Print this page

المقاتلات الأجنبيّات: هل هناك جهاديّة نسويّة؟

17 شباط/فبراير 2018
 
[هذه هي المادّة العاشرة من ملف ينشره موقع "العالم" عن المقاتلين الأجانب في الشرق الأوسط، للمادّة الأولى اضغط هنا، وللثانية هنا، وللثالثة هنا، وللرابعة هنا، وللخامسة هنا، وللسادسة هنا، وللسابعة هنا، وللثامنة هنا، للتاسعة هنا].
إنّ السلك الناظم لكتاب عاشقات الشهادة: الجهاديّة النّسويّة من القاعدة إلى الدّولة الإسلاميّة لمؤلفيْه حسن أبو هنيّة ومحمد أبو رمّان، المُحدّد في موضوعه، الكبير في حجمه، هو معارضة ومخالفة، مجمل التفسيرات والفرضيات المطروحة والمتداولة، إعلامياً، ومن قبل العديد من الدارسين، بخصوص الظاهرة الجهادية عموماً، وظاهرة الجهاديات النساء خصوصاً؛ الظاهرة التي ظهرت على نحو بارز وغير مسبوق في حالة "تنظيم الدولة الإسلامية"، خلال السنوات الأخيرة. حيث يرى أبو هنية وأبو رمّان أن غالبية التفسيرات المطروحة فيها اختزال وتسطيح كبير للظاهرة المركّبة، مما يحول دون فهمها، وفهم الأسباب الكامنة خلفها، بشكل موضوعيّ.

ويأتي في مقدمة الطرح المرفوض عند المؤلفَيْن، ما تردد في الوسائل الإعلامية، سواء منها العربيّة التي اعتمدت تسميات تكرر استخدامها واقترنت بالظاهرة، كـ "عرائس الجهاد"، و"جهاد النكاح"، ذلك المسمى الذي أطلقه لأول مرّة وزير الداخلية التونسيّ الأسبق لطفي بن جدو، لتصبح بعد ذلك مقولة رائجة إعلامياً، إلى أن تبنتها وروجتها أعمال درامية، كمسلسل "سيلفي" السعودي، الذي عُرض لأول مرّة صيف العام 2015، على شاشة قناة "إم بي سي". أو حتى التوصيفات التي روّج لها الإعلام الغربي، كـ "غسيل الدماغ"، الذي اعتمد لوصف وتفسير حالة تجنيد الشابات الأوروبيات عبر شبكة الإنترنت.
 
نقد الثقافويّة

والمؤلفان إذ ينطلقان في البحث خلف الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الجهاديات فإنهما ينتقلان أيضاً للبحث في عموم الظاهرة الجهادية، حيث يؤكد أبو هنية وأبو رمّان على مخالفتهما للفرضيات والتفسيرات الأشهر والاكثر رواجاً بين العديد من الدارسين والباحثين. ويأتي في مقدمة ذلك معارضتهما التامة للأطروحات "الاستشراقيّة"، معتبرين أنها مقاربات "ثقافويّة"، تستند الى منظورات جوهرانيّة عن الذات العربيّة والمسلمة. وهما هنا يشيران الى أعمال أوليفيه روا الأخيرة التي ادعى فيها تجاوز الأطر الاستشراقيّة الثقافويةّ والانتقال الى البحث عن تفسيرات سوسيولوجيّة لدوافع الجهاديين، ولكن المؤلفَيْن يريان بأن روا لم يخرج عن حدود المقاربة الاستشراقيّة ومبادئها في الحفر عن جذور الظاهرة الدينية في الإسلام. حيث إنّه يذهب الى أن العمل الانتحاري هو فعل عدمي على المستوى الجيوسياسيّ، ليتبنى بعد ذلك مقولات ثقافويّة، كمقولة "الشهيد الشيعيّ"، التي أطلقها فرهاد خسروفار في تحليله لمشهد إقدام شباب الثورة الإيرانيّة بعد إحباطهم من مآلات الثورة، على الموت بشكل عدميّ، خلال الحرب العراقية-الإيرانية. إذ إنّ "الشهيد الشيعي" بحسب خسروفار الشهيد العدمي، وهو ما يرى روا بأن الشهيد السني بات لا يختلف عنه.

ويستعين المؤلفان بالأنثروبولوجيّ طلال أسد لنقد الأطروحات الاستشراقيّة بخصوص "الجهاد"، حيث قدم أسد نقداً -يراه المؤلفان مهماً- للتفسيرات القائمة على استدعاء دوافع دينيّة ثقافيّة تستند إلى مفهوم "الشهادة"، و"التضحية"، و"المقدس". إذ تعتبر وجهة النظر السائدة غربياً بأن التفسير "الجيد" هو التفسير الذي يؤكد على الدوافع الدينية والثقافية، وهو ما يرى أسد بأنه يساعد على تدعيم خطاب "حماية الحضارة" من ثقافة "البرابرة" التي تتميز بحب الموت، بحيث إنّ التفجيرات الإسلاميّة في نظر المعلقين الغربيين ليست سوى تعبيرات عنيفة عن إسلام شمولي منحرف، أو عن حافز ديني "لا عقلاني". حيث يعارض أسد كل ذلك ويجادل بأن "المفجّر الانتحاري" ينتمي إلى تراث غربي حديث قائم على اعتماد الصراع المسلّح كسبيل للدفاع عن الجماعة السياسية.
 
والمؤلفان عند معارضتهما للمقاربات الاستشراقية، فإنهما يشيران بالمقابل إلى ضرورة الحديث عن العوامل "الحقيقيّة"، والتي هي بالضرورة "غير ثقافويّة"، والتي يحصرانها في سببين أساسيين، لا يزال المؤلفَان يرددانهما في كل مناسبة خلال السنوات الأخيرة، وهما: الاستبداد، والطائفية، اللذان اتسم بهما النظام السياسيّ في الدولة العراقية الجديدة بعد 2003، وفي سوريا. وهما إذ يقولان بهذين السببين فإنهما يقدمانهما على أنهما غاية التفسير ومنتهاه، دون خوض في التفصيل والشرح للكيفيّة والآليّة التي يتم تجاوزهما عبرها، باستثناء تقديم "الديمقراطيّة" على أنها البديل وسبيل الخلاص. وبالطبع، فإن الحديث عن "الديمقراطية" يحمل إحالة ضمنية للصيغة الغربية منها، ولكن دون أي حديث من المؤلفَيْن عن أي خصوصية واختلافات في السياقات الخاصة بالنظم السياسية للمنطقة.

المنحى السوسيولوجيّ الرمزي

وبالإضافة الى معارضة المقولات الصحفية الرائجة، ومعارضة التفسيرات الاستشراقية الثقافويّة، يذهب المؤلفان أيضاً إلى معارضة التفسيرات "الماديّة"، والتي يرون فيها أيضاً تسطيحاً واختزالاً للظاهرة، وهي الأسباب التي عادةً ما تربط الظاهرة بالفقر، والبطالة، وتردّي الأحوال المعيشيّة، حيث يعرضان هنا نموذج الطبيبات السودانيات الثريّات، المقيمات في بريطانيا، واللواتي هاجرن إلى أراضي تنظيم الدولة والتحقن به، فهنّ لا يعانين من أيّ صعوبات مادية ومع ذلك توجهن للتنظيم وانجذبن له؛ وهو النموذج الذي تكرر في عديد الحالات من المقاتلات العربيات والأوروبيات.

حيث ينطلق المؤلفان من هذ النقد إلى تبني النموذج التفسيريّ الأكثر تفضيلاً لديهما، وهي التفسيرات السوسيولوجية ذات المنحى الرمزي، والتي تتركز بالأساس وتتمحور حول مسألة "الهوية"، والتي يميل المؤلفان إلى أن تنظيم الدولة استطاع الاشتغال عليها من خلال توفير نموذج يقوم على أساسها، وهو ما شكل عامل الجذب الأول للجهاديين والجهاديات. فتنظيم الدولة قدم مشروعاً جديداً، يختلف عمّا كان يقدمه تنظيم القاعدة، ويقوم هذا المشروع على استبطان "يوتوبيا" متخيلة، تصوّر نفسها على أنها أرض الأحلام، وأرض "الخلافة"، وهي الصورة التي تخلق وتعزز سؤال الهوية لدى الشباب في ظلّ ظروف سياسية وثقافية ولحظة تاريخية تدفع بالاتجاه نفسه.

وينطلق المؤلفان من نفد التفسيرات المادية إلى نقد هيمنة المنظورات "الوضعية"، والتي تقوم على فصل العالم المرئي عن اللامرئي، وتفسير دوافع الأفعال ضمن الرهانات الدنيويّة. حيث يرى المؤلفان بأن الجهاديين لا يفصلون بين العالمين، بل إنهم يتداخل عندهم الدنيويّ بالأخرويّ، والمادي بالرمزي؛ ويتجلّى ذلك في "الشهادة"، والتي هي طريق العبور من الدنيا الى الحياة الآخرة.

وهكذا، يرى المؤلفان بأن تقديم تنظيم الدولة لمشروع جهادي جديد أكثر انسجاماً مع "الهوية المتخيلة"، هو عامل الجذب الأساس للمقاتلات الأجنبيّات، حيث قدم التنظيم مشروعاً مختلفاً عن مشروع القاعدة والتنظيمات الجهادية السابقة، سواء ما كان في نموذج "الجهاد المحلي"، منذ السبعينيات، و"الجهاد التضامني"، خلال الثمانينيات والتسعينيات، كما في الجهاد الأفغاني أو البوسنوي، أو نموذج "النكاية"، كما كان مع تأسيس "الجبهة العالمية لجهاد اليهود والصليبيين"، نهاية الألفية الماضية. حيث كان طابع الجهاد ذكورياً، ولم تكن المرأة تلتحق فيه إلا كمرافقة لزوجها، أو أحد أقربائها، ولم تسند لها أي مواقع في هياكل التنظيمات، واقتصرت الأدوار المناطة بها على الجانب الإسناديّ.

أما النموذج الذي قدمه تنظيم الدولة، وهو نموذج "أرض الخلافة"، أو"أرض الأحلام"، فقد داعب خيال النساء الجهاديات، اللواتي يحلمن بالحياة في ظل "دولة إسلاميّة" تنسجم قوانينها وثقافتها والحياة العامة والخاصة مع ما تؤمن به هؤلاء النسوة أكثر مما هو قائم في المجتمعات العربية، أو الغربية. وعليه، كان تجسيد "الدولة الموعودة" في مخيال الفتيات والشعور بوجود واجب يمكن القيام به من أجل الدولة الإسلاميّة المفترضة، هو عامل الهجرة الأول، وليس ما روجت له وسائل الإعلام من بحث عن إشباع رغبات جنسيّة مع المجاهدين (جهاد النكاح، عرائس الجهاد)، أو الجهل وسهولة التعرض لـ "غسيل الدماغ". بل إن شعور الفتيات بالغربة، وأحياناً بالعزلة في مجتمعاتهن، الغربية منها والعربية، وبروز سؤال الهوية الدينية، نتيجة عجز المجتمعات، وخصوصاً الغربية، عن دمجهن، كان الدافع الأول وراء الهجرة، خصوصاً بعد أن قدم التنظيم لهنّ النموذج والمجتمع البديل.
 
الدور التقليدي للمرأة الجهاديّة: إسناد ورعاية

وهكذا، وبالحديث عن النموذج الذي وفّره تنظيم الدولة، يشير المؤلفان في مواضع كثيرة من الكتاب إلى الاختلاف والتحوّل الأساسي بين تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة، وهو -كما تقدم- متمثل في أن التنظيم وفّر مشروعاً سياسياً ومجتمعاً بديلاً عن الحياة العلمانيّة التي تعيش فيها الفتيات، سواء في المجتمعات الغربيّة الحديثة، أو في ظل الأنظمة العربيّة العلمانيّة؛ وهو ما يرى المؤلفان بأن التنظيمات الجهادية الأخرى، وفي مقدمتها القاعدة، لم توفره. حيث استطاع تنظيم الدولة تجسيد يوتوبيا الخلافة، والدولة الإسلامية الموعودة، والتي لا تحتوي على أمراض الحداثة وعللها.

وبناءً على هذا التطور والاختلاف الجوهريّ، يفسّر أبو هنيّة وأبو رمّان سبب التوسع والتطور في الدور الذي لعبته "الجهاديّة النسائيّة" في التنظيم بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في التنظيمات الجهادية السابقة، سواء من ناحية الكمّ (عدد الجهاديات)، والنوع (الدور المناط بهن).

فبينما كانت جماعات الجهاد المحليّة، منذ ظهورها في السبعينيات، تتجه إلى التأكيد على الأدوار التقليديّة للمرأة، المتعلقة بالإنجاب، وتربية الأطفال، والعناية بالأسرة، وهو ما جعل المؤلفان يصفانها بـ "الجماعات الذكوريّة"، حيث استثنت تلك الجماعات النساء من هياكلها التنظيميّة. وهنا يعود المؤلفان إلى ما ورد في كتابات ورسائل منظري تلك الجماعات، وفي مقدمتهم أسماء كـ: شكري مصطفى، وصالح سرية، ومروان حديد، وعبد السلام فرج، للبحث والتأكيد على طبيعة الصورة التي رسموها فيما يخصّ حدود الدور الجهادي للمرأة.

ولم تعرف المرأة المجاهدة تطوراً في الأدوار خلال مرحلة الجهاد الأفغاني، حيث يعرض المؤلفان جانباً من كتابات منظّر المرحلة، الشيخ عبد الله عزام، والذي أكد على أن "النساء العربيات المهاجرات لا يجوز لهن أن بأتين دون محرم"، وعلى أن عملهن مختصّ بـ"التنظيم، والتحريض، والإغاثة"، وهو ما يرى المؤلفان أنه قد تجسّد في نموذج "أم المجاهدات في بيشاور"، وهي سميرة العواطلة، زوجة عبد الله عزام، حيث مثلت النموذج التقليدي للمرأة المجاهدة في حقبة الجهاد الأفغاني، باعتبارها زوجة لأحد المجاهدين وتقوم بدور المساندة، من تربية، ورعاية، وإغاثة.

وقد استمر دور المرأة عند هذه الحدود حتى مع تأسيس أسامة بن لادن وعبد الله عزام تنظيم القاعدة (عام 1988)، وخلال التسعينيات، حيث استمرت كتابات أهم المنظرين في تلك الفترة، كأبي قتادة الفلسطيني، وأبي محمد المقدسي، في التأكيد على الدور التقليدي للمرأة المجاهدة.

ويرى المؤلفان بأن أهم تطور في أدوار المرأة ضمن التنظيمات الجهادية جاء مع الألفية الجديدة وبالتحديد عن طريق يوسف العييري وشبكته في السعودية، المعروفة باسم تنظيم "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب". حيث اتجه العييري وتنظيمه إلى إسناد أدوار لوجستيّة في هياكله التنظيمية للمرأة، وخصوصاً فيما يتعلق بالأدوار الإعلامية، وجمع التبرعات. وقد بلغ الدور الإعلامي لجهاديات تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ذروته مع تأسيس "المكتب الإعلامي النسوي بجزيرة العرب"، والذي قام بإصدار مجلة "الخنساء"، وهي أول مجلة إلكترونية جهادية نسوية، حيث قامت المجلة بتقديم أدبيات تنظّر لانخراط المرأة في الجهاد، وتستشهد في ذلك بسِيَر أبرز الصحابيات المجاهدات، كالخنساء، وأم عمارة.
 
 
إقامة الدولة.. المرأة في الجبهة

ولكن التحول والتطور الأبرز جاء على يد أبي مصعب الزرقاوي، وتنظيمه "التوحيد والجهاد"، والذي عرف فيما بعد بـ"تنظيم الدولة الإسلاميّة"، وقد جاء هذا التطور -كما تقدم- مع التحول من نموذج "الجهاد التضامني" وجهاد "النكاية" (الجهاد العالمي: مواجهة العولمة العسكريّة الأمريكيّة)، إلى نموذج "الدولة"، حيث جرى الانتقال من حرب العصابات، و"النكاية"، إلى حروب السيطرة المكانية، و"التمكين" لإقامة الدولة وتأسيس الخلافة، كما اتجه التنظيم نحو دمج الأبعاد الجهادية المحلية والعالمية (قتال العدو القريب والبعيد).

وكل ذلك تطلب إسناد أدوار جديدة للمرأة في الجهاد. ويضاف إلى كل ذلك وجود عوامل موضوعية أخرى ساهمت في تطور مساهمة المرأة ودورها، ومن ذلك انخراط عدد من المجتمعات "السُّنية" الحاضنة للتنظيم في العراق، حيث ظهر "مجتمع الجهاد"؛ وهو ما استتبعه بالضرورة اكتساب النساء أدواراً جديدة. وكانت النقلة النوعية مع تنظير تنظيم الزرقاوي وسماحه باستدخال المرأة في الأعمال القتالية، وهو ما تُرجم بقيام عدد من "المجاهدات" بتنفيذ عمليات انتحارية نوعية. وهكذا، جرى التطور والانتقال مع تنظيم الدولة من حدود دور الدعاية الأيديولوجية الذي اكتسبته المرأة مع شبكة العُييري إلى القتال في الصفوف والجبهات الأمامية، من خلال تنفيذ العمليات الانتحاريّة.

وبعد سيطرة تنظيم الدولة على الرقة والموصل (عامَيْ 2013، و2014)، لم يعد "مجتمع الجهاد" مجتمعاً محلياً محدوداً، فقد أصبحت هناك مدن ومجتمعات كاملة تحت سيطرة التنظيم، وهو ما تطلب واستدعى استدخال المرأة في مجالات عديدة، كالصحة، والتعليم، والحِسبة، والدعاية والإعلام، كما ظهرت أدوار نوعيّة جديدة للمرأة في التنظيم، كالتنظير الفقهي، والذي نجده في نموذج "إيمان البغا"، دكتورة الشريعة السورية المقيمة في السعودية منذ العام 2000 حتى انضمامها إلى التنظيم.

ويرى المؤلفان بأن اكتساب المرأة الجهادية كل هذه الأدوار الجديدة، في مجتمع الجهاد الداعشي، هي بمثابة قمة التطور والتبلور لـ"النسائية الجهادية"، إذ إنّه قد تحققت بذلك المساواة التامة للمرأة مع مقاتلي التنظيم من الرجال.
 
الحركات الوطنيّة التحرّريّة الجهاديّة!

وتبقى أبرز المآخذ على سرد تطور أدوار المرأة في التنظيمات الجهادية، وهي كذلك واحدة من أهم النقاط التي تؤخذ على عموم الكتاب، هي وضع تنظيمات المقاومة الفلسطينية، بكل خصوصيتها وبسياقها المختلف، في إطار الظاهرة الجهاديّة؛ وذلك في إطار سرد بداية تشكل ظاهرة النساء المجاهدات، وقيام الجهاديات بالأعمال القتالية، وذلك من خلال ذكر العمليات الاستشهادية التي نفذتها استشهاديات من حركتي حماس والجهاد الإسلامي خلال الانتفاضة الثانية. بل إن المؤلفين ذهبا إلى تسمية حركات المقاومة الفلسطينيّة بـ"الحركات الوطنية التحررية الجهادية"، واعتبرا صراحةً أنها تمثل بداية ظاهرة "النسائية الجهادية" (انظر ص189).

وبالعودة إلى تنظيم الدولة، يلفت المؤلفان إلى تنبه التنظيم وإدراكه التام لطبيعة التطورات والتحولات التي استطاع صياغتها في الحالة الجهادية، وهو ما عملت الأجهزة الإعلامية للتنظيم على استثماره وتوظيفه، وخصوصاً فيما يتعلق بقنوات وأساليب التجنيد، وذلك من خلال لعب الآلة الإعلامية للتنظيم بشكل دائم على ثيمة "الهوية الإسلامية"، وترويج فكرة الهجرة إلى أراضيه بوصفها "الدولة الإسلامية الموعودة". حيث يرى المؤلفان بأن التنظيم قد أحسن العزف على الرمزية والمخيال الإسلامي بمهارة، واستطاع توظيف المظلومية التي يتعرض لها المسلمون، وحلم تطبيق الشريعة.
 
 
التجنيد وآلياته.. من العوالم الافتراضية الى علاقات القرابة الاولية

وبالحديث عن التجنيد والآليات المتبعة من قبل التنظيم، يشير المؤلفان إلى تنوع الأساليب المتبعة من قبل التنظيم، والتي تتنوع ما بين أساليب التجنيد عبر العوالم الافتراضية (الانترنت)، وهي التي كانت أكثر فاعلية في الولايات المتحدة وأوروبا، وصولاً إلى التجنيد عبر شبكات العلاقات الإجتماعية، والتي تتنوع ما بين علاقات القرابة الأولية، وهو النموذج الذي كان الأكثر فاعلية بين أتباع التنظيم داخل السعودية، والذي كان قد اشتغل عليه الزرقاوي في تأسيسه لـ "مجتمع الجهاد"، منذ تأسيس تنظيم "التوحيد والجهاد"، وذلك من خلال علاقات الزواج والمصاهرة، حيث نجد أن العديد من جهاديات التنظيم منذ مرحلة التأسيس الاول، كُنّ زوجات أو أشقاء لمجاهدين، وقد تكون "ساجدة الريشاوي"، من أشهر الأمثلة على ذلك، حيث كان شقيقها "ثامر الريشاوي" أحد قيادي التنظيم، كما كان زوجها "علي الشمري" أحد مقاتليه البارزين.

وبالحديث عن شبكات العلاقات الاجتماعية ودورها في عمليات التجنيد للتنظيم، يتطرق المؤلفان الى الأنثروبولوجي الأمريكي سكوت أتران ومفهوم "النادي الاجتماعي" الذي طوّره، والذي عنى به أتران: شبكة العلاقات الاجتماعية الرئيسة، بما تشتمل عليه من قرابات الدرجة الأولى من الأشقاء، والأزواج، والأبناء، والأخوال، ثم "العلاقات البينية"، والتي تتركب على تلك العلاقات الأولية، عن طريق المصاهرة، والصداقة، والحوار، وما يصاحب كل ذلك من أنشطة اجتماعية مشتركة بين هذه المجموعات. كما يشير المؤلفان إلى نوع ومستوى آخر من شبكات العلاقات الاجتماعية وهي علاقات الصداقة، والتي كان الأنثروبولوجي الفرنسي جيل كيبيل أبرز من أشار الى دروها وفعاليتها الكبيرة في التجنيد، حيث كانت هذه الشبكات فاعلة أكثر في "الجهادية الأوروبية"، والفرنسيّة خصوصاً.
 
جهاديّة نسويّة، أم نسويّة جهاديّة؟

وتبقى نقطة أخيرة حول الكتاب وهي معضلة العنوان وتسمية "الجهاديّة النسويّة"، وهي إشكالية حاضرة عبر فصول الكتاب، فكيف يمكن ربط "النسوية" بـ"الجهاد"، ولكل منهما سياقات مختلفة ومتعارضة تماماً؟ حيث تفترض النسوية، في أبسط تعريفتها، تحرير المرأة من قيود المجتمعات، بينما تقوم الظاهرة الجهادية على تأسيس مجتمعات محافظة تكون مساهمة المرأة في مجالاتها وشؤونها العامة محدودة للغاية.

ولكنّ المؤلفَين يذهبان إلى اعتبار أن "النسوية" تعني بالأساس تحرير وتمكين المرأة وإعطائها أدواراً اجتماعية مهمة، ثم يشيران إلى ظهور مصطلح "النسويّة الإسلاميّة" منذ بداية التسعينيّات من القرن الماضي، بما اشتملت عليه من محاولات ومساعي لتحرير المرأة ضمن المجتمعات المسلمة، ولكنهما يلفتان الى أن "النسوية الإسلامية" بقيت مسمى يجمع طيفاً واسعاً، كما أن مرجعيتها كانت من مصادر مختلطة علمانية، ودينية. وهنا يتحدث المؤلفان عن ظهور نوع آخر من الكتابات التي تناولت "قضية المرأة" من الزاوية الإسلامية، وهي التي ظهرت على أيدي "الجهاديات"، وهم المؤمنات بـ "الجهاد" والفكر والمنهج السلفي الجهادي، حيث اتجهت هذه الكتابات إلى الرفض التام لأطروحات "النسوية الإسلامية"، باعتبارها خاضعة لاشتراطات النسوية الغربية المعولمة، حيث يدرج المؤلفان هذه الكتابات تحت مسمى "الجهادية النسوية"، مشيرين إلى أن الدافع الأساسي لـ"الجهادية النسوية" هو استعادة الهوية، وحمايتها من الغزو الخارجي، والتخريب الداخلي. ويعرض المؤلفان جانباً من الكتابات "الجهادية النسوية"، لنجد بأنها متمحورة حول الدعوة لاستعادة واستحضار نماذج الصحابيات المجاهدات، كنموذج الخنساء، وأم عمارة.
خالد بشير

كاتب وباحث من الأردن. مهتم بالبحث في العلاقات الدولية، والنظم السياسية، والتاريخ السياسي. وأنهى الماجستير في العلوم السياسيّة بالجامعة الأردنيّة.

مواد أخرى لـ خالد بشير

ذات صلة