Print this page

نُدماء الرشيد: ملاحظات أولية عن الفنان والدولة في مصر

26 آب/أغسطس 2018
 
دارت في الأشهر الماضية نقاشات حول قضيّة الفنانة شيرين عبد الوهاب وتعليقها الساخر في إحدى حفلاتها عن مياه نهر النيل(1)،
وهذه القضيّة رغم هامشيّتها الظاهرة بالمقابلة مع القمع السياسي والاجتماعي الذي تمارسه أجهزة الأمن والمؤسسات الاقتصادية إزاء المجتمع عموماً، تفتح الباب لنقاش موضوع هام فرضته يوميّات ثورة 25 يناير والمرحلة الانتقالية (2011-2013) ولم يلقَ بعدُ الاهتمام البحثي في حدوده الدنيا رغم تواجده دوماً في الهجاء السياسي والثقافي وحملات الدعاية خاصة في المرحلة الانتقالية، وهو موقع الفنان في مبنى الدولة والمجتمع، أو بتوسيع للموضوع، فحص الفنون في العالم العربي سوسيولوجياً، وهذا، بحسب علمي، لم يحدث بجدية حتى الآن في أي قُطر عربي.

قضية الفنانة شيرين تطرح سؤالين رئيسيْن: لماذا يُستفز النظام بتعليق ساخر من مُطربة ويذهب نحو التعامل العنيف معها بهذا الشكل؟ ولماذا نجد أن شريحة الفنانين والمطربين وممثلي السينما تقف غالباً مع النظام كما رأينا منذ يوميات الثورات عام 2011 وحتى الموقف من قضية شيرين عبد الوهاب؟

لكي نقارب السؤال الأول، علينا أولاً أن نفهم النظام القمعي باعتباره أجهزة ومراكز ثقل تتنافس فيما بينها لتحقيق أكبر قدر من المنافع المادية والمعنوية وحيازة ثقة قيادة النظام أو ثقة الأطراف الأقوى فيه. وفي حالة الأنظمة التي تُجدَّل فيها الشعبويّة بالمحافظة الرثّة بانعدام الإنجازات الاقتصاديّة، تشكل المزايدة في "الوطنيّة" الخالية من أي مضمون حرياتي أو اجتماعي ميدان تنافس مهم؛ فالكلام الشعبوي والشوفيني والأكاذيب والمزايدات تشكل أهم سمات الخطاب الإعلامي للنظام لأنه لا يملك مضموناً آخر يقدمه للمجتمع.. هذا من ناحية.

من ناحية أخرى، لا يمتلك النظام الحالي (النظام هنا كمجموع أطراف وأجهزة وانحيازات)، لأنه نظام ثورة مضادة، ثقة بالنفس تجعله يتغاضى عن أي تعبير أو حركة غير منضبطة في القطاعات الاجتماعية والمؤسسيّة التي يعتبرها مُلحقةً به أو متذيّلةً للنظام (وعلى رأسها شريحة المطربين والممثلين)؛ فتوتره من تجربة الثورة تجعل أعصابه مكشوفة ولا يقبل حتى ب "حريّة" أن تكون لك طريقة خاصة في التفاهة تختلف عن التفاهة الرسميّة، ونتذكر سوياً الجملة السخيفة التي أطاحت بأحد رموز الثورة المضادة وهو المستشار أحمد الزند (2)، تلك الجملة التي رأى فيها النظام تجاوزاً للنزعة المحافظة التي يُمَثّلها ويتمثَّلها، بالإضافة إلى رغبة النظام في التأكيد على "حجم" جميع من وقفوا معه في الثورة المضادة وأن يُدركوا موقعهم في هرم النظام.

ولكن، لماذا يعتبر النظام أصلاً شريحة المشتغلين في الفنون عموماً والجماهيرية(3) منها خصوصاً (تمثيل، غناء، رقص شرقي) ملحقين به؟ وهل هذا صحيح في الأساس؟
علينا الآن العودة قليلاً إلى الوراء واستعراض ما يمكن أن يكون مدخلاً تاريخياً موجزاً لفهم الموضوع.


١- التَّقلُّب الأيديولوجي للنظام

- رأسمالية الدولة الناصريّة:

ثمة علاقة ضروريّة بين الفنون بما هي مؤسسات تنتج خطاباً، و"السلطة"، سواء أدولتيّة كانت أم اقتصاديّة في العالم كلّه، ولكن علينا حين نتناول الحالات العربيّة وضع تمييزات معيّنة.

في مرحلة الليبرالية العربيّة، أي في مرحلة ما بين الحربين، كانت الفنون تحوي تيارات تعبّر عن قطاعات واسعة في المجتمع (سيد درويش، نجيب الريحاني)، وأخرى تمثّل خطاب ونمط حياة الأرستقراطيّة الزراعيّة والقصر الملكي (يوسف بك وهبي، أحمد شوقي، محمد عبد الوهاب)، واستمرّ هذا التوتر إلى أن جاءت ثورة يوليو بمتلازمة الاشتراكيّة في العالم الثالث: رؤى تحديثيّة ورأسماليّة الدولة.

لهذه المتلازمة في ميدان الفنون والثقافة طوال القرن العشرين، سواءً في العالم الثالث أو أوروبا الشرقيّة، ثلاث سمات تميّز بنيتها ومنتجها والعلاقات التي تفرزها: الأولى إيلاء الفنون عموماً موقعاً طليعياً في كلٍ من المشروع الإيديولوجي والدعاية للنظام، والثانية الرداءة العامّة للمؤسسات الثقافيّة نتيجة إدارتها من قبل بيروقراطيين متوسطي القدرات ولا تشترط فيهم مؤهلات تخص إدارة الشأن الثقافي، ويختلف مستوى الرداءة من دولة إلى أخرى تبعاً لعوامل مثل تاريخ التراكم الفني وتقاليد المؤسسات الثقافيّة قبل انبثاق مشاريع التحديث الديكتاتوري على يد رأسمالية الدولة، وقوة الأخيرة وبالتالي كميّة الأموال التي تستثمر في هذا القطاع، ومستوى التقدير المادي للفنانين، والمشاكل الموروثة من الحقبة السابقة.

والثالثة هي تخبّط أحوال الإنتاج الفني نتيجة الشروط والاعتبارات الأمنية والإيديولوجيّة -وحتى الشخصيّة- التي يفرضها النظام والبيروقراطيّة على النشاط الثقافي والفني ويرهق بالتالي شركات الإنتاج الخاصة -إن وجدت- والكتاب والمثقفين ويحسم مسألة تشكّل التيّارات الفنيّة وموضوعاتها عوضاً من أن يكون جدل السوق والأفكار والسياق التاريخي هو من يدفع نحو هذا التشكُّل(4) ويؤرجح تصورات الفنان عن نفسه وسقف حريته ويدفعه إلى الإيمان بضرورة تكيُّفه الحِربائي مع سياسات الدولة.

رغم هذه الصورة المزعجة بمساوئها الشديدة، ثمّة أمران إضافيّان مهمّان في هذا السياق، الأول هو أن الرقابة التعسفيّة والقيود المتشابكة تدفع قطاعاً من المشتغلين الجادّين بالفن والثقافة والصحافة إلى ابتداع أساليب المراوغة لتمرير أفكاره (5) بحيث يحوّل التكيّف مع النظام إلى عمليّة إبداعيّة بحد ذاتها تشكّل تراكماً احترافياً مع الزمن، وهذه من النتائج غير المباشرة للديكتاتوريّة الشعبويّة ذات المشاريع العلمانيّة الإيديولوجيّة. والأمر الثاني هو أن هذه الأنظمة في العالم الثالث -ومنها نظام عبد الناصر- تقوم بتأسيس بنية تحتيّة ماديّة وبشريّة مهمّة للعمل الثقافي والفني في فترة صدقها الإيديولوجي: مسارح، تلفزيون، سينما، مطابع الكتب، جامعات، أكاديميّات للفنون... إلخ، وهذه هي الأساس الجيّد الذي يمكن بإصلاحه المراكمة عليه في مرحلة الليبرالية السياسيّة والانفتاح الرشيد للقطاع الخاص لإطلاق حركة فنيّة ذات جودة معقولة.


- من التلبرل الساداتي إلى البونابرتيّة:

الإشكال الذي حدث في العالم العربي عامةً، ومصر تحديداً، أن التلبرل في عهد السادات كان اقتصادياً فحسب أولاً، وفاسداً ثانياً، وتحت ظل نظام تسلطي ثالثاً، وبدون برجوازيّة وطنيّة رابعاً. وهذا الوضع فتح هامشاً للحراك الفني لاحقاً لأن النظام توقف عن التشدد الإيديولوجي الناصري وسمح، في عهد مبارك تحديداً(6)، بهامش حركة للفنون الجماهيريّة، ولكنّه كرّس تشدداً جديداً أكثر مراوغة وتواضعاً -يخص "ثوابت" خطاب النظام الرسمي وسياساته الأمنيّة (7) يُبقي في المحصلة جزءاً كبيراً من شبكة العلاقات التي تحكم الفنان مع الدولة على حالها في العهد الناصري مترافقاً مع جعلها أكثر عُفُونةً باللبرلة الفاسدة وتخلّي الدولة الساداتيّة عن "واجب" الدولة الناصريّة الأيديولوجي تجاه الفنون.

هكذا بقي النشاط الفني منذ المرحلة الساداتيّة مرتبطاً في صلبه بأجهزة الدولة رغم، وبسبب، ارتباطه بصورة مباشرة برأس المال.

أقام رأس المال في عهد السادات علاقات زبائنيّة مع النظام السياسي ولم يشكل مركز قوة اجتماعياً يستطيع أن يفاوض الدولة أو يضغط عليها لإعطائه مساحة الحريّة اللازمة والتي كانت لتجعل الفنانين أكثر حريّة في نشاطهم العام وموقفهم السياسي لأنهم -في حال تغافلنا عن البعد الأخلاقي- يستمدون قوّة الموقف من تحرر نشاطهم المهني من قبضة الدولة؛ فرأس المال الذي ظهر وتغوّل في العالم العربي مع انطلاق عمليات اللبرلة الاقتصاديّة الفاسدة لم يتميّز بطابع تنويري أو إيمان بدور ثقافي أو واجب أخلاقي أو حتى عقيدة وطنيّة، ويمكن اعتباره في أصله وتطوره قطيعة تاريخيّة مع البرجوازية الوطنيّة التي نشأت بين الحربين، وبالتالي لم يُرد أصلاً الدفع والضغط نحو دمقرطة تدريجيّة للواقع السياسي والاجتماعي.

وفي مرحلة الثورة المضادة بقيادة عبد الفتاح السيسي، تطوّرت العلاقة بين رأس المال والنظام الذي اعتنق البونابرتيّة(8) في أكثر صورها رثاثة وتشدداً؛ فأضحى شديدة الصرامة مع أصحاب رأس المال الذين توهموا أن علاقاتهم الزبائنيّة تجعلهم "شركاء للنظام" خاصة مع وقوفهم القوي والمؤثر مع الثورة المضادة، وأهم الأمثلة على ذلك كان البليونير المصري نجيب ساويرس الذي اعتقد أن له رصيداً عند النظام يستطيع أن يؤمّن به هامشاً لطموحٍ سياسي شخصي في غير تمييزٍ للنقلة البونابرتيّة عام 2013 التي أنجزها النظام ، فقام الأخير ب "تأديبه" وتعريفه قدره(9) هو وغيره من أثرياء البلاد ومرؤوسيهم من إعلاميين وصحافيين: أتباع لا شركاء.

وهذا التحول البونابرتي المتشدّد في النظام لم تظهر آثاره المبكرة في أي قطاع كما ظهرت في الفنون الجماهيريّة. وهو عموماً تحوّل يقضي على كل تراكم ومكتسبات رأسماليّة الدولة الناصريّة والتلبرل الساداتي والمباركي مع تعظيم مشاكل المرحلتين: هوس أجهزة الأمن بالرقابة والسيطرة على الهيئات الفنيّة المختلفة ومحتوى المُنتَج الفني وتحويله- مع الصحافة- إلى منصّات دعاية فاقعة بلا تعقّل أو مراعاة لقوى المجتمع ومصالح رأس المال المستثمر في الفنون والإعلام، واتضح أخيراً أن النظام لم يُعدم هوامش التعبير الصريح أو الرمزي فحسب، بل وألغى ما يمكن أن نسميه الصفقة الضمنيّة بين النظام الساداتي والسينما (10)، وهنا علينا بعودةٍ سريعة إلى السبعينيّات.

بسبب ظروف وأشياء كثيرة على رأسها السياسة الساداتيّة المُركبّة، لا تعلق في الذاكرة الفنيّة إلا أفلام ممتازة قليلة في مقابل سيلٍ من الأفلام معدومة القيمة الفنيّة التي وَسَمَت عقد السبعينيّات. وحتى الأفلام الممتازة في تلك الفترة -والتي أعُدّ بعضها على المستوى الشخصي علاماتٍ في الذاكرة- كانت إما لا علاقة لها بالشأن العام الحاضر "إسكندريّة ليه؟" أو ناتج عن السياسة الثأرية للنظام "ثرثرة فوق النيل" وإما مسبوقة ومتبوعة بقضايا وقوانين ومنع، مثل فيلمي "المذنبون" و"زائر الفجر".

ينبغي التذكير هنا أن أسوأ قانون يخص الفنون والرقابة في مصر هو القانون رقم 220 لعام 1976. وهنا كان نظام السادات يلعب اللعبة الخطرة والجشعة: يحاول اللعب بورقة الفنون والثقافة لمغازلة القواعد الاجتماعيّة المحافظة والتحالف مع الإسلاميين بإصدار قانون سيحوّل الفنون إلى خطب وعظيّة وأقرب إلى قصص الأطفال والتوجيه المعنوي بدعوى منع البذاءة والحفاظ على الآداب العامة، في حين أن الاستخدام الدائم لهذه القوانين كان ضد الأفلام ذات المحتوى النقدي للنظام وسياساته الاجتماعيّة، أما أفلام الكوميديا والتراجيديا والرعب الجنسية ( مواضيعها الخيانة الزوجيّة والبوهيميّة واختلاط العالم السفلي بالجنس و..إلخ) معدومة القيمة الفنيّة ظلّت مستمرة ولم يعترض عليها النظام من حيث المبدأ ( ولكنه في عهد مبارك -بعد تحولات المجتمع وتوسع قواعد الإسلاميين وخاصة السلفيين بالتعاون البراغماتي مع النظام في خضم الحرب الباردة وما بعدها- أضحى أكثر حساسية في هذا الموضوع أيضاً إلى أن وصلنا في نهاية عهد مبارك إلى أفكار على وزن "الفن النظيف" والفيلم الذي "يمكن أن تشاهده الأسرة" ولمشاهد دوريّة عن اعتذار الفنانات في الإعلام طول الوقت عن مشهد عري أو قبلة أدته في فيلم)

وهكذا غنم نظام السادات التالي: تحالف مع القطاعات الاجتماعيّة المحافظة، والإسلاميين، والأرياف، ومنع التعرض له أو للفساد الاجتماعي بالنقد، وفي ذات الوقت يقول للفنانين إن لهم كامل الحريّة في إنتاج الأعمال "الجريئة" جنسياً والمتدهورة فنياً، والدليل أن النظام لم يمنع الأعمال الجريئة التافهة، بل الجريئة (في المشاهد الجنسيّة والموضوع العام والتناول الفني) والجادّة. ورئة التنفس الوحيدة التي تركها النظام جزئياً كانت المسرح، والذي تخلت الدولة عن دعمه في عهد السادات، لأن النظام لم يرَ فيه فناً جماهيرياً واسع النطاق... وهذه الثغرة سمحت بظهور أهم مسرحيّة هزلية في تاريخ المسرح العربي باعتقادي وهي "شاهد ما شفش حاجة"، كما أن انطلاق الدراما التلفزيونيّة كانت فعلياً في السبعينيّات وذلك لأسباب كثيرة تخص التحولات الاجتماعيّة والطبقيّة والاقتصاديّة في مصر، ولكن سببها السياسي هو أن التلفزيون يحمل -في العالم كله- تقاليداً محافظة وهذا جعله جزئياً خارج استخدام النظام والإسلاميين لورقة "الآداب العامّة".

ما فعله نظام السيسي هو أنه ألغى هذا التفاهم مع الفنون، وأخذ يُقفل آخر ملاذ بائس للفنون الجماهيريّة في عهود القمع المُفرِط عادةً وهو تناول المجتمع وعاداته بسخرية منزوعة الدسم السياسي مع التحرر الشكلي من النزعة المحافظة باستخدام مُفرط للتعبيرات والتلميحات الجنسيّة، فحتى هذا لم يعد النظام يقبل به (11).

٢- الوسيلة تستحيل هدفاً

النتيجة الطبيعيّة للشرط المتكوّن تاريخياً والذي استعرضناه آنفاً أن الفنّان المصري يتذيّل موضوعياً طبقة النظام. ولكن تبقى جوانب عينيّة تخص اللحظة الراهنة، وسوسيولوجيّة كذلك تجعل هذا الالتحاق بالنظام أكثر متانة وعُمقاً.
الأمر الأول، والأوضح، أن أجهزة الدولة تتدخّل بشكل مباشر في عمليات الإنتاج الفني ومزاولة المهنة، عبر التصاريح والمحاكم والقوانين الرثة ومؤسسات الرقابة وسيطرة الأجهزة الأمنية في الآونة الأخيرة على المؤسسات الإعلاميّة (12) والهيئات النقابية التي تحدد النشاط المهني للفنان وبالتالي لا يمكن له الآن الاستمرار في مزاولة مهنته إذا أغضب الدولة أو أجهزة فيها، بخلاف نظام مبارك الذي كان يفتح لأجهزته المتنافسة قنوات للاصطراع المحدود في ميدان الإنتاج الثقافي عموماً ويوظف ذلك في المُجمَل بعد ذلك في معاركه الداخليّة وتخفيف الضغوط الخارجيّة.

أضف إلى هذا أن امبراطوريّات الانتاج الفني العربيّة تتبع رجالات أعمال لهم ذات العلاقات في بلدانهم مع طبقتهم السياسيّة، وبالتالي فهم ملزمون إلى حد معيّن بتوجهات النظام السياسي في تعامله مع الأنظمة الأخرى وتربطهم كذلك علاقات معقّدة وذات طابع تملقي وزبائني مع رجالات الأعمال والسياسيين العرب. وهكذا في حال غضبت شركات انتاج محليّة كبرى أو مسؤولون كبار على فنان في وطنه، يمكن سحقه ليس قُطرياً فحسب بل وعربياً أيضاً وبالإمكان عرقلة طرق ترقيه المهني والاجتماعي والمادي في العالم العربي (13).

ثم لدينا الجانب المظلم من رأس المال في كل مكان -وعربياً لدينا فقط جوانبه المظلمة والمتخلّفة- وهي قدرته، نظرياً، على خنق نجوم الفن وتقرير لحظة أفولهم أو حتى اغتيالهم معنوياً؛ فالإمبراطوريّات الماليّة لا تملك شركات إنتاج فني فحسب، بل أيضاً مؤسساتٍ صحفيةً ومجلات وقنوات ونواباً في البرلمانات وذِمَمَ مثقّفين وكُتّاب، وبإمكان المتابع لبرامج القنوات المصريّة -وكذلك الأميركيّة وهي الأصل البرّاق للنسخة المصريّة الفاقعة- ملاحظة الخطاب الدعائي المبالغ به الذي يسم عمليّات تقديم الفنانين والفنانات فيها، قدحاً في المغضوب عليهم ومدحاً للمرضي عنهم.
ويبقى أمر خطير أخير، وهو سوسيولوجي بالمضمون الفيبري (14) للكلمة، ويخص مجال حركة الفنان في مصر والعالم العربي عموماً.

الطبقة التي يتحرك فيها ويعتاش منها أهل الفن مادياً ومعنوياً واجتماعياً هي ذات الطبقة التي تحكم عملهم! أي طبقة كبار رجال الأعمال ومسؤولي الدولة، ولنأخذ المطربين والمطربات والراقصات كمثال. إذا عرفنا أن أجر بعض الفنانين العرب لإحياء الحفلات يصل إلى نصف مليون دولار، وأن أجر إحياء حفل زفاف قد يصل إلى أكثر من 25 ألف دولار، نستطيع أن نخمن هويّة مقيمي هذه الحفلات والأعراس: كبار مسؤولي الدولة وكبار رجال الأعمال، وفي آخر عهد مبارك جرى مد خطوط السياسات الساداتيّة على استقامتها فاكتمل التزاوج أو كاد بين الطبقتين البيروقراطيّة والتجاريّة -وهو التزاوج الذي عرفته كل الأنظمة العربية لاحقاً بدرجات متفاوتة- وبالتالي فإن المُطرب الشهير يكتسب نمط العيش الفارِهَ و المكانة الاجتماعيّة ليس من خلال الألبومات والإنتاج الفني فحسب، بل بدرجة رئيسية من خلال حفلات ومناسبات طبقتي المال والسياسة ورضاها عنه وعلاقاته الجيّدة مع كلا الطبقتين، والتي تغيرت طبيعتها مع الزمن، أي طبيعة علاقات الفنان مع طبقتي المال والسياسة، من وسيلة براغماتيّة ل "تسيير وتيسير الشغل"، إلى هدف نفسي/إنساني بحد ذاته؛

ففي ظل العنصريّة الطبقيّة والتمييز الاجتماعي المتجذّر في تاريخ مصر الإقطاعي والذي استفحل في المجتمع منذ سياسات الانفتاح الساداتيّة، والذي يمكن تسميته بالثقافة الإقطاعيّة الجديدة -وهي أسوأ في كثير من الأمور من الإقطاع القديم (15)- يصبح نسج علاقات الصداقة مع الأثرياء ومسؤولي الدولة وحضور حفلات السفارات امتيازاً اجتماعياً يُشبع احتياجات نفسيّة وشوقاً عميقاً في نفس الفنان بما هو إنسان -وليس بصفته المهنيّة- للاعتراف به من قبل "الناس العِلّيوي"- كما يقال في العاميّة المصريّة- وقبوله في ناديهم الاجتماعي الحصري، خاصة وأن أغلب الأسماء الفنيّة المعروفة قادمٌ من الطبقات المتوسطة والفقيرة.

استبطان قطاع الفنانين عموماً للثقافة الإقطاعيّة الجديدة التي كرّستها الدولة طوال عقود هو النقلة الأهم في علاقة تذيُّل النظام لأنه تحوَّل من الموضوعي إلى الذاتي، ومن ضغط الشَّرط إلى فعلٍ لا يحتاج إلى تبرير أخلاقي، لأنه أضحى صادراً من نسق قيمي مُعيّن.

محصّلة هذا التحليل الموجز في سياق تاريخي عبر المحاور الثلاثة الآنفة تعود بنا إلى العَتَبَة الرمزيّة لهذا المقال. في المقطع الأول من قصيدة أمل دنقل "من أوراق أبو نواس" يمرح صبيّان -أبو نواس وصديقه- بتخمين وجه العُملة: ملكٌ أم كتابة. اختلاف مصائر الصديقين عن تنبّؤات العُملة وموافقة المصير لميول الصّبا الباكر هي التي تلفت غالباً النقّادَ والقرّاءَ المتذوقين: خمّن أبو نواس أن الوجه كتابة، واتضح أنه الملك، فصار بعد سنين نديماً للخليفة هارون الرّشيد، أما صديقه الذي اختار المَلِك، وظهرت له الكتابة، صار حاجباً للخليفة. ولكنّ في القصيدة شيئاً جذّاباً آخرَ إذا نزعنا زمن القصيدة الداخلي -زمن الإمبراطوريّة- وغرسنا فيها زمن الدولة الوطنيّة مصحوباً بالترجمة الحديثة_ وهو تقاطع المصائر عند نقطة واحدة وهي بلاط الخليفة/النظام؛ فكلاهما في نهاية المطاف -رغماً عن تضارب تنبؤات العملة مع الأمنيات- صار إلى خدمته، حتى من اختار الفن/الكتابة!

كل طرق الأماني تؤدي إلى الخليفة، لأن ثمة ارتباطاً عضوياً بين الملك/النظام والكتابة/الفن، كارتباط وجهي العملة. هذا تحديداً جوهر علاقة الفنان بالدولة في مصر: إن الشرط التاريخي وتطوّر تركيبته (دولة-رأس مال) أولاً، وتشرّب قطاع الفن ثقافةَ النظام الاجتماعيّة في آخر مراحل التلبرل الفاسد ثانياً، يجعلان منادمة الرّشيد/تذيُّل النظام (16) أحد المكوّنات الأساسيّة للسياق الاجتماعي والسياسي للنشاط الفني.


٣- أزمة الجَدل حول الأزمة
يمكن تلخيص أزمة تيّار الثقافة المصريّة المنبثق في ثورة 25 يناير مع مسألة الفنان والدولة في كلمتين هما: غياب التمييز، وتتوزعان على مستويين: أ) بين الأخلاق وعلاقتها بالسياق من جهة والمُحافظة الرثّة والوعظ من جهة أخرى ب) وبين التصوّرات العامة والتحليل المُركّب والمُحددّ.

- الأخلاق

الشق الأول من المشكلة يكمن في القوى الثوريّة العلمانيّة والإسلاميين على السواء رغم ظهورها بأشكال تبدو متناقضة. الثقافة السياسية العربيّة عموماً تعاني إشكالاً عويصاً في تحديد وتثبيت مفهوم واضح عن علاقة الأخلاق بالسياسة والمجتمع، وهي مشكلة لا مجال هنا لمناقشة جذورها وسياقها، ولكن في المحصّلة لا تستطيع التيارات السياسيّة المختلفة تمييز أثر غياب الأخلاق، بما هي فعل وانحياز تضطلع بهما الإرادة الحرّة والعقل مبني على قيم إنسانيّة، في الانحطاط الذي تتبدّى معالمه في ميادين كثيرة ومنها مواقف غالبيّة الفنانين المُفزِعة من مآسي ومظالم المجتمع منذ اندلاع الثورة؛

فلا يكفي القول هنا إن السياق الاجتماعي والاقتصادي هو السبب في هذه الظواهر، ولا يكفي القول أيضاً إن الفنانين جزءٌ من "الطبقة المسيطرة" إذا استخدمنا مصطلحات الأدبيّات الشيوعيّة، وهذا غير دقيق على كل حال، فهم عربياً مُتَذيّلون لها. وثمّة طبعاً "أفكارٌ" كَرَثت أجيالاً عربيّة بأكملها مثل تلك القادمة من أدبيات الماركسيّة-اللينينيّة عن الأخلاق باعتبارها إيديولوجيا الطبقة المسيطرة، أو الكلام الثقافوي الذي يحبه أغلب الليبراليين عن مسؤوليّة الدين والثقافة العربيّة منذ قديم الزمان عن فساد ما يسمونه "العقل العربي"، ومصيبة الإسلاميين الذين لا يعرفون فرقاً بين المناقبيّة الدينيّة، والفقه، والشريعة، وأحياناً المذهب من جهة والأخلاق من جهة أخرى.

وللعلمانيين العرب عموماً مشاكلهم العويصة في هذا الموضوع؛ فهم -على غرار الإسلاميين- لا يُفرقُون بين كلٍ من التقاليد الاجتماعيّة والأخلاق، كما لا يفرقون بين الأخيرة والنزعة المُحافظة الرثّة، بل ويؤمن أغلب "اليسار الجديد" أن المُحافظة دوماً تافهة وقمعيّة ولا عقلانيّة. هذا الموقف له أسباب كثيرة منها أنه في الأصل ردّ فعلٍ غير نقدي على النُسخة الرثّة من المُحافظة التي يروّج لها النظام باعتبارها هي الأخلاق على طريقة الفنان محمد صُبحي مؤخراً، وعلى الوعظ و"الاستعلاء" (17) الذي تمارسه قوى الإسلام السياسي منذ اشتداد عودها في نهاية سبعينيّات القرن الماضي.

بعد أهوال السنوات السبع المنصرمة، يبدو أن الفهم الجيّد لكثير من مشاكلنا يبدأ بالاعتراف بأن الدافع الأخلاقي أمر مهم في الحيز العام والثقافة السياسيّة وليس أمراً محصوراً في الحياة الخاصة، وأن علينا أن نقدم نقداً لا يرحم لكل أدبيات الأحزاب التي أشاعت الاستخفاف بالأخلاق في نقاشات المجتمع والسياسة كدليل على الحنكة والفهم السليم، وشرعنت انتهازية وانحطاط الأنظمة والنُّخب، وهذا النقد هو ضدّ الوعظ بالضرورة، وإلا فلا حاجة إليه.

علينا أن نعترف بأن الفنان ليس مجرّد كيان مادي بحت يحتّم عليه موقعه الطبقي أو خوفه على امتيازاته تذيُّل النظّام؛ في نهاية المطاف هو قادرٌ على اجتراح الفعل الأخلاقي الحُر برفض الظلم المُبين أو على الأقل عدم المشاركة فيه مع تحمله مسؤولية موقفه، ولأن معظم القطاع الفني أثبت أنه لا يفعل ذلك، بل يبالغ في المزايدات والامتثال لخطاب وتوجيهات النظام، يتوجب علينا تفسيره بالسوسيولوجيا والاقتصاد والعلوم السياسيّة، ولكن في خضم هذا التفسير علينا أن نستحضر مدى الدمار الذي أصاب الحساسية ضد الظلم عند النخب الاجتماعيّة وأن نُفرغ حيّزاً واسعاً لفلسفة الأخلاق في دراسة هذه الظاهرة، ولا علاقة لهذا الذي نقترحه بنصب محاكم أخلاقيّة أو إلقاء المواعظ، والغرض منه فهم الظاهرة جيداً ونقدُ الواقع لتجاوزه.

على الضفة الأخرى تنويعات على الإشكال السابق، وأبطاله هم الإسلاميُّون المصريُّون في مرحلة "حكمهم" القصيرة. في رأيي، كان من أوضح علامات انخفاض كفاءة الإسلاميين في إدارة الدولة والمجتمع خطابهم تجاه القطاع الفني؛ فلم يكن من دلالات الذكاء استعداءُ الفنانين إعلامياً رغم مبادرة بعضهم للتقرّب من الإخوان المسلمين باعتبارهم "النظام" الجديد، ولم يكن من المسؤوليّة الأخلاقيّة والوطنيّة إلقاء تلك الخطب والبرامج في قنوات الإسلاميين التي قُذِفت فيها أعراض فنانات وفنانين وشُهّر بهم وهُدّد فيها "لفظياً" بتقييد الأعمال السينمائيّة بالضوابط "الشرعيّة/الأخلاقية" وغيرها من الأمور.

من الأشياء المشوّقة التي تتكشّفُ عند إعمال النظر في موضوع الفنان الجماهيري في السياق السياسي-الاجتماعي أنه موضوعٌ "مفتاحيّ" يقودنا بسلاسة إلى فهم إشكاليات كثيرة في الدولة والمجتمع، وهذا لا علاقة له بالتعريفات التبجيليّة والصورة النمطيّة الشائعة -والتي تحتاج إلى نقدٍ قاسٍ- عن "الفنان" باعتباره كائناً قلقاً وحساساً يمثل ضمير المجتمع وروح العصر وعُصارة الجمال و...إلخ، ولكن لأن في مركز الجَدَل حول هذا الموضوع إشكاليتان تتعاوران النخبة العربيّة كما اتضح في المرحلة الانتقالية: فكرة الدولة، والأخلاق. ولكي نثبِتَ هذه الزّعم علينا الإجابة على السؤال التالي: فيما يخصُّ موضوع الفنان والدولة، ماذا كان على الإسلاميين في تلك الفرصة التاريخيّة فعله؟


في رأينا، كان يتوجب إنجاز ثلاث خطوات:

1) بالاشتراك مع القوى العلمانيّة، التوافق على دستور علماني وديمقراطي، وبهذا كان سيستقر الفنان بما هو مواطن في مجال عام ديمقراطي ومنفتح مؤسس له دستورياً ومحمي بمؤسسات قانونيّة، بعد عقود من اللعب على حبال تعسّف الأجهزة الأمنية والتقلبات الإيديولوجيّة.

2) إعادة تعريف علاقات رأس المال بجهاز الدولة وإنهاء المرحلة الزبائنيّة، وبهاتين الخطوتين يتحرر الفنان من الشرط التاريخي الذي كان يحكم صيرورته، وتغدو معركته محصورة داخل "مجتمع الفن"، أي بين رأس المال وزملائه والجمهور، وهي معركة يخوضها الفنانون بعد ذلك بأنفسهم مستندين على مؤسسات الخطوة الأولى وفي بيئة الخطوة الثانيّة، ويدخل الفنان حينها صيرورة الجدل مع المجتمع ورأس المال عبر النضال النقابي والتفاوض الدائم مع رأس المال وتكوين الهيئات المشتركة والعلاقات مع النخب الثقافيّة والتأثر بالتيارات الاجتماعيّة وغيرها من أدوات القوة والضغط التي تفلح حيناً وتفشل حيناً آخر.

3) وهذه مهمة خاصة بالإسلاميين تحديداً: اتخاذ مواقف حاسمة، مبنية على اجتهاد فقهي وفكري متين، تفصل مرّة واحدة بين الالتزام الديني والأخلاق، وبين الفتوى والقانون، وبهذا يتحرر الفنّان نهائياً من الترهيب الاجتماعي اللا أخلاقي أولاً، ومن توظيف مستقبله ومهنته كورقة مساومة من قبل الدولة القمعيّة والقوى المحافظة ثانياً.

ليس المطلوب من القوى الإسلاميّة القول مثلاً إن الرقص الشرقي أو شرب الخمور أو المشاهد الجنسيّة في السينما أو الروايات الإيروتيكيّة شيء جيّد أو حلال، ولكن واجبها الأخلاقي هو أولاً عدم ربط هذه الأمور بالأخلاق، بمعنى التأكيد القاطع على أن أخلاق الإنسان لا تتحدد بهذه الممارسات ( 18)، وإبقاؤها في حيّزها الفقهي المحض وهو الحلال والحرام، وثانياً عدم حقن الموقف المُحافظ بقوة القمع الدولتي أو الاجتماعي.

كان على الإسلامي أن يتحوّل إلى مُحافظ ديمقراطي: من حقه أن يرى مثلاً التعرّي والقُبَل في الأفلام والأغاني "حراماً" ودعوة الناس إلى مقاطعة هذه المنتجات التي تحوي هذا "الحرام"، ولكن عليه أن يقف هنا ولا يتحرّك خطوة واحدة أبعد، مثل محاولة منعها، وباختصار، كان على القوى الإسلاميّة أن تستبطن فكرة أن من حق المواطن/الفنان أن يرتكب ما تراه ممنوعاً دينياً، وهو حقٌ مشتقٌ من الحُرّيات التي تضمنها الدولة العلمانيّة الديمقراطيّة (19) في دستورها الذي يُفتَرض توافق الإسلاميين والعلمانيين عليه: على الإسلاميين حماية هذا الحق -حق ارتكاب المواطن للمحرّم الديني- وليس فقط الاعتراف به.

الإشكال الأكبر هنا هو أن وجود الإسلاميين في مجال عام ديمقراطي دون الاعتراف بالدولة العلمانيّة بما هي ضامنة للحرّيّات وليس فقط كضامنة للأمن وحامية من الفوضى_ أمرٌ مستحيل؛ فالإسلامي الذي لا يعترف بالدولة بشقّها الضامن للحُريات، عليه إما أن يسيطر عليها ويزيله، وإما أن يدخل معها في حرب إفناء(20). لا وجود هنا لحلول وسط، فهذه الأخيرة لا توجد إلا في ظل دولة قمعيّة، ولهذا ينشط الإخوان المسلمون، والسلفيون الذين يستخدمون "ورقة الشريعة"، في بلدان غير ديمقراطيّة لا تفرض عليهم مجابهة هذا المُشكِل المركزي. أما في بلدان العالم الإسلامي الديمقراطيّة (ماليزيا، تركيا)، أو البلدان العربيّة التي حققت خطوات نحو التحول الديمقراطي (تونس) أو هامش ديمقراطي (المغرب) فلم يجد الإسلاميُّون مندوحة عن حسم مسألة الدولة لكي ينتفعوا بمزايا المجال العام الديمقراطي ويمارسوا أسلوب حياتهم.

وكما هو واضح، مواقف كهذه تحتاج إلى عقول نيّرة تنتج دراسات وأبحاثاً ووثائق وبيانات مسبوقة بنوايا سياسية صادقة لتشكيل فضاء اجتماعي ديمقراطي، وقبل كل ذلك تحتاج إلى استبطان لهذه الأفكار والقيم، لأن استخدامها كتكتيك لا يستقيم في بلد ديمقراطي حتى على المدى القصير.
لو أن هذا حدث، لكانت انتهت حقبة ابتزاز وتحريض وعظي ديني ضد العالم الثقافي برمته كانت تثير انقسامات اجتماعيّة خَطرة توظف بغَباء في معارك سياسيّة استفاد منها النظام القمعي طويلاً في حين أنها -على المدى الطويل- أضعفت الإسلاميين الذين كانوا يعتقدون أنها دوماً حصانهم الرابح! (21). ولكان بُتِرَ جزءٌ كبير من النقاشات العقيمة التي تتعاور حياة الإنسان العربي منذ أربعين عاماً ولكان تفرغ لنقاش الأمور الأهم والأجدى.
هذه المُهمات الثلاث كان يتوجب إنجازها كحُزمَة سياسيات واحدة، أي لا يمكن إنجاز مهمة واحدة بدون الأخريات، وكل من يعتقد أن نظاماً غير ديمقراطي سيقوم بإنجاز إحداها وسيساهم في "تحرير" الفنان من الدولة المصريّة ما هو إلا واهم؛ فالمسألة أكبر من الفنان أو بعض القوانين هنا وهناك: إنها تمس جوهر سياسات الدولة وبناءها القانوني وفضاء قواها السياسيّة الإيديولوجي.

- فهم التاريخ ومشاريع المستقبل

المشكلة الأخرى في التعامل مع موضوع موقع الفنان من الدولة والمجتمع عند قطاع واسع من التيّار السياسي والثقافي الذي انتعش مع ثورة يناير هو التعامل مع دولة 23 يوليو باعتبارها مُتصلاً تاريخياً ممتداً منذ 1952 وحتى يومنا، وهذا خطأ فادح.

أولاً يمكن لنا التحدّث عن دولة يوليو المستمرّة إذا كنا نقصد بنية مؤسسات الدولة، والنظام الجمهوري، وغياب الديمقراطيّة، والبلاغة السياسية، ومبدأ التعامل الأمني مع المجتمع، فهذه هي القواسم المشتركة بين كل عهود العصر الجمهوري في مصر. أما التوجهات الاقتصاديّة، والسياسات الاجتماعيّة، وتركيبة التوازنات في النظام، ومبادئ السياسة الخارجيّة -وهي كلها أمور تحدد هويّة النظام- فلم تكن راسخة منذ 1952، وشهد النظام الجمهوري في مصر تَقلُّبات حادة في كل ما ذكرناه. وهذا الأمر ينسحب على النظام الحالي، ولا يزال قطاعٌ واسعٌ من المحللين السياسيين والقوى المُعارضة يتحدث عن نظام السيسي باعتباره النظام القديم بعد بعثه من رماد نار الثورة.. ولكن المفاجأة غير السعيدة هنا هي القول إن ما نراه ليس نظام مبارك القديم بل نظامٌ جديد في تركيبته وبتوجه بونابرتي وإن كانت سياساته الاقتصادية والاجتماعيّة والخارجيّة امتدادٌ أصيل لدولة السادات.

هنا يُطرح السؤال: وما فائدة هذا النقاش في موضوع الفنان والدولة؟ الأهميّة تكمن في أن أي محاولة لتحرير الفنان من الدولة المصريّة يجب أن تُسبَق بتصوّر واضح عن أولويّات الإنتاج الثقافي، وأهم التحديّات على المستوى العَمَلي، وتحديد نقاط مواصلة البناء؛ فأي طرف يعتقد بأنه سيأتي ليبدأ من الصفر بنية تحتيّة وسوقاً للفنون ما هو إلا واهم ومضيّعٌ للوقت. في مصر حصل تراكم مهم في مسألة الفنون الجماهيريّة والنخبويّة، ووظيفة فهم التاريخ هي تحديد ما يجب إصلاحه وما يجب قلعه وما يجب البناء عليه، وهذا يستلزم قبل كل شيء إخراج القرن العشرين في مصر من محبسه في عالم الدعاية السياسيّة -عالم القدح والمدح- إلى ميدان البحث التاريخي والسوسيولوجي النظري والعملي المُغرِض والمتورّط في أسئلة الحاضر، ومنها سؤال موقع الفنان من الدولة والمجتمع.

لمقاربة هذا السؤال الشائك والمشوّق يجب أن يتطوّر تواصلٌ منتجٌ للتراكم بين قطاعات الصحافة الفنيّة والمثقفين والبحث الأكاديمي: فالصحافة الفنيّة توفّر المواد الخام من مقابلات وحوارات ورصد وتوثيق، ثم يأتي مؤرخو الفنون الهواة من الصحفيين والفنانين ويجمعون هذه المواد ويعرضونها عبر تحليل صحافي (22)، ثم يتبعهم مثقفون مهتمون بالشأن العام ليشيروا إلى تحليلات وأفكار إزاء أسئلة تشغلهم بخصوص علائق الفن والإنتاج الفني بالحيّز العام بالاعتماد على المنتجات السابقة، وأخيراً يأتي الأكاديميون في حقول العلوم الإنسانيّة المختلفة، وخاصّة سوسيولوجيا الفن والإستاطيقا، لبناء بحوث أكاديميّة ذات مداخل نظريّة تدرس عمل المؤرخين والتحليل الصحافي لتقارب الأسئلة التي طرحها المثقفون ولتنتقد المقاربات السابقة. (23).
هذا التواصل الفكري هو المُمكِن في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الوطن العربي حالياً والذي يمكن لموضوع الفنان والدولة الانطلاق منه، ولكن المأمول والواجب أكثر من ذلك ويتطلّب فاعلين آخرين وسياقاً آخر خاصّة إذا انتقلنا لمناقشة موقع الفنان في المجتمع والسياق الاجتماعي للفنون؛ في هذا الموضوع لا مجال للاستغناء عن البحوث الميدانيّة واسعة النطاق والعيّنات، وهذا يستلزم تورّط المؤسسة الجامعيّة ورأس المال في عملية إنتاج الأبحاث والدراسات، وكلا الطرفين لن يتورّطا فيها ما لم ينشأ مجال عام ديمقراطي يسمحُ للجامعة، وباحثيها الطموحين في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، بوضع أجندتها البحثيّة التي تتقاطع أحياناً مع مشاريع وخطط الدولة التنمويّة، ويضطرُّ رأسَ المال المُنتج للفنون إلى الاستثمار في البحث الجامعي ل "التعرّف" على المجتمع وتوجهاته وتناقضاته الثقافيّة بعد عقود من اكتفاء رأس المال بمحاولة فرض التوجهات الفنيّة وتسْييدها بمنطق المتباهين بنقص الكفاءة "هذا هو الموجود"، أوفي أحسن الأحوال، الاكتفاء بالتخمين السطحي لما تبحث عنه التيارات الاجتماعيّة المختلفة، والمُعبّر عنه بالجملة معدومة الذكاء والحرفيّة "الجمهور عاوز كِدَه".

الهوامش:

1- انظر الرابط (تاريخ الاطلاع: 5-06-2018): انظر الرابط.
2- انظر الرابط (تاريخ الاطلاع: 5-06-2018) انظر الرابط.
3- نقصد بالفنون الجماهيريّة تلك المتوجهة في الأصل إلى جمهور واسع: التمثيل والغناء والرقص الشرقي بخلاف فنون أخرى مثل الفن التشكيلي والموسيقى الكلاسيكية ورقص الباليه التي تتجه إلى جمهور نخبوي ضيّق. ولا نعني بهذا أن الفنون
الجماهيرية قد لا تقدّم مضموناً نخبوياً؛ فثمّة فيها تيارات نخبويّة ولكن معيار نجاحها الأول هو جماهيريّتها.
4- تغيُّرات خطاب النظام القمعي تجاه قضايا وأفكار عامّة مثل القوميّة أو التديّن تترجم ذاتها سريعاً في ميادين التعبير الفني، وتاريخ الأنظمة الشيوعيّة مليء بهذه التحوّلات. على سبيل المثال، يرصد ميلان كونديرا في روايته "المزحة" تغير موقف النظام الشيوعي من الفنون الفلكلوريّة في بوهيميا (التشيك) ونتائج ذلك مثل ظهور لفرقٍ فلكلوريّة وسماح النظام بإقامة مهرجانات محليّة.
5- ومن هنا نلحظ مثلاً الولع الفني العربي بالرُّموز، وقوّة تيار الواقعيّة السحريّة والفانتازيا في أدب أميركا اللاتينيّة في القرن الماضي.. إنها المنافذ الأفضل للتعبير ونقد الواقع دون الاصطدام بالدولة والمجتمع.
6- نعتقد أن أكثر مرحلة مترعة بالأساطير في تاريخ مصر الحديث هي مرحلة أنور السادات، ومنها أسطورة هامش الحُرّيات الفنيّة، والحقيقة أن الهامش الفني الحرياتي ظهر في عهد مبارك وليس السادات، بل ونزعم أن عهد الأخير كان الأكثر تشدداً مع الفنون منذ 23 يوليو 1952 وحتى 3 يوليو 2013. وما أنتجته سينما السبعينيّات من نقد لنظام عبد الناصر مثل "الكرنك" و"إحنا بتوع الأتوبيس" و"وراء الشمس" لم يكن ناتج حريّة تعبير فنّي آمن بها وأمّنها النظام بل ناتج توجه سياسي ثأري قاده النظام.. وثمّة فرق كبير بين الأمرين سنناقشه لاحقاً.
7- من هذه الثوابت مثلاً منع تصوير الأفلام لمظاهرات في أماكن معينة (خاصة ميدان التحرير) ومنها مثلاً منع التهجم على اتفاقيّة كامب ديفيد في السينما والدراما والغناء.
8- البونابرتيّة هي وصف لطبيعة نظام ثورة مضادة -غالباً- يتنازل له رأس المال عن تأثيره السياسي مقابل محافظة النظام على امتيازاته مع اعتماد النظام في البداية على قاعدة اجتماعيّة تخترق الطبقات المختلفة وتمتاز عموماً بأنها لا تتمتع بمكانة اجتماعياً، ومع الوقت يتحرك النظام بمعزل عن المجتمع ورأس المال وكأنه كيان قائم بذاته. هذا المصطلح قادمٌ في الأصل من عمل كارل ماركس "الثامن عشر من بروميير: لويس بونابرت" والذي تناول فيه تشكل نظام الثورة المضادة في فرنسا على يد لويس بونابرت، ولكن المفهوم تطوّر لاحقاً عبر دراسات ماركسيّة نقديّة أضافت الكثير من الأفكار للمفهوم. الأمر المهم هنا في السياق المصري أن رأس المال حين وقف مع الثورة المضادة كان يظن بأنه سيصبح شريكاً -كما في عهد مبارك- مع حماية النظام له من الثورة والديمقراطيّة. ولكن النظام كانت له وجهة نظر أخرى في البداية، وهي البونابرتيّة المعروفة، ولكن مع الوقت اتضح أن النظام يريد منافسة رأس المال على امتيازاته الاقتصاديّة بعد إجباره على التخلي عن أحلام الشراكة السياسيّة. كما أن النظام مستمرٌ في ضرب قواعده الاجتماعيّة التي بدأ بها عهد الثورة المضادة، وقطاعات نخبة الثقافة والفن التي وقفت مع النظام وهو يرتكب الفظاعات. وبعد أربع سنوات فحسب تُظهر جميع المؤشرات أن النظام يركن تماماً إلى الجيش وشبكة المصالح الفوقيّة المرتبطة به بدون رغبة في تكوين سند اجتماعي تحتي أو نخبوي.. ويكتفي بالتخويف والإجبار لكي "تُمثّل" النخبة دور السّند للنظام وهذا يكفيه في نظره.
9- انظر الرابط (تاريخ الاطلاع: 5-06-2018) انظر الرابط.
10- الصفقة الضمنية بين السادات والفنون الجماهيريّة هي رمز لصفقة أكبر عقدتها بعض الأنظمة العربيّة مع مجتمعاتها وتتلخص بمقايضة القبول بالقمع السياسي والتكديح الاجتماعي بترك مساحة للمواطن لكي يمارس حرياته الخاصّة.
11- أهم تمظهرات هذه السياسة المتشدّدة كان أزمة برنامج "أبلة فاهيتا": دُميَة لا تناقش مطلقاً الشأن العام وكل ما تفعله هو إصدار تعليقات كوميديّة خفيفة ذات منزع طَبَقِي لا يخفى عن العين -أي أن المُخاطب في هذا البرنامج هو الشريحة العليا من الطبقة الوسطى وطبقة الإقطاع الجديد- مصحوبة بميل دائم نحو المجازات الجنسيّة. بعد فترة وقعت هذه "الدمية" في أزمات مستمرة مع أجهزة الدولة في عهد السيسي إلى أن أُوقِفَ برنامجها!
12- انظر تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" على الرابط (تاريخ الاطلاع: 05-06-2018): انظر الرابط.
13- في هذا الموضوع خصوصيّة مصريّة مجدَّلة بمأساة قوميّة تستحق الذكر. السوق الفنيّة المصريّة تمثل بديلاً جاهزاً للفنان العربي، ولهذا نلحظ مثلاً أن الفنانين السوريين المعارضين للنظام استطاعوا جزئياً التحوّل نحو مصر ومتابعة نشاطهم المهني، في حين أن الفنان المصري لا يحوز هذه الفرصة وذلك لسببين: الأول هو عدم وجود سوق عربيّة فنيّة مشتركة ذات معايير محترمة تُقدّم للفنان العربي فرصاً واسعة ومجالاً للحراك المهني والاجتماعي، ويصعب عموماً التقدم في بناء سوق من هذا النوع بدون مشاريع استراتيجيّة عربيّة تخص اللغة العربيّة باعتبارها اللغة القوميّة ووسائل تمكينها في المجتمع والإنتاج العلمي والفني والثقافي عموماً. والسبب الثاني هو أن الفنان المصري، رغم دور مصر المركزي ثقافياً وسياسياً في فترة المد القومي، يتميّز مؤخراً بانغلاقيّة على الفضاء الثقافي المصري ويظهر من بعض الأحاديث الصحفية والمواقف الغاضبة أنها تنطوي أحياناً على تعالي شوفيني على المحيط القومي. فلا يجتهد الفنان المصري حالياً لإتقان لهجات عربيّة أخرى أو للتمكن من مخارج ألفاظ العربيّة الفصحى مثلاً أو يدخل في مغامرات إنتاجية وفنيّة في الدول العربيّة، وهذا التعالي ليس شيئاً اخترعه القطاع الفني بل هو نزوع سياسي موجود داخل الدولة والمجتمع طوال القرن العشرين بعثه وأصْلَب عُودَه نظام السادات -والنظام العربي لاحقاً- في غمرة تحوّله نحو التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكيّة وإسرائيل.
في الرابط أدناه مقابلة بين الفنانَيْن نور الشريف وصلاح السعدني تتميّز بصدقٍ وعمقٍ نادرين، ويُناقش في جزئها الأخير-بخليطٍ من الأمل الحالم والتعقّل- مسألة السوق الفنيّة العربيّة المشتركة. (تاريخ المشاهدة: 05.06.2018) انظر الرابط.
14- من ماكس فيبر (Max Weber) وكان فيبر مهتماً بدراسة السلوك الاجتماعي ويلعب مفهوم المكانة Der Stand دوراً مهماً في أعماله السوسيولوجيّة.
15- الفروق كثيرة بين طبقتي الإقطاع في العالم العربي وأغلبها يقول إن القديم كان أقل سوءاً (وليس أفضل من الجديد!). مثلاً كان لبعض الاقطاعيين في العهود الملكية العربيّة ميول تنويرية ذات جوهر نخبوي بالطبع، نذكر في مصر الأميرة نازلي وصالونها الثقافي، ونذكر في اليمن الأمير أحمد بن الفضل القمندان الذي كان شاعراً رقيقاً وملحناً مهماً، ويَعُدّه بعض الدارسين مؤسس المدرسة الغنائية اللحجيّة، كما بنى مدارس للموسيقى وشكل فرقاً موسيقيّة، في حين أن الإقطاع الجديد شديد النهم للمال والسلطة ولكن دون إيمان بأي واجب اجتماعي، بل ويتلخص مفهوم الثقافة عنده في "أسلوب الحياة الغربيّة" وليس في الفنون والإنتاج الثقافي. ومن الفروق الأخرى كذلك أن الإقطاعيين القُدامى كانوا يسكنون في قصور بالطبع، ولكن بدون حواجز ماديّة عن بقيّة الناس (في رواية "المرايا" لنجيب محفوظ -والتي تحكي جانباً من سيرته الذاتيّة- يصف الراوي فيلا أحد البشوات القابعة في الحي الذي كان يسكن فيه وهو المنتمي للطبقة الوسطى) أما الإقطاعي الجديد فلا يقبل إلا بحيٍ مُغلق عليه وعلى أشباهه ومحوّطة بالأسوار وقوى الأمن لتحميهم من "الدّهماء".
16- يجب التنويه إلى أن استخدام كلا التعبيرين "منادمة الرشيد" و "تذيّل النظام" لا يحمل حُكماً معيّارياً بل هما تعبيران وصفيّان للموقع الطبقي والاجتماعي للفنان بتجريد ولا يقصد بهما القدح أو الانتقاص.
17- نذكر هنا أن "الاستعلاء" ليس مجرّد استنتاج يصل إليه المراقب من ملاحظة سلوك شخصي أو خطاب إعلامي، بل مؤسس له كفكرة وموقف في كُتُب سيّد قطب الذي تركت أفكاره -ومنها فكرة الاستعلاء الإيماني- أثراً عميقاً عند قطاعٍ واسعٍ من إسلاميي المشرق العربي.
18- في هذا الجانب ملاحظتان: الأولى هي أن الهدف الأهم لهذا التمييز بين الأخلاق والدين هو صالحُ الإسلاميين وليس في انتفاءه عندهم ضرر كبير على الآخرين في حال وجدت دولة مواطنين ديمقراطيّة. هذا التمييز يفتح للإسلاميين باب الاندماج الاجتماعي ثقافياً والفرص السياسية الجيّدة في المجال العام الديمقراطي؛ فكرة العيش داخل مجتمع كامل من "الأوغاد فاسدي الأخلاق" باستثنائ"نا" وضرورة التعامل اليومي معه تُغذي شعور اغترابٍ لا يُطاق.
الملاحظة الثانية هي أن عالماً وعقلاً كبيراً مثل ابن تَيمية كان قادراً على إدراك الفارق بين الأخلاق والدين، وهذا يجعلنا ندرك مدى مصيبة المجتمعات العربية عندما نجد مشكلة قطاع من الإسلاميين مع هذا الموضوع في عصرنا الراهن، ويجعلنا نسائل بعض المسلمات عن الإسلاميين مثل اعتبارهم لأنفسهم -ويتفق معهم كثير من خصومهم- منتجاً حضارياً إسلامياً خالصاً.
هنا تجدر الإشارة إلى أن واحدة من أهم الأفكار التي طرحها عزمي بشارة في كتابه عن الثورة المصريّة واستفدنا منها في هذا المقال هي ضرورة إيمان الإسلاميين بالحريّات الخاصة للأفراد كمدخل مهم لتجنب الاحتراب الأهلي وبناء الدولة الديمقراطيّة.. للمزيد أنظر:
عزمي بشارة، ثورة مصر- الجزء الثاني: من الثورة إلى الانقلاب، ط1 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مايو 2016).
19- أحياناً يتراءى للتيّار الإسلامي أن هذه الفكرة فرضٌ ل "تنازلات" أولاً ومن جانب واحد ثانياً، وهذا غير صحيح لعدة أسباب. أولاً الذهاب نحو علمانية الدولة ليس تنازلاً بل إيمان بفكرة الدولة وشرط الديمقراطيّة، إنها شيء ضروري وحاسم لكي "نعيش" وليست تنازلات يقدمها أحد. وثانياً، وإذا أصر التيّار الإسلامي على رؤية هذا الشرط باعتباره تنازلاً، فإنه قطعاً ليس من جانب واحد، لأن القوى العلمانيّة "الديمقراطيّة" كذلك مطالبة بدستور علماني يضمن الحُريّات ومن ضمنها حريّة التدين وحق أي مواطن في اتخاذ مواقف محافظة -وإنتاج فنون وثقافة محافظة- يراها العلماني تخلفاً ورجعيّة وضرراً على المجتمع، وواجب العلمانيين ليس الاعتراف بهذا الحق وهذه الحريات فحسب بل والدفاع عنها. كما أن علمانية الدولة لا تعني رمي التراث الفقهي في البحر أو نزع الدولة من إطارها الحضاري. إن إحدى أعمق مشاكل الإسلاميين والعلمانيين العرب، والتي كَرَثت الثورة في نهاية المطاف، كان عدم فهم هذه النقطة جيداً.
20- إذا كان في الحرب الأهلية الجزائريّة من درس فهو هذه الفكرة. جبهة الإنقاذ الإسلاميّة في الجزائر دخلت الانتخابات وهي لا تؤمن إلا بعملية الانتخابات دون الديمقراطيّة وعلمانيّة الدولة والدستور، وكان خطاب لإسلاميين يقول بوضوح أنهم لا يعترفون إلا بالقرآن والسنة أما مبدأ الدستور ذاته فمرفوض! بعد فوزها في الانتخابات، سهّل سلوكُها الهدّام هذا على الجيش الرافض للديمقراطيّة مهمّة إقناع قطاعات اجتماعيّة واسعة بضرورة سحق الإسلاميين.. وقد كان.
21- تمكّن النظام بهذا التكتيك، كما أشرنا في نقاش سياسة نظام السادات، من تحصيل منافع كثيرة: كَسَبَ النظام القواعد الاجتماعيّة المحافظة، وأقنع القطاع الفني بضرورته -رغم قمعيته ومحافظته واستخدامه الفنانين ورقة مساومة سياسية- لحماية الفن من غُلاة المُحافظين، في ذات الوقت! أما الإسلاميون فأولاً خلق لهم هذا التكتيك خصوماً كثراً في السياسة وأعداءً داخل المجتمع وداخل النخبة الثقافيّة، كما سهّل ثانياً تصويرهم كجماعات مخيفة ستأتي لتغيّر نمط حياة الآخرين وتحرمهم من متعهم الصغيرة وعلى رأسها الفنون.. وهذا كله، ومع تراكم الزمن وتراكم أخطائهم وخطورة عداء النخبة الثقافيّة والفنيّة وعدم إدراكهم حجم مسؤوليّة دورهم والدعاية السياسية ضدهم وتشويههم، سهل عزلهم اجتماعياً وثقافياً وسياسياً -وهم معزولون فعلاً رغم حراكهم الواسع- ومن ثمّ سحقهم لاحقاً حين تحوّل خصوم السياسة إلى أعداء.
22- إلى جانب الصحف الفنيّة التي أنتجت إلى جانب متوسطي الموهبة، ومتابعي الفضائح، صحفيين محترفين ونقاداً جيدين، ينشر بعض الفنانين من حين لآخر مذكرات وشهادات تفيد في تكوين "المادة الخام" المطلوبة. أما التأريخ الصحافي للفنون، فأهم مساهمة مؤخراً هي في رأيي برنامج بلال فضل "الموهوبون في الأرض" وهذا البرنامج يختلف عن برامج أخرى كثيرة تدعي التأريخ لحياة بعض الفنانين عبر المدح المبالغ فيه والولع بالحكايات الشخصيّة واللحظات المؤثرة -يسميها المصريون بلهجتهم اللطيفة "الصعبانيّات"- دون إفادة المشاهد بفكرة واحدة تقارب مشاكل الفنون وطبيعة التفاعل بين الفنان والدولة ورأس المال. ولا يزال انخراط المثقفين في هذا الشأن أقل من الواجب، كما أن ثمّة غياباً واضحاً لسوسيولوجيا الفن مصرياً وعربياً.
23- نعتقد أن الحالة العربيّة عموماً ستدفع بكثير من المنظّرين إلى إنتاج أفكار نظريّة خاصة لفهم سياق تشكُّل الفن وتخلق الفنان اجتماعياً وعلاقته بجهاز الدولة ورأس المال، ولن يكفي الاعتماد على إنتاج السوسيولوجيا الغربيّة عموماً في دراسة هذا الموضوع. تجدر الإشارة إلى أن السوسيولوجيا الفرنسيّة خصوصاً قطعت شوطاً لا بأس به في حقل سوسيولوجيا الفنون ولعبت دوراً ريادياً فيه خاصة على يد المفكر الفرنسي بيير بورديو.
لتكوين صورة جيّدة عن هذا الفرع في علم الاجتماع انظر:
ناتالي إينيك، سوسيولوجيا الفن، ترجمة: حسين جواد قبيسي، ط1 (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، يونيو 2011)
أيمن نبيل

باحث يمني، ويقوم بالكتابة الأكاديميّة والصحفية في عدّة أماكن.

مواد أخرى لـ أيمن نبيل

ذات صلة