الوطن وما فوقه؛ "ما بعد الإسلاموية" في السياق الأردني

13 تموز/يوليو 2018
 
[هذه هي المادّة التاسعة من ملف ينشره معهد العالم عن الإسلامويّة بعد الربيع العربيّ. للاطلاع على المادة الأولى هنا، والثانية هنا، والثالثة هنا، والرابعة هنا، والخامسة هنا، والسادسة هنا، والسابعة هنا، والثامنة هنا].
يتحدث زكي بني ارشيد في ورقة له نشرت مع مركز الجزيرة للدراسات عام 2016 عن قبول جماعة الإخوان المسلمين بـ "الدولة المدنية"، وهو ما يشير إليه من جديد في حوار أجراه مع صحيفة "العربي الجديد" قُبيل مشاركة الجماعة في الانتخابات النيابية العام ذاته. وفي ذات الاتجاه، وعبر صفحتها على تويتر، أقرّت ديمة طهبوب، النائبة المتحدثة باسم "التحالف الوطني من أجل الإصلاح" (الكتلة الانتخابيّة الممثل للجماعة)، ذات القبول، مع احتفائها بالورقة النقاشية الملكية السادسة، الصادرة بعد الإنتخابات بحوالي شهر، والتي تناولت المفهوم "الدولة المدنية" واعتبرت بأنها "دولة القانون والمؤسسات". في المقابل، عبّر همام سعيد، أحد أبرز رموز التيار المحافظ في الجماعة، مباشرةً بعد تصريحات بني ارشيد، عن رفض هذا المفهوم (الدولة المدنية)، مؤكداً أنه مصطلح "غربيّ" غير مقبول.

كانت هذه التصريحات على الجانب المعروف بكونه الأكثر محافظةً (الصقوري)، وفي المقابل، أشهَر الجانب الآخر الأكثر مرونةً عام 2013 مبادرةً باسم "المبادرة الأردنية للبناء"، قبل أن يتم ترخيصها كحزب لاحقاً في 2016، جاء في رؤيتها الحديث عن "بناء دولة مدنية حديثة بمرجعية قيمية إسلامية". وفي مطلع العام الجاري، أطلق "تيار الحكماء" (وهو التيار الذي يقدم نفسه باعتباره تياراً ينأى عن الاستقطابات الداخلية في الجماعة) بقيادة سالم الفلاحات (المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين) وعبد اللطيف عربيات (الأمين العام السابق لحزب جبهة العمل الإسلامي)، حزباً حَمَلَ الاسم "الشراكة والإنقاذ"، وجاء ضمن مبادئه الحديث عن: "دولة قومية الانتماء، وطنية الهوى، ملتزمة بثوابت الأمة ومعتقداتها".

ويتصدر خطاب الحزبين الأخيرين المصطلحين: "البرامجيّة"، و"الوطنيّة"، والعبارة: "فصل الدعوي عن السياسي"، حيث يشير المصطلح "البرامجية" أساساً إلى تجاوز الشعارات الإسلامية التقليدية ذات الطابع العقائدي والتي تتحدث عن إقامة دولة الإسلام وتحكيم الشريعة، بينما يشير "الوطنية" الى تجاوز الحديث عن الإطار الأممي والخلافة الجامعة، أما "فصل الدعوي عن السياسي" فيشير الى الاتجاه نحو العمل السياسي المحترف. وتعتبر هذه المضامين -بحسب العديد من الدارسين (روا، كيبيل، بيات، هاشمي، براون)- أساس خطاب حالة "ما بعد الإسلاموية" (أو: ما بعد الإسلام السياسي). فما هو السياق الذي تبلورت فيه هذه الخطابات في الحالة الأردنية؟
 
فصل الدعوي والخيري عن السياسي: اضطرار أم اختيار؟

تأسست جماعة الإخوان المسلمين في الأردن عام 1945، باعتبارها جمعية دعوية، ولم تُرخّص كحزب سياسي، وقد تعزز بُعدها عن العمل السياسي المحترف مع تأسيسها عام 1963 جمعية "المركز الإسلامي" الخيرية، والتي عززت التداخل ما بين العمل الخيري والدعوي والسياسي، وهي الجمعية التي تَضاعف حجمها عبر السنوات اللاحقة، فتولت ادارة ودعم مئات المدارس والمراكز الصحية ومراكز الأيتام، ما ساهم في إكساب  الجماعة قاعدة اجتماعية واسعة.

وفي عام 1970 بلغت القدرة الدعوية للجماعة ذروتها مع استلام القيادي إسحاق الفرحان حقيبتيْ وزارتيْ: التربية والتعليم، والأوقاف، وهو ما أدى لتضاعف تأثير الجماعة تربوياً وتعليمياً، على مستوى المدرسين والمناهج التعليمية، إضافة الى توسع النشاط الدعوي لمنتسبيها في المساجد.

وفي وقت لاحق، ونتيجة لازدياد حجم الجماعة وبداية ظهور الخلافات مع الدولة (كما ظهر في أحداث جامعة اليرموك، وفي خلاف الجماعة مع حكومة زيد الرفاعي وتوجهها لإعادة العلاقات مع سوريا) اتجهت الحكومة نحو إصدار قانون "الوعظ والإرشاد" عام 1986، والذي نصّ في المادة السابعة منه على عدم جواز القيام بأي نشاط دعوي في المساجد إلا بموافقة خطية من وزير الأوقاف أو من يفوّضه، حيث هدف القانون أساساً إلى تحجيم وتقييد القدرة الدعوية للجماعة.

وفي عام 2006، وفي غضون تصاعد الصراع ما بين التيارات الداخلية في الجماعة، وبعد سنوات من تحولها إلى الجسم المعارض الأكبر، اتجهت الحكومة لتجريد الجماعة من جمعية "المركز الإسلامي"، في عهد رئيس الوزراء المحافظ معروف البخيت، وذلك بعد توجيه تهم بالفساد لعدد من أعضاء مجلس الإدارة وإحالة الملف الى القضاء.
 
الحدود تُراب.. صعود الخطاب مافوق-الوطني في السياق الإسلامي

تأسست الجماعة في الأردن بمبادرة من عبد اللطيف أبو قورة، أول مراقب عام للجماعة، والذي كان عضواً فاعلاً في جماعة الإخوان المصرية، حيث جاء التأسيس بتنسيق وتواصل مع الشيخ حسن البنا، وفي عام 1948 شارك عدد من المنتسبين للجماعة في حرب فلسطين. وخلال فترة الوحدة بين الضفتين، منذ العام 1950، اختلطت كوادر الجماعة من الضفتين في إطار تنظيم واحد، واستمر الحال كذلك بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967 وخضوعها للحكم العسكري. وفي عام 1978، تأسس تنظيم "بلاد الشام" ليكون جامعاً للإخوان المسلمين في فلسطين والأردن، والمتواجدين منهم في دول الخليج، ولدمجهم في إطار الجماعة المسجلة في الأردن. وهكذا، لم تكن للحدود القُطرية والإطار الوطني دلالة سياسية واضحة عند الجماعة منذ نشأتها وحتى فترة متأخرة.

وقد شهدت الفترة منذ نهاية السبعينيات وخلال الثمانينيات تصاعداً للخطابات الجهادية العابرة للوطنية، ففي العام 1979 اندلعت انتفاضة الإخوان المسلمين في سوريا، والتي قَدَم الأردن لها مختلف أشكال الدعم والإسناد، فوفر الحاضنة لمعظم قيادات وأعضاء الإخوان اللاجئين إليه أثناء الأحداث وبعدها، قبل أن يختلطوا بالجماعة الأردنية ويصيروا جزءاً منها.

وفي ذات العام كانت الحرب قد أُعلنت ضد التدخل السوفياتي في أفغانستان، والتي جاءت تحت شعارات جهادية، وهنا نجد عبد الله عزام، أستاذ الشريعة المنتسب للجماعة، يتوجه لباكستان مطلع الثمانينيات ويفتتح مكتب الخدمات، الذي استقطب المجاهدين من الدول العربية، ومن بينهم أعضاء من جماعة الإخوان الأردنية، حيث كانت رؤية الحرب الافغانية باعتبارها ساحة للجهاد، هي السائدة بين أعضاء الجماعة.

وفي عام 1987 اندلعت أحداث الانتفاضة الأولى، حيث استمر وتجدد صعود الخطاب الجهادي العابر للوطنية وهذه المرة في سياق فلسطيني، وانخرط عدد من أعضاء الجماعة في عمليات جهادية/فدائية. وكان أهم ما حملته الانتفاضة على الصعيد الإسلامي انطلاقة "حركة المقاومة الإسلامية" (حماس)، والتي تشكلت باعتبارها جزءاً من "تنظيم بلاد الشام"، وتابعاً لـ"جهاز فلسطين" الذي كان التنظيم الدولي للإخوان قد أسسه عام 1985، قبل أن تتضخم وتستقل مع تصاعد أحداث الانتفاضة.

عملت الانتفاضة على تصعيد خطاب جهادي متجاوز للقطر الأردني، يقوم على تصور ديني لـ"الحرب مع اليهود"، والتي تكون الأراضي الأردنية فيه "أرض الحشد والرباط"، فيكون مجرد "ساحة" من أجل دعم وإسناد المعركة على أرض فلسطين، وهو ما سيتم استنكاره بشدّة لاحقاً في خطاب التيارات الحمائمية المستقلة عن جسم الحركة، من المتجهين لإعطاء الأولوية التامّة للعمل الوطني والشأن الداخلي.
 
تبلور الإطار القُطري.. وصعود الخطاب الوطني

على صعيد آخر، كانت سيرورة بالاتجاه المغاير قد انطلقت خلال السنوات ذاتها، وذلك مع إعلان الملك حسين قرار فك الإرتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية في تموز/يوليو عام 1988. وهو ما بدا كنوع من التمهيد للاعلان اللاحق في تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته، عن قيام دولة فلسطين، في مؤتمر القمة العربية المنعقد في الجزائر.

أسس الإعلانان لأرضية قانونية-سيادية جديدة، ينفصل فيها العمل السياسي في كل من الأردن وفلسطين، حيث بدأت ملامح المجال السياسي في كل من القطرين تنحو نحو الاستقلال والانفصال، وهو ما تُرجم على الأرض منذ العام التالي، مع إجراء الانتخابات النيابية الأردنية في دوائر انتخابية اقتصرت على الضفة الشرقية للمرة الأولى منذ العام 1950.

وقد تعزز انفصال المجالين السياسيين بعد خسارة العراق، الطرف الذي راهن عليه الأردنيين والفلسطينيين، في حرب الخليج الثانية، عام 1991، فبدأت تتصاعد مسارات عملية التسوية والسلام، مع محادثات مدريد عام 1991، ومن ثم توقيع الجانب الفلسطيني لاتفاقية أوسلو عام 1993، والتي انبثقت عنها سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية (على أمل تطورها إلى دولة لاحقاً على حدود 67)، قبل أن يوقّع الجانب الأردني اتفاقية وادي عربة في العام التالي.

وقد تعزز الانفصال من جديد لاحقاً، كما حصل بعد نهاية الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2005، مع إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، والتي حملت انتصاراً لحركة حماس، وهو ما عزز انخراط الحركة في النظام السياسي الفلسطيني، وكما حصل بعد تعديل ميثاقها عام 2017 حيث دخلت الحركة أكثر في إطار منظومة أوسلو (دولة فلسطينية على حدود الـ 67).

من المسجد الى مجلس النواب.. الاتجاه نحو العمل السياسي المحترف

شاركت الجماعة في انتخابات العام 1989 محققةً فوزاً كبيراً، فحصدت 22 مقعداً في مجلس النواب من أصل 80. وفي عام 1992، صدر قانون جديد للأحزاب، والذي بادرت الجماعة بموجبه الى تأسيس حزب "جبهة العمل الإسلامي"، واعتبر تحولاً سباقاً على صعيد الحركات الإسلامية، حيث مثّل اتجاهاً نحو العمل السياسي المحترف، وتحولاً مبكراً نحو فصل الدعوة (الجماعة) عن السياسة (الحزب).

وقد ساهمت المشاركة في العمل السياسي العلني في بلورة اتجاه سياسي وتجربة عملية، نجد صداها في الخلاف الذي شهدته الجماعة داخلياً حول المشاركة في انتخابات العام 1989، ويمكن أن نجد في النائب المعروف بقُطبيته "محمد أبو فارس" مثالاً على هذا التحول، حيث وضع رسالة بعنوان "حكم المشاركة في الوزارة في الأنظمة الجاهلية"، ذهب فيها الى أن الأصل هو حُرمة المشاركة، قبل أن يجيزها وفقاً لتقديرات وترجيحات الجماعة.

ومع المشاركة في مجلس النواب ومن ثم في الحكومة خلال الفترة (1989 – 1993)، كان الإخوان يتجهون عملياً لتجاوز أيّ مقولات تتعلق بتكفير الأنظمة التي لا تحكم بالشريعة، وهي التي كانت قد راجَت خلال عقدَي السبعينيات والثمانينيات. وهكذا، ومع دخول البرلمان تعزز الاتجاه نحو أفق جديد من العمل، حيث إن منطق العمل النيابي، قائم على التشريع والرقابة، وهو ما لزِمَ عنه ضرورةً تجاوز الأفق الدعوي.

تبلور وانفصال التيارات الداخلية

كان من ضمن النتائج المترتبة على حرب الخليج، فصل أكثر من 300 ألف أردني وفلسطيني من عملهم في دول الخليج وبالأخص من الكويت، وعودتهم إلى الأردن، وكان من بين العائدين عدد من قادة حماس في الخارج (كان المكتب الخارجي الأساسي للحركة موجوداً في الكويت)، وكان في مقدمة القادة العائدين: إبراهيم غوشة، الذي عُيّن نهاية العام 1991 ناطقاً رسمياً باسم الحركة، إضافة إلى خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي للحركة منذ عام 96. وقد عزز تواجد حماس من الاتجاه الذي يتعامل مع الأردن باعتباره ساحة إسناد للعمل الفلسطيني، ففي العام 1991 كشفت الأجهزة الأمنية الأردنية معسكراً تدريبياً تابعاً لحماس في الأراضي الأردنية، وهو ما تكرر حدوثه في صِيَغ وأشكال مختلفة عبر السنوات اللاحقة.
 
 
في العام 1997، كشف الانقسام حول المشاركة في الانتخابات والذي انتهى باتخاذ قرار المقاطعة عن تبلور اتجاهات وتيارات جديدة داخل الجماعة، حيث برز التيار المؤيد للمشاركة، والذي سيعرف بميله لإعطاء الأولوية للشأن الداخلي، والانفصال عن حركة حماس، مع اتجاهه للتقارب مع الدولة، وعرف إعلامياً بـ "الحمائم" أو "تيار الوسط" كما سيعرف لاحقاً داخل الجماعة. وكان من أبرز الحمائميين عبد المجيد ذنيبات، الذي انتخب مراقباً عاماً للجماعة عام 1994، ثم أعيد انتخابه مجدداً عامَيْ 98 و2002. كما سيطر هذا الاتجاه على حزب جبهة العمل منذ تأسيسه، فانتخب إسحاق الفرحان كأول امين عام للحزب عام 1993، ثم خلفه عبد اللطيف عربيات -من التيار نفسه- للفترة: 1998-2002.

وقد اتخذ الاستقطاب طابعاً آخر بعد وفاة الملك حسين العام 1999، والقرار الأردني باخراج حماس من الأردن، وانتقال قادتها ومكاتبها الى الدوحة ودمشق. حيث أصبح التيار الصقوري يعرف يـ "تيار حماس" بسبب استمرار تواصله مع الحركة. وهكذا، أصبحت العلاقة مع حماس، وما ينبني عليها من اتجاه وطني أو متجاوز للوطني، الأساس في الانقسام والاستقطاب بين التيارات والأجنحة داخل الجماعة.

الصراع يبلغ ذروته

وفي العام 2006، انتخب سالم الفلاحات مراقباً عاماً للجماعة، وهو المحسوب أيضاً على "تيار الوسط"، في المقابل، وفي نفس العام، انتخب زكي بني ارشيد أميناً عاماً لحزب جبهة العمل، وهي الخطوة التي اعتبرت تعبيراً عن تصاعد تأثير "تيار حماس" في جسم الجماعة. وبلغ الخلاف ذروته، بعد هزيمة الجماعة في انتخابات العام 2007 (حصدت 6 مقاعد فقط)، حيث قرر مجلس شورى الجماعة حلّ نفسه وإعادة الانتخابات داخل الجماعة، فتمّ إنهاء فترة سالم الفلاحات، وانتخب الصقوري همام سعيد عام 2008 بعد سيطرة حمائمية منذ العام 1994. وقد تعززت السيطرة الصقورية مع انتخاب حمزة منصور أميناً عاماً لحزب جبهة العمل عام 2010، وانتخاب همام سعيد من جديد مراقباً عاماً للجماعة عام 2012.

الحصيلة

وفي هذه الأثناء، اندلعت أحداث "الربيع العربي"، حيث تصاعدت الأحداث في مختلف الدول العربية المحيطة، وبلغت التطورات ذروتها مع انتخاب محمد مرسي (رئيس حزب العدالة والتنمية المنبثق عن جماعة الإخوان المصرية) رئيساً لمصر، وهو الانتصار الذي تفاعلت معه الجماعة، فاحتفلت به واعتبرته بمثابة نصر لها وحاولت توظيفه داخلياً، فيما اعتبر التيار الحمائمي هذا التفاعل من قبيل الاهتمامات المتجاوزة للإطار الوطني.

وفي غمرة أحداث الحراك الأردني الداخلي (2011 - 2013)، اتجه كل من رحيّل غرايبة ونبيل الكوفحي (من أبرز الأسماء في التيار الحمائمي) نحو إطلاق "المبادرة الأردنية من أجل البناء" (زمزم) في العام 2012، والتي أُشهرت رسمياً بتاريخ 5/10/2013، بحضور عدد من رجال الدولة، بما فيهم رئيس الوزراء المحافظ الأسبق عبد الرؤوف الروابدة. في المقابل، انتخب مجلس الجماعة الصقوري محمد عواد الزيود أميناً عاماً لحزب جبهة العمل عام 2014، كما ردت الجماعة بفصل كل من انضم الى المبادرة (زمزم).
 
 
وفي العام 2015، تعرضت الجماعة للهزّة الأكبر، مع إطلاق عبد المجيد ذنيبات (المراقب العام السابق لمدة 12 سنة) ما عُرف بـ "مبادرة التصويب القانوني"، وذلك بالتزامن مع إعلان الحكومة عن عدم قانونية الجماعة، باعتبار أنها لم تُصوّب أوضاعها وفقاً لقانون الجمعيات لسنة 2008. حيث بادر الذنيبات لتسجيل جمعية جديدة باسم "جمعية جماعة الإخوان المسلمين"، والتي تم تقديمها باعتبارها الجمعية الشرعية، والجسم الشرعي الوحيد الممثل للجماعة.

وفي العام 2016، بادر "تيار الحكماء"، بقيادة سالم الفلاحات وعبد اللطيف عربيات، بدورهم بالاتجاه نحو التحضير لإطلاق حزب جديد، وهو ما تمّ في مطلع العام 2018 مع إطلاقهم حزب "الشراكة والإنقاذ".

ومع اقتراب استحقاق الانتخابات النيابية للعام 2016، صوّت مجلس شورى جماعة الإخوان بأغلبية 80% لصالح المشاركة في الانتخابات، وبناءاً على ذلك اتجهت الجماعة إلى تشكيل "التحالف الوطني من أجل الإصلاح" للمشاركة في الإنتخابات، وهو الخيار الذي بدا بمثابة الورقة الأخيرة لإثبات وجود الجماعة وشرعيته، وقدرتها على استئناف نشاطها رغم الانشقاقات.


اتجاهات جديدة

وقد شهدت الانتخابات ذاتها مشاركة قائمة "معاً" التي رفعت شعار "الدولة المدنية"، وفي العام التالي بادرت مجموعة من ناشطي المجتمع المدني بإطلاق حزب "التحالف المدني"، وقد دفعت هذه التطورات بدورها الجماعة إلى الاتجاه نحو تبني ذات الخطاب (الدولة المدنية)، كما عبر عن ذلك بني ارشيد وطهبوب، تزامَن ذلك مع قرار الجماعة بعدم رفع شعار "الإسلام هو الحلّ" خلال الانتخابات، كما كان مجلس شورى الجماعة في وقت سابق من العام 2016 قد أقرّ بإلغاء تبعية الجماعة للجماعة الأمّ في مصر.

وقد اعتبرت هذه المستجدات بمثابة تحول كبير في خطاب الجماعة؛ فهو من ناحية تراجع عن الشعارات الإسلامية التقليدية، ومن ناحية أخرى يستبطن اتجاهاً للعمل الوطني، وهو ما تعزز مع أحداث لاحقة كمشاركة الجماعة في الإنتخابات البلدية عام 2017، وفوز علي أبو السكر (صقوري) برئاسة بلدية الزرقاء (ثاني أكبر المدن الأردنية)، حيث صرّح بأنه سيجعل من المدينة "إسطنبول الأردن"!

أرضية واحدة

واليوم، بات يوجد على ساحة العمل الإسلامي الأردني كل من: جمعية الذنيبات، وحزب المؤتمر الوطني، وحزب الشراكة والإنقاذ، والجماعة الأمّ، وحزبها "جبهة العمل". وباتَ جميعها يقف على أرضية خطاب يتحدث عن "البرامجية" (كمقابل للعقائدية والشعاراتية)، وعن "الوطنية" (كمقابل للعمل الأممي والانشغال بالشأن الخارجي)، وعن "فصل الدعوة عن السياسة". وهو ما يدفع باتجاه اعتبار هذه التحولات بمثابة تعبيرات عن حالة "ما بعد إسلاموية"، وفي حين يرى العديدون ذلك باعتباره حالة من التطور والمراجعة الفكرية، فإن البحث في السياق الأعمّ لهذه التحولات، قد يبين لنا أن جانباً كبيراً منها قد جاء كنتاج لسلسلة طويلة من التحولات على مستوى العمل والمجال السياسي، على الصُعُد المحلية والخارجية، لم يكن للجماعة الدور الأهم فيها.
خالد بشير

كاتب وباحث من الأردن. مهتم بالبحث في العلاقات الدولية، والنظم السياسية، والتاريخ السياسي. وأنهى الماجستير في العلوم السياسيّة بالجامعة الأردنيّة.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.