المرشح الافتراضي سميث ... صحيفة التايمز ... البلوتوقراطية: كيف تقرأ اليوم مؤشرات الرأي الأميركي؟

13 تشرين1/أكتوير 2016
 
قبل عام من الآن لم يكن الفوز الكاسح للمرشح الجمهوري دونالد ترامب ببطاقة الترشح عن حزبه للرئاسة الأمريكية متوقعاً، فقد غمرت الصّدمة بتصريحاته المتطرفة، بنبرةٍ غير مسبوقة، الرأي العام والتحليلات. وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي لم تتمكن من استشراف الوضع الذي آل إليه المشهد الانتخابي، إلا أن من غير المنصف القول بفشلها لأنها لا تعدو كونها مقياساً مُحدداً بزمن. وهنا يظهر تساؤلٌ مهم: هل يقود الرأي العام السياسات؟ أم أنه يتغير بتغيّرها؟
تتعدد الآراء حول دور الرأي العام في صناعة السياسات. يقول رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل: "لا يوجد شيء اسمه الرأي العام. هناك فقط رأي منشور". فيما يرى الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام لينكولن أن "الرأي العام هو كل شيء في هذه البلاد". ولا شك في توافر شواهد على كل من هذين الرأيين. فقد شهدت بريطانيا في شباط/ فبراير 2003 وغزو العراق يلوح في الأفق، مظاهرات غير مسبوقة تزامنت مع حركة احتجاجٍ شعبيٍ عالمي ضد الحرب. لم تُغير هذه التظاهرات مسار التحالف الدولي لغزو العراق، لكنها كانت مبرراً للحكومة الكندية، مثلاً، في قرارها عدم المشاركة. كذلك احتاج الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت إلى الدعم الشعبي الهائل بعد ضرب ميناء بيرل هاربور لكي يتخذ قرار دخول الحرب العالمية الثانية.

ولذلك، عادةً ما يولي النظام السياسي الأمريكي، مثل أنظمة الحكم الديمقراطية الأخرى، أهميةً للرأي العام، من خلال إجراء استطلاعات الرأي باستمرار حول مختلف القضايا. وهنا يمكن أن نطرح التساؤل التالي: هل يَسلم الرأي العام من التلاعب؟ في هذا السياق، يرى الباحثان إي جي ديون وتوماس إي مان في دراستهما "الاستطلاعات والرأي العام: الحسن، والسيء، والبشع"، لمعهد بروكينغز، أن غالبية المستجيبين لاستطلاعات الرأي يميلون لتبني آراء غير مرغوب فيها من قبل منظمي الاستطلاعات ولا تتفق مع هدف الاستطلاع. وإذا عُكست الصورة فإن بإمكان واضع الاستبيان التلاعب في رأي المستجيب باستثارة ميله إلى الآراء غير التقليدية، أو تلك التي لا تنسجم مع أهداف الاستطلاع المُعلنة. كما وتتنوع اهتمامات الناخبين الأمريكان بصورة اعتيادية مثل غيرهم في ظل النظم الديمقراطية، ولا تنخرط شريحةٌ كبيرة منهم في الشؤون العامة، ولذلك مهما كانت أهمية بعض الأسئلة الملتبسة عن السياسة العامة، فإنها لن تتمكن من إشراك غالبية الجمهور في الإجابة عليها. ووفقا للدراسة المذكورة، لا بد من الانتباه إلى أن هناك فروقات بين  فكرة وجوب حكم الشعب، وبين استخدام استطلاعات الرأي لتوجيه السياسات العامة أو التلاعب بآراء الناس.

من جهةٍ أخرى، غالبا ما تُنتج محاولات قياس الرأي العام بالضرورة عدم توافق بين الآراء، ويفسر صمويل بوبكين، أستاذ السياسة في جامعة كاليفورنيا، في كتابه "الناخب المنطقي" هذا الأمر، لكونه  لا يعود إلى عدم اطّلاع الجمهور أو تلقيه تعليماً أو تحفيزا كافيين. فالجماهير تعتمد معلومات مختصرة عند اتخاذ قرار يتعلق بالعملية السياسية، وهي في الوقت نفسه لا تملك تفضيلات ثابتة حيال عدد من القضايا. وهنا يملك الفاعلون السياسيون مصلحة كبيرة في تغذية هذه المعلومات المختصرة بما يوسع قاعدة الدعم الشعبي لهم ولسياساتهم.

وبناءً على الآراء السابقة، نسعى من خلال هذه الورقة الى التعرف على واحدةٍ من أهم الدراسات الاستطلاعية التي صدرت في الولايات المتحدة الأميركية، والتي تناولت موضوع معرفة الشخصية المثالية التي يريدها الرأي العام الأمريكي، وهنا نعني مشروع المرشح سميث الافتراضي. ثم نستعرض بعد ذلك قراءتين أمريكيتين مختلفتين لدور الرأي العام في انتخابات الرئاسة. الأولى من منطلق ليبرالي، ترى أن الرأي العام يلعب دوراً مهماً في اختيار الرئيس، والثانية من منطلقٍ يساري ترى أن الرأي العام ليس المحرك الأساسي للانتخابات. لنعرج في نهاية المقال على بعض الملاحظات حول السباق الرئاسي الحالي.

المرشح الافتراضي سميث؟

سكوت ميلر، وباتريك كاديل، وبوب بيركنز، مستشارون سياسيون ومخططون استراتيجيون أمريكان منذ أكثر من 40 عاما. عمل كل منهم لصالح عدد من السياسيين مثل مرشح الرئاسة جورج ماكغفرن في 1972، وجيمي كارتر في 1976 و1980، ومايكل دوكاكيس في 1988، وجورج بوش ونائبه ديك تشيني في العام نفسه.

انشغل ميلر وكاديل وبيركنز مع فريق من المستشارين خلال السنوات الست الماضية بقياس ظاهرة اغتراب الناخبين الأمريكيين، وبناء نموذجٍ تخيلي لما يريد معظم الأمريكان الآن رؤيته في المرشح المثالي، أو رجل الدولة العظيم، أو السيدة العظيمة. حلل الفريق كمية كبيرة من البيانات الإحصائية، وابتكروا المرشح الافتراضي سميث الذي قد تنجح حملته الانتخابية بالفوز بغالبية الأصوات في الانتخابات، وخرجوا بنتائج مذهلة. من بينها مثلا:

أن 70٪ من الناخبين الأمريكان يعتقدون أن الحكومة الفدرالية اليوم لا تحظى بتوافق شعبي، كما يرغب 79٪ من الناخبين برؤية مزيدٍ من المرشحين الأقرب إلى صورة المواطن العادي منه إلى نموذج السياسيين المحترفين أو المحامين. كما  أظهرت البيانات أن غالبية الناخبين يرغبون بالانضمام إلى حزب ثالث إذا كان يحظى بفرصة النجاح، فيما يفضل 77٪ من الناخبين مرشحين "يناقشون وينقدون مسألة النخب السياسية ومجموعات المصالح" على أولئك الذين يلتزمون بأيديولوجية سياسية. ويعتقد 86٪ من الناخبين أن السياسيين مهتمون بحماية مصالحهم أكثر من مصالح الشعب الأمريكي، وتظهر نتائج أخرى أن  83٪ من الناخبين يرون  أن البلاد تُدار من قبل تحالف من السياسيين والإعلاميين ومجموعات الضغط. فيما يعتقد 79٪ أن المصالح القوية لبنوك وشركات وول ستريت والنقابات ولجان العمل السياسية (PACs) يستخدمون أموال الحملات الانتخابية وأموال الضغط للتلاعب بالنظام لخدمة أنفسهم، وأنهم ينهبون خزينة الدولة على حساب كل أمريكي.

بناءً على الاستطلاعات السابقة، نجد أن دراسة سميث تكشف عن صورةٍ جديدة حيال طبيعة الانقسام الأمريكي بين ما يريده الرأي العام نظرياً وبين ما تطرحه واشنطن من خيارات، كما تُظهر ما يمكن تسميته بالازدواجية في سلوك الناخب.

والمثير للدهشة هنا، هو أنه بالرغم من أن المرشحين للرئاسة الأميركية بعيدون للغاية عن النموذج المثالي الذي يطرحه نموذج المرشح سميث، الا أن هناك توافقاً قوياً على ما يمثله المرشح سميث من قبل داعمي الحملات الانتخابية، والذين يصرون على أن مرشحهم هو المرشح سميث. من هنا يتبين لنا أن الديمقراطيين والجمهوريين، أو حتى المستقلين، يمتلكون على حد سواء أهدافا نهائية متشابهة إلى حد كبير، لكنهم يختلفون بشدة على كل تفصيل وخطوة ينبغي اتخاذها للوصول إلى هذه الأهداف. كما أنه بالرغم من أهمية بعض المسائل العالقة والخلافية بين الناخبين مثل الاقتصاد النازف وقلة الدعم للفقراء ونظام التعليم ونظام الضرائب، إلا أن 74٪ من الناخبين مثلا يؤمنون بأن الأولوية هي إصلاح النظام السياسي المعطل قبل حل المشكلات السياسية الهامة الأخرى. فيما يرى 92٪ أهمية توظيف ودعم مزيد من المواطنين العاديين للمناصب الحكومية على حساب السياسيين المحترفين. ولا مفاجأة في ذلك بالنظر إلى أن 81٪ يعتقدون أن الحزبين السياسيين الرئيسيين يفضلون مصلحتهم على حل مشاكل البلاد، وأن النخبة السياسية هي من يحتاج إلى إصلاح. وفي هذا الصدد عادة ما يتم الاستشهاد من قبل الناخبين بالبيان الافتراضي للمرشح سميث الذي يذكر ما يلي: "إن نظامنا السياسي المعطل يخيب آمالنا كلنا. تسيطر جماعات الضغط والمصلحة على السياسيين الذين لا زالوا يحصلون على الأصوات لأنهم ينجحون بتقسيمنا ضد بعضنا البعض ويقدمون وعوداً مجزأة لشراء دعمنا. إننا بحاجة إلى مزيد من القادة من عامة أمريكا… يطرحون مسألة النخب السياسية ومجموعات المصالح ويوصلون الشعب الأمريكي إلى السلطة مرة أخرى”.

وبالتالي نلحظ هنا أن هناك توافقاً لدى معظم الناخبين المنقسمين في آرائهم على أجندة سميث، وأعلن 75٪ نيتهم في التصويت له كمرشحٍ للكونغرس، فيما صرح ثلثا الناخبين المستطلعة آراؤهم برغبتهم في التصويت له كرئيس للولايات المتحدة. كما نجح سميث في استطلاع في مواجهة هيلاري كلينتون بفوزه بـ 55٪ من الأصوات.

والجدير ذكره هنا أنه لأكثر من 40 عاما لم يشهد الفريق هذه النتائج التي رأى أنها تدل على وجود تمردٍ ضد نظام فاسد، على الرغم من عدم اعتراف النخبة السياسية بذلك. اذ تصور الدراسة المشهد السياسي الأمريكي بوصفه يشهد مواجهة بين الرأي العام والنخبة السياسية. كما تعكس نتائج نموذج سميث غضباً عاما تجاه النظام السياسي في أمريكا. "سميث قادمٌ بطريقة أو بأخرى"، كما يردد البعض في الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أن سخط الناخب الأمريكي على الوضع الراهن في واشنطن لم يعد أيديولوجيا، بل بات هيكليا. بمعنى أنه لم تعد تسعى عامة الأميركيين إلى تخريب العملية السياسية، أو الانتقال من دعم الديمقراطيين إلى دعم الجمهوريين أو العكس، لأن الفرق بين البنية السياسية الحالية وطموحاتهم  -حسب مشروع سميث - باتت تتمثل في رؤية لعالم مختلف عن عالم النخبة السياسية والإعلامية والمؤسسة الحاكمة. عالم للشعب الأمريكي الذي يطالب بتحويل الحياة السياسية في البلاد، وتغيير راديكالي للقيم لإعادة سيادة الشعب وسيادة أمريكا. ولكن ما مدى تأثير آراء الأمريكان في العملية السياسية؟ وبعبارة أخرى كيف يؤثر الرأي العام في اختيار الرئيس الأمريكي؟

الرأي العام يختار الرئيس الأمريكي: قانون الضرورات المفقودة

في محاضرة له بجامعة نورث كارولاينا بعنوان "دور الإعلام في السياسة"، استهل بيل شنايدر الصحفي والمحلل السياسي سابقا في شبكة CNN باقتباس من رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بنيامين ديزريلي: "هناك أمران ينبغي أن تعرفهما قبل أن تبدأ مسيرتك في الحياة العامة: نفسَك وصحيفة التايمز". ووفقاً  لشنايدر، الذي عمل في استطلاعات ودراسات الرأي العام طوال مسيرته المهنية، فإن "معرفة التايمز"، وبعبارة أخرى فهم الجو الإعلامي والرأي العام هي المفتاح الأساسي للمستشار السياسي. وفي هذا الصدد يطرح شنايدر مفهوم " قانون الضرورات المفقود" الذي يعرض التساؤل التالي: "ما الذي يريده الناخبون مما لا يجدونه فيمن يشغل المنصب"؟. إذ يُعدُّ هذا السؤال برأيه الأهم أو الأكثر صلاحية لمعرفة وفهم   نتائج الدورات الانتخابية في الولايات المتحدة الأميركية. ففي عام 1968، كان المشهد السياسي الأميركي، وخاصة الحزب الديمقراطي يمر بحالة فوضى تمثلت في موجة من العنف والاضطراب، وبدت البلاد كأنها ماضية نحو التفكك. مما دفع الناخبين الأمريكان إلى اختيار ريتشارد نيكسون، الذي رأوا فيه رجلا قويا يستطيع إعادة النظام، جمهوري معتدل من وسط الطيف السياسي.

وبعد فضيحة ووترغيت شعر الأمريكان بالخداع والخيانة من قبل رئيسهم، وأظهرت الاستطلاعات أن الناخبين يريدون رئيسا أخلاقيا، لينتخبوا جيمي كارتر صاحب العبارة الشهيرة "لن أكذب عليكم أبدا". وبعد أربع سنوات تبين للرأي العام الأمريكي أن كارتر كان حالماً واهن العزم، وكان الرأي العام تواقاً لزعيم قوي حازم، وهي الصفات التي وجدوها في رونالد ريغان. وفي عام 1992 رأى الأمريكان أن جورج بوش الأب بات منفصلا عن واقعهم، في حين كان بيل كلينتون لاعب الساكسوفون متخصصا في التعاطف وملامسة مشاعر الشارع. كما عُزي فشل جون كيري في انتخابات 2004، إلى جانب أسباب أخرى، إلى تقديمه نفسه كجندي سابق قادر على تبوء منصب القائد الأعلى. يقول شنايدر إن كيري لم يقرأ التايمز بالشكل الصحيح، فقد شعر الناخبون في تلك الفترة بأنهم كانوا يملكون قائدا قويا، ولذلك لم يكونوا يبحثون عن بديل له وهو جورج بوش الابن.

المرشح الافتراضي سميث ... صحيفة التايمز ... البلوتوقراطية: كيف تقرأ اليوم مؤشرات الرأي الأميركي؟
وفي نفس السياق، يعتقد شنايدر أن ما ميز أوباما  إبان انتخابات 2008 هو في كونه كان أميركيا من أصول أفريقية لا ينحدر من حركة الحقوق المدنية ولا يتبنى مشروع تظلُّم عنصري كما فعل غيره، كما أنه قدم نفسه من خارج المؤسسة الحاكمة ولم يكن يرتبط بجماعات مصالح معينة. ومن هنا – وفقا لشنايدر- فإن أوباما قرأ الشعور بالحاجة إلى الوحدة لدى الأمريكان بشكل صحيح، وبعبارة أخرى قرأ التايمز بالشكل الصحيح. إذ ملَّ الرأي العام الأمريكي من السياسات الحزبية الضيقة التي مثّلتها إدارة بوش الابن. وفي تعليق على قول جون ماكين في مقالة له إن باراك أوباما أظهر أمريكا ضعيفة أمام بوتين، يقول ديفيد ريمنيك رئيس تحرير مجلة نيويوركر إن هذه العبارة تعود إلى خلاف أوباما وماكين حول العراق، ويتساءل "من الذي كان محقا بشأن العراق ماكين أم أوباما؟". مشيرا إلى أن أوباما وصل إلى الرئاسة لأنه، إلى حد كبير، كان مُحقاً بشأن العراق، وهنا يكمن خلافه حتى مع هيلاري كلينتون. يقول ريمنيك: "ماكين والعديد منا كذلك كان مخطئا بشأن العراق". فقد كان الرأي العام الأمريكي بحاجة إلى رئيس يظهر على حق بشأن إحدى أكبر الخطيئات في تاريخ السياسة الأمريكية المعاصر.

ليس الرأي العام مؤثرا في السياسة الأمريكية وإنما "الديمقراطية الرأسمالية الموجودة فعلياً"؟

في مطلع آذار/ مارس الماضي، أشار روجر كوهين كاتب الرأي في صحيفة نيويورك تايمز إلى أن أوروبا قلقة من تقبّل الأمريكان لموسوليني العصر الحديث، في إشارة إلى صعود دونالد ترامب، مضيفا أن "أوروبا تدرك أن الديمقراطيات يمكن أن تنهار… ومتى فُقِدت (الديمقراطية)، فإن تكلفة إعادتها باهظة للغاية".  فقد اقتبس ترامب في تغريده له على توتير من كلام موسوليني "أفضل لك أن تعيش يوما كالأسد على أن تعيش 100 عام كالخروف"، كما رفض ترامب كذلك إدانة مجموعة كو كلاكس كلان المتطرفة التي أعلنت دعمها له، وتحدث أيضا عن إطلاق النار على البعض، ولَكمَ أحد المتظاهرين وطرح إهانَة ذوي الاحتياجات الخاصة والنساء والمسلمين والمكسيكيان وغيرهم من الأقليات على أنها أمر مقبول.

ووفقا لكوهين : "يعيدنا (حديث ترامب) إلى عهود مظلمة (في أوروبا) … بعد خسارة الحروب، في عهد تفشي الرعب والغضب والصعوبات الاقتصادية، حينما يظهر الديماغوجي العبوس مع وعوده وبهائه"، وبالتالي علينا الحذر- حسب كوهين – من الموجة الجديدة التي تجتاح الرأي العام الأمريكي.

 إلا أن حالة القلق هذه حيال انهيار الديمقراطية الأميركية مع قدوم موسوليني أميرك ا(ترامب) لا تحظى بالموافقة من قبل الباحث والمؤرخ السياسي بول ستريت، الذي يرى أنه قبل البت والموافقة على هذا الأمر، لا بد من إعادة تعريف "الديمقراطية" التي قد تموت في الولايات المتحدة حسب كوهين، وهو تعريفٌ يأتي ذكره نادرا في وسائل الإعلام الرئيسية ومقالات الرأي.

ووفقا لستريت فإن هناك تياراً تقدميا طاغيا في الرأي العام الأمريكي طالما دعم مزيدا من المساواة الاقتصادية وحقوق العمال وتنظيم التجارة والحد من قوة الشركات، كما أنه لا زالت غالبية الرأي العام الأمريكي تفضل نظام تأمين صحي قومي حقيقي شبيه بالنمط الكندي للتأمين الصحي على التأمين الذي توفره الشركات، وتفضل برامج إيجاد فرص العمل على نطاق واسع على برامج تخفيض العجز الاقتصادي، وتفضل كذلك نقل المخصصات المالية من الميزانية الضخمة للبنتاغون إلى الاحتياجات الاجتماعية، وكذلك الحماية الجدية للبيئة على تدمير البيئة، ومزيداً من توزيع الثروة والدخل ديمقراطياً. مع ذلك فإن الواقع لم يسمح لهذه الآراء أن تتحول إلى حقائق وسياسات حسب ستريت، في ظل وجود دكتاتوريات المال والإمبراطورية، والدولة العميقة غير المنتخبة، والتي تعود إلى ما قبل قدوم ترامب إلى المشهد السياسي كمرشح رئاسي قوي. ومن هنا فإن مسألة موت الديمقراطية في أميركا مسألة تعود بجذورها إلى قضايا أعقد من قدوم ترامب واكتساحه المفاجئ للمرشحين للرئاسة الأميركية.

ويطبق ستريت مقاربته هذه على الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية، التي يبدو فيها الرأي العام – وفقا لتعبيره- لا زال يتعرض لسخرية ماكينة الشركات التي تدير الانتخابات الديمقراطية الأهم في الولايات المتحدة. ولذلك يذكر في هذا السياق المرشح الأميركي بيرني ساندرز الذي كان بمثابة المرشح الوحيد الذي يسعى الى تمثيل مطالب غالبية الرأي العام في عدد من القضايا الرئيسية. مع ذلك فإن قيادات الأحزاب ومدراء الشركات والمؤسسات الإعلامية وممولي الانتخابات بما فيهم المليارديرات مثل ترامب هم من اتفق في نهاية المطاف على أن الأمريكان سيختارون في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل بين السياسية الإمبريالية الديمقراطية التي وُثّقت مراراً خدمتُها للمصالح الخاصة للشركات والمتمثلة في هيلاري كلينتون، وبين الفاشي القومي الجديد والبغيض دونالد ترامب.

المرشح الافتراضي سميث ... صحيفة التايمز ... البلوتوقراطية: كيف تقرأ اليوم مؤشرات الرأي الأميركي؟
وفي نفس السياق، يشير عالما السياسة البارزين مارتن غيلنز وبينجامين بيج في دراستهما المنشورة في جامعة برينستون بعنوان "تجربة نظريات السياسات الأمريكية: النخب، ومجموعات المصالح، والمواطن العادي،2014".  بأن النظام السياسي الأمريكي عمل كأوليغاركية تحكمها النخب وشركاتها. وبعد تحليل بيانات أكثر من 1,800 مبادرة سياسية في أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، وجد غلينز وبيج أن النخب الغنية والمرتبطة بشكل قوي أدارت دائما دفة البلاد، بغض النظر عما إذا كان ذلك ضد إرادة غالبية الأمريكان، وبصرف النظر عن الحزب الذي كان يحكم البيت الأبيض و/ أو الكونغرس. ويقول الباحثان إن ذلك كان في وقت كان فيه "التأثير المستقل للمواطنين العاديين فيه بسيطاً أو لا يذكر". ويضيف غيلنز في حديث لدورية "توكنغ بوينتس ميمو" أن هذه هي الحقيقة في "الديمقراطية الرأسمالية الموجودة فعليا" في الولايات المتحدة، المصطلح الذي صاغه المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي "RECD “Realy Existing Capitalist Democracy إذ تمتص منظومة الديمقراطية الرأسمالية الموجودة فعلياً طاقات النّشطاء السياسيين في فترة الانتخابات، ثم تُفقدهم الثقة برواج القيم والمبادئ التي يطالبون بها.

ملاحظات على الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2016

الانتخابات تحول الأنظار من الشركات إلى واشنطن

ترى كايلان كونوي محللة استطلاعات الرأي ببحثٍ كمي وكيفي شمل 14 شهراً سابقا ، أن الغضب تجاه المحسوبية والفساد والغرف المغلقة وقلة الشفافية، وصراع من يملك ومن لا يملك، يتحول في فترة الانتخابات إلى واشنطن والنخبة السياسية، وهذا لا يعني انتهاء الغضب المُوجّه نحو الشركات الكبرى، ولكن هذا الغضب بات موزعا بينها وبين النخبة السياسية، ديناميكيةٌ تصفها الباحثة بالمذهلة. فبدلاً من التفكير بأمريكا الأعمال والشركات الكبرى، الكل الآن يوجه أنظاره نحو النخبة السياسية.

حملات التشويه والدعاية المضادة باتت أداة رئيسية في الحملات الانتخابية

يشير ميلر إلى ظاهرة مثيرة للاهتمام لم تكن بنفس الزخم في الانتخابات السابقة على مدار أربع عقود ماضية. تتمثل في تخصيص المؤسسات الحاكمة للأحزاب هذا العام ميزانيات ضخمة لحملات التشويه والدعاية المضادة تجاوزت تكلفتها 300 مليون دولار. ففي السابق كانت هذه الأساليب آليات مدعمة غير رئيسة، أما الآن فقد بدأت الحملات الانتخابية موسم الانتخابات بها، وباتت هي النذير الأسود المخيف على شكل صور وفيديوهات مليئة بالاتهامات لمن هم أمريكان ومن هم ليسوا كذلك. لم تحرك هذه الملايين إبرة في السابق، فمثلا صرف المرشح الجمهوري جيب بوش 150 مليون دولار دون أن ينجح بأي شيء ولم يكسب أربعة أصوات في المجمع الانتخابي للحزب الجمهوري.

فشل الماكينة الإعلامية في مواجهة زلات ترامب

خسرت الماكينة الإعلامية ثقة شريحة كبيرة من الناخبين، مما أدى إلى فشلها في تجريح ترامب أمام هذه الشريحة على الرغم من زلاته الواضحة. يرى بين بويتشوك، المحرر المشارك في مجلة معهد مانهاتن سيتي للصحافة، أن الصورة التي رسمها الإعلام للشخصية الهشة لترامب لم تنجح، ومن الأمثلة على ذلك توبيخه الصحفيين دون تردد في خطابه يوم الثلاثاء 31 أيار/ مايو الماضي في ترامب تاور. وعلى الرغم من وصف كل من نيويورك تايمز وواشنطن بوست وتشيكاغو تريبيون وصحف وإعلاميين آخرين ترامب بالمهرج، إلا أنه لم يرفّ له جفن وهو يصف الصحفي من إي بي سي نيوز توم لاماس بالفاسد. اكتفى الصحفي بالسؤال: "لماذا أنا فاسد؟"، ليرد ترامب: "لأنك تعرف الحقائق، تعرف الحقائق جيدا". يشير بويتشوك إلى أن ما فشل زملاؤه الصحفيون في فهمه هو أن الكثير من المتابعين وممن يرغبون بمتابعة الأخبار ببساطة يكرهون المؤسسات الإعلامية الكبرى. ويقول: "إنهم متأكدون من عدم ثقتهم بنا"، ولذلك فشل الصحفي لاماس في مواجهة ترامب أمام الجماهير.

التلاشي التدريجي للخوف من فوز ترامب

تفوقَ دونالد ترامب لأول مرة على هيلاري كلينتون بنسبة 0.2% في استطلاع أجرته مؤسسة ريل كلير بوليتيكس في الأسبوع الأخير من أيار/ مايو الماضي. مع ذلك لا تتفق منى شلبي، محررة البيانات الأمريكية في صحيفة غارديان، مع مقولة "حان وقت الشعور بالخوف" تعليقا على هذه النتيجة، لأن هذا الخوف – برأيها- جاء متأخرا. فقد أبعدَ تسليط الضوء على فرص ترامب في الفوز ببطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري الأنظار عن فرصته في الفوز بالسباق الرئاسي. وبالعودة إلى الانتخابات الرئاسية الست الماضية، أظهرت نتائج هذه الانتخابات كلها أن 31 ولاية أمريكية تكون مضمونة لأحد الحزبين بوضوح. وبالتالي ركزت استطلاعات الرأي العام على الولايات المتأرجحة مثل أريزونا وفلوريدا ونورث كارولاينا وأوهايو وويست فيرجينا، التي لا يملك ترامب أو كلينتون أغلبية حاسمة في أي منها حتى الآن. غياب التركيز على فرص ترامب بالفوز في الرئاسة، والغموض في نتائج الولايات المتأرجحة فكّكت الشعور بالخوف من فوزه بالرئاسة الذي أخذ يتلاشى باستمرار، تزامناً مع حصوله على دعم متردد من قبل عدد من زعماء الحزب الجمهوري  مثل رئيس مجلس النواب الأمريكي بول رايان.

السيرة الذاتية في مواجهة الملصق الإعلاني

يصف ميكاه روبرتس، محلل استطلاعات الرأي، نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤخرا صحيفة وول ستريت جورنال بالتعاون مع إن بي سي نيوز، بعد أن ظهرت هيلاري كلينتون حاملة سيرتها الذاتية خلال حملتها الانتخابية ،ودنالد ترامب يحمل  ملصقاً إعلانيا مثل الذي يوضع على السيارات. تشير النتائج إلى تفضيل المُستطلعة آراؤهم عدة خصال في كلينتون تعزز هذه الصفة وهي: التعاطي مع القضايا التي تخص المرأة، وإدارة السياسة الخارجية الأمريكية، وتعيين قضاة في المحكمة الدستورية. الأمر الذي يثبت نجاح هدف الحملة الانتخابية لكلينتون التي عددت إنجازاتها كما ترد على سيرتها الذاتية "امرأة ذكية سياسيا وتركز على السياسات". فيما رأى المُستطلعة آراؤهم سمات مختلفة تماما لترامب الذي تمتع حسب الناخبين بميزات عن كلينتون وهي: القدرة على تغيير العمل المعتاد في واشنطن، والتعاطي مع وول ستريت، والنهوض من أجل أمريكا. يقول روبرتس إن هذه السمات من السهل العثور عليها في الملصقات المنتشرة على السيارات. ويشبهها زميله المحلل بيتر هارت بأنها عبارات منتهية بعلامات تعجب مثل "غيروا واشنطن!" و"انهضوا من أجل أمريكا!"، ولا تشبه أبدا منجزات مدرجة في سيرة ذاتية.

ويرى هارت أن دوافع التصويت لكلينتون - المنتهية بنقطة في آخر السطر - تتميز بأنها منطقية وعقلانية، في حين تمتاز دوافع التصويت لترامب - المنتهية بعلامة تعجب - بأنها عاطفية وتضرب على وتر حساس لدى الناخبين. لكن ترامب لم يتمكن من التفوق على كلينتون في مسألة المهاجرين التي خيم على رؤيته لها ملصق "ابنوا الجدار!". ورغم ذلك، وبنسبة قريبة من الفترة التي سبقت انتخابات 2012 تساوت النسبة التي حازها المرشحان من أصوات المستطلعة آراؤهم إزاء مسألة المهاجرين، ولكن مع فارق ضئيل لمصلحة كلينتون. ويتأخر ترامب عن كلينتون بالدعم الذي يحوزه من حزبه.

SaveSaveSaveSaveSave

عبد الرحمن سراج

باحث سوري في العلاقات السورية الأمريكية، حاصل على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة مرمرة التركية، ويتولى حالياً موقع رئيس تحرير موقع ترك برس.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.