اتفاق الطائف والديمقراطيّة التوافقيّة اللبنانيّة: هل يصلحان نموذجاً لحل النزاع في سوريّة؟

18 كانون2/يناير 2018
 
[تنويه: هذه ورقة أُلقيت في مؤتمر "بحثاً عن تعايش سلميّ في الشرق الأوسط"، من تنظيم مركز "توسيس" للدراسات، إسطنبول 15-17 كانون الأول (ديسمبر) 2017]
منذ عام 2012، حذّر المبعوث الأمميّ الخاص لسوريّة، الأخضر الإبراهيمي، من أنّ العنف الدائر في البلاد قد يحولها إلى "دولة فاشلة أخرى مثل الصومال". وفيما بدأ كثيرون يحذرون من "صَوْملة" سوريّة، بدأت تُقام مقارنة أخرى مع لبنان المجاور، لا كمصدر خوف كما كانت الحال مع احتمالات "لَبْننة العراق" في مرحلة ما بعد 2003، وإنما كنموذج لـ"العيش المشترك" بين هويات طائفيّة متخاصمة، أنهت عقداً ونيف من العنف على طاولة المفاوضات.

وبالتالي، يقول هؤلاء، ليس من سبب يمنع اجتراح حلّ مماثل لسوريّة، من دون انتظار عشرة أعوام آخرى.

في نوفمبر 2011، كان الزعيم الدرزيّ اللبناني وليد جنبلاط أول من ألمح لـ"طائف سوريّ". وعلى رُغم ما يعلنه جنبلاط من رفض للمفهوم اللبنانيّ لتقاسم السّلطة على أسس طائفيّة، إلا أنّه يدرك جيداً أنه ما كان بالضرورة ليشغل مناصبه كلها اليوم لولا نظام المحاصصة هذا. ومن دون أن يكون جنبلاط استثناء في الحالة اللبنانيّة، هو في وقت واحد رئيس "الحزب التقدميّ الاشتراكيّ" ووريث الإقطاع السياسيّ الجنبلاطيّ، نائب عن الأمة وزعيم للطائفة الدرزيّة، أمير حرب سابق وسياسيّ محنك في مرحلة السلم.

وعليه، لم يأت اقتراحه من عدم، لكن التوقيت لم يكن قد حان بعد.

وفي سبتمبر 2012، عادَ نائب وزير الخارجية الروسيّ ميخائيل بوغدانوف وطرح الفكرة مرة أخرى في مقابلة صحافيّة لتمر مروراً عابراً، فتعود وتكتسب مزيداً من الزخم مع تعيين الأخضر الإبراهيميّ مبعوثاً خاصاً لسوريّة في صيف 2012.

فالابراهيمي ليس إلّا رئيس اللجنة الثلاثيّة العليا التي صاغت اتفاق الطائف عام 1989.

لكن في ذلك الوقت، أي في 2012، لم يكن أيٌّ من الطرفين السوريين راغباً في مناقشة حل سياسيّ. فالمعارضة، من جهة، كانت قوية إلى حد ما، وتملك مجلساً وطنياً يتمتع باعتراف دوليّ؛ فيما الفصائل العسكرية التابعة لها تنتزع مساحات جغرافية واسعة وتفصلها أو "تحررّها" (كما درج التعبير عن ذلك الفعل) من سلطة الحكومة المركزيّة.

أمّا النظام من جهة أخرى، فقد وصف ومنذ اللحظة الأولى المتظاهرين المطالبين بإطاحته بـ"الإرهابيين الذين يجب محاربتهم بشتّى السبل"، قاطعاً الطريق أمام أي إمكانية للتفاوض معهم. وهي عملياً سرديّة سيحتفظ بها حتى يومنا هذا، ويبني على أساسها ليس ردوده العسكريّة فحسب، وإنما أيضاً خطوط سياسته التفاوضيّة.
 
 
وبذلك، وعلى رغم تكرار مقولة إنّ "الحل في سوريّة لن يكون عسكرياً"، إلا أن الظروف الداخلية والخارجية لم تكن قد التأمت بما يكفي لدفع المتخاصمين إلى حوار فعليّ.

وكما إنّ الحرب الأهليّة اللبنانية لم تكن محليّة الصنع بالكامل، ولا "حرب الآخرين على أرضنا" بالمطلق -كما يحلو لنا نحن اللبنانيين أن نزعم- فإن إنهائها لم يكن كذلك أيضاً.

فقد انتهت الحرب الأهليّة عندما تقاطعت الحاجة الداخليّة إلى مصالحة ما، مع التطورات الإقليميّة والدوليّة وقد باتت مواتية.

فداخلياً، أُنهِكَت المدن والمناطق بمعارك استنزاف طويلة، وبدأت الحواضن الشعبيّة تتخذ مواقف رافضة لاستمرار الحرب وداعمة لتسوية سريعة. في الواقع، وخلال سنوات الحرب الأهلية، كانت هناك مؤشرات كثيرة على أنّ غالبية الناس العاديين والعديد من الكيانات الاجتماعيّة والثقافيّة والشعبيّة كانت ضد فصل المواطنين والمناطق والمدن بحسب خطوط الطوائف وتحويلها إلى "غيتوهات" من لون واحد. لكنّ القرار لم يكن بيدهم، بل بيد قادة الميليشيّات والأحزاب من كافّة الأطراف.

وخارجيّاً، انشغلت إسرائيل عن لبنان بالانتفاضة الفلسطينيّة التي اندلعت في ديسمبر 1987، فيما الفصائل الفلسطينّية المسلحة خرجت من بيروت أصلاً في 1982 وفقد من تبقى منها قوته إلى حدّ كبير، وانكفأ إلى داخل المخيمات حيث تحول إلى سلطة مسلحة من نوع آخر. أمّا واشنطن، فكانت منهمكة بدورها بحرب الخليج الأولى وتسعى جهدها إلى تقليص أضرار الأزمة اللبنانية إقليمياً، لئلا تؤثر على عملية السلام العربيّة-الإسرائيلية التي كان بدأ التمهيد لها.

في المقابل، كانت هناك قوة إقليمية صاعدة هي سوريّة التي ازداد نفوذها في لبنان بشكل مطرد بعد التدخل العسكريّ المباشر في 1976 عبر قوات الرّدع العربية وبطلب لبنانيّ رسمي، وفي 1987، حين دخلت القوات السوريّة إلى بيروت الغربية وضواحيها ومناطق مختلفة من الجبل والشوف والشمال، ثم عودتها في 1990، إلى بيروت الشرقيّة ومناطق أخرى ذات أغلبية مسيحيّة، فيما اعتبر تسليماً كاملاً للملف اللبنانيّ لصالح الدولة المجاورة، كتطبيق غير مُعلن لاتفاق الطائف الذي فوض شؤون البلد الصغير لجارته الكبرى.

على هذه الخلفية، جاء اتفاق الطائف (أو ما يسمّى رسمياً وثيقة الوفاق الوطنيّ) بمبادرة سعوديّة، ليشكل الأساس القانونيّ لإنهاء الحرب الأهليّة وعودة الحياة السياسية إلى لبنان، ولكن أيضاً كمرحلة انتقالية تمهّد لإلغاء الطائفيّة السياسيّة.

كانتِ المشكلةُ في عدم تحديد جدول زمنيّ لذلك الانتقال.

ولا يخفى أنّ الاتفاق الذي تم توقيعه في 30 أيلول/ سبتمبر 1989 في مدينة الطائف، ثم إقراره بقانون صوت عليه مجلس النواب، كان بدأ بجولات مفاوضات متعدّدة يعود أولها إلى جنيف 1983 مروراً بالقاهرة ودمشق والدار البيضاء وغيرها من العواصم؛ وهو ما يذكّرنا اليوم بالحالة السوريّة حيث جولات لا متناهية من المفاوضات بين الرياض وجنيف، وسوتشي وأستانة وقبلها إسطنبول والقاهرة.
 
 
والحال أنّه لا يمكن نكران نقاط التشابه والتقاطع الكثيرة بين الظروف اللبنانيّة التي أدّت إلى اتفاق الطائف، وتلك السوريّة اليوم.

فيمكن ملاحظة، أولاً، إنهاك الحواضن الشعبيّة من طول أمد النزاع ودرجة عنفه غير المسبوق وسط انسداد الأفق بشكل تامّ تقريباً. ثم هناك نقل وظائف الدولة من إدارات عامة وتعليم وصحة ومنظمات مجتمع مدنيّ ووسائل إعلام وشرطة ومحاكم وغيرها، إلى الهيئات الأهلية التابعة للفصائل المسلّحة أو المستقلة عنها، ولكن المضطرة للعمل تحت رعايتها؛ وهو مؤشر لما يمكن أن يكون عليه مستقبل البلد في حال استمرار القتال وتفكك الدولة أكثر، فضلاً عن تفتت الهوية الوطنية الجامعة بين السوريين إلى هويات "ما دون وطنيّة"، عرقية أو طائفية أو مناطقية، إلخ.

وعلى غرار الحرب الأهليّة اللبنانيّة، يمكن معاينة تصاعد العنف على كافة المستويات وأولها الانتهاكات بحقّ المدنيين من الطرفين، وترافق الأعمال العسكريّة بتهجير قسري و"تطهير" طائفيّ؛ ما يرسم مناطق نفوذ جديدة، وحدوداً داخل الحدود واقتصادات حرب مستقلة. أمّا على صعيد الحريات العامة، والتي كانت مطلباً أولاً، فهي تتراجع بدورها تحت واقع خطر للغاية هو الفهم الأحاديّ للحقائق والوقائع بحسب الحيّز الجغرافي والقدرة للوصول إلى المعلومات أو حتى الرغبة في الاطّلاع على واقع المناطق الأخرى. فالأمر هنا لا يقتصر على "بروباغاندا" إعلاميّة أو عسكرية فحسب، وإنما يتجاوزها إلى مطلب شعبيّ بـ"الانكفاء" عن "الآخر" وشؤونه، وهو ربّما لا يبعد أكثر من أمتار قليلة.

والخطورة في ذلك ليست الاكتفاء بسرديّة أُحادية عن الوقائع والأحداث فحسب، وإنما تتجاوزها لتعيق لاحقاً، في مرحلة السّلم المُشتهاة، بناء تاريخ موحّد للبلاد، يقوم على تنقية الذاكرة الجماعيّة ومحاسبة الذات الوطنيّة بالدرجة الأولى، عوضاً عن طمس الماضي تحت قانون "عفوٍ عامّ" يساوي بين الضحايا والجلادين ويمنع صياغة كتاب تاريخ يكون درساً مؤسساً للأجيال المقبلة على ما هي الحال في لبنان اليوم.

وإلى ذلك، ينشأ عداءٌ متعدد الاتجاهات بين "الداخل"، الذي يُفترض أنّه صاحب الشرعية، و"الخارج" المتهم بالولاءات الأجنبية. أو بالعكس بين الخارج، الذي هُجّر وطرد من أرضه بفعل القصف والتنكيل والملاحقة، ومن بقيَ في الداخل المتهم أيضاً بالولاء للسلطة وتقديم التنازلات لها.

وفي الواقع، يرفض كثير من السوريين، سواء من طرف المعارضة أو النظام، إقامة أيّ مقارنات من هذا القبيل مع لبنان، ويشدّدون على القول إنّ مجتمعهم أكثر "تجانساً وتماسكاً" من أن تضربه الانقسامات الطائفيّة.

لكن سرعان ما أصبح العنف الطائفيّ أكثر وضوحاً، وظهرت معه انقاسامات عموديّة أخرى. فهناك التباين الحادّ بين الريف والمدينة، والتنافس التاريخيّ بين حلب ودمشق، والاختلاف المناطقيّ بين الجزيرة والساحل وحوران وغيرها. هذا، ولم نذكر بعد التركيبة الإثنية من شركس وأشوريين وأكراد يشكلون بين 10 إلى 15 في المئة.

وهنا أيضاً بدأ تراشق الاتهامات والتخوين. فالنظام ألقى باللوم على "المقاتلين الأجانب" من الحركات السلفيّة الجهادية و"الانفصاليين" من الأكراد، فيما اعتبرت المعارضة في المقابل أنّه أول من استخدم العنف الطائفي وسخّره من أجل حشد دعم الأقليّات مستعيناً، بدوره، بمقاتلين أجانب من لون طائفيّ واحد، وبناء شراكات لاحقة مع طيف من الأكراد.

ويبقى لافتاً استخدام مصطلح "مقاتلين أجانب" للإشارة فقط إلى المقاتلين السُّنة من "الجهاديين"، فيما يُستثنى منه المقاتلون الأجانب من الشيعة، "الجهاديين" أيضاً. والحال أنّ النظام يعتمد على أكثر من 45 فصيلاً شيعياً، مع فارق وحيد أنهم ينضوون تحت قيادة عسكرية واضحة وشبه موحدة، فيما يتوالد "الأمراء" والمنظمات من رحم المجموعات السُّنية بلا انقطاع.
 
 
وبغضّ النظر عن المسببات، إلا أنّ النتجية تبقى واحدة: وهي أنّ كلا الطرفين استعانا بالخارج لحسم المعارك في الداخل والقضاء على الخصم، مع ضرورة الاعتراف بتفوق النظام طبعاً. فهو يقود الجيش وما يملكه من أسلحة ثقيلة ويسيطر على أجهزة الأمن التي سخرها لإقامة منظومة قمع وتعذيب مُمنهج، ويحظى بدعم جويّ هائل من قوة عظمى كروسيا.

النتجية جاءت بأن أحداً من الطرفين لم ولن يستطيع تحقيق انتصار عسكريّ ساحق واستعادة كامل الأراضي وبسط سلطته عليها. ومهما قيل إنّ النظام لا يبحث إلا عن "سورية المفيدة"، إلا أنّه ليس متعففاً عن بقية التراب السوريّ. كما وأن عدم سيطرته عليه كاملاً ينتقص من شرعيته وسلطته مهما كان ذلك الحيز الجغرافيّ ضئيلاً أو غير ذي فائدة.

أما خارجيّاً، فالدول الكبرى التي لم تتوقع أن تمتد النيران السورية إليها، انشغلت بشؤونها الداخلية أو الإقليمية وما عادت سوريّة أولويتها خصوصاً لجهة "أصدقاء الشعب السوريّ". فالمملكة العربية السعودية غرقت في أوحال اليمن والأزمة الخليجيّة وترتيب البيت الداخليّ، فيما تركيا بدورها منهمكة بمرحلة ما بعد المحاولة الانقلابيّة وبالملف الكرديّ، في حين أنّ الاتحاد الأوروبيّ يهمه وقف دفق اللاجئين ومعالجة قضايا العائدين إليه من "داعش"، أو ربما عدم معالجتها على الإطلاق وتبني الاستراتيجيّة الروسية-السورية القائمة على حصر مقاتلي "داعش" و"النصرة" في منطقة إدلب ثم الإمعان في قصفها بين الفينة والأخرى بحجة مكافحة الإرهاب.

أما واشنطن ترامب، فهي ما نعمله جميعاً من فوضى وغياب أيّ استراتيجية وإرث "أوباميّ" هزيل لم يلتزم حتى بخطوطه الحمراء.

ومن جهة النظام، فكلٌّ من روسيا وإيران وأذرعها العسكريّة في المنطقة يستثمران استثماراً كاملاً في سوريّة، وبات ملحاً عليهما ايجاد حلّ إن لم يكن لشيء فلإسكات الأصوات الداخليّة المعترضة وتعديل ميزان الخسائر الاقتصاديّة.

تلك هي بداية نضوج الظروف الذاتيّة والموضوعية في آن لإطلاق شرارة اتفاقٍ ما.
 
لكن السؤال يبقى: لماذا الدفع باتجاه أن يأتي هذا الاتفاق على شاكلة الطائف اللبنانيّ؟
 
فعلى رغم نقاط التشابه سالفة الذكر في شكل الصراع الحالي، إلا أنّ الفوارق الكثيرة يجب ألا تغفَل أيضاً، لا سيّما وأن لتاريخ كلّ من البلدين دوراً أساسيّاً فيها.

أولاً، وعلى عكس لبنان، الذي لم يعان حكماً أحادياً قط، ولم يعش على الانقلابات العسكريّة، وعرف الديمقراطية مبكراً جداً بما تعنيه من انتخابات وحريّة إعلام وتوزيع للسلطات واقتصاد حرّ يقوم على قطاع الخدمات والسياحة موجه بشكل أساسي إلى الخارج ومستقطب للاسثمارات الأجنبيّة، فإن أجيالاً سوريّة كاملة لم تعرف غير نظام الحزب الواحد، وعائلة الأسد التي استأثرت ليس بالحكم فحسب، وإنما أيضاً بمقدرات الدولة وأجهزتها.

وإذ انحصرت السلطة بشكل أساسي بيد الطائفة العلويّة، فصارت هي عصب النظام وركيزته، إلا أنها لم تنتج ما يمكن تسميته "العلويّة السياسيّة" على غرار "المارونيّة السياسية" في لبنان، التي كانت علّة وجوده (raison d’etre) ومبرّره الأيديولوجيّ.

وقد أتاحت "المارونيّةَ السياسيّة" تحـوّلاتٌ اقتـصاديـة واجتماعية كبيرة ترافقت مع انتشار التعليم ونشوء الليبراليّة، بالمعنيين السياسي والاقتصادي، حيث نمى القطاع المصرفي إلى جانب أحزابٌ وتيارات سياسية يمينية ويسارية، في وقت لم يعرف لبنان أيّ تسلط لأجهزةً أمنيّة أو استخباريّة أو يعرف نظاماً قمعياً فعلياً قبل الوجود السوريّ. فحتى التجربة الشهابية التي تُوصَف بأنها الأشدّ وطأة على لبنان بسبب دور "المكتب الثاني"، إلا أنها بقيت عملياً تجربة عابرة وغير مؤسّسة.

وبهذا المعنى، وحتى على المستوى الاجتماعي، كانت "المارونيّة السياسيّة" فكرة عابرة للطوائف. فعدا عن إرساء العمل المؤسساتيّ والتعليم وغير ذلك، فإن نمط العيش المسيحيّ/ الغربيّ بمعناه اليومي والتفصيلي، هو أيضاً نمط عيش الطبقة الوسطى والوسطى العليا من الطوائف الأخرى، أو شكل من أشكال الترقي الاجتماعي للطبقات الأدنى.

أما في الحالة السوريّة، فالأمر معاكس تماماً، حيث عمد حزب البعث إلى القطع التام مع ما سبقه، وربط ما بعده بـ"الأبد الأسديّ". فبعض مكتسبات الانتداب ثم عهد الاستقلال القصير من مأسسة وتعليم ونشاط حزبي وقطاعات إنتاجية في المدن الكبرى ولا سيما حلب، أٌزيحت كلها لصالح خدمة مشروع واحد فقط هو ضمان بقاء النظام وعائلة الأسد في الحكم. وبذلك، تمّ العمل منهجياً على تجفيف المجتمع وتصحيره فكرياً وسياسياً واقتصادياً ومنع أيّ نشاط ثقافيّ أو أكاديميّ أو حزبي أو نقابي لا يخرج من عباءة حزب البعث.

وإلى ذلك، فإن اتفاق الطائف اللبناني لم يولد من عدم، بل هو تكريس للميثاق الوطنيّ الذي أُعلن مع الاستقلال في 1943 (ويقوم على المناصفة في الحكم بين المسلمين والمسيحيين)، ومأسسته، وذلك اعتماداً على إحصاء ذلك العام حيث كان المسيحيون وازنين ديموغرافياً. وبالتالي، فهو يطمح إلى أن يحمل شيئاً من الاستمرارية لما كان الحال عليه قبل الحرب الأهلية في 1975.

أما في سوريّة، فعدا عن أن عنصر التوازن الديموغرافيّ (أو المناصفة) غير متوفر، فإن العودة إلى ما قبل 2011 تعني العودة إلى منظومة قمعية قامت الثورة ضدها، وبهذا المعنى ربما يفيد البحث في إمكانية العودة إلى ما قبل تسلط حزب البعث، من دون أن يعني ذلك السعي إلى "اجتثاثه" كما في العراق.

فلا ننسى أنّ احتكار السلطة والعنف الرسمي بحد ذاته لا يعود إلى السنوات القليلة الماضية، بل هو أداة حكم وإدارة مسلّطة على المواطنين منذ انقلاب البعث في ستينيّات القرن الماضي، في وقت لا يشكل حكم الأقليّة العلوية أو البعث العربي جوهر الكيان السوريّ أو علة وجوده. فحتى على الصعيد الشعبيّ، ينطوي الترقي الطبقي أو الاجتماعي على تشبّه بسكان حلب ودمشق من أبناء المدنية السنية التجارية والصناعية وغيرها، وليس بأبناء الريف الساحليّ من العلويين إلا لما يعنيه ذلك من تقرب من أو تماهٍ مع الأجهزة الأمنية.
 
ثانياً، فإن أطراف النزاع في لبنان تختلف عمّا هي عليه في سوريّة، ولكونها هنا وهناك تنتمي بغالبيتها إلى مجموعات طائفيّة معيّنة، فإن حصرها في هذه الهويّة الأحادية يأتي في غير سياقه.

ففي لبنان، كان هناك تنظيمات حزبيّة قائمة على الطوائف وأخرى عابرة لها، واضحة المعالم، وعلى شيء من التساوي في القدرات العسكرية والبشرية وممارستها للعنف. وتقتصر شرعية كل منها على مساحتها الجغرافية الواضحة أيضاً. لذلك، عندما شارك الجيش الوطني في الحرب، أواخر الثمانينيّات بقيادة قائده آنذاك ميشال عون، وهو اليوم رئيس الجمهورية، انقسم سريعاً. فالأحزاب المسلحة كانت، ولا يزال من بقي منها (أي حزب الله)، أقوى من مؤسسة الجيش والحكومة المركزية.

لذا؛ فإنّ من وقع اتفاق السلام في الطائف ليسوا السياسيين فحسب، ولا ناشطي المجتمع المدني (كما نراهم اليوم)، بل هم أيضاً وبشكل أساسي زعماء الطوائف من قادة الميليشيات القادرين على تنفيذ شروط الاتفاقات التي يتعهدون بها ضمن مناطقهم وعلى جمهورهم. وإذّاك، قايضوا السلاح بحصتهم من السلطة.

أما في سوريّة، فهناك دولة تحتكر العنف وأدواته وتسلطه على المناطق المنتفضة ضدها، والتي لا توازيها عسكرياً وتنظيمياً، وهي إلى ذلك لا تزال تحتكر الشرعيّة. وبالتالي، فإن واحدة من المعضلات الكثيرة اليوم هي في أن المشاركين في المفاوضات وتلك الجولات المكوكية التي نتابعها ليسوا هم من يملك الشرعية العسكريّة والشعبيّة على الأرض. وهو ما يضع الأمور في مأزق رهيب.

فإما ألا يلتزم قادة الفصائل بتعهدات المفاوضين باسمهم فيستمر النزاع إلى أجل غير مسمى ويتخذ أشكالاً مختلفة، وإما إعادة تفويض مناطقهم لسلطة الحكومة المركزية في دمشق بما يجعله استسلاماً تاماً وليس مقايضة ولا مفاوضة على المشاركة في الحكم.

وعليه، فإن شرعية التمثيل لدى الأطراف المفاوضة ليس تفصيلاً عابراً، تماماً كما هو تأمين مصالح الرعاة الدوليين خلال الاتفاق وما بعده. وفي هذا التوازن التفصيليّ تكمن كل الشياطين!

ففي لبنان، مثلاً، كان أول اختبار لتطبيق الطائف وافتتاح مسيرة السلم الأهلي بانتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية في نوفمبر1989، بشكل مستقل عن مصالح الراعي الدولي (أي سوريّة)، وإذ بالرئيس لم يكمل إحدى عشر يوماً في منصبه حتى تم اغتياله. وهو عملياً ما عاد وتكرر في 2005 مع اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.

منذ ذلك الحين، تكرس نفوذ صريح للخارج وتثبيت لـ"وضع قائم" (statut quo) في الداخل اتخذ شكل "عيش مشترك"، أوشكل "سِلْم أهليّ" أو سمّه ما شئت لا ينفك يهزّ عند كل استحقاق.

وصحيح أنّ اتفاق الطائف أوقف إطلاق النار وأتاح عودة شيء من الحياة المدنيّة والعامة، ووضع خططاً طويلة المدى كضرورة العمل على إلغاء الطائفيّة السياسية وتشكيل مجلس شيوخ وغير ذلك مما بقي حبراً على ورق، فيبقى أنه حصر الحكم بيد الرؤساء الثلاثة (الترويكا: أي رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء)؛ ما يجعل التفاهم والتوافق بين هؤلاء كأفراد يشمل المؤسسات التي يمثلونها، وهذا ما يتناقض جوهرياً مع فكرة الديمقراطيّة، وما أدى عملياً أن يبقى رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في منصبه منذ 1992.

وتعتبر أيّة محاولة للتفكير ببديل يضمن تداول السلطة كحق دستوريّ، أو مطلب بالمحاسبة العامة تهديداً للسلم الأهليّ، تماماً كما هي قضيّة سياديّة كسلاح حزب الله أو قرار الحرب والسلم الذي لا تملكه الحكومة المركزية؛ الأمر الذي يضعنا كبلد في حالة دائمة من حكم الضرورة والمؤقت.

خلاصة القول إنّنا بعد نحو 30 عاماً على اتفاق الطائف نجحنا في وقف الحرب، لكننا فشلنا في إدارة السلم والانتقال الحقيقيّ إلى تداول السلطة وتشاركها.

إنّه اتفاق يقيم توازناً هشاً بين المكونات اللبنانية ويستمد شرعيته فقط من كونه أنهى الحرب الأهلية ليعتاش حراسه على التهويل الدائم باحتمال عودتها وتسخير كافة مقومات البلد لتغذية هذه المخاوف.

وإن كان ذلك يدلّ على شيء، فعلى أنّ "الطائف" كـ"عقد اجتماعيّ" فشلَ بالنسبة إلى اللبنانيين، وجاء أقرب الى معاهدة لوقف إطلاق نار ضرورية لا شكّ، لكنها لم تتحول رافعة لمشروع وطنيّ عابر للهويات الضيّقة وقادر على رسم مصير وطني مشترك يجعل من لبنان حقيقة وطناً نهائياً لـجميع أبنائه.
بيسان الشيخ

كاتبة وصحافيّة لبنانيّة.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.