إذ توقّعوا أنّ السوريّين لن يسلكوا مسلك الانتفاضات في تونس ومصر لنقصٍ في "بُنى تُمكّن النّاس من التّنظم وتجميع الآخرين"[i].
ومن بين أولئك الباحثين دافيد ليش (David Lesch)، أستاذ تاريخ الشّرق الأوسط في جامعة ترينيتي (Trinity University)، الذي ادّعى أنّه يعرف الأسد أكثر من أيّ غربيّ آخر. فقد أكّد ليش في كتابه "سوريا: سقوط بيت الأسد" أنّ فشل السوريّين في التحرّك خلال الأسابيع التي تلت الانتفاضات في تونس ومصر، بدا وكأنّه "يؤكد توقّعات السواد الأعظم من المحلّلين، والمعلّقين، والدبلوماسيّين، والباحثين (بما في ذلك هو نفسه) أنّ الربيع العربيّ لن يصل سوريا في المدى القريب أو بأيّ طريقة مؤثّرة"[ii]. لكن في 25 آذار/مارس سنة 2011، انطلقت مظاهرات عمّت أرجاء سوريا. وفي المقابل، عبّأ الرئيس بشار الأسد أجهزته القمعيّة وبدأ في قمع المتظاهرين.
الانتفاضة السورية ونظرية الحركات الاجتماعية
لا شكّ أنّ الانتفاضة السوريّة معقّدة. فحتى بعد أن أسقط التونسيّون والمصريّون طاغيتيهما، ظلّت امكانيّة حدوث انتفاضة في سوريا مستبعدة من جانب العديد من الخبراء والمحلّلين.
وبعد أشهر من استعمال الوسائل القمعيّة ضدّ المتظاهرين، انشقّ جزء من الجيش السوريّ والتحق بحركة المعارضة، ما خلق الوضع الحالي في سوريا، أي الحرب الأهليّة. من هنا، يغدو من الواجب على الباحثين في الانتفاضة السوريّة طرح سؤالين: ما هي العوامل الكامنة وراء حدوث انتفاضة في سوريا؟ وما العوامل التي تفسّر عدم نجاحها إلى حدّ الآن؟
نجادل في هذه الورقة بأنّ عديد المشاكل الاجتماعيّة - الاقتصاديّة والسياسيّة التي وُجدت في سوريا وُجدت كذلك في تونس ومصر، لكن تلك العوامل لا يمكنها بمفردها تفسير الانتفاضة. وتبعاً لهذا، سيتناول جزءٌ مهم من تحليلنا الفرصة السياسيّة التي حظي بها السوريّون للتحرّك، ويجادل أنّه رغم القمع الهائل من جانب الحكومة، إلاّ أنّه وقعت مظاهرات، يعود الفضل فيها، إلى حدّ كبير، إلى الشّبكات الاجتماعيّة في درعا، بالإضافة إلى كيفيّة التعبير عن مظالم المواطنين. علاوة على ذلك، ستتناول الورقة مسألة غياب النجاح عن الانتفاضة السوريّة وفشل المعارضة السوريّة إلى الآن في اسقاط النّظام وأنّ سببها هو التنظيم العسكريّ الباتريمونيالي (patrimonial)[1]
الجزء الأوّل:
العوامل الكامنة وراء حدوث انتفاضة:
يُعتبر إيقاف 15 تلميذاً في درعا، وهي مدينة ريفيّة تقع جنوب سوريا، القادح المباشر للانتفاضة السورية. حيث كتب التلامذة اليافعون على سور مدرسة "الشعب يريد اسقاط النّظام" أو "يسقط النّظام"[iii]، وهو شعارٌ اكتسب شعبيّة بعد استخدامه في العديد من دول الربيع العربيّ. وقد أوقد ذاك الايقاف الانتفاضة بطريقةٍ مشابهة لانتحار محمد البوعزيزي الذي أشعل ثورة الياسمين في تونس، ومن ثمّ الربيع العربيّ في حدّ ذاته. وتعكس تلك الأحداث بوضوح إحساساً بالظّلم لدى الناس، وهذا بالتأكيد مهمّ لتفسير التحرّك. سنحاول تحليل مجموعة المظالم المتقاسمة التي كانت أساس الحركة، أو هي بعبارة أخرى "مظالم محرّكة"، وهو مصطلحٌ طوّره كل من دافيد سنو وساره سول[iv].
أوّلاً، سندرس المظالم المحرّكة للانتفاضة السوريّة. لكن قبل الغوص في الأدلّة الإمبريقيّة للحالة السوريّة، من الضروريّ تقييم أهميّة تحليل المظالم، حيث تجاهل الكثير من الباحثين بدرجةٍ ما أهميّة المظالم كعنصر دافع للتحرّك. ويَشيع في صفوفهم افتراضٌ مفاده أنّ المظالم موجودة دائماً وفي كلّ مكان، لذا توجد بالتأكيد عناصر أخرى أكثر احتمالاً لأن تكون قادحاً لتحرّك جماهيريّ. ومن جهةٍ أخرى، يرفض سنو وسول ذلك، ويفسّران رفضها بأنّه وإن كانت المظالم الفرديّة لا تصنع ثورة، فإنّ المظالم المتقاسمة، أو المظالم المحرِّكة لدى السّكان، تدفع بالتأكيد نحو "فعلٍ تحسينيّ مشترك"[v]. وتتمثّل إحدى المقاربات التي يدرسانها في "أطروحة الحرمان المطلق أو الإفقار"، وهي أطروحة تقترح أنّ النّاس الذّين يعيشون ظروفاً شديدة ويائسة "مثل الافتقار إلى سكن بأسعار معقولة، وانتشار البطالة، وتعذّر النفاذ للرعاية الصحيّة، والفقر المدقع، والمشاكل الصحيّة والوبائيّة، والتمييز المعطّل"، سيتحركون في نهاية المطاف بسبب مظالمهم.
وقد كانت هذه الظّروف حاضرةً قطعاً في الجهات الريفيّة من سوريا قبل التحرّك، ويمكن تلخيص المظالم بأنّها خيبة أمل في نظام الأسد لفشله في توفير ما وعد به الفقراء الريفيّين. وكما تقترح سوزان صليبي، فإنّه "يمكن لنظرةٍ أعمق لغياب المساواة في الموارد كمقابل لمجرّد شحّ الموارد، توضيح الطبقيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة الجارية التي ساعدت على دفع المظالم السياسيّة المخصوصة إلى الواجهة السوريّة"[vi]. فقد وعد حافظ الأسد، الرئيس السوري السابق، ووالد بشّار، القادم هو نفسه من بيئة فلاحيّة، بوضع فلاّحي سوريا "على رأس الأجندة السياسيّة"[vii]. لكن رغم التطوّر الناتج عن سياسة حافظ الاشتراكيّة والقوميّة، شهدت سوريا أزمة اقتصاديّة خلال الثمانينات. وتمثّلت خطّة النّظام لحلّ "نقاط ضعفه الاقتصاديّة" في الخصخصة. إضافة إلى ذلك، تراجعت المساعدات الممنوحة لسوريا بعد انهيار الاتحاد السوفياتيّ. وهكذا، ورث بشار سوريا، بعد وفاة حافظ عام 2000، وهي ترزح تحت وطأة عديد المشاكل الاقتصاديّة [viii]. وقد كان واضحاً لبشار وللحكومة السوريّة ضرورة اجراء اصلاح اقتصاديّ. إذ سعى في البداية لتبني "اقتصاد سوق اجتماعيّ" على الشاكلة الصينيّة يتولى فيه النّظام توسيع "القطاع العام عبر إصلاحه بدل خصخصته"[ix]. لكن، وكما يلاحظ ريموند هينيباش (Raymond Hinnebusch)، وإن بدا الاصلاح ذكياً من الناحية الاقتصاديّة ومتساوقاً مع الطبيعة الاشتراكيّة للأيديولوجيا البعثيّة (التي يمثّلها حزب حافظ وبشار السياسيّ)، إلاّ أنّه لم توجد استراتيجيّة لتطبيق هذه السياسة. لذا، خلّفَ فشلُ الاصلاح "فراغاً تنافست النيوليبراليّة والإسلامويّة على ملئه"، وهو توجّهٌ سيقود إلى نموّ اقتصاديّ، لكنّه يتجاهل المساواة والتوزيع [x].
وقد تقاسمت سوريا بأكملها المظالم نتيجة هذا التوجّه الاقتصاديّ. ففي المناطق الريفيّة، خسر الفلاّحون والعمال الفلاحيّون الإعانات الحكوميّة. وفي المدن والضواحي، خلقت اللّبرلة الاقتصاديّة فرصاً في الاستثمار العقاري، عادت بالفائدة على جزء كبير من البورجوازيّة السوريّة والأجانب الموسرين. لكن الكثير من السوريّين الذي عاشوا لعقود في عقارات تملكها الدّولة، أصبحوا بلا مأوى حين بيعت عقاراتهم للمستثمرين [xi]. ويؤكد دافيد ليش أيضا هذه التغييرات، حيث يقول أنّ "نسبة النمو في سوريا سنة 2003 قاربت الثلاثة بالمائة، وهي نسبة منخفضة إلى درجة لا تسمح بخلق فرص عمل كافية مع ارتفاع النمو السكانيّ، خاصة الفئة العمريّة بين 15 و24 عاما... إذ تُقدّر نسبة البطالة في صفوفهم بأكثر من 30 بالمائة". علاوة على ذلك، بلغت نسبة السّكان الذين يعيشون تحت خطّ الفقر سنة 2010 أكثر من 30 بالمائة، كما أنّ 11 بالمائة منهم تحت مستوى الكفاف [xii]. وفي الخلاصة، يبدو أنّ المشاكل الاجتماعيّة –الاقتصاديّة التي وُجدت في سوريا، تتّفق مع ما ذهب إليه سنو وسول في طرحهما حول الحرمان المطلق أو الإفقار الذي يعمل كقادحٍ للتحرّك. غير أنّ المؤلفين يعتبران أنّه لا يمكن لتلك المظالم وحدها تبرير ثورة، ويقتبسان في كتابهما من دراسة لزاوادسكي (Zawadski) ولازارسفلد (Lazarsfeld) أجرياها في ثلاثينيّات القرن العشرين مقطعاً يقول: "تجارب البطالة [الإحباط، السخط، الظلم] هي خطوة تمهيديّة للمزاج للثوريّ، لكنها لا تقود في حدّ ذاتها إلى استعداد للفعل الجماهيريّ. هذه التجارب، بمعنى مجازي، تخصب الأرض للثّورة، لكنها لا تنتجها" [xiii].
الفرص السياسيّة وبُنى الحركة:
من الواضح إذنْ أنّ السياق الاجتماعيّ الاقتصاديّ في سوريا، قبل انطلاق المظاهرات عام 2011، مثّل عنصراً تحفيزيّاً مهماً للانتفاضة. لكن، كما قلنا سابقاً، فإنّ ذلك لا يفسّر سوى أساس الحركة، ولا يمكنه أن يفسّر بصفة شاملة سبب تحرّك السوريّين وتظاهرهم ضدّ نظام الأسد. والسؤال المهم الذي نطرحه في هذا الجزء من الورقة هو: لماذا، رغم الوسائل القمعيّة التي استخدمها النّظام للسيطرة على المظاهرات الصغيرة التي ظهرت في شهر مارس عام 2011، استمرت المظاهرات في التفاقم والانتشار أكثر في المدن الأخرى؟
يُركزّ الكثير من الدارسين للحركات الاجتماعيّة على المحيط الذي تظهر ضمنه، وخاصّة الفرصة السياسيّة، أو الحريّة التي يتمتع بها الأفراد في التحرّك. وكما يلاحظ سنو وسول، "تواجه الحركات الاجتماعيّة صعوبةً كبيرة في التحشيد وكسب الدعم في غياب سياق سياسيّ يسمح بالتعبير الحرّ والمنفتح على المظالم والمطالب الجماعيّة، حتى حين تخرج ضدّ مصالح نظام السّلطة الذي تتحدّاه"[xiv] . قد يبدو هذا للبعض حقيقة بدهيّة؛ إذ من الواضح أنّ تعبير النّاس عن مظالمهم أمر أكثر احتمالاً في مجتمع مفتوح، حيث تكون كلفة الاحتجاج منخفضة، أو حتّى منعدمة. لكن تُظهر دراسة أجراها بيتر أيسنغر (Peter Eisinger) حول مجموعة من الاحتجاجات في 43 مدينة أمريكيّة، أنّ الاحتجاجات لا تندلع غالباً في مجتمع مفتوح، بل بالأحرى في مجتمع يُراوح بيت الانفتاح والانغلاق [xv]. والحقّ أنّ سوريا منغلقة أكثر مما هي مفتوحة، لذلك لن يتسامح النّظام مع المظاهرات. ذلك أنّه من الخاصيّات المشتركة بين الدول المنغلقة، أنّ المظاهرات تُنهى في الغالب بطريقة قمعيّة. وينطبق ذلك على احتجاجات ساحة تيانإنمِن في بكين عام 1989، كما ينطبق على تحرّك السوريّين عام 2011.
وعلى الرّغم من التشابه بين الوسائل القمعيّة للحكومتين الصينيّة والسوريّة في كلا الحالتين، فإن نتائجهما مختلفة. ففي حين اضطر الطّلبة الصينيّون الذين انخرطوا في احتجاجات ساحة تيانإنمن للاستسلام في نهاية المطاف بسبب القمع الهائل، استمر المحتجّون السوريّون في تحرّكاتهم. ومن الضروري ملاحظة أنّه رغم احتمال حدوث احتجاجات في سياق متشابه، إلاّ أنّ النتائج يمكن أن تختلف بينها. وبالفعل، فإنّ إجراء تحليل أعمق للمظاهرات في السياقات القمعيّة ضروريّ للتحليل الراهن، وقد ركّزت بالفعل الكثير من التحاليل على التحرّك في تلك السياقات. فكما لاحظ أليكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville) عام 1856 حول الثورة الفرنسيّة، "حين يعيش شعبٌ في ظلّ حكم قمعيّ لفترة طويلة دون احتجاج، ويكتشف فجأة ارتخاء سطوة الحكومة، فإنه يحمل السلاح ضدّها"[xvi]. لكن لا يبدو أنّ المخابرات السوريّة قد أرخت سطوتها. فقد كانت على درجة عالية من النشاط زمن الاحتجاجات في سوريا، وهي تشمل في صفوفها ما بين 50 و70 ألفاً من العناصر، وفي عام 2011 "كان يوجد عنصر مقابل كلّ 240 مواطن تقريباً" [xvii]. وحين تحرّك الناس بعد إيقاف التلاميذ في درعا، فتحت المخابرات النار، وقتلت أربعة من المحتجّين. وحين ارتفع عدد المحتجّين إلى عشرين ألفاً، هاجمتهم القوى الأمنيّة مرّة أخرى، وقتلت منهم خمسة عشر وجرحت المئات. وقد قُطعت الكهرباء والماء وشبكات الهاتف الجوال عن درعا [xviii]. ومع أنّ الحكومة السوريّة لم تُظهر تجاه المحتجين أيّ ارتخاء، فقد ولّدَ القمع مزيداً من الاحتجاجات.
وقد ركّز الباحث شارلز كورزمان (Charles Kurzman) في أبحاثة حول الحركات الاجتماعيّة في مثل هذا السياق القمعيّ. وتُظهر دراسته حول الثورة الإيرانيّة عام 1979 أنّ الدولة الإيرانيّة كانت، مثل سوريا، فاقدة "لقابليّة الثورة عام 1978"[xix]. في واقع الأمر، لم يكن إيمان النّاس بأنّ النّظام قد ضعف هو ما جعلهم يواصلون الاحتجاج في إيران، بل لأنّ "الشعب الإيرانيّ اعتبر أنّ الفرص السياسيّة قد ازدادت نتيجة نموّ المعارضة". وبعبارة أخرى، رغم أنّ الشّعب الإيرانيّ لم يحظ بأيّ فرصة سياسيّة للاحتجاج ضدّ الدّولة، إلاّ أنّ إدراكه الفرصة السياسيّة المتاحة، دفعه نحو الاستمرار. ويمكن اعتبار دوافع السوريّين للتظاهر، مشابهة لتحليل كورزمان للثّورة الإيرانيّة، لكن هذا الاستنتاج يتطلّب تحليل الكيفيّة التي تصوّر بها المتظاهرون السوريّون إمكانيّة إسقاط النّظام.
ولعلّ أحد العوامل التي بإمكانها تفسير جذور هذا التصوّر للفرصة السياسيّة، هي الشّبكات الاجتماعيّة. حيث أثبتت الدراسات حول هذه الشّبكات أنّ العلاقات الإنسانيّة أو الشّبكات التي تجمع الناس، بإمكانها تصوير التهديد الذي يمثّله النّظام بأقلّ ممّا هو عليه في الواقع، وإظهار المعارضة أقوى ممّا هي عليه. وبذلك توفّر تلك الشّبكات للأفراد حوافز أشدّ للانضمام إلى الحركة. ويلاحظ دوغ ماكميلان (Doug McAdam)، وهو أحد أبرز المنظّرين للحركات الاجتماعيّة، أنّ اتخاذ القرار النهائيّ بالانضمام إلى حركةٍ ما، يعود إلى توفّر أربعة شروط، هي: (1) ظهور محاولة استقطاب محدَّدة، (2) الرّبط الناجح بين الحركة والهويّة، (3) تدعيم ذاك الربط من قبل أشخاص يعملون عادة على استدامة الهويّة المعنيّة، (4) غياب معارضة شديدة من قبل أفراد آخرين تعتمد عليهم هويّات بارزة أخرى[xx] .
وبخصوص الشّبكات الاجتماعيّة في سوريا، نعتمد بصفة أساسيّة أبحاث راينود لييندرز (Reinoud Leenders)، وهو أستاذ في كليّة كينغ (King’s College)، ويتمحور عمله خاصّة حول نظريّة الحركات الاجتماعيّة والانتفاضة السوريّة. وهو يذهب في دراسته للشّبكات الاجتماعيّة في مدينة درعا، إلى أنّه يمكن تفسير سبب تحرّك السوريّين رغم وسائل النّظام القمعيّة بسقوط بن علي في تونس ومبارك في مصر، وهو ما شجّع على نشوء تصوّر عند السوريّين بإمكانيّة قيامهم بنفس الأمر. ومن هنا، يجادل لييندرز أنّ الشّبكات الاجتماعيّة ساهمت بصورة أساسيّة في نشر "تأثيرات التّظاهر" من تونس ومصر إلى سكان درعا[xxi].
وتتميّز درعا بعديد الشّبكات الاجتماعيّة المختلفة. أوّلا، تشتمل المدينة على بنية عشائريّة، وتوفّر العشائر السّبعة الرئيسيّة للمواطنين "التضامن، والهويّة، والتكيّف الاجتماعيّ الاقتصاديّ"[xxii]. وبعبارةٍ أخرى، تفاعلت العشائر مع المظالم الاجتماعيّة الاقتصاديّة المذكورة سالفاً، ووفّرت تحفيزاً أشدّ لمقاومة نظام الأسد.
كما توجد شبكة أخرى مهمّة في درعا، وهي شبكة العمّال المهاجرين، سواء ضمن الهجرة الداخليّة، أو باتّجاه لبنان والأردن. لكن شبكة العمال المهاجرين ليست هي الشبكة الوحيدة الممتدّة خارج الحدود السوريّة. إذ يلاحظ وجود "روابط عائليّة وعشائريّة" تجمع بين درعا وأجزاء من الأردن، إضافة إلى الترابط الاقتصادي من خلال تجارة المنتجات الزراعيّة. وأخيراً، يلاحظ لييندرز أنّ "انخراط بعض مواطني درعا في الجريمة والأنشطة غير القانونيّة، ونظراً لما تخلقه من علاقات اجتماعيّة، يولّد مهارات وعلاقات وفضاءً اجتماعيّاً، يكون حضورها واضحاً في الشّبكات" (2013). ولتفسير سبب تحفيز هذه الشّبكات على التحرّك، يطرح لييندرز ضرورة النّظر إلى الإطار الذي وضع فيه المحتجّون مسألة قمع النّظام لتحرّكاتهم؛ أي أنّ الكيفيّة التي أطّرَ بها المحتجّون في درعا مظالمهم، من خلال الشّعارات والنّداءات، هي ما شجّع الكثيرين على الالتحاق بالاحتجاجات. فالشّعارات والنّداءات، كما يُلاحظ، كان "لها تأثير على المحتجّين يقارب النشوة، حيث عبّر الكثير منهم عن فرحه العميق بالتعرّف الفوريّ على المظالم الممتدة منذ زمن طويل، وأنّ ذلك غدا معروضاً ومتقاسماً علنيّاً لأوّل مرّة"[xxiii]. وبهذا، يبدو من الحصيف استنتاج أنّ المظالم، والشّبكات الاجتماعيّة التي ساهمت في نشرها، هي أهمّ العوامل لتفسير التحرّك في سوريا.
الجزء الثاني:
سوريا ونظام الشخص الواحد:
رغم النّجاح في إسقاط النّظام في كلّ من مصر وتونس، غاب النّجاح في سوريا، وتطوّرت الحركة في اتجاه حرب أهليّة، وهي الحالة الراهنة للصّراع. ويوجد عدد من العوامل التي بإمكانها تفسير فشل المعارضة في بلوغ مسعاها. لكننا سنركّز على عاملٍ واحد فقط، هو نمط النّظام في سوريا. يركّز العديد من الباحثين في الحركات الاجتماعيّة، من بينهم جاك غولدستون (Jack Goldstone)، على بنية النّظام لتفسير النتائج المختلفة للثّورات والانتفاضات. ويجادل هؤلاء الباحثون أنّ الاختلاف في بنية النّظام هو ما جعل المتظاهرين في تونس ومصر ينجحون في إبعاد حاكميهما الأوتوقراطيّين من السّلطة، فيما اختار الحاكمان الأوتوقراطيّان في ليبيا وسوريا الحرب بدل الانسحاب. إضافة إلى ذلك، من المهمّ النّظر في إنتاج النّظام من النّفط وموقعه في النّظام العالميّ، من أجل تحليلٍ أعمق لحصائل الانتفاضة.
يمكن فهم نظام الأسد في سوريا كنظام شخصانيّ أو سلطانيّ؛ وهو نوع من الأنظمة على درجة عالية من القوّة والهشاشة في نفس الوقت. يصف غولدستون هذه الأنظمة بالدول الحديثة ذات البنية الحزبيّة: "في واقع الأمر، يحكم شخصٌ قويّ واحد المجتمع برمّته من خلال نظام مكثّف من الولاء لشخص الحاكم، بدل الخضوع إلى قوانين لا شخصيّة"[xxiv]. وتتضمّن هذه الأنظمة أيضاً عديد النخب المسيّسة، يعمل الزعيم الأوتوقراطيّ كوسيطٍ بينها. وعلاوةً على ذلك، يمكن للولاء العسكريّ تجاه النّظام، أن يشتدّ أو يضعف لأنّه "يعتمد على طرق عمل نظام الولاء للشخص"[xxv]. ورغم أنّ هذه الأنظمة تعدّ قويّة، إلا أنّ استقرارها يعتمد حصراً على الانتصارات السياسيّة للزعيم الأوحد، مقابل الأنظمة الملكيّة مثلًا، حيث يحظى الزعماء الملوك بشرعيّةٍ قويّة قائمة على العرف. وحين يفقد الزعيم شرعيّته، كما حصل تدريجيّاً للأسد في عقده الرئاسيّ الأوّل، يجنح بعض الباحثين للتركيز على بنى الجّيش بصفة خاصّة لتفسير استدامة النّظام.
وأحد هؤلاء الباحثين هي إيفا بالين (Eva Bellin) التي كتبت عام 2012 مقالا يُعيد النّظر في مناعة النزعة السلطويّة في الشّرق الأوسط. ويمكن استخدام مقالها لتفسير سبب عدم انقلاب الجّيش السوريّ على نظام الأسد كما فعل الجّيش المصريّ. وتجادل بالين بأنّ هذه الاختلافات تعود إلى بنية الجيش. ففي مصر وتونس، لم يرفض الجيش إطلاق النّار على المحتجّين بسبب نقصٍ في القدرة العسكريّة، بل كان الأمر مؤسّساً على الإرادة، حيث يجب على أيّ قائد عسكريّ أن يضع في الاعتبار مختلف الاحتمالات. وتلاحظ بالين أنّ "استخدام القوّة القاتلة ضدّ المدنيّين يهدّد بتقويض صورة الجّيش كمُدافعٍ عن الأمّة، خاصّةً إذا ما كانت الحشود ممثّلة "للأمّة"، ولا يمكن أن تضفى عليها صفة "الآخر" الواضح بمعايير الطبقة، والطائفة، والإثنيّة"[xxvi]. ورغم أنّ المجتمع السوريّ مجتمعٌ متباين، فإنّ بالين تركّز بصفة خاصّة على البنية العسكريّة في تفسير سبب اتخاذ الجّيش قرار إطلاق النّار على المواطنين. تمتلك سوريا جهازاً قمعيّاً قويّاً، وينظّم الجّيش على نحو باتريمونيالي؛ حيث يتكوّن أساساً من العلويّين (وهي طائفة دينيّة، تنتمي إلى الإسلام الشيعيّ، وتنحدر منها عائلة الأسد). وعلى سبيل المثال، فإنّ الفرقة الرابعة من الجّيش تتكوّن بالكامل من العلويّين، ويقود الحرس الجمهوريّ ماهر الأسد شقيق بشار (2012). ومن ثمّة، وبما أنّ النّظام يعتمد على الجّيش من أجل بقائه، فإنّ من الضروريّ أن يكون الجّيش خالياً من أيّ دوافع قد تبعده عن النّظام. وفي السياق السوريّ، يعتمد الجّيش في وجوده على بقاء النّظام، لذا كان من المستبعد حصول أي انشقاق نوعيّ. والجيش السوريّ الحر، القوّة العسكريّة المنشأة لمحاربة نظام الأسد، هو نتيجة انشقاق جزءٍ صغير فحسب.
إضافة إلى ما سبق، وفيما يتعّلق بالحفاظ على الدولة الباترمونيالية، يجادل غولدستون أنّ للنفط دوراً هامّاً في تفسير بقاء النّظام. فعلى الرغم من أنّ سوريا منتج ثانويّ للنّفط، إلاّ أنّ النفط وفّر للنّظام مصدراً أساسيّا للموارد الماليّة التي استخدمها "من أجل الحفاظ على الدّعم في المناطق الحضريّة الأساسيّة، وهي دمشق وحلب، ولإرسال جيشه لقمع الانتفاضات الحضريّة في مناطق أخرى"[xxvii]. كما اعتمد نظام الأسد بشكلٍ كبير على مبدأ عدم التدخّل الذي تتبناه روسيا والصين في مجلس الأمن، وحظي بدعمٍ من إيران وحزب الله بصفة أساسيّة، حيث ساعدت إيران الجيش السوريّ بأربعة آلاف جندي من الحرس الثوريّ [xxviii]، فيما صرّح حسن نصر الله، زعيم حزب الله، أنّ الحرب ضدّ قوات المتمرّدين "هي حربنا، ونحن لها"[xxix].
خاتمة:
أجاب هذا المقال عن سؤالين طرحناهما في المقدّمة، وأبرز بالخصوص: (1) أنّ النّاس تحرّكوا في سوريا، رغم القمع الشّديد من جانب النّظام، بسبب الشّبكات الاجتماعيّة وتأطير طبيعة النّظام القمعيّة، لكنهم (2) فشلوا في اسقاط النّظام بسبب وجود الجيش المنظّم على أساس باتريمونيالي، والذي لا يملك دوافع للتخلي عن النّظام. وأنشأ السوريّون، بسبب الشّبكات الاجتماعيّة والتأطيرات، تصوراً مفاده أنّهم يستطيعون من خلال وحدتهم الوقوف والتعبير عن مظالمهم ومحاربة نظام الأسد. وقد جادلنا بأنّ هذا التحليل مشابه لتحليل كورزمان للثورة الإيرانيّة عام 1979. فالشّبكات الاجتماعيّة، مثل العشائر، والشّبكات العماليّة، والشّبكات التجاريّة أو الشّبكات الاجراميّة، جعلت من اليسير على سكان درعا التعبير عن مظالمهم، كما عملت طريقة تأطيرهم للأساليب القمعيّة للنّظام على تأجيج أمل سكان درعا وإعلاء همّتهم. ومع ذلك، ورغم انتشار الاحتجاجات في أرجاء البلاد، إلاّ أنّ النّظام لم يسقط. ونظراً لتماسك الجّيش، وعوائد النّفط، والحلفاء العالميّين، فقد تمكّن نظام الأسد من البقاء في السّلطة، ولا يمكن بالتالي التنبّؤ بتوقيت أو بإمكانيّة انهياره.
المراجع والإحالات:
[i] Ammar Abdulhamid, “Syria is not ready for an uprising,” The Guardian, February 7, 2011, available at:http://www.theguardian.com/commentisfree/2011/feb/07/syria-uprising-egypt-tunisia-days-of-rage
[ii] David W. Lesch, Syria: The Fall of the House of Assad (New Haven and London, Yale University Press, 2012); p54.
[iii] David Hirst, “Even anti-western Syria is not immune to revolution,” The Guardian, March 22, 2011, available at: http://www.theguardian.com/commentisfree/2011/mar/21/syria-not-immune-to-arab-uprising
1- البتريمونيالية: مفهوم نحته عالم الاجتماع ماكس فيبر. يوضح فيبر أن البتريمونياليّة في الأصل شكل سيطرة تقليدي ضمن العائلة حيث تسود سلطة الأب، أي الأبوية. لكن الباتريمونياليّة هي تمديد للأبوية لتشمل علاقات اجتماعيّة أوسع. وفي الدولة الباتريمونيالية تنبع السلطات من شخص الزعيم/ القائد الذي يتمتع بسلطة مطلقة، ويكون ولاء الجيش له وليس للأمّة( المترجم).
[iv] David A. Snow and Sarah A. Soule, “Mobilizing Grievances,” in A Primer on social Movements (New York: Norton, 2010); p24.
[v] ibid ; p26.
[vi] Suzanne Saleeby, “Sowing the Seeds of Dissent: Economic Grievances and the Syrian Social Contract’s Unraveling,” Jadaliyya, February 16, 2012, available athttp://www.jadaliyya.com/pages/index/4383/sowing-the-seeds-of-dissent_economic-grievances-an
[vii] Ibid.
[viii] Raymond Hinnebusch, “Syria: from ‘authoritarian upgrading’ to revolution?,” International Affairs 88, no. 1 (2012): 95–113.
[ix] Ibid.
[x] Ibid.
[xi] Ibid.
[xii] David W. Lesch, Syria: The Fall of the House of Assad (New Haven and London, Yale University Press, 2012); p57.
[xiii] David A. Snow and Sarah A. Soule, “Mobilizing Grievances,” in A Primer on Social Movements (New York: Norton, 2010); p62.
[xiv] ibid; p66.
[xv] Ibid ; p68.
[xvi] Charles Kurzman, “The Iranian Revolution,” in The Social Movements Reader, ed. Jeff Goodwin and James M. Jasper (Oxford: Goodwin Blackwell Publishers, 2003), 1-22.
[xvii] David W. Lesch, Syria: The Fall of the House of Assad (New Haven and London, Yale University Press, 2012); p65.
[xviii] Ibid ; p56-57.
[xix] Charles Kurzman, “The Iranian Revolution,” in The Social Movements Reader, ed. Jeff Goodwin and James M. Jasper (Oxford: Goodwin Blackwell Publishers, 2003), 1-22.
[xx] Doug McAdam and Ronelle Poulsen, “Specifying the Relationship Between Social Ties and Activism,” American Journal of Sociology 99, (1993), 640-667.
[xxi] Reinoud Leenders, “Social Movement Theory and the Onset of the Popular Uprising in Syria” Arab Studies Quarterly 35, no. 3 (2013) 273-289.
[xxii] Ibid.
[xxiii] Ibid.
[xxiv] Jack A. Goldstone, “Revolutions in Modern Dicatorshops”, in Revolutions: Theoretical, Comparative and Historical Studies (Independece, KY: Cengage Learning, 2003).
[xxv] Ibid.
[xxvi] Eva Bellin, “Reconsidering the Robustness of Authoritarianism in the Middle East”; Comparative Politics Journal, (2012) 127-149.
[xxvii] Jack A. Goldstone, ”Bringing Regimes Back in – Explaining Success and Failure in the Middle East Revolts of 2011”, (2013) available at SSRN http://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=2283655.
[xxviii] Robert Fisk, “Iran to send 4,000 troops to aid President Assad forces in Syria,” The Independent, June 16, 2013, available at: http://www.independent.co.uk/news/world/middle-east/iran-to-send-4000-troops-to-aid president-assad-forces-in-syria-8660358.html
[xxix] Anne Barnard, “Hezbollah Commits to an All-Out Fight to Save Assad,” New York Times, May 25, 2013, available a thttp://www.nytimes.com/2013/05/26/world/middleeast/syrian-army-and-hezbollah-step-up-raids-on-rebels.html?_r=0
-Hank Johnston, States and Social Movements (Cambridge: Polity, 2011), 97-133
ترجمة: حبيب الحاج سالم
مترجم وباحث من تونس، مجاز في اللغة والآداب والحضارة الإنكليزيّة ويواصل دراسة الماجستار في نفس الإختصاص، له مقالات وحوارات مترجمة منشورة على الأنترنت وفي بعض المجلات الثقافيّة والكتب.
ساندري فيكساند
باحث نرويجي،حاصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.