المُحددات السياسية والاجتماعية والدينية "للجهادية" الفرنسية

02 شباط/فبراير 2018
 
[هذه هي المادّة الخامسة من ملف ينشره موقع "العالم" عن المقاتلين الأجانب في الشرق الأوسط، للمادّة الأولى اضغط هنا، وللثانية هنا، وللثالثة هنا، وللرابعة هنا].
منذ عقود، والمؤلفات الصادرة في الساحة الأوروبية [الفرنسية نموذجاً] حول الإسلام والمسلمين تصدر عن أقلام بحثية أو إعلامية أوروبية حصراً، مع حالات خاصة جداً لأقلام بحثية محسوبة على التداول الإسلامي. ولكن تطورات الساحة هناك، ومعها ظهور أقلام بحثية تنتمي إلى الجيل الثاني أو الثالث للمهاجرين المسلمين، أو من الباحثين المسلمين الذين يقيمون هناك، تفسر ضمن أسباب أخرى، صدور مجموعة من الأعمال البعيدة في مضامينها عما كنا نعاينه في مضامين الإصدارات سالفة الذكر، سواء كانت مُنصفة أو مُتحاملة، جدية أو متواضعة، مدافعة عن طرف ما أو متخذة مسافة نظرية وتنظيمية من الفرقاء.

في هذا السياق، يأتي هذا العمل حديث الإصدار، من تأليف الباحث رشيد المناصفي[1] بعنوان: "أطفالنا المفخخون: بين الانحراف والتشدد"[2]، وتضمّن مقدمة وثلاثة أبواب جاءت عناوينها كالتالي: "المسلمون أولى ضحايا الإرهاب"؛ "من تاريخ الجهاد إلى الجهاد المعاصر"؛ "حلولنا أمام التشدد"[3].

"ما الذي جرى بالضبط حتى وصلنا إلى هذه الاعتداءات التي طالت فرنسا خلال السنين الأخيرة، في بلد اشتهر بأنه بلد حقوق الإنسان والتسامح؟ وهل هناك مقابل لهذا الوضع في الناحية الأخيرة للبحر المتوسط؟": بهذا الأسئلة وغيرها، يفتتح المؤلف سفره البحثي الذي يقترب من مقام "النموذج التفسيري المُركب"، بتعبير عبد الوهاب المسيري، ونقصد بذلك، تناول الحالة "الجهادية" أو "التطرف العنيف" في التداول الفرنسي، دون التركيز على مُحدّد واحد على حساب باقي المُحددات، كما نقرأ في أغلب ما يصدر عن أعمال أخرى، من قبيل ما يصدر عن الباحثين جيل كيبل[4] وفرانسوا بورغا[5]: الأول متخصص في التركيز على المُحدد الديني دون سواه، مقابل تقزيم المُحددات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ والثاني متخصّص في التركيز على البُعد السياسي دون سواه، مع تقزيم المُحددات الدينية والاجتماعية والاقتصادية.
 
مفاتيح تفسيرية للحالة "الجهادية"

مع مطلع الباب الأول، يكشف المؤلف عن مفتاحه التفسيري للحالة "الجهادية" لدى الشباب المسلم في القارة الأوروبية، من خلال اشتغاله بالتحديد على الحالة الفرنسية، من منطلق أن فرنسا تضم أكبر عدد من المسلمين في أوروبا، ويُناهز عددهم ستة ملايين، مؤكداً في هذا السياق أن التديّن الإسلامي المتشدد، حسب المؤلف، هو حصيلة تفاعل عدة أسباب، يتداخل فيها البعد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهي أسباب وأزمات يمرُّ منها العالم بشكل عام، ومن مؤشرات هذا التأزم، صعود أسهم الأحزاب السياسية اليمينية والشعبوية، والتقوقع الهوياتي والطائفي. [18]

بالتوقف مثلاً عند الأسباب الاجتماعية والثقافية، يرى المؤلف أنه مع أحداث 11 سبتمبر 2001، تأكدنا حينها ولاحقاً أننا ننتقل من حقبة إلى أخرى، نظرياً فقط، لأنه من الناحية العملية، كنا نتصرف في مرحلة ما بعد الاعتداءات كأن شيئاً لم يتغير. وبالنتيجة، لم نُغير طرق تربية الأطفال، ولم نعلمهم القيم الإنسانية المغذية لخيار التعايش المشترك، وتركناهم لعنف العالم الرقمي والمنابر التلفزيونية الدينية وغيرها من التحولات الاجتماعية والثقافية. [19]

هذا مُحدد واحد يتقاطع مع مُحدد التعامل الرسمي الفرنسي مع قضايا المسلمين. حيث اتضح أن تفاعل بعض المؤثرين في صناعة القرار هناك مع المسلمين، لم يختلف كثيراً عن التفاعل المعادي للسامية الذي كان سائداً بشكل يومي في النصف الثاني من القرن العشرين. والحال، يضيف المؤلف، إذا فقد أطفالنا الثقة في وطنهم، فمعنى ذلك، أنه هناك أشياء ما ليست في محلها، تُترجم أزمة خطيرة ترفض الاعتراف بها، لأننا جاهلون بها، أو لأننا نخاف منها، لتنتقل فرنسا من زمن كانت نموذجاً رائداً في التقدم الاجتماعي، نحو دولة على حافة الإفلاس الأيديولوجي.

لم يستوعب صناع القرار في فرنسا أنه لا يمكن اختزال المواطنة في الحصول على بطاقة التعريف الوطنية[6]، ولا في عهد الازدياد (الميلاد)، ولا في جواز السفر، لأن الوطنية إحساس ومشاعر بالانتماء والانخراط في بناء مجتمع ووطن، وهذا الإحساس بالتأزم اليوم في التداول الفرنسي لا نعاينه لدى شباب الهجرة (وغالبه مسلم المرجعية)، وإنما لدى الشباب الفرنسي بشكل عام؛ لأن الفرنسية العجوز لم تعد تهتم كثيراً بمصير هؤلاء الشباب.

أسباب هذا الإفلاس متعددة، منها أسباب خارجية، عنوانها معاناة العالم مع النموذج التنموي الليبراليّ، استفحال ظاهرة المجتمعات فائقة النزعة الاستهلاكية، استحواذ الشركات متعددة الجنسيات لاقتصاديات العالم، إضعاف السيادات الوطنية، ظرفية وسائل التواصل والتي أصبحت أشبه بدين جديد اليوم. [22]

ولكن فيما يتعلق بالأسباب الخاصة بالمسلمين -وقد توقف عندها المؤلف مراراً في البابين الأول والثاني من الكتاب- نجد في مقدمتها سؤال الإدماج، حيث يدعو المؤلف عامة وخاصة المسلمين في فرنسا، لكي يطرقوا باب الإدماج، والبحث في أسباب فشل السياسيات التي مَيزت أداء أغلب الحكومات الفرنسية المتعاقبة، وهو الفشل الذي مهّد لسقوط الشباب في اتجاهين اثنين: إما اتجاه الانحراف والإجرام؛ أو اتجاه الاستقطاب من طرف الخطاب الإسلامي المتشدد. [28] في تقاطع مع اجتهادات الباحث الفرنسي أوليفيه روا[7] الذي يتخذ موقفاً وسطاً من التحيز الذي يطال أعمال جيل كيبل وفرانسوا بورغا، حيث يرى روا أن مُميزات "الجهادية الجديدة" في فرنسا أنها أقرب إلى "أسلمة الانحراف"، وليست بالضرورة نتيجة تراكم في النهل من أدبيات "جهادية".

تفاعلاً مع الاعتداءات التي طالت فرنسا خلال السنين الأخيرة، يرى رشيد المناصفي، أن أحداث "شارلي إيبدو" أكدت أن "السرديات الصغرى" لمجموعة صغيرة، يُمكن أن تصبح "سردية كبرى" للجماعة ككل، والإحالة على كافة المسلمين في فرنسا، من الذين اختاروا الإقامة هناك، أي اختاروا الإقامة والوطن. ولكن هذا الأخير، وبالتحديد النظام السياسي الجمهوري، لم يضعهم في صلب أجندته، وبالتالي لم يملك أجوبة على الأسئلة المتداولة لدى الشباب، ذات الصلة بالإيمان والأخلاق والمعنى، بينما وجدوا أجوبة اختزالية وجاهزة عند الخطاب الإسلامي المتشدد. [29]
 
 
من التحديات الأخرى التي يمر منها التديّن الإسلامي في فرنسا، أن هذه أنماط من التديّن تمرُّ من تحولات لا تختلف كثيراً عن التحولات التي طالت التداول العربي الإسلامي، منها تراجع التديّن الصوفي، وهو التديّن الذي كان يتميز بالرهان على التأمل والحكمة، موازاة مع صعود مؤشرات تديّن محافظ ولكنه لا يُجسد تهديداً ولا يثير قلاقل.

وخصَّ المؤلف بالذكر تديّن جماعات "الدعوة والتبليغ"؛ ومقابل هذا الأفول الصوفي والحضور التبليغي، نُعاين صعود أسهم تديّن حركي منغلق ومتشدد، ساهمت مجموعة من الفضائيات الخليجية في الترويج له.[32] ونضيف معه الأخطاء التي ارتكبتها الدولة الفرنسية، وخاصة في منتصف حقبة التسعينيات من القرن الماضي، عندما رفضت الاستماع لقضايا ومشاكل المسلمين هناك، فكانت النتيجة أن بعض المسلمين تفاعلات من جماعات وتيارات دينية لديها حسابات فوق وطنية، وهي جماعات لا علاقة لها بالتدين الإسلامي الذي يُميز منطقة المغرب العربي أو شمال إفريقيا، بمقتضى أن أغلب مسلمي فرنسا ينحدرون من تلك المناطق، وخاصة من الجزائر والمغرب وتونس والسينغال ومالي. [32]


ومعلوم أن التديّن الإسلامي لدول وشعوب المغرب العربي لا علاقة له بالتديّن الإسلامي السلفي الوهابي ولا بالأحرى تديّن جماعة "بوكو حرام"، لولا أن بعض الفضائيات العربية، الدينية والإخبارية والثقافية وغيرها، راهنت على ترويج نمط واحد من التديّن، أصله "العرق العربي" ومتمركز على نظرة أصولية للإسلام. وهذا ليس بالمستجد في واقع الأمر حسب رشيد المناصفي، لأنه منذ قرون، وأهل الجزيرة العربية يسعون إلى تصدير تدينهم وتوحيده على عامة وخاصة المسلمين، وهم يجهلون أن الإسلام في فرنسا لا يمكن أن يقبل كلياً بمُميزات الثقافة الخليجية التي تنطبق أو تميز التديّن الخليجي المُرَوّج له عبر هذه الفضائيات. [33]
 
"التديّن الرقمي" والتغذية "الجهادية"

ما دمنا نعيش في "الزمن الرقمي"، وأخذاً بعين الاعتبار تبني المؤلف لنموذج تفسيري مُركب في قراءة "الجهادية الفرنسية"، فقد كان بَدَهياً أن يتطرق المؤلف للمُحدّد الرقمي في الظاهرة، وهذا ما نعاينه في عدة محطات من الكتاب.

في مواجهتها للتيارات الدينية المتشددة التي غزت فرنسا، وهي مواجهة انطلقت بشكل متأخر عما هو منتظر حسب المؤلف، لم تنتبه الدولة الفرنسية إلى دور الثورة الرقمية، وتأثير الفضائيات الدينية، وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. وبالنتيجة، إسلام السلام الذي يُروج له الخطاب الرسمي الفرنسي، وجد ولا يزال يجد صعوبة في أن يُصبح مُهيمنا وحاضراً بقوة مقارنة مع هول الأحداث الدموية التي عصفت بفرنسا خلال السنين الأخيرة [34]. وواضح أنه عندما لا يجد أطفالنا الأجوبة عن أسئلتهم الوجودية والدينية والنفسية، لدى العائلة أو الأئمة أو الدعاة المشهود لهم بالانفتاح والاعتدال، فطبيعي أن يجدوا أجوبة لدى الجماعات الدينية الحاضرة في الواقع المادي والعالم الافتراضي، ولهذا مهم الاستفسار عن أسباب هذا الغياب المؤسساتي للدولة الفرنسية، وللدول العربية المعنية بالتصدي للخطاب الإسلامي المتشدد [التطرف العنيف] في العالم الرقمي. [35]

ومع أنه لا أحد يملك مفاتيح الجنة والنار، لأنه وحده العلي القدير يعلم ما في القلوب، ولا أحد يعلم مصيره، اليوم أو غداً، ولا أحد لديه أجوبة شافية عن الأسئلة الوجودية التي تقوض مضجع المراهقين والشباب، إلا أن الخوض في هذه الأسئلة، هو ما يُميز ما يصدر عما اصطلح عليه المؤلف بـ"الإمام غوغل"، والذي يُساعد المتصفح على الظفر بأجوبة على الأسئلة سالفة الذكر، والأجوبة الأخرى المرتبطة بمعالم "المسلم الحقيقي"، و"الطريق على الجنة"، وهي أسئلة لا يمكن أن نتوقع أجوبة شافية عنها عند جميع الأئمة، خاصة أن الوظائف الدعوية للإمام تقتصر في الغالب على الوعظ والتوجيه. [118]

بينما تعج أدبيات "الجهاديين" بأجوبة لا حصر لها على هذه الاستفسارات، مُكرسة انطباعاً لدى البعض مفاده أن الإنترنت أصبح عدواً للإسلام، لأن الجماعات الإسلامية التي تعتبر أقلية تنظيمية في العالم الإسلامي، استغلت العالم الرقمي من أجل ترويج خطابها ومشروعها الديني المتشدد، وهو خطاب يُسيء للإسلام، مادام يتعالى على تعامل وأخلاق السواد الأعظم للثقافة الإسلامية، من طنجة إلى جاكارتا، مغذياً خطاباً طائفياً وغارقاً في التقوقع والحقد والكراهية. [120]
 
المُحددات المُرَكبة للإسلاموفوبيا

بقي المؤلف وفياً لخيار التفسير المركب في معرض التفاعل مع أسباب ظاهرة الإسلاموفوبيا، ومن ذلك، إقراره أن الإسلاموفوبيا تتحمل مسؤولية كبيرة في شحن خطاب "الجهاديين الأوروبيين"، وبالتالي تغذية خطاب "التطرف العنيف"، مع كثرة المؤلفات التي تسيء للإسلام والمسلمين، ومنها أيضاً صعود أسهم الخطاب السياسي اليميني والشعبوي، إضافة إلى حضور إعلامي مُصاب بما يُشبه الهوس الإسلام والمسلمين، ولكن هذا جزء من مشهد الأزمة اللصيقة بالمسلمين في فرنسا، وعنوانها الرئيسي مرتبط بالهوية والتربية والإدماج: [40] هناك ما يُشبه حالة تيه حقيقية يَمُرُّ منها المسلمون في فرنسا، عبر تكريس أزمة نعاينها في التداول العربي، هي الفصل بين الدين وروح الدين، وإذا لم تكن أفعالنا منسجمة مع أخلاق الباطن، فمعنى ذلك أن الإسلام سيبقى مختزلاً في الطقوس، من قبيل التعامل الاستهلاكي مع الصيام وتوظيف الرموز الدينية في الحملات الإشهارية والتواصلية أو شيء من هذا القبيل. [48]

هذا عن المطلوب من مسلمي فرنسا، أما المطلوب من المسؤولين في فرنسا، فعلى هؤلاء الوعي  بأن فرنسا توجد في منعطف تاريخي، فبعدما أن أبدعت سابقاً في التأقلم مع تحديات لا حصر لها، تجد نفسها اليوم في تحديات جديدة، وأهمها التعامل مع المؤسسات الدينية التي تمثل المسلمين. وإذا توفقت في التفاعل الإيجابي مع هذا المستجد، فسوف تصبح نموذجاً يُحتذى به في التداول الغربي والشرقي [42]، ويستشهد المؤلف باجتهادات المؤرخ الفرنسي ألكسيس دو توكفيل، وتحديداً، اشتغاله على سؤال "استبداد الأغلبية"، معتبراً أن هذا الاجتهاد مُهم في سياق التفاعل مع واقع الشباب المسلم المنفصل عن قيم النموذج المجتمعي الفرنسي، لأنه لا يجد نفسه في قيم الحرية، المساواة والإخاء، مما يُفيد أن المجتمع الفرنسي لم يستوعب هؤلاء الشباب كما يجب، أو أنه لا يرغب في ذلك. [46]
 
 
على فرنسا العلمانية أيضاً، ضمان الحق في حرية ممارسة الدين، وعدم الانخراط في التهويل الإعلامي من الممارسات الدينية للمسلمين هناك، لأن هذا التهويل يُشوش على المعتقد وبالتالي السلوك الصادر عن المتديّن، خاصة أن العلمانية تتميز، نظرياً على الأقل، بأنها تخول لأي كان بممارسة تدينه، ومع أن هذه الممارسات الدينية، (اليهودية والمسيحية والإسلامية) غالباً ما تتعرض للنقد في التداول الإعلامي الفرنسي، إلا أن هذا الإعلام، يتجاهل بأن الأخلاق الدينية للديانات التوحيدية الثلاث أخلاق تدافع وتنتصر لقِيم للسلم والطمأنينة وليس العكس. [59]
 
نقد "عولمة الجهاد"

بعيداً عن الصور النمطية التي تروجها العديد من الأقلام البحثية الغربية وحتى العربية حول الظاهرة "الجهادية"، ومِن ذلك اختزال المشهد فيما نُعاينه اليوم، دون الأخذ بعين الاعتبار تطورات ومُحددات الأمس، كان المؤلف صريحاً في تذكير القارئ ببعض "دروس الماضي"، منها أن حكاية الجهاد في أوروبا، تعود إلى عقود مضت، ولا ترتبط بما عايناه خلال السنين الأخيرة، ولا حتى ما عايناه بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، وبالتالي حكاية سابقة على المشهد الدموي في سوريا، مادامت تعود إلى منعطف 27 ديسمبر 1979، تاريخ الغزو السوفياتي لأفغانستان، بكل التبعات الاستراتيجية والأمنية والسياسية والدينية والثقافية التي تلت هذا المنعطف.

وبالنتيجة، هجرة الشباب الأوروبي إلى سوريا من أجل القتال لا تُجسّد مفاجأة، فمنذ سنوات وفرنسا أرضية خِصبة لتغذية الخطاب "السلفي الجهادي"، وخاصة منذ مطلع حقبة التسعينيات من القرن الماضي، وكانت ذروة هذه التغذية مع واقعة 11 سبتمبر 2001. [79]

ما جرى بعد الغزو السوفياتي، أننا تفرجنا على التلاعب الأمريكي بالإسلام، حيث تم تدريب وتكوين ودعم الآلاف من الشباب المسلم، دفاعاً عن أفغانستان، ولسان الأنظمة العربية والإسلامية والغربية التي مَوَلّت وأطرت يقول: "دعهم يرحلون عنا، ويُقتلون هناك" [83]. ليس هذا وحسب، فقد تكررت نفس الأخطاء التي تورطت فيها الدول الغربية والعربية بعد غزو العراق (2003)، كما عاينا ذلك بعد اندلاع أحداث "الربيع العربي" في معرض التعامل مع المشهد السوري، حيث فتحت الدول الأوروبية الباب للشباب للهجرة، سواء تعلق الأمر بشباب القاهرة أو تونس أو مارسيليا أو باريس. [94]

ومن هذه الأخطاء، نجد على الخصوص "توظيف الإيمان" [العقيدة] من أجل شحن المراهقين والشباب بـ"الحق في الجهاد" وبالتالي تغذية أجيال المجاهدين السابقين واللاحقين، ولذلك، كانت أغلب مساجد التداول الإسلامي، تروج للحق في الجهاد الأفغاني، وبدعم أنظمة العالم الإسلامي، في أكبر حملة دعاية مرَّ منها العالم الإسلامي خلال العقود الأخيرة، [82] لنجد أنفسنا أمام موجات من "الجهاد العالمي" (أو "الجهاد المعولم" بتعبير أوليفيه روا)، تطلب دعم مختلف الفصائل "الجهادية" للقتال في هذه المنطقة أو تلك، ضد هذا النظام أو غيره، وعبر الشحن العاطفي وإقناع الشباب الجهادي بأن ما يقوم به عمل بطولي وديني ودولي، وعبر "استيراد المجاهدين" من شتى بقاع المعمور.

حسب المؤلف، يوجد المسلمون الأوروبيون فيما يُشبه الأسر مع قاعات العبادة الجغرافية، المغربية أو الجزائرية أو التونسية أو التركية وغيرها، دون الحديث عن قاعات العبادة التابعة للجماعات الإسلامية، وواضح أن هذا الأسر يُشوش على إيمانهم، إضافة إلى تكريسه لواقع الانقسام والتباعد بين نفس أعضاء المجموعة المسلمة [164]، ومرد ذلك أن الدول المغاربة تنافس بعضها البعض على تمثيل الإسلام في المؤسسات الدينية، إلا أن هذه المنافسة تتم على حساب هواجس مسلمي فرنسا، لأنهم يجدون أنفسهم أمام "مساجد جغرافية"، تابعة مذهبياً لدول مغاربية أو مشرقية، وسوف يستمر الأمر على هذا الحال في انتظار الاشتغال الإسلامي الجماعي على تنصيب مفتي لكل دولة أوروبية، كحل مؤقت عوض هذه الفوضى الدينية السائد اليوم. [165]
 
مفاتيح نظرية لمواجهة "المُحددات الجهادية"

"من تاريخ الجهاد إلى الجهاد المعاصر"، هو عنوان الباب الثاني، حيث يؤاخذ المؤلف على العديد من صناع القرار، التأثر بالنزعة العرقية في التعامل مع المسألة الدينية، وهي النزعة التي بزغت على الخصوص في التداول الأوروبي ابتداءً من القرن الثامن عشر، مع ظهور عدة تيارات ومشاريع عرقية عنصرية في القارة الأوروبية، بل وصل الأمر إلى درجة تغذية هذه المشاريع بنظريات قيل إنها عِلمية، وساهمت هذه النزعة في "شرعنة" قرار الرجل الأوروبي الأبيض بخصوص الحق في حكم العالم، وليس القارة ومحيطها وحسب.

يوجد العرب ضمن هذا المحيط الأوروبي، صحيح أنه كانت هناك عدة آثار إيجابية لهذا الجوار، كما عاينا ذلك في شمال إفريقيا، من قبيل تكريس التثاقف أو الاستفادة من التجربة الإدارية والدستورية في تدبير الحكم؛ ولكن الوجه الآخر للعملة، والخاص بالتعامل مع المسألة الدينية، ورغم اجتهادات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، أن العقل الأوروبي استمر في التعامل مع الإسلام على أساس أنهم مجسد في "الإسلام العربي"، وأصبح العربي مُجسِّداً للإسلام، في تكريس لجهل سياسي كبير بالتعددية الدينية العرقية التي تُمَيز المسلمين، لأن هذا الإسلام المفترى عليه، لا يُختزل في العرب، وإنما هناك الإسلام الإفريقي والإسلام التركي والإسلام القوقازي والإسلامي الأسيوي.

هذا التشويش في الرؤية، ستكون له تبعات في تدبير الملف الإسلامي أوروبياً، ومنه ملف "التطرف العنيف"، مع ولادة أجيال جديدة من "الجهاديين".

نأتي للباب الثالث، وعنوانه: "مقترحاتنا في مواجهة التشدد"، حيث تضمن مجموعة من المفاتيح الموجهة لصناع القرار والباحثين والإعلاميين، وكل المعنيين بالتفاعل النظري مع أسباب "الجهادية الفرنسية"، على الأقل فيما يتعلق بالأسباب التي تهم التداول الفرنسي، ولو أن بعض هذه المفاتيح نُعاينها أيضاً في مضامين الباب الأول والثاني، إلا أنها جاءت مُركزة وجامعة في الباب الثالث، ويمكن إجمال أهم المفاتيح في اتجاهات ثلاث: إصلاح المؤسسات الدينية، إصلاح التعليم، المتابعة العائلية.

نبدأ بمفتاح يهم دور الأسرة والآباء، والذين يغالطون أنفسهم كثيراً، عندما يُعربون عن مفاجأتهم بمجرد الإعلان عن أن الأبناء الذين كانوا، حسب اعتقادهم، في رحلة سياحة لدول الأصل (المغرب العربي أو تركيا أو المشرق)، يتواجدون عملياً في إحدى المدارس الدينية المتشددة في اليمن أو باكستان، إلا إن كانوا غير مسؤولين، وبالتالي يتحملون جزءً من المسؤولين في هذا الانحراف الديني الذي طال المراهقين والشباب، وجعلهم فريسة بشرية للمشروع "الجهادي" العولمي.

بالنسبة لمفتاح التعليم والمدرسة، فلم يتوقف عنده كثيراً المؤلف، وبالكاد اقتصر على بعض الإشارات بين الفينة والأخرى، أهمها التذكير بأن التعليم يُساعدنا على التربية والتعليم، ولكنه لا يمكن أن يُعوض دور العائلة في تغذية وتربية الأطفال على القيم النافعة.

لنُعرج على مفتاح يهم التداول العربي الإسلامي، فالأحرى التداول الغربي الإسلامي، وعنوانه "الأغلبية الصامتة"، حيث يرى المؤلف أن مواجهة خطاب "التطرف العنيف"، يتطلب من هذه "الأغلبية الصامتة" أن تتحدث وأن تأخذ مسافة من مقام المتابعة واللامبالاة، خاصة أن نسبة الإسلاميين المُتشددين، تكاد تكون لا شيء مقارنة مع عدد المسلمين في العالم، ولكن بمقتضى هذه اللامبالاة، أصبحت هذه الجماعات في واجهة الأحداث العالمية، وتفعل ذلك باسم الإسلام والمسلمين. [39]

نأتي لواقع المؤسسات الدينية، وحظيت بمتابعة نقدية كبيرة في الأبواب الثلاثة للكتاب، ولو أن الغلبة النقدية جاءت في الباب الثالث، ونتوقف عند ثلاث إشارات نقدية صريحة واضحة:

أ ــ طالب المؤلف المؤسسات الدينية في فرنسا بتحمل مسؤوليتها العلمية والأخلاقية في مواجهة هذه التحديات، عبر الإجابة النظرية والعملية على الأسئلة التالية:
1 ــ ما معنى العلمانية في القرن الواحد والعشرين؟
2 ــ كيف ننخرط عملياً في أقلمة الرموز الدينية في الفضاء العام اليوم؟ وما تأثير ذلك على إيمان المسلمين؟ [41]

ب ــ كما وجَّه الدعوة إلى إصلاح هذه المؤسسات، لأن الدين الخاتم لم يكن يوماً دين الحرب ضد الكل، ولم يكن يوماً ديناً داعياً إلى القتل المجاني ضد الآخر غير المسلم، بما في ذلك المجتمع غير المسلم، والحال أن الإسلام اليوم، أصبح على هامش المدن والأحياء، ومحاصر بجماعات وتيارات ومشاريع. ولعل هذا الإصلاح المؤسساتي الذي لا بد أن يطال مُجمل المؤسسات الإسلامية في فرنسا، يكون فرصة لقطع الطريق على أشباه الدعاة، وخاصة دعاة الحقد والكراهية. [132]

ج ــ وأخيراً، وَجّه المؤلف الدعوة إلى تأهيل وتكوين الأئمة المسلمين، مُنبهاً صناع القرار في كل دولة أوروبية، بأن الرهان على تأهيل الأئمة بما يوافق الثقافات الأوروبية ومقتضى ثقافات المهاجرين والمواطنين المسلمين، يقتضي الرهان المؤقت والسائد اليوم، على تأهيل الأئمة غي بعض دول الأصل، كما هو جاري به العمل مع تأهيل أئمة فرنسا في المغرب، ولكن الحل المثالي والفيصلي، حسب المؤلف، يكمن في تأهيل هؤلاء الأئمة داخل الرقعة الأوروبية. [168]

حتى يكون ختامه مسكاً وليس نقداً، كما هو الحال مع أغلب مضامين الكتاب، نُعرج على دعوة المؤلف إلى الاشتغال الجماعي (للمسلمين وغير المسلمين في التداول الأوروبي)، على التأسيس وترويج فلسفة العيش المشترك، شرط ألا يكون ترويجها مرتبطاً بالاستحقاقات الانتخابية، لأنه لا أحد يُريد التأسيس لمجتمع منغلق على ذاته وغارق في الأمراض المجتمعية [133]، كما هو الحال اليوم، حيث يتجه العالم إلى المزيد من التأزم، وحينها، لا يسعنا سوى ترويج لبعض الأمل، من قبيل الدعوة على التعايش والتسامح، مع القريب والبعيد، مع الجار والشارع والعمل والعالم، عبر تقاسم الأفراح والأحزان، عبر الانخراط في المبادرات الجمعوية والثقافية وتشجيه الحوار بين أتباع الديانات.

الهوامش:

[1] كاتب وباحث مغربي، متخصص في علم النفس وعلم الإجرام، ويًقيم في السويد.
[2] Rachid El Mounacifi, Nos Enfants Piégés entre Délinquance et Radicalisation, Afrique Orient, Casablanca, 2017.
[3] جاء الكتاب في 190 صفحة، وسوف نحيل على أرقام الاقتباسات في متن المادة.
[4] أنظر مثلاً:
Gilles Kepel, La Fracture : Chroniques 2015-2016, Gallimard, Paris, novembre 2016, 288 pages.
وهذا رابط عرض مفصل في الكتاب: منتصر حمادة، جيل كيبل مفككاً "الثورة الثقافية" للجيل الثالث من الجهاديين، موقع "العالم" [alaalam.org]، بتاريخ 21 نيسان/أبريل 2017، انظر الرابط.
[5] أنظر مثلاً:
François Burgat, Comprendre l'islam politique, édition : La Découverte, octobre 2016, 310 pages.
وهذا رابط عرض مفصل في الكتاب: منتصر حمادة، فهم الإسلام السياسي: مسار بحث حول الآخر المسلم، 1973 - 2016، موقع "العالم" [alaalam.org]، بتاريخ 01 آب/أغسطس 2017، انظر الرابط.
[6] ليس صدفة أن الخطاب السلفي في مرحلة المراهقة، يُفضل الحديث عن بطاقة التعريف الوثنية. [المحرر]
[7] أنظر على الخصوص كتابه: "الجهاد والموت".
Olivier Roy, Le Djihad et la mort, Le Seuil, Paris, octobre 2016, 176 pages.
منتصر حمادة

باحث في الشأن الديني. منسق تقرير "حالة الدين والتدين في المغرب"، الصادر عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث. الرباط؛
رئيس تحرير مجلة "أفكار"؛
عناوين بعض الإصدارات: "في نقد تنظيم القاعدة: مساهمة في دحض أطروحات الحركات الإسلامية الجهادية"، 2010؛ "زمن الصراع على الإسلام"، 2011؛ "الوهابية في المغرب"، 2012؛ "في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجاً"، 2014.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.