علمانيةً تنظيميّاً: الحركات الإسلامية الدمشقية والثورة السورية

31 آذار/مارس 2018
 
[هذه هي المادة السادسة من ملف ينشره موقع العالم عن سوريا، وللاطلاع على المادة الأولى انقر هنا، والثانية هنا، والثالثة هنا، والرابعة هنا، والخامسة هنا]

ترجمة: حمزة عامر.
 
[نُشرت هذه الدراسة بالإنجليزيّة في مجلّة دراسات سوريّة، وننشرها بدورنا في معهد العالم بعد أخذ موافقة المؤلف. علماً أنّها المادّة السادسة من ملف ينشره معهد العالم عن سوريا في ذكرى الثورة. للاطلاع على المادّة الأصليّة، انظر آخر المادّة]
 
تبحث الصفحات التالية في حركتين إسلاميتين تتركّز معظم أنشطتهما في مدينة دمشق، وهما الكفتارية [جماعة الشيخ أحمد كفتارو] والقبيسيات [جماعة الشيخة منيرة القبيسي] ، ويُعنى هذا التحليل بالدرجة الأولى في الخواص التنظيمية لهاتين الحركتين وكيف استطاعتا، مع مرور الزمن، صياغة نهج تعاطيهما مع الانتفاضة السورية. وسعياً لرسم صورةٍ أكثر وضوحاً، أُلحِقت مقابلاتٌ مع الراحل الشيخ محمد بشير الباني (1911-2008)، الساعد الأيمن لكفتارو وخليفته الروحي، بنتائج هذا البحث، وهي مقابلاتٌ تُنشر مقتطفات منها للمرة الأولى. ويرتكز نهج هذا التحليلعلى عددٍ من المساهمات العلمية، من بينها فكرة نيكلاس لومان عن التنظيمات بكونها مجموعةً من نظم التواصل، والتمايز بين منظومة الغاية (Expressive Organization) ومنظومة الوسيلة (Instrumental Organization) الذي أسّس له كلٌّ من جوردون وبابتشاك، ويُضاف إلى ذلك عناصر من تصانيف التنظيمات من تخصّصاتٍ مختلفة.

بعد تحديد المساهمات النظرية التي يوّظفها هذا التحليل، يشارك البحث لمحة عامةٍ عن التاريخ التنظيمي للحركات الإسلامية، يليه سردٌ تحليلي للكفتارية والقبيسيات. ويتناول السرد كيف تطوّرت هاتان الحركتان تنظيمياً، مع التركيز على العلاقة بين خواصهما التنظيمية وطريقة تفاعلهما مع الدولة والمجتمع.

الفكرة الجوهرية التي يحاول هذا البحث التأصيل لها هي أن الكفتارية والقبيسيات هما حركتان علمانيتان (من الناحية التنظيمية) بغض النظر عن الخطاب الديني الذي يستخدمه رموزهما القيادية ويمتثل له أتباعهما. ويمكن فهم لماذا اختارت هاتان الحركتان النأي عن مواجهة نظام الأسد بفهم هذه الخواص التنظيمية، بالرغم من الثمن الجسيم التي دفعته هاتان الحركتان لهذا الموقف سواءً بين أفراد أطياف المعارضة، الذين يُشيرون لهاتين الحركتين في الغالب بأصابع الخيانة، والمؤيّدين للنظام الذي يرون بأن تأييد هاتين الجماعتين هو تأييدٌ مزيف.
 
الإطار المفاهيمي

يعيبُ التصنيفات الدارجة للحركات الإسلامية، مثل الصوفي، والسلفي، والجهادي، عدم قدرتها على بلورة الاختلافات الفكرية بين هذه الحركات، وأيضاً، والأهم من ذلك، لا تقدّم هذه التصنيفات سوى شرح هزيل لتنظيمية هذه الحركات من الناحية التجريبية. فيمكن أن يُشير لفظ حركةٍ سلفيةٍ إلى حركةٍ لها حزبٌ سياسيٌّ يمثّلها على أرض الواقع (مثل حزب النور في مصر) أو إلى حركةٍ تناهض، بصورةٍ قطعيةٍ، الأحزاب السياسية (مثل الرموز الدينية في السعودية). وحتى لو نظرنا إلى الجانب الفكري، فيمكن أن يُقصد بمفهوم السلفية منهجيةٌ إصلاحية (مثل رشيد رضا) أو مفكّرون محافظون جداً (مثل ابن باز). وينطبق الأمر ذاته على مُسمّى الصوفية (إلا إن كان الحديث عن طريقةٍ بحد ذاتها) نظراً لأنه يختزل طيفاً واسعاً للغاية، بحيث لا يمكن لهذا المسمّى أن يكون ذا مغزىً تجريبي. ويمكن للحركات الصوفية أن تكون غير ناشطةٍ سياسياً من حيث المبدأ، ويمكن أيضاً أن يكون لها كتائب عسكرية منظّمة (مثل جيش رجال الطريقة النقشبندية في العراق). 
 
ولو نظرنا أيضاً إلى وصف الجهادي، فهو أيضاً غير مفيد. فيمكن أن يُقصَد به أشخاصٌ لهم مواقف معيّنة (مثل جاهزية استخدام العنف العشوائي)، وليسَ أناساً منظّمين بطريقةٍ معيّنة. ولهذا، فإن الإطار المفاهيمي المعمول به في هذه الدراسة مصمم خصيصأ من أجل تجنب هذه الإشكاليات. ويرتكز الإطار المفاهيمي المطبق هنا بصورةٍ أساسية على المساهمات العلمية التالية.[1]
 
نيكلاس لومان هو عالم اجتماعٍ ألماني وأحد أهم المنظّرين التنظيمين. (Bechmann and Stehr, 2002). فكان لعددٍ من جوانب إحاطته بالعلاقة بين التواصل والتنظيمات ارتساماتٌ هامةٌ على كيفية رسم هويات الحركات، وتحديداً تلك التي يمكن وصفها بالشعبية. وتتلخّص أفكار لومان بأنه يعتبر التنظيمات نظماً اجتماعية، وتتمايز هذه المجموعات داخل المجتمع على أساس "هوية القرار"، وهي الاتفاق على مجموعةٍ من البدائل المرفوضة، أي مثلاً بأننا سنفعل كذا وكذا وليس هذا وذاك (Seidi and Becer, 2006; Mykkänen and Tampere, 2014). وتتبلور "هوية القرار" وترسّخ جذور التنظيم، لتكون النتيجة النهائية هي مجموعةٌ من الناس المتمايزين تنظيمياً عن الآخرين، ولا يكون هذا التمايز فقط بـ "هوية قرار" محدد، وإنما أيضاً بسعيهم، تنظيمياً، للعمل به.
 
وتمكّننا هذه المساهمة المهمة من صياغة تعريفٍ للحركات الشعبية غير الرسمية على أساس "هوية القرار". ففي سياق الحركات الكبيرة، على سبيل المثال، التي يكون أتباعها أقرب إلى مؤيّدين من أفرادٍ رسميين، كيف يمكن للمرء أن يحدّد حجم تنظيمٍ كهذا وكيف يمكن أن يُعرف من ينتمي له فعلياً؟ فتوظيف نظرية لومان يساعدنا على استيعاب أن تحديد التابعين يتوّقف على مدى تجلي "هوية القرار" فيهم. فسيُبلغ مؤيّدو حركةٍ شعبيةٍ بعضهم البعض بقرار الاحتجاج (بدلاً من عدم الاحتجاج) في مكانٍ محدّد (بدلاً من مكانٍ آخر)، وهذا بدوره سيُمايز حركةً معيّنةً عن حركةٍ أخرى أرسخت "هوية قرار" آخر. وباختصار، فإن التواصل لا يُختزل فقط في نقل الأفكار، بل يلعب أيضاً دوراً مهماً في تمايز منظّمةٍ عن بيئتها الخارجية.

وكان جوردن وبابكوك (Gordon and Babchuk, 1959; Lu, 2008; Hopkins, 2015) هما أول من نظّرا لفكرة منظومات الغاية ومنظومات الوسيلة. فمنظومات الغاية هي "المنظّمات التي تمثّل مصالح أعضاءها بالنسبة إليها هي الهدف، أي أنها لا تملك أيّ أغراض مرتبطةٍ بالخدمة العامة خارج دائرة مصالح أفرادها". (Robinson and White, 1997, p. 5.) أما منظومات الوسيلة "فتسعى إلى تحقيق حالةٍ أو تغييرٍ بين شريحةٍ معيّنةٍ من المجتمع." (المصدر السابق). ولهذا التمييز، البسيط في ظاهره، ترتباتٌ كبيرةٌ على طبيعة تفاعل التنظيم مع بيئته السياسية الاجتماعية. فمنظومات الغاية "النقية"، مثل الجمعيات الماسونية، والجمعيات المهنية، ونوادي الصحة والكتب، معنيةٌ فقط بالقضايا والأنشطة المعنية بشكل أساسي برغبات ومصالح أفرادها. أما منظومات الوسيلة "النقية"، مثل جمعيات مناصرة هدف سياسي معين، واللوبيات والأحزاب السياسية، فهي منكبةٌ بصورةٍ شبه كاملة على القضايا والأنشطة المرتبطة ببيئتها الخارجية.
 
ويستمد أفراد منظومات الغاية شعورهم بالانتماء من فكرة الانتماء بذاتها، في حين يكتسب أفراد منظومات الوسيلة الشعور بالانتماء من مدى تحقيق منظومتهم لأهدافها. وتنطوي معظم التنظيمات على خواص يمكن تلمسها في كلا النوعين على أرض الواقع. ويؤكّد أنصار "الإطار النظري للمنظومة الطبيعية" (Natural System Paradigm) (الذي يلقى اليوم رواجاً كبيراً في أدبيات هذا المجال) على أن أفراد أيّ منظّمة "... تدفعهم مصالح متعدّدة، مختلفةٌ ومشتركة، ومصالح غاية ومصالح وسيلة..." (Stern and Modi, 2010, p. 257). ولكن تقوم التنظيمات على نواةٍ، أو مبدأٍ داخليٍّ يحشد المنتمين إليه، وهذا المبدأ الداخلي هو العامل الذي يعرّف التنظيم ولا يتأثّر بالطبقات التنظيمية الإضافية التي تتشكّل فيما بعد. ويتمثّل التحدي في تحديد مجموعة الخواص الجوهرية لأي تنظيم، التي يمكن وصفها بأنها حالتها الطبيعية. فلو نظرنا، مثلاً، إلى جمعية ماسونية فهي في جوهرها منظومة غاية، لكنها تسعى إلى لعب دورٍ مفصليٍّ في بيئتها السياسية الاجتماعية. (Mason, 2013). أما حزب الشاي (Tea Party)، الذي تم تأسيسه مؤخراً في الولايات المتحدة، فهو منظومة وسيلة، إلا أنه يساهم أيضاً في إشباع غاية المنطوين تحت هذا اللواء بالانتماء إلى مجموعةٍ لها وعيٌّ سياسيٌّ محدّد. (Roscoe and Jenkins, 2015).

ولو كان لنا أن نعاين على مستوىً أدق، فيمكن تصنيف التنظيمات ذات الميول الإسلامية إلى علمانية وثيوقراطية. وبالرغم من أن هذا التمايز لا يتسق مع هذه الدراسة، فهناك عددٌ من الأعمال التي أشارت إليه بصورةٍ غير مباشرة (Ramadan, 2009; Salvatore, 2005; Sahgal, 2013)، فالجماعات الإسلامية العلمانية غير مهتمةٍ بإقامة "دولةٍ إسلامية"، ولا تنادي بتطبيق الشريعة (أي أحكام الأسلام، ولو أن هذا المصطلح يشير عادةً إلى أحكام العقوبات ويتجلّى فيها اتساقٌ تنظيمي مع منطق وقواعد المجتمع المدني. أما التنظيمات الثيوقراطية فتنادي بإقامة دولةٍ إسلاميةٍ وتطبيق الشريعة، ويتبدّى فيها شيءٌ من اللاتوافق حينما تسعى للتصالح مع قواعد المجتمع المدني.
ولن يقتصر دور هذه الأفكار، كما سيتضح فيما يلي من صفحات، التي تتناول كيفية معاينة أي تنظيم على تصنيف حركةٍ بصورةٍ محدّدة عوضاً عن اللجوء إلى تصنيفاتٍ عامةٍ شعبية، بل سترسم، وهو الأهم، فهماً تجريبياً لسببية نزوع حركةٍ لموقفٍ ما، أو امتناعها عن أخذ موقفٍ ما.
 
توطئة: التاريخ التنظيمي

لا يوجد إلى اليوم تاريخٌ مدوّنٌ وموّثق للتاريخ التنظيمي للكفتارية والقبيسيات. وفي سبيل رسم صورةً عامةً لتاريخهما، سنركّز هنا على أهم العناصر التي نحتاجها لفهم الخلفية التاريخية التي انبثقت منها هاتان الحركتان.
 
ولعل أهمّ ما يجب تبيينه في التاريخ الإسلامي القديم هو عدم دقة المفهوم الشائع بأن المسلمين لم يفصلوا بين الدين والدولة، وهذه الفكرة هي، مجملاٌ، مغالطةٌ حديثة، وكانت أيضاً غريبةً على علماء السنة التقليدين (Lapidus, 1975; Roy, 1994; Mavelli, 2013). والصحيح بأن الافتراض هو وجود أخطاءٍ في جوهر نظام القيادة السياسية منذ الخلافة الأموية وامتدّ ذلك إلى ما تلاها، ولكن كان هذا شرٌّ لا بد منه لصون النظام والأمن. فكان العلماء متقبّلين لفكرة تحمل أي شيءٍ لا يصل حدّ العداء السافر لمبادئ الإسلام، مشدّدين في ما كتبوه من أعمال على أنه مهما بلغ حكامهم من سوء، فإن الفوضى تبقى الخيار الأسوء (Ibn Taymiyyah, 2014). وبأحسن الأحوال، منّى العلماء نفسهم بالتأثير على القيادات السياسية لضمان الحفاظ على حرية حركة وتوسع تنظيماتهم - سواءً أكانت المدرسة، أو الوقف، أو الطريقة- وفقاً لمفاهيهم الشرعية الخاصة (Imady, 2005B). وكما رصد، ووثّق، غير واحدٍ من الكتاب، فقد "بلورت التقاليد الإسلامية منظوماتٍ قامت على الفصل بين الدين والسياسة على مدار السنين نشأت من داخل الدولة نفسها." (Mavelli, 2013, p. 162).

أما الإمبراطورية العثمانية، التي شابت صورتها التاريخي شيءٌ من عدم الدقة على أساس أنها دولةٌ ثيوقراطية، فقد هيمن عليها في الواقع مناخٌ سياسي اجتماعي معقّدٌ للغاية كان التداخل بين السياسة والدين فيه يختلف بصورةٍ كبيرةٍ عن رؤيةٍ دولةٌ التزم قادتها بتطبيق أحكام الإسلام (Karpat, 2002). ففي حقيقة الأمرـ كان دور العلماء مهمّشاً منذ التاريخ المبكّر للدولة العثمانية. وهيمن التنظيم المؤسّساتي على هذه الدولة في أواسط القرن التاسع عشر مع قيام التنظيمات في ظلّ سلسلةٍ من الإصلاحات القانونية (المصدر السابق). وباختصار، قبل العلماء ذلك فيما يتعلّق بأمور الدولة، فأصبح دورهم هو التأثير وليس الحكم. ونجحت هذه المؤسّسات لسببٍ محدّدٍ، وهو أنها لم تناصب المعارضة للسلطة السياسية، بل استطاعت العديد من الدول الإسلامية التصالح معها، وبسهولة.


النقطة الثانية التي ينبغي التركيز عليها هنا هي أن ثقل منظومة العلماء التقليدية قد ضعفت كثيراً في ظلّ نهوض الدولة القومية الحديثة، ولم يُستثن أيٌّ من الكفتارية والقبيسيات من ذلك (Imady, 2005B). فكان محمد علي هو أول من انتزع الأوقاف، شريان حياة "المدارس"، بداية القرن التاسع عشر، وعاد هذا الأمر ليتكرّر بدرجاتٍ متفاوتة في محطاتٍ مختلفةٍ من التاريخ الإسلامي (المصدر السابق). واستحدثت أيضاً مناصبُ جديدة على يد الحكام السياسيين، مثل مفتٍ تعيّنه الحكومة (ولو أن العثمانيين كانوا هم أول من قام بذلك)، بل وحتى شيوخ الطرائق الصوفية، وكان ذلك لضمان تحجيم التأثير السياسي لبنية منظومة العلماء. واتجه العلماء، ردّاً على ذلك، إلى صورةٍ تنظيميةٍ أخرى. (المصدر السابق).
 
فبعد تجربة حلّ الجماعات السياسة السرية والمحافل الماسونية، وجد العلماء أن الجمعية الخيرية هي الحل التنظيمي الجديد الأمثل، القادر على احتواء أهداف العلماء داخل المجتمع بطريقةٍ تصون الاستقلالية ولا تمثّل تهديداً للسلطة السياسية (المصدر السابق). وتأسّست بالفعل مئات الجمعيات في بدايات القرن العشرين التي رعت المدارس، وأماكن تعليم الدين، والمساجد وغير ذلك الكثير من أشكال العمل الخيري. ويعود أصل هذه الجمعيات الخيرية، في كثيرٍ من الحالات، إلى شيوخ طرائق صوفية، وكانت، في هذا السياق، دمجاً بين تنظيمٍ تقليدي وتنظيمٍ حديث (المصدر السابق).
وقد يتفاجأ المرء حين يدرك بأن تجربة التنظيمات الحديثة في دمشق حملت الكثير من النتائج المبشّرة بالرغم من إحكام العثمانيين قبضة سطوتهم عليها مقارنةً بمصر. بل إنّ رموزاً بارزة مثل عبد القادر الجزائري انضم للماسونية (Commins, 1990)، وبدأ العلماء باختبار نموذج الجمعيات الخيرية مباشرةً بعد وضع العثمانيين لقانون الجمعيات عام 1909 (al-Rifa'i, 2008). واستمر هذا الزخم تحت حكم الانتداب الفرنسي، لتصبح دمشق، بحلول خمسينات القرن الماضي، مأوىً لعددٍ كبيرٍ من الجمعيات الخيرية تمتّع فيها العلماء والطرائق الصوفية بدورٍ فعّالٍ جداً (al-Humsi, 1991). وفي النهاية فشلت محاولات الدولة، كما هو واضح، في التهميش التنظيمي لدور العلماء.
 
 
سردٌ تحليلي: الكفتارية والقبيسيات

تعود جذور الكفتارية والقبيسيات إلى الطريقة النقشبندية، أحد الطرق الصوفية، وتحديداً فرع الخالدي. سُميّ هذا الفرع على اسم خالد البغدادي (1779-1827)، وهو عراقيٌّ كرديٌّ صوفي قام بإصلاح وتجديد الطريقة النقشبندية في الدولة العثمانية (Weismann, 2003). ومن بين العديد من الطرق التي تفرّعت عن البغدادي في دمشق، كُتب لفرع النقشبندية الخالدية أن يلعب دوراً بارزاً للغاية في تاريخ سوريا السياسي والديني الحديث. يُعرف بأن للطرق الصوفية شيخٌ يرأسها، ويُستأمن هذا الشيخ على ذلك بمباركة الشيخ الذي سبقه، سواءً أكان ذلك صراحةً أو ضمنياً.
 
ومما يتوّفر لنا من معلومات، فإن عيسى الكردي (1831-1910) كان أول شيخٍ للطريقة النقشبندية في دمشق يوافق على العمل بطريقة الجمعيات (المصدر السابق). وعندما قرّر بعضٌ من أتباعه أن يُؤسّسوا جمعيةً لمساندة العثمانيين في حروبهم في البلقان، عمد الكردي إلى دعم هذه التحركات، بل وأيضاً أعاد صياغة قوانين الجمعية، بحيث تجلّت فيها رؤيته، والتي شدّدت على أن الهدف الأول لهذه الجمعية هو ليس تقلد المناصب أو الكسب المادي (المصدر السابق). وخَلَفَ الكردي، بعد وفاته، أبو الخير الميداني (1876-1961) الذي كان واحداً من أبرز طلابه، وكان أحد مؤسّسي رابطة العلماء التي كانت، في جوهرها، رابطةً دينيةً ارتدت الطابع الرسمي عام 1949. وسعت هذه الرابطة إلى رسم مواقف واضحة لعلماء الدين من القضايا الاجتماعية والسياسية الهامة (al-Humsi, 1991). وضمّ مجلس إدارة الرابطة أحمد كفتارو (1915-2004) إلى جانب الميداني (Böttcher, 2004).
 
وفي عام 1936، أصبح أحمد كفتارو أحد أشهر شيوخ الطريقة النقشبندية الخالدية في دمشق بعد أن خلف والده أمين كفتارو الذي رأى في ابنه أحمد خليفته ووريثه الروحي (al-Humsi, 1991)، والتمّ حول أحمد كفتارو عددٌ من الرموز الذين كانوا من طلاب والده، ليصبحوا الآن جزءً من دائرة أحمد كفتارو الداخلية. وكان من بين هؤلاء محمد بشير الباني (1911-2008)، نائب كفتارو الأول ووريثه (المصدر السابق). وفي عام 1949 أسّس كفتارو معهد النصر، مؤسّسةٌ شرعيةٌ للتعليم الثانوي. وأصبح المعهد في عام 1952 جزءً من مؤسّسةٍ أكبر اسمها جمعية الأنصار الخيرية (المصدر السابق). وإلى هذه النقطة، لا يُلمس أيّ شيءٍ من تجديدٍ أو ابتكار إذا ما نظر المرء إلى ما كان كفتارو يسعى لتحقيقه على المستوى التنظيمي، فقد أصبح نموذج الجمعيات هو السائد بين علماء دمشق الذين أسّسوا عدداً كبيراً منهم، وكانت العلامة المشتركة بين كلّ هذه المؤسّسات، بالرغم من توجهاتهم وميولاتهم الفكرية المختلفة، هي أنها منظّماتٌ علمانيةٌ سعى العلماء من خلالها إلى تلبية أهدافهم الدينية والاجتماعية بصورةٍ مستقلةٍ بالكامل عن الدولة.
 
 
 
ولربما يكون مفاجئاً توصيف هذه المؤسّسات بأنها علمانية، ومؤسّسوها هم علماء دين كانوا يسعون لتحقيق أهدافٍ دينية. إلا أن أهداف جميع تلك الجميعات التي تأسّست في سوريا خلال تلك الفترة لم يكن فيها أي توجهٍ ثيوقراطي باستثناء الإخوان المسلمين (Ramadan, 2009). فلم تصبُ أيٌّ من هذه المؤسّسات لانتزاع مقاليد حكم الدولة لتطبيق رؤيتهم للإسلام على عموم المجتمع. ومن منظورٍ تنظيمي (وهو الأهم هنا)، كانت الطبيعة العلمانية لهذه المؤسّسات تتجسّد في أن نموذج "الجمعية" التنظيمي كان يتأسّس ضمن قواعد المجتمع المدني، على النقيض من المنظّمات التقليدية، بدلاً من إقامتها طبقاً لتعاليم دينية (وستُفصّل هذه الفكرة بصورةٍ أكبر فيما يلي). وبعيداً عن التضييقات، وحتى التلاعب، الذي فرضته الدولة على هذه المنظّمات، نشطت هذه المؤسّسات في "مساحةٍ علمانية" تحت حكمٍ علماني، ولو أنها أُسّست لغايةٍ واحدةٍ وهي صون المبادئ الدينية.
 
ومن المفارقة هو أن المظهر العلماني للجمعية هو أهمّ ما جذب العلماء. فقد أدرك العلماء بأن مؤسّساتهم التقليدية لا يمكن التعويل عليها في ظلّ الدولة القومية الحديثة، لا سيما أن شريان حياة هذا النوع من المنظّمات التقليدية (ألا وهو الأوقاف) أصبح في متناول الحكومة. كما إن الحكومة ستحاول بصورةٍ منهجيةٍ فرض سلطتها على كلّ شيءٍ له طابعٌ دينيٌّ رسمي (Skovgaard-Petersen, 2004; Imady, 2005B; Qahf, 2006). وتمتّعت الجمعيات الخيرية، التي كانت مفصومةً عن توجهاتها، بحريةٍ أكبر، ولو بصورةٍ بنسبية، إذ أنها كانت تحت سلطة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، مقارنةً بالتنظيمات الدينية التقليدية التي كانت ضمن دائرة سلطة وزارة الأوقاف.
 
و كانت المحاولات الحكومية للاستيلاء على النشاط الديني الرسمي قد بدأت قبل أن يُلقي وصول حزب البعث بظلاله على المشهد في سوريا بفترةٍ طويلة. فتأسّست إدارة الأوقاف، الواجهة الإدارية لوزارة الأوقاف، عام 1947 خلال فترة حكم شكري القوتلي (Pierret, 2013) وجاء معها صكّ قوانين جديدة صار العالِمُ بموجبها موظفاً حكومياً، وأصبح جميع المفتون يتبعون ما يُسمّى بالمفتي الأول. ويمكن النظر لهذه الخطوات على أنها النهاية المنطقية لما بدأه العثمانييون قبل قرونٍ مضت باستحداث منصب مفتي الدولة (Makdsi, 1981).
 
ولم تسلم المساجد من كلّ ذلك، فقد أصبحت الآن ملكيةً رسميةً للحكومة بصرف النظر عن مصادر التمويل التي استخدمت لبناءها (Badawi, 2011). وقد انتبه العلماء بالفعل، في ظلّ كل هذا وما تلاه من قراراتٍ أخرى، إلى أنه لا بدّ من استغلال البعد العلماني للدولة القومية للالتفاف حول هذا الفخ، أي اللجوء إلى المجتمع المدني. ولهذا لم يكن مفاجئاً أبداً تشديد العلماء الواضح في القواعد التي قامت عليها جمعياتهم على طبيعتها اللاسياسية واحترامها للسلطة السياسية والقوانين القائمة. (al-Humsi, 1991). ولم يكن العلماء المعروفون بتوجهاتهم السياسية القوية استثناءً من ذلك، فلم يخفِ هؤلاء بأن هدفهم يقتصر على إقناع السياسيين بأن اعتماد سياساتٍ تتسق مع الوعي الديني العام للمسلمين السوريين يصبّ في مصلحتهم في النهاية (المصدر السابق).
 
وكما بيّنا سابقاً، لم يكن كفتارو هو الوحيد الذي حاول استخدام فكرة الجمعيات بهذه الطريقة. إلا أن مساعيه انطوت على شيءْ مميّز، ولو أنها كانت مخفيةً بعض الشيء في البداية، ولكنها أصبحت أكثر وضوحاً مع مرور الوقت. ويبقى من الصعب اختزال هذا الجانب في مصطلحٍ جامع. ولكن يتذكّر محمد بشير الباني، بعد مرور عقود، على أن أتباع كفتارو المقرّبين لم يكونوا غافلين عن حقيقة أن ما اجتمعوا عليه هو أمرٌ مختلف.
 
"انحدرنا من أصولٍ مختلفة، ولم يكن من السهل أن نحاول تمييز بعضنا البعض على أساس العوائل التي أتينا منها. فشيخي (أمين كفتارو) كان كردياً رأى في دمشق موطناً له، وآخرون مثلي كانوا ينحدرون من عوائل دمشقيةٍ عريقة (الباني هي عائلةٌ عرفت بإخراجها الكثير من العلماء، وينسب أصلها إلى آل البيت. وكان عمه، سعيد، مفتي الجيش تحت حكم الملك فيصل. كما أن بدر الدين الحسني كان ابن خال أبيه). ولم يكن من السهل أيضاً أن نميّز بعضنا البعض على أساس تخصصاتنا. فكان معنا أطباء، مثل مدحت شيخ الأرض، وآخرون لم يحظون بتعليمٍ رسمي، مثل الشيخ أحمد كفتارو، والبعض الآخر، مثلي أنا، درس في المدارس الرسمية تحت حكم الانتداب الفرنسي. كنا ننتمي لطريقة واحدة، وكنا حريصين على حضور جلسات الذكر بشكلٍ منتظم، ولكن لم ترق كلمة صوفي أو نقشبندي للشيخ أحمد، ولهذا كنا نتجنّب ذكرها في المحافل العامة على النقيض من غيرنا من الصوفيين. انحدرنا من مذاهب مختلفة، فكان الشيخ أمين والشيخ أحمد من أبناء المذهب الشافعي، أما أنا وغيري الكثيرين كنا من الأحناف. تعلّمنا العلوم الشرعية التقليدية، مثل القرآن، وأصول الفقه، والحديث، ولكن درّسنا الشيخ أمين أيضاً كتاب بداية المجتهد لابن رشد. كان الشيخ أحمد يحبّ القراءة، وكان يعتزّ كثيراً بمجموعة مجلة المنار (التي نشرها محمد رضا). وطبعاً كان المحور الأساسي لتلك المجلة هو الإصلاح الإسلامي (al-Bani, 2005)."
 
ازداد توجس العلماء الدمشقيين التقليدين من كفتارو وأتباعه لدرجةٍ كبيرةٍ عندما بدأ كفتارو بتبني مواقف سياسية لم تتسق مع آرائهم. ففي عام 1957، وخلال الانتخابات التمهيدية في منطقة دمشق، أعلن كفتارو دعمه لرياض الملكي، مرشّح حزب البعث ضد مصطفى السباعي المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين (al-Humsi, 1991; Naddaf, 1998).
 
"كان الشيخ أحمد في بحثٍ دائمٍ عن رجلٍ قويٍّ يستطيع تشكيل تحالفٍ معه، فقد كان الشيخ يتمتّع بالشجاعة الكافية ليقرّ بأن الأمور ستنحدر أكثر وأكثر، فحتى لو صرخ المشايخ من منابر خطب الجمعة ملء حناجرهم، كانت الحقيقة بأنهم لا يتمتّعون بالدعم الكافي. وكان معظم مؤيّديهم من المدن الأخرى، ولكن حتى في تلك المدن والبلدات كان هناك الكثيرون الذين لم يؤيّدوهم. كانت المناطق الريفية مثل بريةٍ موحشة، فيمكن أن تسافر لساعاتٍ وساعات دون أن ترى مسجداً واحداً. عندما قال بأن علينا دعم المالكي، أدركنا بأنه كان يحاول تشكيل تحالف، وطبعاً سرنا خلفه جميعاً في هذا القرار (al-Bani, 2005)."
 
ويمكن التدليل على قرار كفتارو بدعم المالكي كأول "هوية قرار" رسم المعالم التنظيمية للحركة الكفتارية الناشئة في ذلك الوقت. وبالفعل كان أول من اتبعوا "هوية القرار" هذه هم أول الأعضاء المعروفين للحركة. وفي عام 1964، بعد عامٍ من انقلاب حزب البعث، كانت الحاجة لانتخاب كبير مفتين جديد، واستطاع كفتارو حصد 18 صوتاً مقابل 17 صوتاً ذهبت لحسن حبنكة. وبلا شكّ، لعب التحالف الذي شكّله كفتارو مع الحكومة عام 1957 دوراً هاماً في استقطاب دعم الحكومة، وهو ما كان كفيلاً بإقناع بعض العلماء على الأقل بدعمه (Böttcher, 2004).
 
وكان هناك "هوية قرارٍ" أخرى تبدّت في نهاية خمسينيات القرن العشرين، وهي قرار كفتارو بضمّ الشيخة منيرة القبيسية إلى الطريقة النقشبندية، ولم يكن سرّاً أن تلك المرأة كانت تريد نشر رؤيةٍ محدّدةٍ للإسلام بين نساء سوريا المسلمات (HamidA, 2006; Nayyouf, 2007; Islam, 2008; Kalmbach, 2008; Khatib, 2011; Manea, 2012; Buergener, 2013)[2] وكان ضمّها للطريقة "هوية قرارٍ" ترتّب عليها تأسيس فرعٍ نسويٍّ مستقل للطريقة النقشبندية. وليس من السهل أبداً أن تجد في التاريخ الصوفي طريقةٍ صوفيةٍ تكوّنت بصورةٍ كاملةٍ من النساء (Green 2012).
 
"كانت الشيخة شمس (وهو الاسم الذي استخدمه الباني للإشارة لمنيرة القبيسي لأسبابٍ لم يبيّنها لي ) تحضر دروس الشيخ أحمد في أبو النور (مسجدٌ في حي ركن الدين) مع عمها. وكانت تحوز شهادةً في العلوم ، ولكنها كانت تتمتّع أيضاً بدرايةٍ واسعةٍ في بحر العلوم الإسلامية. تكمن عبقرية أفعالها في أنها لم تجعل الشيخ أحمد مسؤولةً عما قامت به. بل أخذت ما احتاج منه، ومن ثم توّجهت لتشكيل جماعتها. وعُرف عن الشيخ أحمد والشيخة شمس امتناعهما عن الحديث عن علاقتهما علناً، وإنما بصورةٍ خاصة، كان الشيخ أحمد يُناديها بالبطلة (al-Bani, 2005)."
 
واعتمِدَ قانون الجمعيات رقم 93 عام 1958، خلال فترة الوحدة مع مصر، وكان هذا القانون نسخةً أكثر صرامة من قانون رقم 47 عام 1953، والذي كان قد حلّ مكان القانون العثماني (HRW, 2007). وطرأ على هذا القانون العديد من التعديلات والإضافات منذ عام 1958، ولكن بقيت محتوياته الجوهرية كما هي (Abd Allah, 2011). واعتبر هذا القانون أن الجميعات تتبع السلطة الإدارية لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وأعطى الوزارة الحقّ بحلّ أي جمعيةٍ بمرسومٍ تصدره الوزارة دون الحق بأي عملية استئناف.
 
وصحيحٌ بأن مهمة مراقبة الجمعيات كانت موكلةً رسمياً لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، إلا أن مسؤولية ضمان عدم تحول أيٍّ من هذه الجمعيات لتهديدٍ سياسي كانت بالطبع تقع على عاتق الأجهزة الأمنية التي كان لها الحقّ بحلّ أي جمعيةٍ، وإيقاف أيّ نشاطٍ معيّن، وطبعاً اعتقال أي فرد دون الحاجة للرجوع إلى الوزارة أو الحصول على موافقتها (HRW, 2007). ولكن مع هذا استمرت الجمعيات بالعمل، وبل وتنامت أعدادها لتصل إلى 1200 قبل قيام الانتفاضة السورية (SANA, 2010).
 
وكانت الستينيات فترة تحوّل للكفتارية والقبيسيات. فصحيحٌ بأن حزب البعث قد تقلّد كرسي الحكم، إلا أن حزب البعث كان في الواقع يسارياً، بل وأقرب إلى الماركسية، وكان معادياً لأيّ مظهرٍ ديني بغض النظر عن تجلياته التنظيمية (Khatib, 2011). وعندما انتزع الأسد السلطة عام 1970، وأصبح رئيس سوريا في مارس 1971، وجد كفتارو أخيراً العضد الذي بحث عنه طويلاً في حافظ الأسد.
 
"لم يخفَ على الشيخ أحمد، ولا علي، بأن الأسد سيصبح عما قريب رئيساً لسوريا. وكان الشيخ أحمد يُسرّ برأيه للعلماء الآخرين ويقول لهم: "...إما أن نحيطه ونكون من مستشاريه الموثوقين، أو نخسره لأولئك الذين يعادون الإسلام. ولا يهمّ ماذا سنختار، فسيصبح رئيساً مهما حصل." (al-Bani, 2005)."
 
وكان قرار كفتارو بدعم أول رئيسٍ علويٍّ لسوريا بل وبالحديث عنه على أنه مسلم ويجب احترامه على هذا الأساس "هوية قرار" في غاية الاهمية رسمت معالم هوية حركته بصورةٍ أكبر. وشهدت السبعينيات اتساع رقعة حركتي الكفتارية والقبيسيات بصورةٍ ملحوظة، فبدأ بناء مجمع أبو النور، الذي قام على أسس مسجد أبو النور القديم الذي كان الشيخ أمين يعطي دروسه فيه، وافتتح المجمّع عام 1974. واشتمل المجمّع على مقر جمعية الأنصار، وأيضاً مسجداً يتكوّن من سبعة طوابق (بمساحةٍ تصل إلى 557 مترٍ مربع)، واستصلح المسجد لاحقاً ليكون مقراً لعددٍ من كليات العلوم الإسلامية (Böttcher, 2004). وخلال السبعينات أيضاً، حصلت حركة القبيسيات على رخصتهم الأولى لبناء مدرسةٍ أساسية وتمهيدية في دمشق، وكانت بهذا دار الفرح أول بديلٍ شرعي للمدارس التبشيرية الحديثة مثل مدارس الفرنسيسكان والفرير (Hamidi, 2006A; Salam, 2015; Habash, 2014A).
 
 
إلا أن القرار الثالث الذي اتخذه كفتارو كان هو القرار الذي صاغ هوية حركته أكثر من أيّ قرارٍ سبقه أو تلاه، وكان هو موقفه من تمرد الإخوان المسلمين (1979-1982) ضد نظام الأسد. وهو موقفٌ صرّح به وأكّد عليه في أكثر من مناسبة (Böttcher, 2004).
 
"يمكن للكثيرين القول بأن قرار الشيخ أحمد بدعم الحكومة كان أمراً محتوماً بالنظر لمنصبه. ولكن الحقيقة هي أنه كان سيأخذ بهذا القرار حتى لو لم يكن المفتي. فقد رأى كفتارو بأن الأفكار التي دافع الإخوان المسلمون عنها كانت تشكّل خطراً على جميع المنجزات التي حاول العلماء تحقيقها منذ الاستقلال. وصحيحٌ بأن الإخوان تعرّضوا لكثيرٍ من الاستفزازات، ولكن كان هذا كان ينطبق علينا جميعاً، حتى الشيخ أحمد كان يتعرّض لتحرش واستفزازٍ مستمر. بل وصل الأمر بالمخابرات لقتل ابنه زاهر (كانت الرواية الرسمية أن فلاحين قاموا بقتله على إثر خلافٍ على قطعة أرض عام 1979). وعندما قام بعضٌ من أتباعه بمهاجمة الحكومة أمامه، غضب الشيخ أحمد كثيراً وقال بأن هذا شأنٌ شخصي، ولا يُسمح لأحدٍ بالتدخل فيه (al-Bani, 2005)."
 
كانت الفكرة التي يريد كفتارو غرسها هي أن على العلماء تحمل كل شيء في سبيل حماية الإطار التنظيمي للحركة. فالمواجهة مع الحكومة لن تهدّد المؤسسات التي يشرف عليها فحسب، بل كان هذا يعني أيضاً بأنهم سيكونون ممنوعين في المستقبل من الانخراط في أيّ نشاطٍ مدني، والمنع من الانخراط بالمجتمع المدني سيقتضي تهميشاً كاملاً للعلماء لأن تنظيماتهم التقليدية كانت أصلاً في قبضة الحكومة. وكان كفتارو يحاول تجنب حدوث ذلك مهما كان الثمن.
 
وخلال الثمانينات كانت المؤسّسات التعليمية المختلفة في مجمع النور فاعلة، وكانت جميعها تحت إشراف جمعية الأنصار. وبحلول التسعينات، كان المجمّع يشتمل على مدرسةٍ شرعيةٍ ثانوية للبنين والبنات، ومعهداً لتدريس اللغة العربية للأجانب، وكلية الدعوة، وكلية أصول الدين، وكلية الشريعة والقانون، وكلية الإمام الأوزاعي، كما بات المجمع يقدّم شهاداتٍ جامعية وشهادات دراساتٍ عليا.
 
في المقابل، أسّست القبيسيات مدارس ابتدائية في دمشق وغيرها من المدن الكبرى (Böttcher, 2004). وفي عام 1999، افتتِحَ مجمعٌ كبيرٌ ضمّ مدرسةً، وقاعة مناسبات، ومطبخاً، في حي كفرسوسة (Hamidi, 2006A; Salam, 2015; Habash, 2014A) ونجحت طالبات القبيسي في تأسيس أولى جمعيات الحركة عام 2005، وكانت تحت مُسمّى جمعية الندى التنموية ((Azurni, 2015; Facebook, 2015)، ونشرت طلاب القبيسية دعوة شيختهن في لبنان، والأردن، والكويت، وغيرها من البلدان (Hamidi, 2006A).
 
واستنسِخَ نموذج المدرسة وقاعة المناسبات والمطبخ في مدنٍ مختلفة، بل ووجد انتشاراً أيضاً في بعض البلدان الأوروبية وأمريكا في السنوات الأخيرة (Abdullah, 2012; Grewal, 2013). وتُشير التقديرات، في تلك الفترة، إلى أن عدد النسوة التي يعتبرن أنفسهن من طلاب الحركة القبيسية كان أكثر من 70,000 (Schleifer, 2014).
 
وعقب وفاة حافظ الأسد في يونيو 2000، استمرت حركتا الكفتارية والقبيسيات بأنشطتهن على نفس النحو. فحتى الجماعات التي كانت معاديةً للكفتارية كانت قد تبنّت منهجية الحركة التنظيمية التي ترسخّت بصورةٍ عميقة. ومن منظورٍ تنظيميٍّ بحت، تبعت معظم الجماعات "هوية القرار" التي رسمها كفتارو على صعيد التعامل مع نظام الأسد بصفته داعماً كبيراً للنشاط التنظيمي. فنفس العلماء الذين نعتوا قرار كفتارو بالاصطفاف إلى جانب حافظ الأسد بالخيانة، أصبحوا الآن يدارون ابنه ويفعلون كلّ ما بوسعهم لحماية جمعياتهم (Pierret and Selvik, 2009; Hasbah, 2013).
 
وقبل الانتقال إلى الجزء الأخير من هذا السرد الذي يتناول الثورة السورية، نقف قليلاً على التصنيف التنظيمي لحركتي الكفتارية والقبيسيات. ويتناول هذا التصنيف أهم العناصر التي يجب الأخذ بها في تحليل الكفتارية والقبيسات، وأيضاً غيرها من الحركات الإسلامية.
 
تبقى الطريقة الصوفية النقشبندية هي قلب وروح الكفتارية والقبيسية (Stenberg, 1999; Ibrahim, 2012; Takao, 2010). يُدعى أفراد هاتين الحركتين لحضور دروسٍ شرعيةٍ دورية، والمشاركة في "فعالياتٍ تعبدية" تشتمل على مجالس صلاةٍ وذكر، وهي أقرب إلى نشاطاتٍ تأملية يُخيّم عليها جوٌّ من الصمت الكامل. ويغلب على الاكتفاء، أو الإشباع، التي يسترجيه المشاركون في هذه الأنشطة جانب "الغاية" بصورةٍ بحتة، فهي مقصودةٌ لذاتها وليس لها أي هدفٍ خارج حضور هذه الجلسات. ولا يختلف الاكتفاء الحاصل من هذه الجلسات عن الاكتفاء الذي يكتسبه أعضاء نادي كتابٍ من قراءة الكتب المتفق عليها وحضور الجلسات لنقاشها. وهذه هي السمة التنظيمية الطبيعية لكلا الحركتين.
 
ولو افترضنا سيناريو تكون فيه كلّ هذه الأنشطة محظورة، فلن يمنع هذا استمرار هذه الأنشطة، لأن القائمين عليها يستطيعون تنظيمها في المنازل. وخلال الثمانينات، على سبيل المثال، حينما كانت السياسات الحكومية السائدة هي التضييق حتى على الدروس الشرعية التي تتمحور حول الأخلاق ، كان الكفتارية والقبيسيات يلجأون إلى جلسات ذكرٍ طويلة، وأحد نتائج ذلك كانت شيئاً من النكات التي تسخر من أعضاء الأجهزة الأمنية الذين يحضرون هذه الجلسات وكيف كانوا يشعرون بعد ثلاث ساعاتٍ من الصمت المطبق في غرفةٍ لا أضواء فيها (al-Bani, 2005). وتبيّن سمة الغاية هذه، إلى حدٍّ ما، لماذا لم يكن أفراد هذه الحركة متأثّرين بما يحصل (وما لا يحصل) في المجتمع.
 
أما المدارس، والكليات الشرعية، والخدمات الخيرية التي تأسّست ضمن دائرة هاتين الحركتين، فكانت تعمل ضمن إطارٍ من الجمعيات التي يمكن وصفها على أنها جمعيات غاية وجمعيات وسيلة، فهي غايةٌ لأنها، بنفس الطريقة، تمنح منتسبيها شعور الاكتفاء، بمساهمتهم في عمل إحسان. وفي المقابل، يمكن وصفها أيضاً على أنها "وسيلة"، كون أن هذه المنظّمات لها أهدافٌ اجتماعية محدّدة، من التعليم والتربية الأخلاقية إلى العمل الخيري. ولكن عندما تتجلّى سمة الوسيلة، فمثلاً عندما يفشل المعلّم في تعليم طلابه، أو عندما يفشل مشروعٌ خيريٌّ في مكافحة الفقر، يعود هؤلاء الذين انخرطوا في هذه الأنشطة إلى سمات الغاية في هذه المنظّمات، أي مجرد الانخراط في عمل الإحسان.
 
أما العضوية، فيمكن تقسيم هذه المؤسّسات إلى رسميةٍ أو غير رسمية، فأولاً، يقوم أفراد المؤسّسات الرسمية تعبئة طلب انتساب، وقد يُقبل طلبهم أو يُرفض، وثانياً، يُطلب من أفراد هذه المؤسّسات تأدية واجباتٍ معيّنة، أو دفع مساهماتٍ دورية، وثالثاً، قد يتم فصلهم في بعض الحالات. أما المؤسّسات الشعبية، في المقابل، فأفرادها هم أقرب إلى "مؤيّدين". فلا ينضمون هم إلى إطارٍ رسمي، ولا يمكن فصلهم نظراً لعدم وجود نظامٍ رسميٍّ ينظّم أموراً كهذا. ويمكن أن يكون هناك "مؤيّدون" لبعض المنظّمات الرسمية إلى جانب أعضاءها، إلا أن هؤلاء الداعمين يلعبون دوراً هاماً في تسيير الأهداف التي قامت عليها المؤسّسة.
 
ومن المهمّ في سياق التنظيمات الإسلامية إبراز هذا التمييز، فعدم فعل ذلك يؤدّي غالباً إلى تقييماتٍ تجانب الدقة. فـ "مؤيّدو" تنظيمٍ شعبي، على سبيل المثال، قد يقومون بأنشطةٍ لا تتسق مع أهداف التنظيم، ولكن يمكن استخدامهم، بالرغم من ذلك، لتقييم التنظيم بكليته. ما يغفل عنه الكثيرون هو عدم وجود آلياتٍ تنظيمية بين يدي هذه الحركة الرسمية تستطيع باستخدامها منع "مؤيّديها" من التصرف على نحوٍّ لا يتسق مع اهدافها، ولا هم يملكون تدابير تأديبية أو عقابية بالنظر إلى أن "المؤيّدين" ليسوا أعضاءً رسميين أصلاً. فللمريد الاختيار بأن يتبع "هوية قرار" أو يكتنف عنها، وليس هناك أيّ آلياتٍ تنظيمية لمكافأة من يقومون بذلك، أو لتهذيب من لا يقومون بذلك. ولو كان لنا أن نضرب مثالاً في حركة القبيسيات، فترى الكثير من أفراد المعارضة الذين يشدّدون على أن الكثير من النسوة اللواتي يعتبرن أنفسهم من مريدي هذه الحركة يدينون بدعمهم لنظام الأسد (Baladi, 2012).
 
وقصدهم هنا، ولو أن هذا لا يُعبّر عنه بصراحة، بأن هؤلاء النسوة هم أعضاءٌ رسميون يقومون بصياغة موقفٍ فعلياً باسم منيرة القبيسي. ولكن ما لا يعيه الكثيرون، مرةً أخرى، هو التمييز بين المؤيّد، أو المريد، وبين العضو الفعلي. فلا تُعضّد هذه الحجة بتصريحاتٍ صادرةٍ عن القبيسي نفسها (لأنه لا وجود لهذا التصريحات أصلاً) ، كما لا يُشار أيضاً إلى تصريحاتٍ صدرت عن العدد القليل من الآنسات، المعروفين بأنهم ضمن الدائرة الضيقة (لأنه لا وجود لهذه التصريحات أيضاً).
 
ونُشير أيضاً إلى وجود بعض التصريحات التي صدرت عن بعض المؤيّدين، إلا أنه من المهم أيضاً الإشارة إلى أن هذه التصريحات صدرت تحت الضغط. ولكن يبقى في النهاية السياق التنظيمي التي انبثقت منه هذه التصريحات أهم بكثيرٍ من الظروف التي صدرت هذه التصريحات في ظلها. ويمكن أيضاً ارتكاب هذا الخطأ، ولكن باتجاهٍ معاكس. فبعد قيام الثورة، ظهرت عددٌ من صفحات الفيسبوك واليوتيوب اللتي تحدّثت عن نسوةٍ شاباتٍ "أعلنن انشقاقهم" عن القبيسيات لعدم أخذ الحركة موقفاً واضحاً ضد النظام (Facebook, 2011)، وكان هذا أيضاً ينطبق على العلماء، ولكن يبدو أن لا أحد يحاول معاينة التضمينات التنظيمية لأمرٍ كهذا، فكيف يمكن أن ينشقّ المرء من حركةٍ ليس فيها عضويةٌ رسمية؟ فالانشقاق يُضمّن بوجود حالةٍ سابقةٍ من "الانتماء التنظيمي" وهو ما لا ينطبق هنا بكلّ بساطة.
 
والوصف الأدق هنا هو أن هؤلاء النسوة قرّروا اعتبار أنفسهن مستائين من حركةٍ كانوا من مؤيّديها فيما مضى. في المقابل، كان هناك الكثير من أعضاء حزب البعث الذين أعلنوا "انشقاقهم" بعد مارس 2011 (Al-Jazeera، 2012)، وفي هذه الحالة، يكون المصطلح دقيقاً ومعقولاً.
 
ولا يمكن وصف الانتماء لأيٍّ من تنظيمي الكفتارية أو القبيسيات بأنه عضويةٌ رسمية. فصحيحٌ بأن المدرّسات في مدارس القبيسي لهن لباسٌ مميّز تختص به القبيسيات، ولكنهنّ في النهاية موّظفات. ويمكن أيضاً إيجاد عديد النساء اللواتي يرتدين ملابس مشابهة في مؤسّساتٍ آخرى، وعددٌ لا بأس به ممن يظهرن بمظهرٍ مشابه ويعملن موّظفاتٍ حكوميات. ويُلاحظ بأن هذا المظهر، الذي يصعب تمييز الاختلافات فيه، دارجٌ بين النسوة المتديّنات في دمشق اللواتي لا يعتبرن أنفسهم من أتباع الحركة القبيسية، وبعضٌ منهن من مريدي الكفتارية (Chagas, 2013).
 
وعلى نفس الشاكلة، لا يجب بالضرورة أن تكون المعلّمات في المدارس والكليات الشرعية الكفتارية من أتباع كفتارو، وينطبق هذا أيضاً على طلاب هذه المعاهد. وبكلا الحالتين، لا يمكن وسمُ مريدي الطريقتين بأنهم أعضاءٌ رسميون ما لم يكونوا مسؤولين عن مناصب رسمية في جمعية الأنصار، أو جمعية ندى التي تأسّست بعدها بفترة. فالانخراط بالطريقة النقشبندية سواءً عن طريق كفتارو أو القبيسي يجعل المرء "مريداً" وليس "عضواً رسمياً". ولهذا فإن التوصيف الأدق لوصف من يعتبرون أنفسهم من أتباع هاتين الطريقتين هو أنهم مؤيّدون وليسوا أعضاء.
 
تتجلّى قيادة أيّ تنظيم بالطبيعة الكاريزماتية لشخصيةٍ قياديةٍ معيّنة، أو بالسلطة التنظيمية التي تتجسّد في مناصب إداريةٍ محدّدة (Bryman, 1992; Chagas, 2013). ويظهر بأن القيادة الكاريزماتية لها قدرةٌ أكبر على ضبط سلوك "المؤيّدين" (ولكن طبعاً ليس جميعهم)، أما القيادة الإدارية فهي أقدر على ضبط الأعضاء الرسميين. وتُنتج القيادة الكارزماتية، بشكلٍ عامٍ، بنيةً تنظيمية مركزية، في حين تُعرف القيادة الإدارية أكثر ببنيةٍ أفقية.
 
 
ويستطيع المرء أن يجد أمثلةً مذهلةً على التجاذب بين هاتين البنيتين في الحركات الإسلامية. فيستصعب شيوخ الطرائق الصوفية الذين انخرطوا في أحزابٍ سياسية أن عليهم تقبل وجود اختلافٍ بين سلوكيات أعضاء حزبٍ سياسيٍّ ما وبين مريدي طريقةٍ صوفية (Imady, 2005B). ويمكن اعتبار كفتارو والقبيسي بأنهما قياداتٌ كارزماتية بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، والتفّ كلاهما حول هذا الفخَ بالابتعاد عن تنظيمات الوسيلة. وبأفضل الأحوال، قد تراهما يعلنان دعهما لمرشّحٍ برلمانيٍّ، أو مسؤولٍ ما، أو حتى مدير مدرسةٍ، ولكن لا تمثّل مواقف هؤلاء الأفراد وتصرفاتهم، في النهاية، كفتارو أو القبيسي، كما أنهم لا يأخذون أي تعليماتٍ منهم. فإن كُتب لهؤلاء الأفراد بأن يتمتّعوا بتأثيرٍ ما، فسيستطعون إفادة أهداف التنظيمين، ولكن إن فشلوا فيسقطون وحدهم.
 
ختاماً، يمكن رسم تصنيفٍ للتنظيمات على أساس عملهم ضمن البنية القانونية الرسمية في المجتمع المدني، فتُؤسّس التنظيمات المدنية، أولاً، بما يتلائم مع القوانين الموضوعة، بغض النظر عن مدى صرامة هذه القوانين، وبهذا تصبح هذه التنظيمات مسجّلةً رسميةً. وثانياً، تكشف هذه التنظيمات بصورةٍ دورية تفاصيلها المالية ، وثالثاً تسعى هذه التنظيمات للتأثير على الحكومة، ولكن دون العمل على الإطاحة بها أو استبدالها (Sider and Unruh, 2004).
 
ويمكن للباحث بأن يجد العديد من الحركات الإسلامية التي تتسق مع هذا الطابع في العالم الإسلامي (Schneier, 2015)، ويكمن الاختبار الأهم في تعامل هذه التنظيمات مع القوانين تكبت معظم أنشطة هذه التنظيمات، إن لم تكن تقيّد تحركاتها بالكامل. فهل ستكون هذه التنظيمات مستعدةً لاحترام هذه القوانين، بصرف النظر عن الظلم المتجلي في هذه القوانين برأيهم؟ أم ربما تنتظر هذه التنظيمات فرصةً تتغيّر معها هذه القوانين، أو ربما يحاولون إيجاد طرقٍ ذكيةٍ للالتفاف حولها؟ أو قد ترى هذه التنظيمات، تحت ظروفٍ معيّنة، بأن عليها أن تعمل خارج إطار ما يمكن اعتباره قانونياً؟ ونجد في الإجابة على هذه الأسئلة ما يمايز بين التنظيمات العلمانية والتنظيمات التي لا تتحرّج من العمل على نحوٍ يعارض هذه المبادئ تحت ظروفٍ معيّنة. وبالنظر إلى الكفتارية والقبيسيات، فقد برهنت هاتان الحركتان بصورةٍ لا لبس فيها بأن طبيعتهم التنظيمية هي طبيعةٌ علمانية إذ إنهما غير مستعدين للعمل خارج الإطار القانوني للمجتمع المدني تحت أي حال من الأحوال.
 
توالت سلسلةٌ من الأحداث بدأت بتقويض التوازن الشائك بين الدين والدولة في سوريا، حتى قبل وفاة كفتارو عام 2004. فكان هناك الغزو الأمريكي على العراق في 2003 الذي رمى بالعراق في دوامةٍ من الكوارث، وكان لهذا أيضاً تبعاتٌ ثقيلة على المنطقة ككل. ولم يكن علماء دمشق واعيين لمدى جدية ما يحصل، وكيف يمكن له أن يرمي بالتوازن الذي بذلوا جهداً كبيراً للوصول إليه. وكما يقول بشير الباني:
 
"لم نرَ نظام الأسد خائفاً ي بهذه الطريقة منذ فترةٍ طويلة. ولم يكن هذا جيداً. فهو لا يتصرّف بعقلانية عندما يكون خائفاً (al-Bani, 2005)."
 
وبصرف النظر عن عقلانية ردّ نظام الأسد، عمد النظام إلى تسهيل وتشجيع إقامة تنظيمات إسلاميٍّة  في العراق أريد لها، كما كان واضحاً، تقويض كلّ ما تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه هناك. وكانت تلك التنظيمات تنظيمات وسيلةٍ بلا أي مواربة. فلم تكن تلك المجموعات على استعدادٍ للجوء إلى العنف العشوائي وحسب، بل كان العنف العشوائي هو نواة استراتيجياتها. ومن غير سابق إنذار، صارت المنابر في مساجد سوريا تصدح بخطبٍ تحثّ على محاربة الغزاة الأمريكيين (Habash, 2014B). ولا يستطيع المرء إلا أن يتأمل المفارقة في كلّ هذا.  فالنظام سحق هذا النوع بعينه من التنظيمات الإسلامية في الثمانينات، ولكنه اليوم يسمح لها بالبروز مجدداً، وليس ذلك في سبيل تحرير العراق، وإنما لإقناع الولايات المتحدة بعدم التفكير في محاولة التوجه إلى سوريا بنفس النوايا. وكان الضغط على العلماء لدعم موقف الحكومة مما يحصل في العراق كبيراً جداً، لدرجة أن الحكومة دفعت بكفتارو إلى إصدار فتوى تدعم الانفجارات الانتحارية في العراق في 2003 (Terzieff, 2003). ويكشف الباني:
 
"جاؤونا وأخبرونا تماماً ما كان علينا أن نكتب. بل وكان حتى في بعض الأحيان مصاغاً بعربيةٍ ركيكة. وهم لا يحبّون حينما نحاول حتى أن نعدّل الأسلوب الكتابي خوفاً من أن نلطّف المضمون الذين يريدون منا أن نبثّه. لم يقبل الشيخ أحمد يوماً أن يسوّغ التفجيرات الانتحارية، وحتى تلك التي كنا نراها في فلسطين، فما بالك بالعراق؟ ويستطيع هؤلاء الذين لا يعون كيف تصدر الفتاوى السياسية في سوريا أن يأتوا إلى هنا ليروا بأنفسهم. (al-Bani, 2003)."
 
وبالرغم من أن كلام الباني كان في جلسة خاصة، كان أتباع كفتارو بشكل عام مدركين تماماً بأنه لا بطلب منهم المشاركة في ذلك. ولا يوجد أي توثيقٍ يثبت مشاركة أتباع كفتارو بما سميّ بالجهاد في العراق. كما أن ابنه صلاح أنكر إنكاراً قطعياً انخراط أفراد حركة والده بما كان يحصل في العراق بعد ذلك ببضعة سنين.
 
في هذه الأثناء، سمح بشار الأسد بإعادة تأهيل ما كان يعرف بجماعة زيد التي أسّسها عبد الكريم الرفاعي (1901-1973) في بدايات القرن العشرين (Al-Khatib, 2014). ولم تناصر هذه الجماعة قرار كفتارو بعدم الانضمام إلى ثورة الإخوان المسلمين في الثمانينات، بل قاتل الكثير من أبناء الجماعة مع الإخوان المسلمين. وغادر أسامة الرفاعي، أكبر أبناء عبد الكريم وخليفته، سوريا متجهاً إلى السعودية حيث استقر هناك. وسُمح له بالعودة في منتصف التسعينات فيما كان حركةً محسوبةً من حافظ الأسد على ما يبدو لاستقطاب الدعم الشعبي لرئاسة ابنه في المستقبل (المصدر السابق). وفي عام 2002، التقى بشار الأسد بأسامة الرفاعي في زيارةٍ غير مسبوقة نجم عنها إحياء أنشطة الحركة في إطار التعليم الشرعي، والجانب الخيري، والخدمات الاجتماعية (المصدر السابق). تكمن المفارقة هنا في أن المفتي الأكبر لسوريا، الذي يعود تحالفه مع نظام الأسد إلى 1970، لم يحظَ أبداً بزيارةٍ لبيته من حافظ الأسد أو ابنه.
 
فمن الواضح بأن بشار الأسد كان يرى كفتارو مثل أيّ ركنٍ آخر للنظام، مجرد مسؤولٍ أدّى غرضه، ولم يعد يتمتّع بأي ثقل. فيُدارى من هم من أمثال هؤلاء فقط بموجب الاحترام لما قاموا به في الماضي. ولكن هؤلاء لم يعد لهم دورٌ يلعبوه في سوريا الجديدة كما يرتأيها الرئيس الجديد، بل ربما باتوا اليوم عائقاً.
 
توفي كفتارو في سبتمبر من العام 2004، وبهذا تم الفصل بين المسؤوليتين الذي تكفّل بهما، فانتهت مسؤولية إدارة مجمع أبو النور، التي تتضمّن إدارة جمعية الأنصار وجميع المعاهد الشرعية التي يشتمل عليها مجمّع النور، إلى ابنه صلاح كفتارو (NoSawot, 2004). أما خليفته في مشيخة الطريقة الصويفية فكان بشير الباني ساعده الأيمن (والمريد الوحيد الذي كان لا يزال على قيد الحياة من مريدي أمين كفتارو) (Imady, 2005A). وعُرف عن صلاح طبعه الحاد، واستخدامه لألفاظٍ غير لائقة في غمرة غضبه، وهو ما تسبّب بتنفير الكثير من العلماء من حوله ممن كانوا يدرّسون في معاهد أبو النور، وانطبق هذا أيضاً على المسؤولين الإداريين الذين يعملون معه (Elamata, 2006).
 
ولكن لحسن حظ صلاح، كان وزير الأوقاف في ذاك الوقت هو محمد زياد الأيوبي، الذي كان يعتبر نفسه من مريدي أحمد كفتارو. فكان الأيوبي على استعدادٍ لفعل كل شيءٍ لصون الودّ بينه وبين صلاح، وبالفعل كان الأيوبي على علاقةٍ طيبةٍ مع الكفتاريين والقبيسيات، ويُدان له بالفضل بإقناع السلطات بالسماح للقبيسيات بإعطاء الدورس في المساجد بدلاً من منازلهم (Hamidi, 2006A). وكانت السلطات الأمنية غير مطمئنةٍ لفكرة إعطاء الدورس في المنزل، ولكن كانت المعلّمات القبيسيات يخفون فعاليتهم على أساس أنها احتفالاتٌ مختلفة ومناسباتٌ اجتماعية.
 
ولكن كلّ ذلك، من الغزو الأمريكي للعراق والتنظيمات الوسيلية التي نجم عنها، إلى إعادة تفعيل دور حركة زيد وإضفاء الطابع الرسمي على القبيسيات، ولا حتى أسلوب صلاح المزعج، لا يمكن مقارنته بقرار الحكومة بتقويض معادلة التوازن بين الدولة والعلماء والتي كانت قائمة لما يقارب القرن (منذ قانون الجمعيات التي سنّه العثمانيون عام 1909).
 
ففي يوليو من العام 2002، تم اعتماد القانون 32 الذي يجعل دورة التعليم الأساسي لزاماً على جميع الأطفال السوريين (وهي دمجٌ لدورتي التعليم الابتدائي والاعتدادي السابقتين في دورةٍ موّحدةٍ تمتد لتسع سنوات). (al-Ayyubi, 2006; IISS, 2008: Mansur, 2012). ويمكن أن يرى المرء هذا القانون على أنه ليس إلا محاولةٌ لتنظيم العملية التعليمية، ولكن الترتبات المباشرة التي نجمت من هذا القانون على التعليم الشرعي هي حظر مدارس الشريعة من أن تقبل الطلاب الذين لم يتمّوا الدورة الإلزامية. ورأى العلماء بأن ذلك كان محاولةً منهجيةً لتجفيف الموارد الطلابية، حيث كان توافد الطلاب هو ما يضمن استدامة المدارس الشرعية.
 
ونُظِرَ أيضاً إلى هذه الحركة بأنها إخلالٌ بعقد المجتمع المدني الذي احترمته الدولة حتى الآن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بأن معظم هذه المدارس، إن لم تكن كلها، كانت تُدار من قبل جمعياتٍ ينشط فيها هؤلاء العلماء. ومع أن القانون سُنّ عام 2002، لم يبدأ تنفيذه إلا بعد بضعة سنوات، في نفس الوقت الذي بدأ الناس يلاحظون زيادة عدد الحوزات، أو المدارس الدينية الشيعية. وكان هذا المزيج السام، بين تقويض سلطة المدارس الشرعية السنية، وإعطاء رقعةٍ أكبر لنظيراتها الشيعية، أكثر مما كان يمكن لعلماء دمشق احتماله (المصدر السابق). وهكذا وقّع 39 عالماً، من بينهم البوطي وأسامة الرفاعي وصلاح كفتارو ومعتز الخطيب وهشام البرهاني، عريضةً رُفعت إلى الرئيس بتاريخ 30 يونيو 2006 (المصدر السابق).
 
وعبّرت العريضة بصورةٍ واضحةٍ عن الغضب الذي تملّك هؤلاء العلماء بسبب المعاملة المختلفة التي كانت تحظى بها الحزوات، بالإضافة إلى ما ترتّب على القانون الجديد بالنسبة لمدارسهم (Salem, 2006). واقترحت العريضة تسويةٌ يتمّ بموجبها تعليم المواضيع الدينية إلى جانب المنهج الإلزامي في مدارس الشريعة (المصدر السابق). والتقى الأسد بوفدٍ مثّل الموّقعين، وتم الاتفاق على تأجيل العمل بالمرسوم (Ayyubi 2006)، إلا أن ذاك الاجتماع لم يناقش سيطرة وزارة الأوقاف الواضحة على استقلالية الجمعيات.
 
وأعلنت وزارة الأوقاف، بعد أقل من شهر، عن إقالة أسامة الخاني، أحد الموّقعين ومدير دائرة التعليم الشرعي، من منصبه، وتبعه الأيوبي بعد أقل من خمسة أشهر على خلفية اتهامات اختلاس (IISS, 2008). وأصبح نائبه محمد عبد الستار السيد وزير الأوقاف الجديد، وكان محمد، ابن وزير الأوقاف السابق الذي تقلّد المنصب في السبعينات، يُعرف بعداءه لأحمد كفتارو. وتملّك الباني، الذي لم يكن واحداً ممن وقعّوا العريضة، القلق مما قد يترّتب على كل ذلك. ففي تعليقٍ صدر عنه قبل وفاته بسبعة أشهرٍ فقط، قال الباني:
 
"لم تتحلّ أيٌّ من تلك القرارات بالحكمة. فلا يمكن لهذا لنظام مداراة حركةٍ مثل هذه. طبيعة هذا النظام لا تقبل تحدياً من هذا النوع. وربما يُخيّل للبعض بأن العلماء قد حصلوا على ما يريدون، ولكن ما حصل في حقيقة الأمر أنهم أشعلوا شرارة أمرٍ أسوء من هذا بكثير (الباني، 2008)."
 
وكان أن دُعيَ رؤساء عددٍ من الجمعيات إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في أكتوبر 2008، وأعلمتهم الوزارة بقرارٍ يجب تنفيذه على الفور (al-Najjar, 2008). فألزم هذا القرار جميع الشخوص الدينية بالاستقالة من مجالس إدارة الجمعيات. فدعت الحاجة الآن إلى "تطهير" الجمعيات التي أسّستها الشخصيات الدينية في نهاية القرن العشرين حتى ممن يحوز شهادةً في العلوم الشرعية. وكانت الحادثة التي تذرّع بها هذا القرار هو تفجير سيارةٍ مفخّخةٍ في دمشق قيل بأن أحد المسؤولين عنه كان أحد خريجي كلية الفتح، أحد الكليات الشرعية في دمشق (Thawara, 2008)، وكان من الواضح بأن ذلك كان مجرد ذريعةً، فكان من المؤكّد بأن الحكومة كانت مدركةً تماماً بأن الشخوص الدينية كانت أبعد ما تكون عن التورط بعمل كهذا. ولم يكن هذا أيضاً مرتبطاً بالجماعات، التي حثّتها الحكومة على القتال في العراق وانقلبت عليها لاحقاً، كون أن أنشطة الجمعيات الخيرية هذه كانت بعيداً كل البعد عن تلك الجماعات.
 
وأُقيلت الأسماء التالية من مجلس إدارة جمعية الأنصار: صلاح كفتارو، وبسام عجك، وعبد السلام الراجح، ورجب ديب (المصدر السابق). واستدعيت أيضاً الكثير من الشيخات القبيسيات إلى الوزارة وتمّ إعلامهن بأن عليهن تجديد تصريحاتهن الأمنية قبل الاستمرار في إعطاء الدورس (المصدر السابق).
 
اعتقل صلاح كفتارو في يونيو 2009 على أساس تهم اختلاس، وكان أخوه محمود قد احتجز لفترةً وصلت إلى 13 يوماً قبل ذلك بشهرين (وزارة الخارجية الأمريكية، 2010). وكان خليفة صلاح في إدارة المجمّع هو شريف الصواف. ومع أن الصواف كان أحد مريدي أحمد كفتارو، ترك صلاح كفتارو وراءه فجوةً ملأتها سريعاً أيادي سلطة وزارة الأوقاف. ووصلت هذه الأحداث إلى ذروتها، بلا شك، مع صدور المرسوم رقم 48 الذي صدر بتاريخ 4 أبريل 2011، بعد 19 يومٍ من اندلاع الانتفاضة السورية (مراسم وقوانين 2011). وبموجب هذا المرسوم، تم تأسيس معهد الشام العالي للعلوم الشرعية، واعتمد المجلس بصورةٍ رسميةٍ ثلاث كلياتٍ شرعية كانت فيما مضى تعمل بإشراف وتمويل الجمعيات التي ترأسّها العلماء. ومما يثير المفارقة هو أن البوطي كان من أعلن هذا المرسوم، وكأنه انتصارٌ مظفّر، بل وحتى على أنه تنازلٌ من طرف النظام (Pierret, 2013).
 
ومع كشف النظام عن سياسته العنيفة في التعامل مع الاحتجاجات، انبرت عددٌ من الشخصيات الدينية لإدانة النظام، واصطفت سريعاً مع المعارضة. والتزم البعض الآخر، ممن لم يختاروا هذا الطريق، الصمت حتى عندما طالبتهم الحكومة بإدانة المظاهرات بصورةٍ واضحة، فيما كان هناك بعضٌ وافقوا على تبني رواية النظام، ومن بينهم البوطي الذي أدان الاحتجاجات ولكنه أيضاً أشار باستمرار إلى أخطاء المسؤولين التي أوصلت البلاد إلى هذا المصير المأساوي. ولكن لم يكن هناك للبوطي جماعةٌ أو حركةٌ خاصّةٌ به، على النقيض من كفتارو الذي استطاع حشد آلافٍ من أنصاره لدعم "هوية قراره" عام 1979. وبالطبع كان هناك الكثيرون ممن يحترمون البوطي، إلا أن موقفه بالاصطفاف مع الحكومة ترك من احترموه وتطلّعوا له في حالةٍ من النفور والحيرة من موقفه. ولعلّ أن البوطي رأى بأنه يكرّر ما قام به كفتارو إبان تمرد الإخوان المسلمين. ولكن حال الواقع كان بأنه لم يكن يملك الدعم الشعبي الذي تمتّع به كفتارو، وكان أصلاً يتعامل مع حدثٍ، وسوريا، مختلفتين كثيراً عن سوريا 1979.
 
كان علماء دمشق في ذاك الوقت ربما في أضعف وأسوأ حالاتهم تنظيمياً منذ أن قوّضت الدولة القومية الحديثة تنظيماتهم التقليدية قبل قرنٍ كامل. فقد افتقر العلماء إلى قائدٍ كاريزماتي يستطيعون التطلّع إليه كقائدٍ أو ممثّلٍ لهم، بل وكانوا أيضاً قد أقيلوا من مجالس إدارة جمعياتهم وتم إعلامهم بأن المدارس والكليات الشرعية التي كرّسوا أنفسهم لتأسيسيها لعقود باتت الآن في يد عدوهم اللدود، وزارة الأوقاف. لقد كان حافظ الأسد أكثر مداراةً للنشاط التنظيمي للعلماء من ابنه بكثير، ولم تكن تلك المداراة بدافع التقدير الصادق للمجتمع المدني، بل كان يرى بأن هذا تنازلٌ ضروري. فكان لا بد من تمكين العلماء تنظيمياً إذا ما أراد النظام حشد الدعم الشعبي، فلن تؤدّي مهاجمة تنظيماتهم سوى إلى استفزاز مشاعر الكراهية العميقة لديهم وصدّهم عن التعاون. والأهم من ذلك هو أن هذا سيتركهم غير قادرين على دعم الحكومة حتى لو أرادوا ذلك، إذ أن الوسيط الرئيسي الذي يستخدمونه للحشد (مؤسّساتهم المستقلة) صار في مهبّ الرياح.
 
انحدرت رقعة تأثير الكفتارية والقبيسيات وأنشطتهم التنظيمية في دمشق في الأعوام الأربعة الماضية. فباتت معظم المدارس التي أسّسها أعضاءها خارج دمشق مدمرة أو تم إغلاقها. وفي دمشق أصبح مجمّع النور اليوم فرعاً لمعهد الشام العالي، الذي تديره وتشرف عليه وزارة الأوقاف. وانتهت مشيخة الطريقة الصوفية الكفتارية إلى رجب ديب الذي واحداً من العلماء الذين فضّلوا الصمت على الإعلان عن موقفهم من الثورة السورية، وتبعه عددٌ كبيرٌ من مريد كفتارو البارزين في هذا القرار. وبالرغم من أن الباحث يستطيع أن يجد عدداً من المناسبات التي أعلن فيها ديب صراحةً دعمه للنظام، لا تجد في أيٍّ من دروسه، التي تُنشر على اليوتيوب، تصريحاتٍ لصالح النظام أو في إدانة الانتفاضة السورية (Deeb, 2012).
 
وكان هناك بعض المحاولات الفاشلة التي قام بها صهر كفتارو وأحد أبرز مريديه محمد حبش، الذي كان أحد أعضاء البرلمان السوري وقت اندلاع الثورة السورية، للتوسط على أمل إجراء حوارٍ وطني ولإقناع هؤلاء المسؤولين بعقم الخيار الأمني. ولكن بعدما تبدّى لمحمد حبش، الذي عمل مع نائب الرئيس فاروق الشرع لتحقيق ذلك، أن النظام لا ينوي تغيير منهجيته، قرّر حبش الرحيل عن سوريا، حيث يعيش الآن هو وزوجته في الإمارات (Owais, 2012).
 
في المقابل، بقيت مدارس القبيسيات تحت إدارتهم في دمشق، ولكن لم يكن أيٌّ من هذه المدارس (باستثناء واحدة) مدارس شرعية. بل كانت ببساطة مدارس عادية تدرّس فيها النسوة اللواتي يعتبرن أنفسهن من أتباع الحركة القبيسية. إلا أن الرقابة التي تفرضها وزارة التعليم على هذه المدارس صارت في أعلى مستوياتها منذ نهاية السبعينات. وعلى غرار رجب ديب، اختارت القبيسي الصمت العام، وهو النهج الذي عملت به جميع مريداتها المقرّبات (Abu Rumman, 2013). وأصبح التحرش الحكومي، الذي ألفته القبيسيات منذ السبعينات، أكثر عدوانية ومنهجية.
 
فكان هناك حافلاتٌ تذهب إلى مدارس القبيسيات بصورةٍ دورية، وخصوصاً في المراحل المبكّرة من الانتفاضة، لتأخذهن إلى فعالياتٍ مختلفةٍ في دمشق. وكانت الجهات الإعلامية الموالية للنظام تحرص على نشر صورٍ للقبيسيات، المعروفات بمظهرهن، ومن ثم تعيد جهاتٌ إعلاميةٌ ثورية معارضة للنظام نشر هذه الصور، وكأن هناك اتفاقاً مشتركاً بين الطرفين، ولكن لمهاجمة القبيسيات بسبب موقفهم المزعوم الموالي للنظام. وحكت إحدى المدّرسات في ديسمبر 2012 كيف أنها وجدت نفسها فجأةً في القصر الرئاسي. وجاء الرئيس، وأعطى النساء محاضرةً عما يحدث في سوريا حالياً، بحضور وزير الأوقاف، ومن ثم غادر الغرفة. وكالعادة، تم التقاط الصور ونشرها (Baladi, 2012).
 
 
في مايو 2013، قُتلت الشيخة فاطمة الخباز إحدى المدرّسات المقرّبات من القبيسي. برصاص إحدى النقاط الأمنية، وكان ذلك، كما قيل، لأنها لم تتوقف السيارة التي كانت بداخلها بالسرعة المطلوبة (Sweid, 2013). وهناك الشيخة أميرة جبريل، التي تعدّ أيضاً من المقرّبات من القبيسي، والتي غالباً ما تستخدمها المعارضة لإثبات موالاة القبيسيات للنظام، وذلك لأن الشيخة أميرة هي أخت أحمد جبريل المشهور بموالاته للنظام (Hamidi, 2006B; Zain, 2014). ولكن كما ذكرنا سابقاً، لم تعلن أميرة جبريل أو غيرها من المقرّبات عن موقفٍ عام (أو حتى موقفٍ خاصٍّ موثّق) يمكن تفسيره صراحةٌ، وبأي شكلٍ من الأشكال، بأنه اصطفافٌ إلى جانب النظام، أو المعارضة. وفي مارس 2014، عُيّنت سلمى العياش، التي ترتدي ثياب القبيسيات، نائبةٍ لوزير الأوقاف (المصدر السابق).
 
ورأى المعارضون وموالو النظام، مرة أخرى، بأن هذا القرار دليلٌ على أن القبيسيات من موالي النظام. ولكن عياش لم تكن من المقرّبين للقبيسي، ولا هي أيضاً مدّرسةٌ في إحدى مدارسها. بل هي ببساطة واحدةٌ من بين عددٍ من النسوة اللواتي يعتبرن أنفسهن من أتباع هذه الحركة واللواتي يعملن في الوزارة، وحدث أن تمّت ترقيتها في وقتٍ لاحق. ولكن لا شكّ أن النظام قام بذلك قصداً في محاولةٍ واضحةٍ ليوحي بأنه يتمتّع بدعم شريحةٍ كبيرةٍ من المجتمع الدمشقي، ولا شكّ بأن القبيسي تدرك ذلك تماماً واختارت ألا تصرّح بتصريحاتٍ تناقض ذلك. يمكن النظر، من أكثر من زاوية، إلى أن نفس العناصر الأساسية التي رسمت هوية القبيسيات منذ 2011 رسمت أيضاً هوية الحركة الكفتارية، من الصمت إلى تغول الحكومة، والانحسار إلى الطريقة الصوفية.
 
خلاصة
 
تختزل قصة الكفتارية والقبيسيات قصة قيام وسقوط منظومةٍ حاول فيها العلماء استخدام الجمعيات الخيرية لتحقيق أهدافهم، وليصبحوا أكثر تمكناً من ناحيةٍ تنظيمية. لقد اندلعت الثورة السورية في عام 2011، أي في الوقت الذي دقّ فيه النظام المسمار الأخير في نعش العقد الاجتماعي الذي نظّم علاقة الدولة بالعلماء. وفي ظرف أربعة أشهر، أعادت الثورة تعريف كلّ شيءٍ حسبه السوريون أموراً مفروغةً منها. وربما كان لا يزال بالإمكان عكس وإصلاح كل ما حصل في هذه الأربعة أشهر الأولى، من مارس إلى 31 يوليو 2011، ولكن كل شيء تغير بعد اقتحام النظام لحماة.
 
اختار النظام ما أصبح يُعرَف الآن "بالحل الأمني"، ولم يكن هذا فقط لأن النظام شعر بأن العمل بأيّ مسارٍ آخر سيجعله بمظهر الضعيف والهشّ، ولكن كان ذلك أيضاً لعدم وجود أي شخصٍ يتمتّع بالسلطة الكاريزماتية في المجتمع المدني، أو بين العلماء أو غيرهم، بحيث يستطيع التأثير على آلاف الشباب السوريين الذين غمروا المساجد في أيام الجمعة للاحتجاج. فمن هو ذا الذي يمكن خلق تحالفٍ معه؟ لقد حرص النظام، من خلال سياساته، أن يبقى المشهد خالياً من أيّ شخصيةٍ أو حركةٍ يمكن لها فعل ذلك. فكان أحمد حسون، كبير المفتين، من حلب (وكان بالمناسبة أول من يتقلّد هذا المنصب من خارج دمشق)، وأيضاً لم يكن يتمتّع بأي شعبيةٍ تستحق الذكر (Pierret, 2013)، ولم يجد النظام أيضاً في جماعة زيد الحلّ المطلوب بالرغم من المجهود الكبير الذي استثمره فيها. فكان من الصعب أن تتجاهل هذه الحركة، بطبيعتها "الوسيلية"، ما كان النظام يفعله، ولهذا كان الخيار مرةً أخرى هو المنفى عوضاً عن إيجاد طريقةٍ لمداراة أفعال النظام.
 
وانصرف النظام إلى البوطي بعد أن هُمّش لسنوات على إثر وصول بشار الأسد لكرسي الحكم (IISS, 2008)، ولكن لم يستطع البوطي حتى أن يحتوي فورة الشباب الذين كانوا يحضرون خطبته يوم الجمعة في المسجد الأموي (Al-Buti, 2011). فكان هؤلاء الشباب يقاطعونه، بل وكانوا أيضاً يغادرون المسجد للذهاب والاحتجاج. في المقابل، كان الصمت هو أكثر ما استطاع النظام استجداءه من هذه السلطات التي تتمتّع بكاريزما متفاوتة، مثل الكفتارية والقبيسيات. وكان صمت رجب ديب ومنيرة القبيسي مختلفاً عن "هوية القرار" التي رسخّها كفتارو خلال تمرد الإخوان المسلمين. ومن هذه الزاوية، يمكن تفسير كلّ هذا بثقة النظام المفرطة. فقام بشار الأسد بتقويض وتهميش ما داراه أبوه حافظ الأسد، بل وشجّعه في بعض الأحيان، ووصل الأمر حتى إلى إلغاء مأدبة العلماء الرمضانية عام 2010 بعد أن كانت تقليداً صانه رؤساء سوريا منذ الاستقلال (Abu Zaid, 2010).
 
إنّ الدلالة الأهم لما بقي في دمشق، وتحديداً من الكفتارية والقبيسيات، هو ليس ما تستطيع هذه الحركات تحقيقه في ظلّ التقييدات الكبيرة المفروضة عليها، وإنما مدى الولاء الذي تجلّى فيهم لطبيعة تنظيماتهم العلمانية التي تتبلور كغاية، وليس كوسيلة. ويمكن تلخيص منهجيتهم بهذا المبدأ: "نترك ما لا يمكن فعله قانونياً، وعندما يزيد قمع الحكومة ننسحب إلى الطريقة الصوفية." ستلعب هذه التنظيمات التي كرّست نفسها لهذا الحد لما أسميناه هنا "تنظيميةً علمانية" دوراً كبيراً في إعادة إعمار سوريا، وهو أمرٌ حتمي الحدوث، فلن تقتصر أهمية هذه الحركات على صياغة توازنٍ مع الحركات التي لا تبالي بهذه المنهجية، وإنما ستشكّل قاعدةً لبناء مجتمعٍ مدنيٍّ جديد (Mamouri, 2015; Moubayed, 2015). ولكن سيبقى التحدي الأبرز الذي تواجهه كلٌّ من الكفتارية والقبيسيات إلى حين الوصول إلى سورية جديدة هو المحافظة على أهميتهم في المجتمع وليس مجرد البقاء، فالاستمرارية والبقاء فنٌّ برهنت هاتان الحركتان وبشكل لا يقبل الجدل أنهما قد أتقنتاه.

[لمراجع هذه الدراسة، التي تجاوزت السبع صفحات، اضغط هنا].

الهوامش:

[1] أنا ممتنٌ للبروفيسور "آلان واتسون" الذي كان من استثار اهتمامي بالتاريخ التنظيمي خلال محاضراته حول التقاليد القانونية الغربية، والبروفيسور "فريدريك فري" الذي عرّفني على التحليل التنظيمي، والراحل الدكتور "جورج مقدسي"، بأستاذي ومرشدي في جامعة بينسلفانيا، الذي يعود له الفضل فيما أعرفه اليوم عن المنظّمات التقليدية.
[2]  أغنت محادثاتي مع أحد قريبات بشير الباني، التي أصبحت من أتباع الحركة، عام 1974 لسيرة الشيخة منيرة القبيسي وحركتها. وفضّلت القريبة عدم الإدلاء بإسمها.

حمزة عامر:
مترجم سوري.
عمر عمادي

عالمٌ سوريٍّ من مواليد دمشق. حاز عمادي على شهادة الدكتوراة في دراسات الشرق الأوسط عام 1993 من جامعة بينسلفانيا في الولايات المتحدة، يتركّز اهتمام عمادي في الشرق الأوسط وسوريا تحديداً، إضافةً إلى تعمقه في الحركات الإسلامية، وقد ألّف عدداً من الكتب منها منها Metaphors of Islamic Humanism وRise & Fall of Muslim Civil Society. وهو المدير التحريري لمجلّة دراسات سوريّة بجامعة سانت أندروز كما عمل أيضاً باحثاً مع عددٍ من الجهات، وحلّ ضيفاً ومحلّلاً على عددٍ من البرامج التلفزيونية.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.