إذ سعى من خلاله إلى فهم ديناميات العلاقة بين ما يدعوه ب " الوجود المدني المحلي السني" في سوريا وبين النظام السوري، عبر مقاربة هذا الموضوع من زاوية النموذج النظري "سلطة الانضباط- الرمزي" الذي طرحته الباحثة الأميركية ليزا وادين في أطروحتها حول سوريا " السيطرة الغامضة، 1999".ونظراً لأهمية التحليل الذي يقدمه الباحث وتركيزه على " السياسات غير الرسمية" التي أتبعها " الفاعلون السنة" للتأقلم مع السياسات الغامضة للنظام ، قمنا بنشر ترجمة هذا النص.
ملخص
في مواجهة الغموض: ديناميات العلاقة بين المجتمع السني والنظام السوري
ترجمة: حمزة ياسين
نشر هذا النص سنة 2010 للباحث الهولندي تاجي دونكر (يعمل حالياً في جامعة بيرغن ، النرويج).
الأطروحة الأساسية لهذه الورقة هي أنه يمكن للأنظمة السلطوية أن تستفيد من وجود النشاط المدني المحلي (السني)؛ وذلك عن طريق ديناميات اجتماعية تقوم بخلق حوافز للفاعلين السنيين لكي يقتربوا أكثر من ممثلي النظام. تفترض المقالة أنه عن طريق ذلك أصبح الفاعلون السنة في حالة خضوع للنظام وسلموا بسلطته، هذه الديناميات كانت نتيجة لاتفاقات مجتمعية وضعت خطوطاً عريضة للمآلات التي يجب أن تتطور نحوها إدارة المساومات والتوافقات والتحالفات بين النظام وممثلي السنة، حيث نتجت هذه التوافقات كرد فعل على الطبيعة الغامضة لقمع النظام للنشاط المدني للمجتمع السني.
مقدمة
أدت الحصانة التي تتمتع بها الأنظمة الشرق أوسطية بعد حدوث الموجة الثالثة من التغيرات الديمقراطية في أواخر الثمانينات والتسعينات (Brownlee, 2007; Huntington, 1991) إلى زيادة الاهتمام في فهم الأسباب الكامنة خلف النكوص في مسار الديمقراطية في الشرق الأوسط (الأمثلة هي Hadenius and Toerell, 2007; Yom 2005)، ومنذ بداية الألفية، توجهت النقاشات الأكاديمية نحو تبني مقاربة تركِّز أكثر على مسألة السلطوية، مثل مناقشة المؤسسات والديناميات والآليات التي تحافظ على بقاءها (انظر Albrecht and Schlumberger, 2004: 372; Carothes, 2002)، وفي نفس الوقت، هناك وعي متزايد بأن السلطوية بدأت بتجاوز حالة السكون والصلابة، واختيار التعامل معها باعتبارها نموذجاً دينامياً ديمقراطياً. فالأنظمة السلطوية لا تميل إلى الاعتماد بشكل كبير على العنف والقمع، وذلك في مقابل أنها اعتمادها الأكبر على سياسات التكيف، حيث تقوم بإدارة واقع القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة في المجتمع، والسعي نحو استخدامها وتوظيفها للمحافظة على بقاء الأنظمة السلطوية. (Heydemann, 2007b: 22).
تتصل هذه المقاربات التي ذُكِرَت أعلاه بزيادة مضطردة في عدد الأبحاث المتعلقة بديمومة مسألة السلطوية، وكنماذج لذلك، نجد الباحثين قد كتبوا في سياسة إدارة المعارضة (Lust-Okar, 2005; Schedler, 2006) والحراك الاجتماعي (انظر Cavatorta, 2008) وفي دور المؤسسات الديمقراطية في تدعيم قواعد السلطوية (Albrecht, 2005; Bellin, 2004; Koehler, 2008)[1]. يقدم لنا هذا الانتاج البحثي تفسيرات مرنة ومركبة لمسألة السلطوية، ويعرِّفُنا على التفاعل الداخلي بين القوى المعارِضة ومؤسسات الدولة، والتي تؤدي غالباً إلى المحافظة على السلطوية بدلاً من تحديها.
تصب هذه الورقة في مساحة النقاش والجدل المطروحة فيما سبق، وهي تقدم تحليلاً للتضمينات السياسية للديناميات الاجتماعية القائمة في العلاقات بين الدولة والمجتمع في سياق سلطوي، عن طريق التركيز في العلاقات بين الدولة السلطوية في سوريا وبين المجتمع السني المحلي، ومن هنا نستأنف المقالات التي ذكرناها في توجهها النقدي للصورة التحليلية السائدة الذي يعتبر أن التنظيمات المجتمعية والأنظمة السلطوية يتبنيان مواقف متعارضة ضمنيا، وهذا النموذج المسمى بـ "الصراعي" - وهذا التوجه يأتي ضمن أدبيات الدمقرطة- والذي يعتبر أن الفاعلين الاجتماعيين هم القوى الرئيسية التي تدفع نحو مسار التغير الديمقراطي (Foster, 2001: 86-7). ولكن ممثلي المجتمع المدني القائم في الشرق الأوسط لم يؤدي إلى حدوث ضغط على الأنظمة السلطوية كي تتبنى المزيد من السياسات الديمقراطية (Wicktorowicz, 2000: 46; Yom, 2005: 14-15)، وبهذا المعنى، يكون الافتراض القائل بوجود دور للمجتمع المدني في تعزيز مسار السياسات الليبرالية والديمقراطية افتراضاً موضع تساؤل.
تعالج المقالة فجوتان قائمتان في الأبحاث المعاصرة التي تناولت موضوع السلطوية[2] ، أولاهما هي وجود تحيز وتفاؤل مناطقي للتأسيس لمقاربة أكثر توازنا في دراسة أنظمة الشرق الأوسط، اذ توسعت الأبحاث في تركيزها على مصر والأردن – بدرجة أقل – وذلك لأسباب منهجية جزئيا (Haklai, 2009: 32) مقارنة مع غيرها من الدول في المنطقة[3]، لذلك تُركِّزُ هذه الورقة على سوريا التي لم تنل حظاً كبيراً من البحث والدراسة، وتُقدم الورقة تحليلاً عميقاً ومفصلا للتفاعلات بين المجتمع المسلم والنظام السوري، فالبنية السلطوية القوية التي يتسم بها النظام السوري (انظرOttoway, 2003; Perthes, 1997: 135-202) تجعله حالة مثالية لنقاش العلاقات القائمة بين الدولة والمجتمع في أوضاع سلطوية. وتتمثل الفجوة الثانية في أن الاتجاه الذي تسير نحوه المقالات المذكورة أعلاه في فهم طبيعة حكم وقواعد السلطة يُهمل، على الصعيد المنهجي، الديناميات الجزئية الداخلية (أي مستوى المايكرو) ودورها في الحفاظ على الحالة السلطوية. ونرجو أن تُثري هذه المقالة النقاشات الدائرة حول الديناميات والآليات التي تساهم في تدعيم مقدرة السلطوية على التكيف، عن طريق تقديم بحث ميداني قائم على مشاهدات للديناميات الاجتماعية التي تزود الأنظمة السلطوية بنوع من الاستقرار الذاتي.[4]
تتموضع الديناميات الاجتماعية التي ستخضع للمناقشة ضمن مساحة التقاطع بين المؤسسات الاجتماعية السياسية الرسمية وغير الرسمية، فهي تقدم مثالاً واقعياً عن "الآليات – بما فيها البنى الشبكية - التي تحفظ وجود أوضاع راسخة من السياسات غير الرسمية وتثري الإمكانيات المتاحة للمساومة بين النخب الحاكمة والفاعلين السياسيين الآخرين" (Heydemann, 2007b: 27)، وعن طريق ذلك، أقوم بصرف الانتباه بعيداً عن النظرة الكلية (مستوى الماكرو) وتحليلات المؤسسات الرسمية السائدة والتي تُركِّز على مرونة الأنظمة الشرق أوسطية (انظر على سبيل المثال، Brownlee, 2007; Schedler, 2006)، وقد استخدمت مقاربة تقوم بشكل أكبر على المشاهدة والملاحظة، وهي مقاربة تؤكد على تأثير العلاقات غير الرسمية والاتفاقات المجتمعية في تدعيم الحكم السلطوي وضمان خنوع الفاعلين المدنيين للنظام السلطوي.
الأطروحة الأساسية لهذه الورقة هي أنه يمكن للأنظمة السلطوية أن تستفيد من وجود النشاط المدني المحلي (السني)؛ وذلك عن طريق ديناميات اجتماعية تقوم بخلق حوافز للفاعلين السنيين لكي يقتربوا أكثر من ممثلي النظام. تفترض المقالة أنه عن طريق ذلك أصبح الفاعلون السنة في حالة خضوع للنظام وسلموا بسلطته، هذه الديناميات كانت نتيجة لاتفاقات مجتمعية وضعت خطوطاً عريضة للمآلات التي يجب أن تتطور نحوها إدارة المساومات والتوافقات والتحالفات بين النظام وممثلي السنة.[5]
يمكن أن تُقسَّم الأطروحة المركزية إلى أربعة محاججات رئيسية:
أولاً، على الرغم من كون المجتمع السوري السني والنظام مختلفي الكيانات، إلا أن أفضل تصور يمكن أن نقيمه عن كلا الكيانين هو أنهما كيانات متفككة.
ثانياً، السياسات المبهمة التي يطبقها ممثلوا النظام تعتبر جزءاً لا يتجزأ عن التفاعلات بين كلا الكيانين.
ثالثاً، نتائج هذه السياسات المبهمة بالنسبة لممثلي المجتمع السني هو الحصول على وسيلة تواصل غير رسمية داخل النظام كمحاولة لتحصين نشاطاتهم الاجتماعية.
رابعاً، تطور هذا التوجه المكتفي بذاته إلى اتفاقات غير رسمية توجه التفاعلات مع النظام، مضمون هذه الاتفاقات يقدم السلطة للنظام السوري السلطوي وبالتالي تصبح جزءاً من ديناميات تدعيم السلطوية السورية.
الكيانان المتفككان: النظام السوري والمجتمع السني
يزور ٣٠٪ من السوريين المسجد كل أسبوعه، وبحسب توضيح مفتي سوريا الشيخ حسون: تشير الإحصاءات أن كل شخص لديه زوجة وأولاد، وهو ما يعني أننا نتحدث عن ١٢ مليون شخص يزور المسجد جمعة من بين ٢٠ مليون سوري. (Hamidi, 2008)
يعتبر المجتمع السني كياناً متفككاً يتكون من مؤسسات متعددة رسمية وغير رسمية تنشط باسم الإسلام، وتتموضع هذه المؤسسات ضمن شبكة العلاقات الداخلية الشخصية، وهو يتكون من عدة فاعلين مختلفين – من ناحية الحجم ودرجة المسألة ومدى الرسمية وعدد النشاطات التي يتولونها – ولكن معظم الفاعلين هم سنة من أبناء الطبقة الوسطى، كما تعتبر معظم النشاطات التي يتولونها في المجتمع السني غير رسمية. تستند هذه النشاطات على واجب الفرد المسلم السني بأن يكون فاعلاً اجتماعياَ: عن طريق دفع الزكاة[6] وبوسائل أخرى أيضاً، وليس هناك إلزام أن تكون هذه المساهمات لصالح مؤسسة أو فرد محدد. وبالرغم من عدم وجود أية أرقام رسمية، إلا أنه يمكن التأكيد أن معظم الأموال المدفوعة عن طريق الزكاة تعطى من قِبل الفرد أو الجماعة إلى فرد آخر من دون تدخُّل غطاء مؤسسي رسمي (من مقابلة مع محللين سياسيين سوريين، دمشق، ١١ نيسان ٢٠٠٩). ولذلك فإن المجتمع السني في المقام الأول هم شبكة من الفاعلين الاجتماعيين، على نحو فردي أو كجماعة، تنشط باسم الإسلام السني: مثل دفع الزكاة أو الجلسات النقاشية الشبابية حول القضايا المرتبطة بالإسلام أو حضور صلاة الجمعة، لكن لا يعتبر كل مسلم سني كمنتمي للمجتمع السني. هناك هوية اجتماعية قوية من الانتماء للساحة الإسلامية (أي المجال أن المجتمع الإسلامي)، ولكن هناك غياب للمرجعية الدينية الشاملة.[7] تُبنى العلاقات داخل المجتمع السني على أساس الثقة الشخصية: أي أن يثق أحد الأفراد بصديق له حتى يوزعوا الأموال سويةً أو الثقة بشيخ تُتَّبع تعاليمه أو ثقة الفرد بمؤسسة ما وتوكيلها مهمة تدريس أبنائه (من مقابلة مع عالم ديني سني معروف، دمشق، ٢٧ نيسان ٢٠٠٩).
وبرز عدد من الأفراد في هذه الشبكة التي وصفناها أعلاه على شكل مكاتب مؤسساتية شكَّلت واجهة للمجتمع السني،[8] وكانت أبرز هذه المؤسسات هي المساجد والمدارس الإسلامية والجامعات والجمعيات الخيرية على اختلاف أنواعها وأحجامها. بالنسبة للأفراد، يوجد عدد من المناصب الرسمية التي يمكن أن يصل إليها المشايخ (وهم رجال يحظون على شكل من المرجعية الدينية الشعبية)، فالمفتون على سبيل المثال يضطلعون بمهمة إصدار الفتاوى، والأئمة يأمُّون الصلوات الخمس في المساجد، والخطيب يعظ في صلاة الجمعة (Batatu, 1982: 14)[9]، وبحكم ضألة المردود المادي من هذه المناصب، يزاوج معظم الأفراد منصبهم الديني مع مهنة أخرى. مركز المجتمع السني واضح المعالم – حيث تتشكل نواة المجتمع من المشايخ ذائعي الصيت والمؤسسات السنية الكبرى، أما مشاركة الفاعلين الثانويين فتتسم بعدم الوضوح: فهناك حالة من الغموض بالنسبة لولاء ونشاط هؤلاء الأفراد مع المجتمع السني (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٨ نيسان ٢٠٠٩).
يعتمد تأثير المشايخ والمؤسسات على حجم دائرة جمهورهم، ويميل معظم المشايخ البارزين بشكل عام إلى معرفة بعضهم البعض بطرق غير رسمية (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٢٧ آذار ٢٠٠٩)، وهم يشكلون النخبة الدينية السنية المستندة على مكانة دينية معروفة غير متأثرة بشكل عام بمواقفهم السياسية الاجتماعية أو بعلاقتهم مع مؤسسة معينة. المشايخ المعروفين والمؤثرين في سوريا هم الشيخ البوطي، رئيس كلية الشريعة في جامعة دمشق، والشيخ محمد راتب النابلسي، والتي تُبث خُطَبه ثلاثة مرات في اليوم على الراديو المحلي والتلفزيون، والمتوفى أحمد كفتارو، رئيس مجمع أبو النور،[10] وتم إعادة تسمية المجمع باسم أحمد كفتارو وذلك بعد وفاته في ٢٠٠٤، وحالياً، فإن المؤسسات الأساسية في دمشق هي حفظ النعمة ومجمع الفتح الإسلامي ومجمع أحمد كفتارو: يتألف كلٌ منها من مجموعة من المساجد والجمعيات الخيرية والمدارس، والمؤسستين الأخيرتين تملك كليات ذات اتصال مؤسسي مع جامعات خارجية في الشرق الأوسط. قام النظام بتأسيس اتحاد الجمعيات الخيرية، والصناديق الفرعية المرتبطة بها وهو ما أعطى بنية رسمية للجمعيات الخيرية. ستناقش هذه الفكرة فيما يأتي (من مقابلة مع ناشط علماني، دمشق، ١٢ نيسان ٢٠٠٩؛ من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٢٧ نيسان ٢٠٠٩).[11]
أولاً، على الرغم من كون المجتمع السوري السني والنظام مختلفي الكيانات، إلا أن أفضل تصور يمكن أن نقيمه عن كلا الكيانين هو أنهما كيانات متفككة.
ثانياً، السياسات المبهمة التي يطبقها ممثلوا النظام تعتبر جزءاً لا يتجزأ عن التفاعلات بين كلا الكيانين.
ثالثاً، نتائج هذه السياسات المبهمة بالنسبة لممثلي المجتمع السني هو الحصول على وسيلة تواصل غير رسمية داخل النظام كمحاولة لتحصين نشاطاتهم الاجتماعية.
رابعاً، تطور هذا التوجه المكتفي بذاته إلى اتفاقات غير رسمية توجه التفاعلات مع النظام، مضمون هذه الاتفاقات يقدم السلطة للنظام السوري السلطوي وبالتالي تصبح جزءاً من ديناميات تدعيم السلطوية السورية.
الكيانان المتفككان: النظام السوري والمجتمع السني
يزور ٣٠٪ من السوريين المسجد كل أسبوعه، وبحسب توضيح مفتي سوريا الشيخ حسون: تشير الإحصاءات أن كل شخص لديه زوجة وأولاد، وهو ما يعني أننا نتحدث عن ١٢ مليون شخص يزور المسجد جمعة من بين ٢٠ مليون سوري. (Hamidi, 2008)
يعتبر المجتمع السني كياناً متفككاً يتكون من مؤسسات متعددة رسمية وغير رسمية تنشط باسم الإسلام، وتتموضع هذه المؤسسات ضمن شبكة العلاقات الداخلية الشخصية، وهو يتكون من عدة فاعلين مختلفين – من ناحية الحجم ودرجة المسألة ومدى الرسمية وعدد النشاطات التي يتولونها – ولكن معظم الفاعلين هم سنة من أبناء الطبقة الوسطى، كما تعتبر معظم النشاطات التي يتولونها في المجتمع السني غير رسمية. تستند هذه النشاطات على واجب الفرد المسلم السني بأن يكون فاعلاً اجتماعياَ: عن طريق دفع الزكاة[6] وبوسائل أخرى أيضاً، وليس هناك إلزام أن تكون هذه المساهمات لصالح مؤسسة أو فرد محدد. وبالرغم من عدم وجود أية أرقام رسمية، إلا أنه يمكن التأكيد أن معظم الأموال المدفوعة عن طريق الزكاة تعطى من قِبل الفرد أو الجماعة إلى فرد آخر من دون تدخُّل غطاء مؤسسي رسمي (من مقابلة مع محللين سياسيين سوريين، دمشق، ١١ نيسان ٢٠٠٩). ولذلك فإن المجتمع السني في المقام الأول هم شبكة من الفاعلين الاجتماعيين، على نحو فردي أو كجماعة، تنشط باسم الإسلام السني: مثل دفع الزكاة أو الجلسات النقاشية الشبابية حول القضايا المرتبطة بالإسلام أو حضور صلاة الجمعة، لكن لا يعتبر كل مسلم سني كمنتمي للمجتمع السني. هناك هوية اجتماعية قوية من الانتماء للساحة الإسلامية (أي المجال أن المجتمع الإسلامي)، ولكن هناك غياب للمرجعية الدينية الشاملة.[7] تُبنى العلاقات داخل المجتمع السني على أساس الثقة الشخصية: أي أن يثق أحد الأفراد بصديق له حتى يوزعوا الأموال سويةً أو الثقة بشيخ تُتَّبع تعاليمه أو ثقة الفرد بمؤسسة ما وتوكيلها مهمة تدريس أبنائه (من مقابلة مع عالم ديني سني معروف، دمشق، ٢٧ نيسان ٢٠٠٩).
وبرز عدد من الأفراد في هذه الشبكة التي وصفناها أعلاه على شكل مكاتب مؤسساتية شكَّلت واجهة للمجتمع السني،[8] وكانت أبرز هذه المؤسسات هي المساجد والمدارس الإسلامية والجامعات والجمعيات الخيرية على اختلاف أنواعها وأحجامها. بالنسبة للأفراد، يوجد عدد من المناصب الرسمية التي يمكن أن يصل إليها المشايخ (وهم رجال يحظون على شكل من المرجعية الدينية الشعبية)، فالمفتون على سبيل المثال يضطلعون بمهمة إصدار الفتاوى، والأئمة يأمُّون الصلوات الخمس في المساجد، والخطيب يعظ في صلاة الجمعة (Batatu, 1982: 14)[9]، وبحكم ضألة المردود المادي من هذه المناصب، يزاوج معظم الأفراد منصبهم الديني مع مهنة أخرى. مركز المجتمع السني واضح المعالم – حيث تتشكل نواة المجتمع من المشايخ ذائعي الصيت والمؤسسات السنية الكبرى، أما مشاركة الفاعلين الثانويين فتتسم بعدم الوضوح: فهناك حالة من الغموض بالنسبة لولاء ونشاط هؤلاء الأفراد مع المجتمع السني (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٨ نيسان ٢٠٠٩).
يعتمد تأثير المشايخ والمؤسسات على حجم دائرة جمهورهم، ويميل معظم المشايخ البارزين بشكل عام إلى معرفة بعضهم البعض بطرق غير رسمية (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٢٧ آذار ٢٠٠٩)، وهم يشكلون النخبة الدينية السنية المستندة على مكانة دينية معروفة غير متأثرة بشكل عام بمواقفهم السياسية الاجتماعية أو بعلاقتهم مع مؤسسة معينة. المشايخ المعروفين والمؤثرين في سوريا هم الشيخ البوطي، رئيس كلية الشريعة في جامعة دمشق، والشيخ محمد راتب النابلسي، والتي تُبث خُطَبه ثلاثة مرات في اليوم على الراديو المحلي والتلفزيون، والمتوفى أحمد كفتارو، رئيس مجمع أبو النور،[10] وتم إعادة تسمية المجمع باسم أحمد كفتارو وذلك بعد وفاته في ٢٠٠٤، وحالياً، فإن المؤسسات الأساسية في دمشق هي حفظ النعمة ومجمع الفتح الإسلامي ومجمع أحمد كفتارو: يتألف كلٌ منها من مجموعة من المساجد والجمعيات الخيرية والمدارس، والمؤسستين الأخيرتين تملك كليات ذات اتصال مؤسسي مع جامعات خارجية في الشرق الأوسط. قام النظام بتأسيس اتحاد الجمعيات الخيرية، والصناديق الفرعية المرتبطة بها وهو ما أعطى بنية رسمية للجمعيات الخيرية. ستناقش هذه الفكرة فيما يأتي (من مقابلة مع ناشط علماني، دمشق، ١٢ نيسان ٢٠٠٩؛ من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٢٧ نيسان ٢٠٠٩).[11]
الشيخ راتب النابلسي
لا يوجد قيادة مركزية للمجتمع السني، كما أنها تعيش انقسامات عميقة على أساس قضايا مختلفة من بينها المسائل الفقهية والعلاقة مع النظام وأصول العوائل السنية، وبالإضافة لكل ذلك، أحد الانقسامات التقليدية الأساسية هي بين أكبر مدينتين دمشق وحلب، فعادة ما يُنظر لحلب على أنها أكثر استقلالاً عن النظام وذات نشاط موجَّه في مقابل نظيرتها دمشق، لكن بالرغم من هذه الاختلافات، فإن الفاعلين السنيين المدينين يؤكدون على أنهم جزء من ذات المجتمع السني، وأن التواصل غير الرسمي بين الفاعلين مُتجاوز للحدود المتعددة التي ذكرناها (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ١٧ آذار ٢٠٠٩؛ من مقابلة مع ناشط حقوقي ، دمشق، ٨ نيسان ٢٠٠٩).
من ناحية تاريخية، شهدت العلاقات بين المجتمع السني والنظام البعثي صراعات عنيفة، فطوال فترة السبعينات والثمانينات، تصاعدت الحركات المعارضة للنظام والتي تزعمَّتها الحركات الإسلامية وخاصة الإخوان المسلمين السوريين، تم قمع هذه الثورات بعنف من قِبل النظام، وبلغت ذروتها في مواجهات عام ١٩٨٢ في مدينة حماة، ودُمِّرت المدينة بشكل كبير وقُدِّر عدد الضحايا بين ال٥٠٠٠ وال٢٠٠٠٠ قتيل (Lobmayer, 1995)، وهنا أثبت النظام مدى قوته، ومنذ هذا الحدث غاب الإسلام السياسي عن المشهد العام، وأي شكل آخر من النشاط الاسلامي بات متحكماً به أو يتم قمعه. لكن بالرغم من هذا القمع القاهر، بقي المجتمع السني (المظلة العريضة التي ينطوي تحتها النشاط الديني والاجتماعي، والسياسي إلى حد ما، باسم الإسلام) أحد أكبر الفاعلين على ساحات النشاط الاجتماعي-السياسي في سوريا.
النظام السوري عبارة عن مجموعة من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي تتفاعل بناء على مصادقتها للقوانين، بشكل صريح أو ضمني، وهو يتألف من مؤسسات سياسية رسمية وأجهزة تنفيذية ومنظمات معروفة منبثقة عن شبكة علاقات غير رسمية. تتضمن المؤسسات الرسمية هيئات إدارية محلية (مثل بلدية دمشق) ووزارت متعددة ومؤسسات بيروقراطية.[12] لا تتعامل هذه المقالة مع النظام باعتباره مجرد أجهزة رسمية، بل باعتباره يتضمن أيضاً مؤسسات غير رسمية وأفراد يشكِّلون شبكة من الهيمنة على السلطة السياسية (والاقتصادية على نحو متصاعد). [13]
تتمركز السلطة السياسية حول نخبة سياسية تشكلت عبر شبكات مبهمة ارتبطت بأفراد تجمعهم علاقات وثيقة بالمؤسسات التي ذكرناها في الفقرة السابقة، حيث تسعى هذه الشبكات للمحافظة على سيطرة النظام، وهم يتشكلون عن طريق البُنى القبلية والعائلية والتحالفات الشخصية غير الرسمية. وبما أن الرئيس ينتمي للطائفة العلوية (والتي تعتبر أحد أفرع الإسلام الشيعي)، فإنه يوجد مبالغة في التمثيل العلوي ضمن شبكة نُخَب النظام والمناصب العامة في السلطة السياسية، لا نقول هذا حتى نعتبر النظام ذا طبيعة طائفية: لأن هناك أفراداً من عدة طوائف (بما فيها الإسلام السني) يعتبرون جزءاً من هذه الشبكة غير الرسمية للنظام.
لا بد أن نؤكد هنا أن وجود دافع للمحافظة على سيطرة النظام لا تعني بالضرورة وجود حالة من الوحدة في داخله، فعلاقات السلطة داخل النظام مرنة (مثل أنه يمكن لنخب النظام أن تسقط من حالة الرفاه وتخسر امتيازاتها)، وبالرغم من الواجهة المُوَحَّدة للنظام، يوجد انقسامات أيديولوجية جوهرية داخل دوائر النظام، بتوزيع السلطة بين الرئيس بشار الأسد وأعوانه من النخب السياسية غير واضحة في الغالب، وفي داخل هذه التحالفات يعيش العديد من الجماعات والأفراد في صراع دائم على السلطة والسيطرة، وبناء على ذلك، كان هذا الغموض الظاهر (وبالتالي الوحدة) لهذه المراكز السياسية العليا عبارة عن واجهة تخفي وراءها انقسامات تتشكل باستمرار[14].
قبل كل شيء، كان النظام السوري يتعامل مع المجتمع السني باعتباره (أي النظام) خليطاً من وزارات مختلفة وأجهزة استخباراتية وأشكال أخرى من المؤسسات التي تسعى للتحكم في المجتمع الواسع من النشاط الإسلامي المدني، فالمساجد مسجَّلة في وزارة الأوقاف، والجمعيات الخيرية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والتعليم الإسلامي في وزارة التعليم، والعديد من الكليات على اتصال بوزارة التعليم العالي.[15] وفي نفس الوقت، يقع المجتمع تحت رقابة مستمرة من جهاز المخابرات السوري (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ١٧ آذار ٢٠٠٩؛ من مقابلة مع نشاط حقوقي، دمشق، ٨ نيسان ٢٠٠٩؛ Al-Barazi, 2007: 19-21).[16]
لا يتحكم النظام بالمجتمع السني، ولكنه قام وعلى مدى السنوات بتطوير مؤسسات رسمية وهياكل قانونية تتيح لمؤسسات النظام أن تُحبط أي تنظيمات إسلامية إلى الدرجة التي تجبرها على الاضمحلال، وهو شيء اشبه بسلطة الـ"فيتو" في يد النظام ضد أي مبادرة إسلامية، وهذا ما طبق -مثلاً- على الجمعيات الخيرية الإسلامية ومحصِّلي الزكاة وتوزيع المناصب الدينية التقليدية. ففيما يخص الجمعيات الخيرية، تم تأسيس هيكل رسمي حيث تقوم وكالة منظمة باسم اتحاد الجمعيات الخيرية بتقديم حاضنة تنظيمية لكل الجمعيات الإسلامية الخيرية، ويعتبر الاتحاد جزءاً من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، حيث تطالب الوزارة أن يتم تحويل ما نسبته ٥٪ من أموال الجمعيات إلى الاتحاد قبل بداية شهر رمضان، ومن هذه الأموال يتم دعم ثلاثة صناديق تقدم نفسها كجمعيات خيرية متميزة في المجتمع السوري (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٥ نيسان ٢٠٠٩)،[17] وبالإضافة لذلك، تقوم وزارة الأوقاف بتحديد أي من الجمعيات سيتولى جمع الزكاة خلال شهر رمضان: حيث يتم تعيين مسجد محدد لكل جمعية، وفي حال لم تساهم احدى الجمعيات مالياً للاتحاد فلا يتم تعيين أي موقع لها، وتحظى الجمعيات المقربة بالمساجد الكبرى، أما الجمعيات المتأزمة تتسلم المساجد المهمشة في المحافظة (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٢٧ نيسان ٢٠٠٩).[18] ثالثاً، يتم إدارة أي منصب ديني رسمي عن طريق وزارة الأوقاف، وفي ما يخص ذلك، فالتعاون بين الوزارة والمخابرات يمنحها القوة على أن تمنع أي أحد من الخطابة في الجوامع. أما بالنسبة لمنصب المفتي، فهناك هيكل إداري رسمي لذلك على صعيد الدولة والبلدايات، مع وجود أحمد بدر الدين حسون في المنصب الرسمي باسم المفتي العام للجمهورية العربية السورية.[19]
الغموض في تنفيذ السياسات
الشيخ بلال ]في يناير ٢٠٠٨[: لقد تم استدعائي برفقة مشايخ آخرين من قِبَل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وتم إخبارنا أنه يتوجب علينا تقديم استقالتنا من رئاسة جمعياتنا الخيرية، وتم تبرير هذه القرار بوجود قانون جديد يمنع أن يكون إمام المسجد مسؤولاً عن جمعية خيرية. وعلى إثر ذلك قمت بتقديم شكوى لوزير الشؤون الاجتماعية والعمل، ليس بسبب القانون الجديد، وإنما لأني كنت ممنوعا من الخطابة لأكثر من ١٤ عاماً ... أنا لست إماماً – ولَم أكن كذلك منذ كل هذه السنوات الماضية!، وكانت الإستجابة – كما هو متوقع – بسيطة جداً: إذا استمريت بالاعتراض أكثر فسيتم إجبار الجمعية على إغلاق أبوابها تماماً. (من مقابلة مع "بلال"، دمشق، ١٧ آذار ٢٠٠٩)
عند التركيز في آلية تطبيق القوانين الجديدة تصبح مسألة التباس النظام أكثر وضوحاً، فهناك تناقض صارخ بين القوانين الرسمية وآلية تطبيقها الفعلي، وأفضل تصور للتطور في التباس السياسات المطبقة ليس تصويرها باعتبارها مجرد استراتيجية متعمدة، وإنما باعتبارها أمراً متأصلاً في بنية النظام نتيجة لخصيصتين في النظام السوري: فهو ذو طبيعة متفككة على مستوى نظامه البيروقراطي، والسلطة السياسية متركزة في أيد نخب غامضة تعيد تحديد موضعها كمقابل للفاعلين الإسلاميين.[20]
يمكن اختزال وجهتي النظر الأساسية بالنسبة للنخب السياسية فيما يخص العلاقة مع المجتمع السني بوضوح بأنها تتموضع بين طرفين شديدي التناقض ( موقف إيجابي وآخر سلبي)، يقضي الموقف الإيجابي بدعم الفاعلين الإسلاميين، وتزويدهم بقدر من الحرية حتى تبرز مبادراتهم، وتقديم التسهيلات في ما يخص علاقة جهاز المخابرات بالمجتمع السني، في حين يشتمل الموقف السلبي على قمع المجتمع السني وميل النظام نحو الامتناع عن مشاركة الخطاب والمؤسسات السنية داخل بنية النظام.[21] والسياسات الفعلية المطبقة هي مزيج من كلا الموقفين مع وجود تنقل مستمر بين الطرفين.
العديد من المواقف المتعارضة تستند إلى هذين المنهجين المتعارضين، أولاً، يحاجج أصحاب الموقف الإيجابي من المجتمع السني بأن التعامل الإيجابي مع المجتمع السني هو ما سيتيح إضفاء شرعية إسلامية معينة على النظام (Selvik and Pierre, 2009)، ثانياً، هي محاولة لتوجيه الاحباط المدني إلى أشكال غير مضرة من النشاط المدني بدلا من دفعها لتصبح مولداً للمعارضة المباشرة ضد النظام، وثالثاً، يمكن للجمعيات الخيرية أن تقدم شبكةً أساسية من الأمان الاجتماعي، وذلك في سياق تصاعد عملية خصخصة المجال الاقتصادي.[22] أما ذوو الموقف السلبي فيستند موقفهم على خوفهم من احتمالية فقدان النظام للسيطرة على النشاط الإسلامي: أي تشكل ديناميات يستحيل احتواءها – ومن ثم تشكُّل قاعدة لحراك سياسي معارض في المستقبل (من مقابلة مع نشاط علماني، دمشق، ١٢ نيسان ٢٠٠٩)، وبالإضافة إلى ذلك، هناك نخب علمانية متشددة في النظام تعارض بشدة وجود أي تقارب ديني – ومن ثم إسلامي – مع النظام ( من مقابلة مع مسؤول رفيع في الدولة، دمشق، ٢٣ نيسان ٢٠٠٩).
كما ارتهنت النتيجة الفعلية للسياسات المقررة على الصراع السياسي الداخلي بين النخب السورية وعلى مكانة النظام في الساحة السياسية العالمية، فعندما كانت تضعف هذه المكانة يزداد ميل النظام نحو التماس الشرعية من المجتمع السني، وهكذا كان الحال في فترة ٢٠٠٠ – ٢٠٠٦ وخاصة بعد الغزو الأمريكي على العراق في ٢٠٠٣ وحادث اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في ٢٠٠٥، وكمثال مشهور على تبني النظام للهجة دينية في خطابه، ذكر بشار الأسد في خطابه في جامعة دمشق في ١٠ تشرين الثاني ٢٠٠٥ أن " سوريا الله حاميها"، واعتُبر هذا الخطاب بمثابة ضوء أخضر للكثير من التيارات الإسلامية كي تكون ناشطة في المجال العام (من مقابلة مع محلل سوري، دمشق، ١٢ آذار ٢٠٠٩؛ من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٢٣ آذار ٢٠٠٩).[23] ولكن بمجرد استعادة سوريا لمكانتها القوية في الساحة السياسية العالمية، حصلت عودة شديدة إلى المزيد من النهج السلبي (ICG, 2009)، فقد تمت صياغة عدد من القوانين الجديدة التي تهدف إلى تنظيم أدق للتدفقات المالية الخاصة بالجمعيات الخيرية، وتم تطوير رقابة أكبر على الأئمة، وكما ضمَّنا في بداية هذا القسم، تم منع الأئمة من أن يتولوا رئاسة الجمعيات الخيرية (Hamidi, 2008). وهناك تغير مستمر في بوصلة تعامل النظام مع المجتمع السني.
ثانياً، أدى التفكك في الأبنية البيروقراطية للنظام إلى إحداث تناقضات جمَّة في تطبيق السياسات بين الوزارات الأجهزة الاستخباراتية المختلفة. يعتبر وزير الثقافة السابق، رياض نعسان اغا، ذو توجه معادي للإسلام – من قِبَل كل من العلمانيين والعديد من الناشطين في المجتمع السني (من مقابلة مع ناشط علماني، دمشق، ١٢ نيسان ٢٠٠٩؛ من مقابلة مع ناشط حقوقي سني، دمشق، ٨ نيسان ٢٠٠٩)، وبعد إصدار مفتي حلب لفتوى ضد مسرحية تصور مفتياً في زيارة للعاهرات، نقض وزير الثقافة الفتوى ضد المسرحية. كما عرف وزير الشؤون الاجتماعية والعمل الحالي بنقده القوي للنشاط الديني السني، تنطبق هذه الاختلافات أيضاً على جهاز المخابرات: فدرجة القمع ضد النشطاء يختلف بشكل كبير بينهم، ويعتمد غالباً على ما هو مكتوب في ملفاتهم في وكالات معينة وعلى الأفراد المسيطرين على جهاز المخابرات ( من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ١٧ آذار ٢٠٠٩).
وللأسباب المذكورة أعلاه، فإن السياسات المُطبَّقة غير ثابته، فهي تتأثر بتغير الاعتبارات لدى طبقات النخبة السياسية والدرجات الأدنى في جهاز الحكومة من وزارات وبلديات وأفرع المخابرات (من مقابلة مع محلل سوري، دمشق، ١٢ آذار ٢٠٠٩)، ولذلك يبقى الحد الفاصل بين ما هو مسموح وما هو ممنوع – أي الخطوط الحمراء – غير معروفاة، وأصحبت الخطوط الحمراء أقرب إلى أطياف حمراء متغيرة بحيث لا يوجد هناك سوى بعض القضايا الثابتة الممنوعة بين هذه الخطوط المبهمة، ولا يملك الفاعلين على الساحة خيارات غير اختبار - عن طريق التجربة والخطأ – ما هو مسموح به في فترة معينة، وهذا ما يعد كمخاطرة كبيرة في العادة، حيث تتحكم الحكومة بدرجة كبيرة على المصادر البيروقراطية والاقتصادية.
الفاعلون الإسلاميون والبحث عن منافذ للتواصل
بالرغم من كوني عضواً في البرلمان إلى أن هذا لا يمنحني أي قدرة مباشرة على تغيير السياسات، وكعضو مستقل فأنا دائماً أشكل أقلية ضد البرلمانيين البعثيين الذين يصوتون كوحدة واحدة، لقد ساعد كوني برلماني في خدمة مشروعي ]الذي يهدف إلى تجديد الخطاب الديني[، هناك العديد من المشايخ المحافظين الذين يعارضونني، وموقعي في البرلماني حملني ضد القمع. لقد أصبح بإمكاني الاهتمام بمنصبي وجماهيري، وقد حظيت بمنصة لأعبر فيها عن أفكاري في جريدة الثورة ]التابعة للدولة[. (من مقابلة مع "مهند"، دمشق، ١١ آذار ٢٠٠٩)
عمِلَ الفاعلون السنة على توطيد علاقاتهم مع أعضاء من النظام كمواجهة للسياسات الملتبسة والمفاجئة التي ينفذها، ففي سياق السياسات القمعية الملتبسة، تصبح الامتيازات والمعلومات أمراً أساسياً لتحصين الفرد والتكهن بسلوك الوزارات وأجهزة الاستخبارات المتقلبة، فالعمل بخيار الامتثال للنظام – بل والبحث عن علاقات أقرب معه – يصبح استراتيجية معقولة في سياق يكون فيه كلاً من النظام والمجتمع السني متألفاً من كيانات مشرذمة والتفاعل بين ممثليهم يكون ضمن اعتبارات فردية استراتيجية، وكما يشير فوستر (2001:85) عند حديثه عن استراتيجيات الجمعيات المدنية في الأوضاع السلطوية:
على عكس ما هو ظاهر، ففي الكثير من الأحيان تكون العلاقات القريبة (بما فيها علاقات التداخل) بين الجمعيات والأنظمة السلطوية أمراً محبباً من قِيَل الفاعلين الاجتماعيين ضمن ترتيبات معينة، وبالتأكيد، فإن بعض المؤسسات الاجتماعية تسعى للاندماج مع نظام سلطوي والتضحية باستقلاليتها وتقبل القيود بغرض تحقيق أهدافها. وعلاوة على ذلك، تتبع سياسات تأسيس وإداراة هذه الجمعيات المُدمجة إلى فرد مسؤول أو مؤسسة تسعى لتحقيق أهداف محددة وليس -ببساطة - ضمن جهاز الدولة الموحد يسعى لفرض هيمنته.
لقد أصبحت عملية التعامل الفاعل مع النظام على أسس برغماتية أمراً يفرضه الواقع – إن لم يكن متفقاً عليه – حول مسار تطور العلاقات بين المجتمع السني والنظام السوري، وهو أمر قريب من ما أطلق عليه هايدمان (2007a: 25) التعاقد الاجتماعي: "صفقة مؤسسية بين مجموعة من الفاعلين يتضمن فيها مجموعة من القواعد أو الأهداف المشتركة حول التنسيق المناسب للاقتصاد السياسي"، أي أن هناك قواعد وأهداف مشتركة تدور حول مسار تطور العلاقة بين طرفين. ولكن الفرق هنا هو أن عنصر التبادل قد يكون متوهماً، وبالإضافة إلى ذلك، أصبح لا بد من تأسيس هذه المؤسسات على أسس غير غامضة كي تُستدام هذه العلاقات.
لا يقتصر ما ذكرناه أعلاه على مجرد الإقرار بوجود علاقات متوارثة بين المجتمع السني والنظام، بل أصبح الاعتراف بضرورتها أمراً لا مفر منه، فبالنسبة للفاعلين السنة، يعد الاندماج مع النظام مطلباً أساسياً للحفاظ على أي شكل من النشاط الإسلامي المُمأسس في سوريا، فقد استوعب الفاعلون السياقات الأخرى التي وجد فيها أفراد ومنظمات المجتمع السني أنفسهم، وبهذا أدركوا أن التعامل مع النظام بصورة ما هو أمر حتمي لأي استراتيجية تسعى لاستمراريتهم، أو كما يقول الشيخ "بلال" المقيم في دمشق:
نحن الفاعلون السنيون أصبحنا أشبه بسفن تُبحر في تيارين، سعياً للحصول على أفضل الخيارات بالنسبة لمشاريعنا ]بين الاندماج مع النظام والاستقلالية[، وفي الحقيقة نحن جميعاً نتصرف ببراغماتية، فلقد أصبح من الواضح أن بعض الشيوخ كان عليهم أن يغيروا مواقفهم كما فعلت أنا. فأنا مستقل ولكني أَجِد نفسي في بعض الأحيان من دون حيلة: فمع كل خطأ صغير أقوم به أتعرض لمضايقات من النظام، لكن هناك آخرون لديهم معارف من أفرع الوزارات وأجهزة الاستخبارات – يتمتع هؤلاء المشايخ بسبب هذه العلاقات بفسحة أوسع للحركة – ولكن ما هو الثمن؟ (من مقابلة مع "بلال"، دمشق، ١٧ آذار ٢٠٠٩)
وللمفارقة، فإن بلال، والذي يُعد شيخاً شديد الاستقلالية عن النظام، يعرف أيضاً أفراداً من داخل المخابرات ويستفيد من علاقته معهم. هناك اعتقاد سائد عن استحالة إمكانية التحايل على النظام من ناحية القواعد التي يسنها والتوقعات القائمة حول مآلات عملية المساومة. هناك عدة استراتيجيات للتحالف مع النظام بناء على القواعد والتوقعات القائمة، بالطبع هناك تفاوت بين هذه الاستراتيجيات، ولكنها تؤكد على أن التحالف مع النظام هو أمر وضروري ولا يمكن منازعته، وهناك عدة أشكال تتصدر النشاط السوري، وسنذكر هنا أربعة سيناريوهات لها.
أولاً، هناك استراتيجية دمج مناصب داخل النظام مع المناصب الدينية، انظر على سبيل المثال الاقتباس في بداية هذا القسم من "مهند"، فهو شيخ من دمشق ومن المطالبين بتجديد الخطاب الديني، ونشاطاتها معروفة وغير مُحبَّبة من طيف واسع من الأغلبية المحافظة في المجتمع السني،[24] ومن غير المفاجئ أن مشروعه الذي تجسد في مركز بحثي وتدريبي صغير في ضواحي دمشق قد تعرض لضغوط كبيرة (من مقابلة مع "مهند"، دمشق، ١١ آذار ٢٠٠٩)، ولكن تحسنت الأوضاع بعد أن أصبح عضواً مستقلاً في البرلمان، وبالرغم من أنه لم يتمكن من عمل أي تغيير يُذكر في سوريا من خلال دوره كبرلماني، إلا أن موقعه قدَّم الحماية له ولمشروعه من مضايقات النظام: "لم يعد يتعرض مركزي للإغلاق بين الفينة والأخرى كما كان سابقاً، ولدي صفحة خاصة كل جمعة في صحيفة الثورة[25] وأصبح بإمكاني التركيز على جمهوري". لقد انبثق هذا الدعم عن طريق منظومة الرعاية التي تُقدِّمها عضوية البرلمان، بالإضافة إلى المكانة الاجتماعية والتقدير النابعين عن موقعه كبرلماني: "أصبح أعضاء المخابرات والشرطة وحتى الناس العاديين يقدمون لي المزيد من الاحترام عن التعامل معي، ليس فقط بسبب كوّن القانون يوجب ذلك، بل لأنه مجرد تحققك بمنصب البرلماني يوجب الاحترام الاجتماعي" (من مقابلة مع "مهند"، ١١ آذار ٢٠٠٩)، بمجرد تحققه بهويته كبرلماني قد ضمن له الحماية والمحافظة – بالاستقلال عن النظام - على مشروعه الخاص بتجديد الخطاب الديني.[26]
ثانياً، تصلح عملية المحافظة على علاقات رسمية مع النظام كاستراتيجية أيضاً، خاصة بالنسبة للمؤسسات الإسلامية الكُبرى،إذ خلقت القوانين الجديدة التي تقضي بقسمة التدفقات المالية بين الجمعيات الخيرية والمدارس الإسلامية صعوبات عند مجمع أحمد كفتارو متعلقة بصعوبة تمويل مدارسهم وكلياتهم الإسلامية، "نحن لا نجني أية أرباح من مدارسنا: نطلب ٢٠٠$ فقط في السنة ... والدخل القادم من القنوات الأخرى هو الأساسي" (من مقابلة مع ممثل مجمع كفتارو، دمشق، ٤ أيار ٢٠٠٩)، يأمل المجمع بتأسيس عدد من المشاريع الاستثمارية بهدف خلق مصدر دخل يمكن توظيفه لفائدة نشاطات تعليمية أخرى تتبع للمعهد، إحداها هي فكرة بناء مدارس خاصة غير دينية بالتنسيق مع محافظة دمشق، وتوظيف أرباحها لصالح المؤسسات التعليمية في مجمع أجمد كفتارو: " لم نبدأ بها بعد، ولكن الانطباع الأول من المحافظة كان إيجابياً (من مقابلة مع ممثل مجمع كفتارو، دمشق، ٤ أيار ٢٠٠٩)، إنه لأمر صادم أن يسعى مجمع أحمد كفتارو نحو تأسيس علاقات مشتركة مع بلدية دمشق، وهي تعتبر جزءاً من النظام وكانت من المسببين الأوائل للمشاكل المالية في المجمع.
والاستراتيجية الثالثة هي المحافظة على العلاقات الشخصية، تتسم علاقة الشيخ بلال مع النظام بالحذر، ولكنه مع ذلك على معرفة بأفراد داخل العديد من الوزارات والأجهزة الاستخباراتية، ليس شرطاً أن تكون علاقة "بلال" معهم علاقة صداقة مقربة، ولكنهم يحترمونه ويثقون به كشخص وشيخ، وعندما يلتقي بهم أحياناً في الشوارع أو عندما يزورونه فإنهم يخبرونه بمعلومات حساسة حول وضع ملفه ضمن جهاز استخباراتي محدد، أو عن الاجتماعات المعقودة والمتعلقة به، أو عن التحركات المستقبلية التي ينبغي الدراية بها، وبهذه الطريقة، يكون لهذه العلاقات قيمة بالنسبة لبلال وهو على وعي واضح بذلك، وكما يُقرُّ هو بنفسه: "ما تريده هو المال والعلاقات الاجتماعية والمعلومات" (من مقابلة مع "بلال"، دمشق، ٢٣ آذار ٢٠٠٩).
وبالاتصال مع النقطة السابقة، تتمثل الاستراتيجية الرابعة والأخيرة في تحصيل علاقات مع دوائر نخب النظام. لقد استطاعت النساء التابعات اللواتي يتبعن الشيخة منيرة القبيسي ( يعرفن بالقبيسيات) أن ينظمن حلقات تدريس منزلية ولمدة طويلة بعيداً عن رقابة جهاز المخابرات (Hamidi, 2006)، وهو أمر غريب إذا ما أخذنا في عين الاعتبار سياق القمع السوري الذي مورس على المبادرات الإسلامية المستقلة والتي لا يبدي معها النظام أي تسامح. قد يكون الأمر الذي لعب دوراً في تسهيل ذلك هو أن القبيسيات ينتقين أعضاءهن من الطبقات العليا في المجتمع، والذين من بينهن زوجات لمسؤولين بارزين في النظام (من مقابلة مع محلل سوري، دمشق، ١٤ نيسان ٢٠٠٩). وَمِمَّا يذكر أن أخت أحمد جِبْرِيل،(وهو أحد مؤسسي منظمة المقاومة الفلسطينية المعروفة بجبهة تحرير فلسطين، القائد العام الذي استقر في دمشق)، قد كانت عضواً في حركة القبيسيات (Hamidi, 2006a). ولكن من غير الواضح مدى الحماية أو الكفالة التي تتمتع بها على المستوى الفردي أو على مستوى المنظمة. [27]
ما ذُكر أعلاه عبارة عن أمثلة للاستراتيجيات التي يسعى فيها الفاعلين الدينيين السنة لتشكيل روابط مع النظام كمحاولة لحماية مشاريعهم عن طريق: دمج أدوار داخل النظام مع أدوارهم في المجتمع السني، المحافظة على علاقات رسمية مع مؤسسات النظام عن طريق البدء بالتشارك في المشاريع، أو معرفة أشخاص من المخابرات العامة أو من النخب السياسية للنظام. ولكل استراتيجية سياقها المحدد وبالتالي يختلف استخدامها بين الفاعلين، ولكنها تقوم جميعاً على الإيمان بأن التفاعل مع النظام هو أمر ضروري. وكنتيجة لذلك، هناك تفاعل مستمر بين الإسلاميين المدنيين ونخب النظام،حيث يحاول كلا الطرفين حماية مصالحه الخاصة عن طريق الارتباط مع الآخر، وتعبر هذه الاستراتيجيات عن المعايير والتوقعات المشتركة حول ما ينبغي أن تتطور نحوه العلاقات بين المجتمع السوري السني والنظام، كما تثبت في نفس الوقت وجود هذه الاتفاقيات، فعلى سبيل المثال، الإستراتيجيات التي تقوم بها النخب السنية تشرِّع وتعيد التأكيد على هذه الاتفاقيات.
والنتيجة العملية لذلك هي أن الخطوط الفاصلة بين النظام والواجهة الخاصة بالمجتمع السني صارت تتسم بالضبابية عن طريق المسارات المفتتة التي أخذتها عملية التفاعل المشترك بينهما، فمهند مقرَّب من دوائر النظام بحكم كونه برلمانياً مستقلاً في البرلمان السوري – وهو في نفس الوقت شيخٌ مستقل بارز معرض لقمع النظام، ويمتلك بلال تواصلاً شخصياً مع أعضاء من أجهزة الاستخبارات، ويعتبر معهد ديني كبير (مثل مجمع أحمد كفتار) مقرباً من مشاريع مشتركة ومُمأسسة مع النظام. وكما أن كلاً من المجتمع السني والنظام عبارة عن كيانات متفككة، فإن عملية التفاعل بدورها ستختلف بين مؤسسات النظام المختلفة وبين الفاعلين المختلفين في المجتمع السني.
تنبني العمليات التي قمنا بوصفها على تناقض جوهري ،وهو أن ديناميات العلاقة تنبني على أساس أن أي فاعل معرَّض للقمع في أي لحظة، فالحماية غير مضمونة وليس هناك أي جهة محصَّنة بشكل كامل من قمع النظام، وهو ما يقلل من شأن الغموض الضروري لأي حافز لضمان حماية النظام أو ضمان الاتفاقات، وفي النهاية، ليس هناك أي ناشط سني في معزل عن قمع النظام، فمؤخراً قد تم إغلاق مركز الأبحاث الخاص بـ"بمهند"، كما تم تجميد أموال صلاح كفتارو وزوجته وابنه بزعم وجود فساد مالي (Levantine News, 2009a; Mardini, 2009).( تنويه: نشر هذا البحث سنة 2010، ولذلك يشير الباحث إلى بعض الأحداث التي جرت سنة 2009 ب" مؤخرا")
الاتفاقيات وصلابة النظام
يمثِّلُ تقديس الأسد استراتيجية للهيمنة مبنية على علاقات الإذعان بدلاً من المشروعية. ... فبينما تظهر سياسة "كما لو" والتي تبدو غير عقلانية أو حمقاء عند الوهلة الأولى، إلا أنه في الحقيقة يثبت فاعليته السياسية، فهو يحدد الخطوط الحمراء للخطاب والسلوك المقبول؛ ... ويوجد سبل تطبيق منظومة الامتثال والطاعة؛ فهي تحفز بيئة التواطئ عن طريق صنع ممارسات تجعل المواطنين "شركاء في الجريمة"، مما يدعِّم المعايير المؤسِّسة لهيمنة الأسد. (Wedeen, 1999: 6)
كما اتضح من ما كتب أعلاه، فإن تقارباً مشتركاً يشكل جزءاً من الاتفاقات حول ما ينبغي أن تتطور نحوه العلاقات بين النظام والمجتمع السني السوري، هذه الاتفاقات والديناميات المرتبطة بها تعمل وبشكل فاعل في المحافظة على الحكم السلطوي للنظام السوري. فمن ناحية، تزود نتائج تقارب العلاقات رقابة أفضل على نشاطات المجتمع السني، فالتحالف والتقارب الذي سعى إليه مجمع أحمد كفتارو مع محافظة دمشق أدى إلى زيادة الشفافية (بالإضافة إلى إمكانية التأثير) في التدفقات المالية داخل القطاعات المالية التابعة للمجمع، كما يمكن أن تربط المجمع مالياً -وعلى نحو فاعل- بشكل أقرب مع النظام على أمل زيادة المصادر المالية. بالإضافة إلى ذلك، ستؤدي زيادة عدد المشايخ المشاركين في السياسات الوطنية (عن طريق تحولهم إلى أعضاء في البرلمان) إلى زيادة في تدفق المعلومات بين الطرفين. وفي النهاية، ومع تقارب العلاقات بين النظام والمجتمع السني، ستقوى الدوافع نحو الالتزام بالقواعد الضمنية للنظام.
ومن ناحية أخرى، هناك آليات مترابطة ولكنها أساسية بالدرجة الأولى، لتوضيح ذلك يمكننا الرجوع لما عبَّرت عنه ليسا وادين بسلطة "الضبط الرمزي"، والتي تشير إلى ظاهرة " تقديس الأسد"، التي تتضمن خطاباً يتألف من مجموعة من الأكاذيب حول الرئيس حافظ الأسد، مثل وصفه بأنه "الأب" أو "المحارب" أو "المعلم الأول" أو "منقذ لبنان" أو "القائد إلى الأبد" أو "الفارس المغوار" (Wedeen, 1991:1)، والسوريون مجبرون (أو أجبروا أنفسهم) على التعامل مع الدعاية المتكررة لهذه للتعابير السخيفة على أنها حقائق ليمثلوا "كما لو"، مما يعني الطاعة والخنوع للنظام. لقد أصبح التقديس آلية تدعيم لعملية الامتثال الاجتماعي للنظام السلطوي "لا تعتمد ظاهرة تقديس حافظ الأسد في فاعليتها على أي آلية لتقوية نفسه إلا على التقديس باعتباره آلية في ذاتها" (Wedeen, 1999: 145, Emphasis original). لا يلتزم الناس بالتقديس لأنهم موافقون عليه (إن التقديس في ذاته لا يملك الشرعية) بقدر ما يفعلون ذلك لمصالحهم الشخصية أو لأنهم مجبرون على ذلك. وكبديل عن كل ذلك، يتذكر السوريون باستمرار ما يمكن أن يحصل في حال عدم الخضوع للنظام، وذلك عن طريق تكرار تلك التعابير السخيفة لتقديس الأسد، إن تهديد القمع يتأكد باستمرار عن طريق تكرار التقديس، وبالتالي يزداد الخوف العام من سلطة الدولة القاهرة ويعزز الإجماع العام حول سيادتها.
يمكن أن تؤدي مجموعة القواعد والأهداف المشتركة بين المجتمع السني والنظام دوراً شبيهاً بتقديس الأسد، ما أطرحه هنا هو أن هذه الاتفاقيات تتجاوز السلطوية المبنية على المعيارية والنفعية والقهر الانتقالي وتكتسب أهمية أكبر باعتبارها آليات لإنتاج السلطوية المبنية على سلطة الرموز الانضباطية (Wedeen, 1999: 144)، هذا المبدأ الرمزي يتشكل عن طريق القواعد والأهداف المشتركة المعنية بالتفاعل النشيط مع النظام؛ إذ تتشكل سلطة ضمن ضرورة وجود حالة الامتثال مع تلك الاتفاقيات، وفي حال لم يجرؤ السوريون على معارضة النظام، فهذا يعني ضمناً هيمنة النظام، وبالتالي تصبح هذه المعايير أداة بدلاً من كونها هدفاً لعملية تدعيم سلطة النظام.
أو بكلمات أخرى: عن طريق التشارك التطوعي مع النظام فإن هذا يتضمن حالة الخنوع له، وفي حال فضَّل الفاعلون في المجتمع السني البقاء في حالة إستقلالية على قدر الإمكان عن النظام (وهو افتراض آمن إذا ما أخذنا في عين الاعتبار التاريخ القمعي الذي تعرَّض له الفاعلون السنة من قِبَل النظام السوري والتصورات المختلفة في جوهرها لما ينبغي أن يكون عليه مستقبل سوريا) فإن الاتفاقات الاجتماعية-السياسية بين النظام والمجتمع السني ستجعل من المعايير حوافز عكسية: لصالح التشارك الإيجابي مع النظام، وعن طريق خضوع المجتمع السني لتلك المعايير فإن ذلك يتضمن ويدعِّم أهمية وجودها، وفي كل مرة يتم السعي والحفاظ على علاقات داخل النظام (سواء عن طريق دمج أدوار النظام مع المجتمع السني، أو بالتواصل مع أشخاص من داخل الوزارات وأجهزة المخابرات، أو عن طريق السعي بمشاريع مشتركة مع النظام) فإن هذا يعني تسلمياً بالحاجة لوجود المعايير ويثبت أن النظام هو الأقوى. والحاجة لهذا الشكل من النشاط يؤكد بشكل متكرر على حالة الخوف من القمع وبالتالي يؤكد على هيمنة النظام.
هذا لا يعني أن القمع أمر متخيَّل، فعملية الامتثال يتم تدعيمها عن طريق العديد من التدابير التي تمس الجوانب الحياتية للفاعلين الإسلاميين، ولا تزال هناك حاجة للتدابير القمعية ضد الفاعلين السنة وذلك كما أظهرت حملة الاعتقالات الأخيرة (ICG, 2009; Levant News, 2009a; Syrian Human Rights Committee, 2009)، ولكن التدابير الفاعلة في ضبط النشاط (السياسي) القائم في المجتمع السني يتم تعزيزه عن طريق الآلية المذكورة: أن يقنع الفاعلون السنيون أنفسهم أنه من دون تحقيق قدر من الدعم من النظام فإنهم سيخسرون نشاطاتهم لا محاله. وَيا للسخرية، إن حالة الغموض في تطبيق السياسات والطبيعة المتفككة للطبقة البيروقراطية للنظام هي التي تتيح الإمكانيات لحدوث مثل هذه الديناميات – وهذا الغموض يفضي إلى أن فكرة الأمان الكامل من النظام ما هي إلا مجرد وهم.
وكنتيجة لهذا، فإن الأهداف والمعايير المشتركة المرتبطة بعملية التفاعل بين النظام والمجتمع السني تصبح ذاتية التدعيم ، وتنتج السلطة للنظام بدلاً من تحقيقها بالوسائل القمعية، وفي حالة الجماعات الكبيرة في المجتمع – كما هو الحال في المجتمع السني السوري – يمكن لهذه الديناميات الاجتماعية أن تتحقق بأهمية أساسية في ضبط النشاط المدني والمحافظة على الأنظمة السلطوية.
الخلاصة
قدمت هنا نموذجاً عملياً للديناميات الداخلية المرتبطة بعملية التدعيم لنظام سلطوي، وقد تم إنجاز ذلك عن طريق استخدام فكرة التوافقات الاجتماعية-السياسية، والتي تعرَّف باعتبارها مجموعة من المعايير والأهداف المشتركة، حول ما ينبغي أن تتطور نحوه العلاقات بين النظام والمجتمع السني، وذلك بالاستفادة من فكرة وايدين (١٩٩٩) عن سلطة الضبط الرمزي. لذا فأنا أتمنى أن أكون قد أثريت النقاش الدائر حول ديناميات وآليات تدعيم القدرات التكيفية للسلطوية. وقد حاججت أنه يمكن تصوير كل من المجتمع السني السوري والنظام باعتبارهم كيانات متفككة، حيث تكون السياسات الغامضة المطبقة جزءاً لا يتجزأ من التفاعلات بين كلا الكيانين. والتوافقات القائمة والمرتبطة بالسياسات الغامضة المطبقة تؤدي إلى ميل الفاعلين في المجتمع السني نحو السعي لتحصيل علاقات غير رسمية داخل النظام كمحاولة لحماية نشاطاتهم الاجتماعية، حيث تقوي هذه الآليات حالة التدعيم الذاتي التي تقوي سلطة النظام السوري.
ولكن هناك ضريبة على النظام، فمع حدوث زيادة التقارب بين المجتمع السني السوري والنظام، ومع زيادة العلاقات الرسمة وغير الرسمية، فإن تأثير المجتمع السني على النظام يزداد. ركَّزت هذه الورقة بشكل حصري على الديناميات المحددة لعملية اقتراب المجتمع السني من دوائر النظام، وهذا لا يعنى أن التوافقات التي تمت مناقشتها تؤثر فقط على المجتمع السني – فيما لا يتعرض النظام لأي تأثير. يتبنى السوريون آلية انعكاسية أثناء تواجدهم داخل دوائر النظام، حيث يقومون بالشكوى من الأسلمة المتزايدة والمنتظمة لسوريا أو الإشادة بها بحسب مع من تتحدث.
هناك إمكانية لحدوث عملية أسلمة للنظام السوري، فهناك زيادة في الأمثلة عن مسؤولين مرموقين يمتلكون توجهات إيجابية نحو المجتمع السني، وقد بات العلمانيون يتَّهمون العديد من السياسيين بأنهم "إسلاميون"، مثل وزير الثقافة الحالي( يقصد هنا بوزير الثقافة الأسبق رياض نعسان اغا). نفس الشيء ينطبق على محافظة دمشق التي باتت واقعة – وعلى نحو متزايد – تحت تأثير المجتمع السني (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، ٩ آذار ٢٠٠٩؛ من مقابلة مع محلل سوري، دمشق، ١٨ نيسان ٢٠٠٩؛ من مقابلة مع نشاط علماني، دمشق، ٢٢ نيسان ٢٠٠٩). وبما أنه يمكن للمسار الذي تم توصيفه في الورقة أن يتطور أكثر من ذلك في المستقبل، وإمكانية تحول العلاقات بين النظام والمجتمع السني إلى علاقات أكثر وديَّة، فمن المهم أن نضع التالي في موضع الحسبان: وهو أن الديناميات الاجتماعية التي تحافظ على النظام السلطوي لا يمكن أن تغير المجتمع السني في صميمه فحسب – ولكنها يمكن أن تمس النظام ذاته التي تحافظ عليه. والتساؤلات حول إلى أي مدى يمكن أسلمة النظام وما هي القيمة التفسيرية لفكرة التوافقات في هذا السياق، كل ذلك عبارة عن مواضيع يمكن النظر حيالها في المستقبل.
المراجع
- Abd-Allah, U. (1982) The Islamic Struggle in Syria (Berkeley, CA: Mizan Press).
- Al-Barazi, T. (2007) (Who rules?), al-watan al-arabi, 5 October.
- Albrecht, H. (2005) How can opposition support authoritarianism, Democratization, 12(3), pp. 378–397.
- Albrecht, H. & Schlumberger, O. (2004) ‘Waiting for Godot’: regime change without democratization in the Middle East, International Political Science Review/Revue Internationale de Science Politique, 25(4), pp. 371–392.
- Barout, J. (2000) (Parties, movements and Islamic groups) (Damascus: The Arab Center for Strategic Studies).
- Batatu, H. (1982) Syria’s Muslim brethren, Merip Reports, 110, pp. 12–36.
- Bellin, E. (2004) The robustness of authoritarianism in the Middle East: exceptionalism in comparative perspective, Comparative Politics, 36(2), pp. 139–157.
- Bo¨ttcher, A. (1998) Syrische Religionspolitik unter Asad (Freiburg: Arnold Bergstraesser Institut).
- Brownlee, J. (2007) Authoritarianism in an Age of Democratization (Cambridge: Cambridge University Press).
- Carothers, T. (2002) The end of the transition paradigm, Journal of Democracy, 13(1), pp. 5–21.
- Cavatorta, F. (2008) Civil society, democracy promotion and Islamism on the southern shores of the Mediterranean, Mediterranean Politics, 13(1), pp. 109–119.
- Clark, J. (2004) Islam, Charity, and Activism: Middle Class Networks and Social Welfare in Egypt, Jordan and Yemen (Indianapolis: Indiana University Press).
- Foster, K. W. (2001) Associations in the embrace of an authoritarian state: state domination of society?, Studies in Comparative International Development (SCID), 35(4), pp. 84–109.
- Haddad, B. (2004) The formation and development of economic networks in Syria: implications for economic and fiscal reforms, 1986–2000, in: S. Heydemann (Ed) Networks of Privilege in the Middle East: The Politics of Economic - Reform Revisited (New York: Palgrave Macmillan).
- Hadenius, A. & Teorell, J. (2007) Pathways from authoritarianism, Journal of Democracy, 18(1), 143–156.
- Haklai, O. (2009) Authoritarianism and Islamic movements in the Middle East: research and theorybuilding in the twenty-first century, The International Studies Review, 11(1), pp. 27–45.
- Hamidi, I. (2006a) (Damascus permits Qubaysiayat public activities), al-Hayat, 3 May.
- Hamidi, I. (2006b) (They wear the dark blue veil and have a wide network for teaching and influence . . . ’ The misses of al-Qubaysiayat’ are the entrepreneurs in Syria for involvement of women in the ‘Islamic Da’wa’.. with the consent of the authorities), al-Hayat, 5May.
- Hamidi, I. (2008) 150 . (Ministry of Awqaf trains 150 preachers to reduce foreign influence through renewed speech), al-Hayat, 5 August.
- Heydemann, S. (2007a) Analysis Paper: Upgrading Authoritarianism in the Arab World (Washington: The Saban Center for Middle East Policy at the Brookings Institution).
- Heydemann, S. (2007b) Social pacts and the persistence of authoritarianism in the Middle East, in: Schlumberger (Ed.) Debating Arab Authoritarianism: Dynamics and Durability in Nondemocratic Regime (Stanford, CA: Stanford University Press).
- Hinnebusch, R. (2002) Syria: Revolution from Above (London: Routledge).
- Huntington, S. P. (1991) How countries democratize, Political Science Quarterly, 106(4), pp. 579–616.
- International Crisis Group (2009) Reshuffling the cards? (I): Syria’s evolving strategy, MENA Report N892 (Damascus, Washington and Brussels: International Crisis Group).
- Koehler, K. (2008) Authoritarian elections in Egypt: formal institutions and informal mechanisms of rule, Democratization, 15(5), pp. 974–990.
- International Journal of Middle East Studies (2008) IJMES Transliteration Guide (Cambridge: Cambridge University Press).
- Kramer, K. (2006) Arab political pacts: an unlikely scenario, Journal of Democracy, 17(4), pp. 160–165.
- Lesch, D. W. (2005) The New Lion of Damascus: Bashar al-Asad and Modern Syria (New Haven, CT: Yale University Press).
- Levant News (2009a) (Salaah Kiftaru arrested on charges related to work of the Islamic Kiftaru Foundation), Levant News, 1 July.
- Levant News (2009b) (Rami Makhlouf enters the Syrian electricity sector in Syria in the first project after it is opened to the private sector), Levant News, 2 November.
- Levitsky, S. & Way, L. A. (2002) The rise of competitive authoritarianism, Journal of Democracy, 13(2), 51–65.
- Linz, J. J. (2000) Totalitarian and Authoritarian Regimes (Boulder, CO: Lynne Rienner).
- Lobmayer, H. G. (1995) Opposition und Widerstand in Syrien (Berlin: Deutschen Orient-Institut).
- Lust-Okar, E. (2005) Structuring Conflict in the Arab World: Incumbents, Opponents, and Institutes (Cambridge: Cambridge University Press).
- Mardini, Y. (2009) (News of freezing funds Dr. Salah Kiftaru and his family). Available at http://www.all4syria.info (accessed 18 June).
- Munck, G. L. (1996) Disaggregating political regime: conceptual issues in the study of democratization, Working Paper No. 228 (Notre Dame, IN: Kellogg Institute for International Studies).
- Ottaway, M. (2003) Democracy Challenged: The Rise of Semi-Authoritarianism (Washington, DC: Carnegie Endowment for International Peace).
- Perthes, V. (1997) The Political Economy of Syria under Asad (London: I.B. Tauris).
- Perthes, V. (2004a) Arab Elites: Negotiating the Politics of Change (Boulder, CO: Lynne Rienner Publications).
- Perthes, V. (2004b) Syria under Bashar al-Asad: Modernisation and the Limits of Change (Oxford: Oxford University Press).
- Posusney, M. P. (1997) Labor and the State in Egypt: Workers, Unions, and Economic Restructuring (New York: Columbia University Press).
- Schedler, A. (2006) Electoral Authoritarianism: The Dynamics of Unfree Competition (Boulder, CO: Lynne Rienner Publications).
- Schlumberger, O. (Ed.) (2007) Debating Arab Authoritarianism: Dynamics and Durability in Nondemocratic Regimes (Stanford, CA: Stanford University Press).
- Selvik, S. & Pierret, T. (2009) Limits to upgrading authoritarianism in Syria: private welfare, Islamic charities, and the rise of the Zayd movement, International Journal of Middle East Studies, 41(4), 595–614.
- Syrian Human Rights Committee (2009) (The lawyer Haitham Maleh referred to the military court), Syrian Human Rights Committee, 20 October.
- Way, L. (2005) Kuchma’s failed authoritarianism, Journal of Democracy, 16(2), pp. 131–145.
- Wedeen, L. (1999) Ambiguities of Dominations: Politics, Rhetorics, and Symbols in Contemporary Syria (Chicago: University of Chicago Press).
- Weismann, I. (2005) The politics of popular religion: Sufis, Salafis, and Muslim Brothers in 20th-century Hamah, International Journal of Middle East Studies, 37(1), pp. 39–58.
- Wiktorowicz, Q. (2000) Civil society as social control: state power in Jordan, Comparative Politics, 33(1), 43–61.
- Yom, S. L. (2005) Civil society and democratization in the Arab world, Middle East Review of International Affairs, 9(4), pp. 14–33.
- Ziadeh, R. (2008) (Political Islam in Syria), (Abu Dhabi: the Emirates Center for Strategic Studies and Research).
- Zisser, E. (2003) Does Bashar al-Assad rule Syria? Middle East Quarterly, 10(1), pp. 15–23.
الهوامش
[1] المقاربات المتصلة بذلك تدور حول أنماط الأنظمة السلطوية الجديدة، مثل "شبه السلطوية" أو "السلطوية الهجينة" أو السلطوية التنافسية"
(Levitsky and Way, 2002: 52; Way, 2005: 133) وفي دور المعاهدات (Heydemann, 2007a: vii; Schlumberger, 2007: 21-38; Kramer, 2006
[2] لا تناقش هذه الورقة تاريخ العلاقة بين للمجتمع السني والنظام بالتفصيل، للمزيد من التفاصيل حول تاريخ سوريا والمختصة بالعلاقة بين الإسلاميين والنظام انظر:
Batatu (1982), Abd-Allah(1982), Lobmayer (1995), Barout (2000), وZaideh (2008).
بالإضافة أنها لا تناقش الإسلام الراديكالي ولا تشير إلى أشكال الحراك المسلح.
[3] هناك القليل من الاستثناءات المهمة اعتنت في الشأن السوري هم
Weismann (2005), Hinnebusch (2002) وPerthes (2004b).
[4] تنبني هذه المقالة على بحث مصمم على أسس نوعية دقيقة وغير مقارنة، وتسعى هذه الورقة أن تشكل قيمة مضافة على مستوى الأبحاث النوعية الدقيقة التي تسعى للبحث في السياسات والميكانزيمات التي يتم توظيفها في تدعيم الحكم السلطوي، وذلك من دون الحط من أهمية الأبحاث النوعية أو المقارنة أو الموسعة (انظر حول مقاربة مشابهة: Clark, 2004). وتنبني الدراسة في غالبها على عمل ميداني في عاصمة سوريا بين شهري شباط وأيار ٢٠٠٩، وتم خلالها عمل حوالي الخمسين مقابلة مع ناشطين علمانيين وإسلاميين، بالإضافة إلى عدد قليل من المشاهدين من الخارج، وتم عقد المقابلات في منازل عينة المقابلة أو في مكتبه أو في ساحة عامة؛ بحسب الشروط التي يضعها المُقابل معه. وقد تركزت الدراسة – لظروف خاصة بالمكان – بشكل حصري في المجتمع السني القائم في دمشق عاصمة سوريا (مثال: العمل البحثي في العاصمة محاط برقابة أقل صرامة من قِبل المخابرات السورية في مقابل المدن السورية الأخرى.
[5] تكرر هذه الأطروحة بعض المحاججات التي صاغها بريبشتاين بوسوسني.
[6] أستند في ترجمة الكلمات العربية إلى معجم IJMES الحرفي، ولكني اخترت استعمال أحرف لاتينية، انظر معجم IJMES الحرفي (2008).
[7] معظم النشاطين الإسلاميين يذكرون عبارة "الساحة الإسلامية" – معناها الحرفي هو "Islamic square". ويستعمل مصطلح المجتمع السني بغرض الدلالة على ما يُعنى به الإيمان الإسلامي والدلالة على حالة المرونة في المجتمع: أي أن الحدود غير معرفة بشكل واضح.
[8] من المستحيل أن نقدم تصوراً شاملاً عن جميع المكانات الاجتماعية القائمة في المجتمع الإسلامي، سوف يتم ذكر بعضٍ منها بناء على ارتباطها بموضوع هذه المقالة.
[9] المناصب الأخرى هي: المدرِّس والمؤذن والقاضي (Batatu, 1982: 14).
[10] لمزيد من المعلومات حول هؤلاء المشايخ انظر في هذه المواقع الإلكترونية: الشيخ سعيد رمضان البوطي: الرابط؛ والشيخ محمد راتب النابلسي: الرابط؛ والشيخ أحمد كفتارو: الرابط؛ أحمد بدر الدين حسون: الرابط، بالإضافة للمشايخ غير المحليين، مثل الشيخ يوسف القرضاوي صاحب الكثير من الأتباع في سوريا.
[11] للمزيد من المعلومات حول هذه الجمعيات انظر هذه المواقع الإلكترونية: حافظ النعيمي: الرابط؛ الفتح الإسلامي: الرابط؛ مجمع أحمد كفتارو: الرابط.
[12] مثل العديد من التنظيمات الاجتماعية البعثية والمعارضة الناعمة للنظام (مثل الجبهة الوطنية التقدمية) وهم يعتبرون جزءاً من النظام؛ ولن تتعرض لهم هذه المقالة.
[13] يعود هذا التعريف إلى (1996: 8) Munck وLinz (2000: 159).
[14] المقالات الأخرى تعطي تحليلاً أدق بشكل أكبر للبنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (وتفاعلاتها الداخلية) لسياسات النخب السورية (انظر على سبيل المثال: Haddad, 2004; Perthes, 2004a: 87-114; zisser, 2003). منذ خصخصة الاقتصاد السوري الذي بدأ في أوائل الـ ١٩٩٠، عمِلَت أعداد متزايدة من نخب النظام على السيطرة على القطاع المُخصخص المفتوح الجديد، وهو ما انعكس على نخب النظام المشتركين في الاعتماد و\أو مندمجين مع النخب الاقتصادية. هناك أشخاص معروفين بتكديسهم لكم هائل من الثروة الاقتصادية عن طريق القوة السياسية والروابط العائلية: مثل آصف شوكت، رئيس الاستخبارات العسكرية، ورامي مخلوف، رجل الأعمال وابن خال الرئيس بشار الأسد، وهم معروفون في هذا المجال (al-Bazari, 2007; Levant News, 2009b). تعتبر عملية توظيف السلطة السياسية لدعم المكانة الاقتصادية لعائلة أحدهم ظاهرة واسعة الانتشار تنبثق عنها طبقة جديدة يُطلق عليها أولاد المسؤولين، حيث تتكون هذه الطبقة من أولاد وعائلات قادة السلطة السياسية الذين يوظِّفون ترابطهم لتضخيم ثروتهم الاقتصادية.
[15] يتعرض البناء البيروقراطي المرتبط بالمجتمع السني إلى إعادة تشكيل، مع توسيع المهام المنوطة بوزارة الأوقاف وتحت الاسم الجديد لها وزارة الأوقاف الدينية والدعوة والإرشاد، وهو ما يمنحها سلطة أوسع بما فيها التعليم الديني.
[16] لدى سوريا خمسة أفرع رئيسية للمخابرات: الأمن العسكري وأمن الدولة والأمن السياسي والجوية والشرطة أو فرع الأمن الداخلي، وبالرغم من كوّن فرع الأمن السياسي وأمن الدولة الأكثر انخراطاً، إلا أن جميع هذه الأفرع انخرط في مراقبة المجتمع الإسلامي وتتدخل بحسب ما تراه مناسباً. هناك مظلة هيكلية موجود ضمن مكتب الأمن القومي التابع لحزب البعث يقوده هشام اختيار، ولكن يمكن توصيف أجهزة الاستخبارات الخمسة بأنها "ممالك مصغَّرة"، فكل أشكال المخابرات تشكل سلطة في ذاته (من مقابلة مع عالم سني معروف، ١٧ آذار ٢٠٠٩؛ من مقابلة مع نشاط حقوقي سوري، دمشق، ٨ نيسان ٢٠٠٩، al-Barack, 2007).
[17] تم فك مركزة الاتحاد خلال السنوات الثلاثة السابقة ، واستقلت كل محافظة باتحادها وصندوقها الخاص.
[18] لاطلاع أوسع على موضوع اتحاد الجمعيات الخيرية انظر: (Selvik and Pierret, 2009).
[19] للمزيد من المعلومات عن حسون، قم بزيارة موقعه: الرابط.
[20] بحكم الطبيعة السلطوية للنظام، فإن الشفافية في عملية اتخاذ القرار السياسي تتسم بالمحدودية، يتم أحياناً إجراء مقابلات مع النخب السياسية (انظر مثلاً Lesch, 2005) وتتوافر المعلومات من السير الذاتية للزعماء السياسيين السوريين، ولكن بحكم حساسية طبيعة المعلومات ضمن الصراعات السلطوية القائمة يكون من الصعب تحصيل المعلومات، وبالإضافة لذلك، فإن المعرفة بالأعمال والاعتبارات الداخلية للنخب السياسية يُقدَّم ولكن يستند في الغالب على العلاقات غير الرسمية المقرَّبة من النظام. والنتيجة لذلك أن توزيع السلطة داخل دوائر النظام يكون معروفاً، ولكن المخرجات اليومية للمداولات السياسية تكون مجهولة إلى حد كبير.
[21] هذا يشبه التمييز بين التحالف والقمع الذي أقامته (Bottcher, 1998: 13).
[22] بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون هذه استراتيجية للنظام للتأكد من ماهية التنظيمات والاتجاهات القائمة داخل المجتمع السني، وكما علَّق محللٌ سوري، "إنهم يدعون لتنمو لغرض، وهو أنه إذا ما نمت النباتات وأزهرت، فسيمكنهم معرفة ألوانها، وبالتالي يصبحون على معرفة أي نبتة ينبغي عليهم أن يقطعوها."
[23] كمثال آخر على ذلك هو تزايد الفُرص المقدَّمة للحركات الإسلامية مثل القبيسيات – والتي تمت دعوتها قبل 2007 للتدريس في المساجد بالإضافة إلى تقاليدهم في التركيز على الدروس المنزلية. في هذه المرحلة أصبحت القبيسيات أكثر عمومية عندما قبلوا هذه الدعوة للتدريس في مساجد محددة (من مقابلة مع محلل سياسي سوري، دمشق، 12 آذار 2009).
[24] وبكلماته الخاصة فهو جزء من ما يقدَّر بـ 20% من المسلمين السوريين الذين يعتبرون مشايخ مجددين في مقابل 80% من المحافظين (من مقابلة مع "مهند"، دمشق، 11 آذار 2009).
[25] الثورة هي صحيفة تابعة للنظام.
[26] لم تظهر هذه الحماية بشكل مطلق خلال شتاء وربيع 2009، فقد تم إغلاق المركز مرتين قبل إغلاقه للمرة الثالثة في 20 أيار 2009 وقد بقي مغلقاً حتى وقت كتابة ذلك. بالرغم من تأكيد "مهند" على عدم وجود سبب سياسي من إغلاق المركز، هناك تفسير متكرر لسبب حدوث التغير وهو أن المنصب السياسي لـ"مهند" قد أصبح ضعيفاً وبالتالي ضعفت معها الحماية الرسمية الذي قدمه له منصبه كبرلماني.
[27] مؤخراً أصبح القبيسيات موضوعاً للمراقبة والقمع الشديد – حيث حصل تغير سياسي لم تستطع مناصب القبيسيات أن تؤثر عليه. وبحسب مقابلة مع أحد المقربين من القبيسيات، أن أعلى منصب نسائي للقبيسيات لم يلعب إلا دوراً هامشياً: وهو تقديم بعض الأمان للنساء البارزات، ولكن ليس للحركة ككل (من مقابلة مع عالم سني معروف، دمشق، 23 آذار 2009).
حمزة ياسين
طالب ماجستير في قسم علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، كاتب وباحث مهتم في قضايا الفكر والدين والمجتمع والسياسة، له مقالات وأوراق منشورة في صحف ومجلات إلكترونية.
تاجي دونكر
باحث هولندي متخصص في دراسات الشرق الأوسط، جامعة بيرغن، النرويج.
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.