. فكثيرٌ من الذين هاجموا كتابي الدّولة المستحيلة (سواء أكانوا في أوروبا وأمريكا أم في العالم العربيّ) إنّما قاموا بذلك على أساس أنّني أنقد ظاهرةً لا مفرّ منها. أعتقدُ أنّني دقيقٌ تماماً بقولي إنّ زعمَهم (وقد قال ذلك البعض جهاراً) هو أنّ كلاً من الحداثةَ والدّولةَ "أبديتان"، مما يعني أنّه لا مكان للنّقد أو للمقاومة. آملُ أن تتغيّر. فإذا كان التاريخُ الدوريّ الكبير (بكلّ إخفاقاته) قد علّمنا شيئاً ما، فهو أنّه ما من ظاهرةٍ في التاريخ البشريّ يمكن أن تكون أبديّة، ولا حتّى النّوع البشريّ بحدّ ذاته. وبدون نظريّة للتناوب "الحضاريّ" (الأمر الذي يمكن استخلاصه بصورة مفيدة من ابن خلدون ومن مفهوم فوكو للإبستيم)، فقد نجد أنّه من المستحيل تفسير بزوغ الحداثة خارج ما قبل الحديث نفسه لأوروبا، أو بزوغ اليونان أو الإسلام -من بين آخرين- خارج الكوكبة الحضاريّة التي حلّوا محلّها.
السؤال السابع: أشرتَ في حوار مع جدليّة في ٢٠١٣ إلى أنّك تعمل حاليًا على كتاب عن القرآن الكريم. ماذا وصلت فيه؟ وأليس هذا تغييرًا لمسار اشتغالك باعتبار أنّك تعمل على النّص الثاني (أصول، وفقه، وتفسير...) لا على النّص الأوّل المؤسّس (القرآن، والسّنة)؟ وما الذي تودّ قوله بإيجاز في هذا الكتاب المُنتظَر؟
وائل حلّاق: لا أريد قول شيء يجلبُ التوقعات. فعمل العلماء والمفكرين دائماً ما يكون متورّطاً باللايقين، لأنّ المؤلف لا يمكنه أن يقول ما سيحدثُ لمشروعاته. فبإمكانهم أن يتخذوا أيّ اتجاه. فمثلاً، عندما تفرّغت في العام الماضي لكتابة مقالة عن الاستشراق (المقال الذي كنتُ معنيّاً بكتابته لعددٍ من السنوات)، وجدت نفسي غارقة في كتابة مستمرّة أفضت إلى كتابٍ طويلٍ نسبيّاً، والذي أتممته لتوّي. وقد أدّى ذلك إلى تأخر مشروع حول القرآن، والذي اضطلعت به أيضاً لعدد من السنوات، ويشكّل ما كتبته حتى الآن نصف الكتاب فقط. وهناك أيضاً كتاب آخر لم يُكتب أيضاً منه سوى نصفه، وهو بحاجةٍ إلى تكملةٍ، وهو كتاب حول الاشتغال المهمّ للفيلسوف المغربيّ طه عبد الرحمن (الذي يستحقّ أن يكون أكثر شهرةً في العالمين الإسلاميّ والغربيّ). لذا لا أستطيع قول ما سيكون عليه الكتاب، سواء هذا أو ذاك، لكن نرجو العافية والفرصة لإكمالهما.
أمّا بالنسبة إلى مسار تفكيري، فأنا لا أرى نفسي في مسار متغيّر. وأنزع إلى التفكير في اشتغالي كاشتغال متواصل ومتنامٍ. إذ يعتقدُ كثيرٌ من النّاس أن كتابي الشريعة (الذي نأمل ظهوره في العربيّة قريباً) يمثّل تحولاً، لكنّي لم أر ذلك على هذا النحو.
وللإجابة عن الشّطر الآخر من سؤالك، فقد كنتُ مهتمّاً دائماً بالمصادر التأسيسيّة، وكتبت، على سبيل المثال، حول الحديث سنواتٍ طوال. كما قمتُ بتدريس سيمنارات متقدّمة (مُعدّة أصلاً لطلبة الدكتوراه) حول القرآن على المدى السنوات العشرين الماضية، ونشرتُ في عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٠ مقالتين طويلتين حول دوره الدستوريّ والتشريعيّ المبكّر.
* تلك المعلومة هي من أملاها عليّ الدكتور حلاق نفسه. [كريم محمد]
المؤلف: وائل حلاق
أستاذ الشريعة في جامعة ماكغيل. وحالياً أستاذ في الدراسات الشرق أوسطية بجامعة كولومبيا. له إصدارات عدة، منها كتاب "الشريعة: النظرية والممارسة والتحولات"، و"الدولة المستحيلة"، إلى جانب ثلاثيته عن الفقه الإسلاميّ تاريخاً ونظريةً؛ غير العديد من الكتب والأوراق العلمية.
انظر الجزء الأول.
أستاذ الشريعة في جامعة ماكغيل. وحالياً أستاذ في الدراسات الشرق أوسطية بجامعة كولومبيا. له إصدارات عدة، منها كتاب "الشريعة: النظرية والممارسة والتحولات"، و"الدولة المستحيلة"، إلى جانب ثلاثيته عن الفقه الإسلاميّ تاريخاً ونظريةً؛ غير العديد من الكتب والأوراق العلمية.
انظر الجزء الأول.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- رابط الجزء الثاني (1229 تنزيلات)
- رابط المادة كاملة (1733 تنزيلات)
كريم محمد
باحث ومترجم مصري. مهتم بأسئلة الدين والعلمانيّة والسوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة. وصدرت له في ذلك مقالات وأبحاث منشورة إلكترونيّاً. بالإضافة إلى أنه صدرت له ترجمة كتاب "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ" عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.