السياسة فيما بعد الليبراليّة، مراجعة لكتاب سياسة الفضيلة: ما بعد الليبراليّة والمستقبل البشريّ
ترجمة: محمد صلاح علي
[المادّة الأصليّة منشورة على هذا الرابط. وهي في الأصل مراجعة لكتاب ‘‘سياسة الفضيلة: ما بعد الليبراليّة والمستقبل البشريّ‘‘ Politics of virtue: Post-Liberalism and the human future لجون مليبانك وأدريان بابست]
يمكننا عدّ مجموعة من الأفكار التي لا زالت تتنافس على تحديد مستقبل العالم: الكاثوليكية، والإسلام، والماركسية حتى وقتٍ قريب. إلا أن هناك فكرة واحدةً فقط مسيطرة ومهيمنة ومتغلغلة؛ ألا وهي الليبرالية. وعلى الرغم من كون هيمنتها حديثةً نسبياً، إلا أننا نتعامل مع مبادئها وكأنها مثلٌ أفلاطونية بديهيّة وخيّرة بشكل مطلق، بل حتى من لا يعتبرون أنفسهم ليبراليين، يتفوهون بترهات ليبراليّة دون تفكير. وأيّ محاولة لئلا تكون ليبرالياً تبدو وكأنها انحطاط إلى شيء بدائي وخطير، مما يؤكد في نظر الكثيرين صواب وصلاح المعتقد الليبراليّ.
داهمتني تلك الأفكارُ عند قراءتي لمراجعات كتاب سياسة الفضيلة لجون ميلبانك وأدريان بابست. لم تتم مراجعة الكتاب بشكل جيّد في المجمل. لكن لا يعني ذلك أن المراجعات كانت سلبية، فقد كانت في الواقع -كما في كل الكتب الجيدة- متنوعة بين مدحٍ وانفعال؛ إلا أنني أعني أن المراجعات فشلت في التقاط الغاية الرئيسية من سياسة الفضيلة، ألا وهي تحدي هيمنة الليبرالية وتقديم ما بعد ليبرالية إنسانية يمكن أن تخلفها.
لقد كان مجرد اجتراء الكتاب على التشكيك في الليبرالية كافياً لرفضه بالنسبة إلى بعض المراجعين. ففي مجلة (Times Literary Supplement)، رفض ألبرت ويل فكرة ما بعد الليبرالية قائلاً «طالما أنّ الليبراليّة تقول إنها ملتزمة بمجتمع منفتح ومتسامح، فلا يمكن اتهامها بأنها غير منفتحةٍ ولا متسامحة». وفي الوقت نفسه، يقرّ كليفورد لونجلي في مجلة (The Tablet) بأنّ هناك ليبراليّات عدة، ومن الغريب محاولة تقديم تعريف موحد، إذ إنه هو نفسه -المفكر الكاثوليكيّ يا للغرابة!- لا يرى أي رابط بين الليبراليّة الاجتماعيّة على اليسار والليبراليّة الاقتصادية على اليمين.
لكن استطاع مراجعون آخرون التقاط الكتاب بشكل أفضل. فقد قال ستانلي هيورواس في مراجعته على هيئة الإذاعة الأسترالية ABC: «سيتم رفض ميلبانك وبابست لأنهما يملكان موقفاً قوياً، من قِبَل الليبراليين الذين يرفضون كلّ من له موقف قوي، مع أنه لا يمكن لهؤلاء الأخيرين الاعتراف بأنهما يملكان موقفاً قوياً». وأشار فريد دالماير في Review of Politics أن موقف الكتاب قويٌ بالفعل؛ إذ إنه «باختصار يتهم "الليبرالية" الحديثة بـ "تذرية" المجتمع إلى جانب تدخلات تسلطيّة عليا». فكما كتب ميلبانك وبابست: «إن انتصار الليبراليّة الحالي يؤدي أكثر فأكثر إلى "حرب الجميع ضد الجميع"». فالليبراليّة تؤدي إلى الشيء نفسه الذي وعدت منذ البداية بالخلاص منه؛ أي الحرب الأهلية الشاملة، وتجلب كذلك ما لم يكن موجوداً من قبل -لكنها تدّعي أنه كان كذلك-؛ أي الفرد المنعزل المجرد عن كل الارتباطات والواجبات الاجتماعيّة. وبالتالي، تقوم الليبراليّة ببناء وتقوية ما تدّعي أنها تستند إليه، وما تهرب منه.
إن الليبرالية تجد صورتها الجوهريّة في دولةِ سوقٍ تفرض الفردانيّة. فدولة السوق عليها أن تمحو أي شيء يقف في طريق الحريّة غير المقيدة، فتقضي على التضامن أو الارتباطات المشتركة بأشخاص أو أماكن أو أشياء أخرى. يضفي ذلك ملمحاً ماوياً غريباً على الليبراليّة؛ إذ إنها تسعى لإزالة مفاهيمنا المستقرة، جنسيّةَ كانت أم بيولوجيّة أو أي مفاهيم من تلك التي تجعلنا بشراً. لقد حدثت هذه السيرورة في أواخر القرن العشرين على مرحلتين: لبرلة اجتماعيّة في الستينيّات والسبعينيّات، تلتها لبرلة اقتصاديّة في الثمانينيات والتسعينيات. وكان من الضروري على الليبراليّة الاجتماعيّة (المستوحاة من اليسار) أن تقضي على التضامن الاجتماعي كي تمكّن لجانبها الاقتصادي (المستوحى من اليمين): الليبراليّة الاقتصاديّة. والليبراليّة الاقتصاديّة بصورتها الحالية هي التي أدت إلى الاحتكار الفرديّ أو احتكار القلة للاقتصاد، وإلى ركود الدخل الذي نراه اليوم في الغرب.
ينظرُ ميلبانك وبابست إلى الثورات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الليبراليّة باعتبارها نتاج مفهوم الحرية السلبيّة، الذي عرّفاه بأنه -تبعاً لإزيا برلين- «الاختيار والحرية الشخصيّة المتحررة من كل قيدٍ غير القانون والضمير الخاص». فكل حرية هي حرية ممنوحة إلا «حرية البحث عن الحقيقة الموضوعيّة والخير الأسْمى»؛ ويصبح اتخاذ أي موقف جمعيّ من أي شيء تمييزاً ضد نقيضه، وقيداً على الحرية. وتعمل دولة السوق كليّة القوة هذه، إذاً، على دعم أي رغبةٍ أو ممارسةٍ كاسرةٍ للمحرمات تتمناها النخبة الكوزموبوليتانيّة، مهما كانت المعارضة الجمعية الشعبيّة لها.
لقد بدأت الليبراليّة اليمينيّة مع التشاؤم اللاهوتيّ من قدرة الإنسان على التعاون مع النعمة الإلهيّة. فقد طرح اللاهوت اليانسني والكالفني أن أي خير في شئون البشر إنما يأتي من إلهٍ غائب يتآمر لأجل إحداث الخير على الرغم من طبائعنا المفزعة، فيعوّض أنانية الانتهازيين الجشعة بيده الخفية؛ ثم انتقل هذا الإيمان بالتكوينات الخفية إلى آدم سميث.
وأدى تفاؤل لاهوتيّ مغلوطٌ مماثل إلى نشأة اليسار الليبراليّ. لقد أوضح ميلبانك وبابست أن روسو قد عكسَ هوبز في أطروحته بأن حالة الطبيعة ليست حرب الجميع ضد الجميع، بل هي مجال البراءة الأصليّ، وأن التنافس والسجال لا يظهران إلا عند الجمع بين الأفراد في مجتمع عدائي. لكنه عاد واتفق مع هوبز في أنّ السلام قد تحقق من خلال الدولة في صورة الإرادة العامة. وبالتالي، إذا كانت الرغبة الفرديّة هي أكثر ما يتم قمعه من قبل المجتمع، فإن دولة روسو يجب عليها أولاً تحرير هذه الرغبة ثم توحيدها، فتنشأ وحدة حقيقة ويتم وأد الصراع. هذه هي عقيدة اليسار المعاصر؛ فكل الرغبات شرعيّة، إلا أن قرارات الدولة هي التي تحدد المسار الذي يجب أن تتخذه الرغبة: يجب عليك أن تكون مائعاً في أمور النوع الاجتماعي (gender)؛ يجب عليك مراكمة الثروة.
لا شيء من الخيرات التي تُنسب لليبراليّة قد نشأ معها أو ينتمي إليها. فالحرية والمساواة والتسامح والحقوق الفردية وحكم القانون والقيود على الدولة وقوة السوق والمحاكمات العادلة وحق المثول أمام القضاء؛ كل ذلك سبقَ الليبرالية، كما يجادل ميلبانك وبابست عن حقّ. لقد كانت هذه الأمور حاضرةً بصور مختلفة في العصر العتيق والفترات الكلاسيكية والقروسطيّة، وفي عصر النهضة. وتدعم الاعتبارات الجمعيّة هذه الأشياء أفضل مما تفعل الاستقلالية الليبرالية. يرجع هذا في جزء منه إلى افتقار الليبرالية إلى ممثلٍ محدد، ويحكم عليها اعتمادها على المجتمع المتخيل من الإرادات المجمّعة والمـُستوعَبة بتمثيل مصالح الطبقة المهيمنة بالفعل (في حالة غياب الخير الذي قد يحكم) والقضاء على ما هو موجود بالفعل من أجل شيء خيالي بالكامل.
وغير مُستغربٍ أن أتفق مع كل ما سبق. ويجب تهنئة ميلبانك وبابست على إنتاج أفضل توضيحٍ وتفنيدٍ بالإنجليزية للميتافيزيقا الليبرالية -حتى إن كان أكثر تعقيداً من ذلك، فإنهما يثيران شعوراً رائعاً بالغضب والسخرية عند الجدال ضد كل شعارات عصرنا التافهة- منتهكين بذلك التقليد اليساريّ (من خلال التأييد بحق للإمبراطوريّة باعتبارها نموذجاً للحكم المدني الذي يمكنه تجاوز القومية الضيقة)، والتقليد اليمينيّ (من خلال إبراز أن التبني المتطرف للأسواق لا يحفظ أي شيء على الإطلاق). لكنني استمتعت بشدة بالافتراض الأوليّ أكثر من الإثبات المستفيض المعتاد لكون الليبرالية غير المقيدة هي شرٌ ولعنة.
فإذا كانت هذه هي الليبرالية، فمن أين أتت، وما الذي حلّت محلّه؟ ربما يمثل ذلك أقل الأجزاء إرضاءً في الكتاب. فالليبرالية بدت وكأنها كارثةٌ حلّت بالبشرية بلا سبب مفهوم، ونتاجٌ غريب لمصالح خاصّة وليست جمعيّة. فلا يوجد تفسير لقدرةِ هذه الأيديولوجيا على النجاح والانتشار ولا لعدم قدرة النظام القديم على مقاومتها. وإن كانت الليبرالية بالفعل لا تخدم إلا مصالح القلّة الحاكمة من الطبقة الأوليغارشيّة، فلماذا دعمها وأيدها عددٌ كبير من الناس؟
في هذا الصدد، من المفيد قراءة جون كلود ميشيا إلى جانب سياسة الفضيلة الذي تأثر به. يعتقد ميشيا أن أصول الليبراليّة تكمن في الخوف من الحرب والرغبة المصاحبة في الحد من «رغبة العظماء في المجد، وطموحات البشر في البحث عن حقيقة الخير ([مما يمثل] مصدر كل الحروب الأهليّة)». يمكننا تعلم هنا شيء يبدو بسيطاً بشكل مخادع، إلا أنه يبرز بوضوح سبب جاذبية أي حل هوبزيّ [نسبةً إلى طوماس هوبز] في ذلك الوقت. ففي الواقع، لا يتحول الأشخاص عن مبادئهم الحاكمة من خلال الأفكار، بل من خلال الممارسات التي تنشأ عنها؛ فقد خسرت الكاثوليكية معظم أوروبا الشمالية ليس بسبب الأفكار البروتستانتية فقط، بل لأن الأمراء الأوروبيين رأوا في هذه الأفكار فرصةً للإفلات من السلطة البابويّة على بلدانهم. وما لم نفهم سببَ نجاح الليبرالية وما وفرته من خيراتها (المـُفترضة)، لن نستطيع أبداً أن نُسقطها عن عرشها.
قد يظن المرء أنه بتراكم أزمات الليبرالية قد تجذب بدائلُها المطروحة التأييد. هذا الأمر صحيح إلى حدّ ما؛ إذ كيف يمكننا فهم ترامب والبريكست [انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبيّ] والجبهة الوطنية في فرنسا إن لم تكن في جزءٍ منها بعد-ليبراليّة؟ فهذه الشعبويات كلها تحتج بطرق متنوعة على حركة البشر والسلع الجماعية وأثر ذلك على العمالة والإنتاج المحليين. وبغض النظر عن الآثار الاقتصادية للعولمة على الفقراء، إلا أنّ هناك جانباً ثقافيّاً مهماً في مقاومة الليبرالية هذه. فهؤلاء الشعبويون الجدد ما بعد الليبراليون يدركون -على الأقل على المستوى الحدسيّ- أن هناك أيضاً خطراً ثقافيّاً تمثله هجرةٌ إسلامية ضخمة، والتهديدُ طويل الأمد الذي يمثله ذلك على المجتمعات التي خرجت من رحم العالم المسيحيّ. إلا أن ردود الفعل القومية هذه على الليبرالية الدولية تلخّص بشكل خطرٍ وغير واعٍ بعض الجوانب الليبرالية المتنوعة لما يسعون لمواجهته. فترامب يروّج لحمائية وقومية خارجية، ويقدّم في الوقت نفسه نيوليبرالية أكثر توحشاً في الداخل؛ ووعدَنا البريكست بإنقاذنا من تبعات التجارة الحرة مع أوروبا، إذ يمكننا من التجارة بشكل أكثر حرية مع جميع أنحاء العالم (مما سيمثل ضغطاً أكبر على الدخول ومستويات معيشة العمالة الفقيرة غير الماهرة)؛ وأزِلْ فقط كراهية الإسلام من الجبهة الوطنية، ولن ترى إلا رفاهوية ليبرالية مرة أخرى. وكل البدائل ما-بعد-الليبرالية رجعية في أغلبها.
نحتاج إذن إلى السؤال عن سبب عدم قدرة ما بعد الليبراليين على تقديم أي شيء أفضل من مجرد ليبرالية حديثة. إنني أرى أن أكثر من اقترب من تقديم بديل ما بعد ليبرالي أصيل مؤخراً كان حكومة تيريزا ماي قبل انتخابات 2017. فعلى الأقل، كان مستشاروها من المحافظين الحمر الأصلاء مثل نيك تيموثي كبير موظفي مجلس الوزراء، والذي يؤمن بأن الليبرالية المتطرفة هي سبب مشكلات بريطانيا؛ إلا أن ماي لم تستطع معارضة التقشف ولا إصلاح أخطاء الليبرالية الحديثة. وكانت الانتخابات نفسها كارثية؛ فعدم قدرة ماي على تطوير أجندةٍ طموحة من أفكار السياسات التي تعمل على إعادة ضبط المسار الوطني -التي دعا إليها تصويت البريكست الخطر- كانت أمراً مأساوياً ومخزياً.
وعليه، إذا كانت الليبرالية بهذا السوء، لماذا تبدو بدائلُها ما-بعد-الليبرالية أسوأ؟ يخشى ميلبانك وبابست من أن غياب «ديمقراطيّة النفس قد يؤدي إلى زيادة الميول شبه الفاشية حتى تسيطر على السلطة في أوروبا، بل وفي الولايات المتحدة». ويصفان الفاشية بأنها «ما-بعد-ليبرالية مزيفة»، وهي بالفعل كذلك. فالفاشية هي النتيجة المنطقية لليبرالية، ومع بعض تمجيدٍ للدولة ستتجسد الجماعةُ في القائد العزيز.
إن أراد ما بعد الليبراليين تجنب الفاشية، يجب عليهم أن يتخلوا عن علمانيتهم. وهنا يدفع ميلبانك وبابست نظريةَ الفضيلة إلى أبعد مما توقف عنده منظروها العلمانيون. تتمثل مشكلة نظريةِ الفضيلة العلمانية في ذاتيتها الشديدة. فعلى الرغم من ادعاءاتها، تتقبلُ هذه النظرية عادةً أن تكون مجردَ اختيارٍ أخلاقيّ من بين اختيارات أخرى مشابهة. لقد كان لها آثار واقعية واضحة لدى ألسادير ماكنتاير، إلا أنه لم تتم متابعته. فإن لم يكن لدى نظرية الفضيلة شيء موضوعيّ أو «واقعيّ» مرتبط بها، فلمَ ستكون جذابةً إذن؟ يجب عليها تفسير سبب اهتمام الواقع بالبشر، وتفسير لماذا قد تكشف لهم الطريق الصحيح، أو «الجدير» بهم. وحدها المسيحية -أو أي دين توحيديّ محبب آخر- يمكنها فعل ذلك.
إذاً، من المناسب القول إن ميلبانك وبابست يدعوان بشكل ضمني إلى الواقعية وبشكل صريح إلى المسيحيّة. فأي سياسةٍ عادلة تتطلب «ثقل الموضوعية وأهمية الخير الواضحة للجميع». ولا يمكننا تحقيق ذلك دون «تدفق جديد لرؤية أخلاقية أو ربما دينية قابلة للنقل، وقادرةٍ حقاً على تحريك الناس». وللأسف، المؤسسات التي يمكنها القيام بذلك تعيش حالة من الفوضى؛ فالرعاة المسيحيون مشغولون بأحلامهم الليبرالية الخاصة، وقطعانهم مبلبلة.
ومع ذلك، يرى العديد من الناس أزمتنا؛ فهم مرعوبون من ثقافة الموت المتمثلة في الإبادة الجماعية للأجنة والقتل الرحيم الذي تقوم به الدولة في هولندا، حيث أصبح قتلُ المسنين والمرضى وباءً متفشياً. وبالطبع، لا زال العديد من الشباب مثاليين، أو لن يتم إقناعهم بالسياسة الخطيرة والمتطرفة التي يقرونها عادةً.
وبالتالي، هناك عالمٌ يجب علينا الفوز به، إلا أننا لا زلنا بعيدين كثيراً عن محاربة الليبرالية من خلال جبهة موحدة. فالقليلون فقط من يدركون أن الليبرالية الاجتماعية والاقتصادية هما شيء واحد، وتتصدى العديد من الحركات لوجه واحد فقط ويتركون الآخر. إن هذا هو قدر الكاثوليكية الأمريكية الحالي، وهي الكيان الوحيد القادر والواجب عليه إنقاذ أمريكا. فنزعتها الاجتماعية المحافظة هي الأكثر تقدماً في العالم الغربي، إلا أنها أسيرةٌ بالكلية في يد الليبرالية الاقتصادية الأكثر تطرفاً، ولذلك لا تملك أي شيء لتقوله عن التفاوت الطبقي الذي تفرضه الرأسمالية على الأمريكيين، ممن يتضاعف فقر ثلثهم الأدنى وتجعله المخدرات والجريمة ميؤوساً بشكل متزايد.
يجب على الكنيسة الكاثوليكية أن تدخل النزاع السياسي مرةً أخرى، لكن ليس باعتبارها كاهناً لليسار أو اليمين، بل باعتبارها مبشراً بنظام جديد. وعلى الرغم من أن البابا فرانسيس ناقدٌ بليغ لليبرالية الاقتصادية، إلا أنه يقوّض هذه الشهادة بتلطيفه معارضةِ الكنيسة لليبرالية الاجتماعية. ولم يستطع اليسار الليبرالي -على الرغم من دفاع بعض أبرز مفكرينا وأقدر سياسيينا عنه- إعاقة تقدم الأسواق، ولن يصبح الأمرُ أكثرَ فعالية إن بشّر به أحد الباباوات. فدولة السوق لا تُلقِ بالاً للاءات الرافضة الصارمة طالما أن أفعال الفرد تعلن موافقته.
ولذلك، يتمثل أملُنا الوحيد في تحويل المثاليين من الشباب إلى ما بعد ليبراليين. أين يمكننا إذن البحث عن هؤلاء القادة الجدد وهذه المثالية الجديدة الموحَّدة؟ يجب علىّ الاعتراف أنني بغض النظر عن كنائس السود الخمسينية وبعض الإنجيليين والإنجيليكانيين، قد فقدت الأمل في أن تُقدِّم البروتستانتية بديلاً مؤسسياً. وأظن أن الحل يكمن في التقليد الكاثوليكي وفي جيل القادة المخلصين الجدد من الكاثوليك ما بعد الليبراليين.
إلا أن كل مثالي ديني صغير (أو كبير) أقابله في إنكلترا أجده وحيداً للأسف، وخائفاً من إيذاء سياسات الجندر العدوانية الجديدة. فالمثالية لا تزدهر إلا عند شيوع السعادة، ووجود مؤسسات يمكنها نقل وتشكيل رد الفعل هذا إلى مستوىً أعلى وإلى الثقافة العليا، وهو شيء لم أعد أراه في بريطانيا. إلا أنني رأيته في الحركات الكاثوليكية التقليدية حيث تنشأ ممراتٍ مدنية كاملة يمكن من خلالها تشكيل شباب مسيحي.
وكل ما ينقص من الناحية السياسية هو زعيم مؤثر يمكنه تجسيد كل ما يبدو جيداً فيما-بعد-الليبرالية. وأراهن أن ذلك سيحدث في فرنسا، حيث الثقافة السياسية الكاثوليكية الأكثر تقدماً في الغرب. فعلى الرغم من انكسار حركة الاحتجاج من أجل الجميع Le Manif pour Tous ونجاح ماكرون والجبهة الوطنية، إلا أن الفرنسيين يعلمون جيداً وأكثر من أي أحد ما الذي سيخسرونه جراء الليبرالية المتطرفة وجراء أن تحلّ محلها القوميةُ والعنصريّة. فهم أكثر من أي أحد آخر يرون في كلٍ من الليبرالية الاجتماعية والاقتصادية أعداءً للصالح العام. وإن أخرجوا من بينهم زعيماً مؤثراً، فستكون هناك فرصة بأن يتغير تاريخُ العالم مرةً أخرى من فرنسا.
محمد صلاح علي
باحث ومترجم مصريّ. مهتم بالنظريّة السياسيّة والسياسات المقارنة والفلسفة. صدرت له العديد من الترجمات من بينها ترجمة كتاب "ابن خلدون" لسيد فريد العطاس عن مركز نماء للبحوث والدراسات، وترجمة كتاب "الدولة في المجتمع" لجويل س. مجدال عن دار عالم الأدب.
باحث ومترجم مصريّ. مهتم بالنظريّة السياسيّة والسياسات المقارنة والفلسفة. صدرت له العديد من الترجمات من بينها ترجمة كتاب "ابن خلدون" لسيد فريد العطاس عن مركز نماء للبحوث والدراسات، وترجمة كتاب "الدولة في المجتمع" لجويل س. مجدال عن دار عالم الأدب.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- الرابط (933 تنزيلات)
فيليب بلوند
باحث انجليزيّ مختص بالنظرية السياسيّة والفلسفة عموماً. صدرت له كتب، منها كتاب "المحافظ الأحمر: كيف شق اليمين واليسار بريطانيا وكيف يمكننا إصلاحها؟"
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.