العنف الطائفي في سوريا: "ضغائن قديمة" أم "فرّق تَسُد"؟
ترجمة: مصطفى الفقي.
تنويه من هيئة التحرير - موقع العالم للدراسات
تنويه من هيئة التحرير - موقع العالم للدراسات
على مدار أسبوعٍ ونيف، يقوم الموقع بنشر ثلاثة أوراق وردت في ورشة عمل (Workshop) حول الطائفيّة في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، قام بكتابتها باحثون متخصّصون في الشرق الأوسط للجنة وزارة الخارجيّة بالبرلمان الأوروبيّ. وتُنشر الأوراق بعد التواصل الشخصي مع رئيس الورشة، الدكتور توبي ماثيسن، صاحب كتاب "الخليج الطائفيّ".
تأتي هذه الأوراق لإلقاء الضوء على مسألة شائكة لا تهمّ العالم العربيّ فحسب، بل تهمّ العالم كلّه. وما يزيد أهميتها كونها تجمع بين التحليل والدراسة النظرية من جانب، وتقديم التوصيات العملية من جانب آخر. وهذا انسجاماً في محاولتنا الدائبة في الموقع للوصل، ماأمكن، بين النظرية والواقع، وبين فهم الظواهر ومداخل التعامل معها عملياً. وقد ارتأينا نشر هذه الأوراق على شكل ملفٍ متكامل من ثلاث حلقات، أخذاً بالاعتبار التكامل الموضوعاتيّ لمسألة الطائفيّة.
ملخص الورقة – توبي ماثيسن
تركّز ورقة رفائيل لوفيفر على الحالة السورية، حيث تُبين التوترات الحاصلة بين العلويين والسنّة أنه عندما يتم توظيف الطائفية كأداة لتحقيق أهداف سياسية، فإنها تخرج عن نطاق السيطرة وتصبح المخاطر جزءا لا يتجزأ من المجتمع. وفي سوريا، لعبت الاختلافات بين شتّى الطوائف الدينية والعرقية دورا في المجتمع ولكن دون أن يصبح ذلك إلى حد كبير سمة واضحة جدا للسياسة، فضلا عن إشعال الصراع المسلح على نطاق واسع. وفي الواقع، عندما اندلعت الانتفاضات في سوريا في آذار/ مارس2011، تدفق العديد من أبناء الطوائف المختلفة بما في ذلك بعض العلويين -طائفة بشار الأسد- إلى الشوارع احتجاجا على فساد الحكومة، وعنف قوات الأمن، وانعدام الحريات السياسية. فإلامَ يمكن عزو التصاعد المتسارع الذي حدث لاحقا في التوترات الطائفية بين السنّة والعلويين في سوريا؟
العنف الطائفي في سوريا: "ضغائن قديمة" أم "فرّق تَسُد"؟
من اللافت للنظر حقا أن نرى كيفية تحوّل الأزمة السورية بشكل سريع إلى صراع وحشيّ اتسم بتفشي العنف الطائفي مغريا بتأليب مؤيدي الرئيس السوري بشار الأسد ،وكثير منهم من العلويين (طائفة متشددة من الإسلام الشيعي)، ضد معارضيه ومعظمهم من السنّة. وبطبيعة الحال، فإن الهوية الطائفية مُميَّعة ولا تُترجَم مباشرة بحال من الأحوال إلى سلوك سياسي. كما أنَّ المحركات الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية القوية تؤجج الأزمة أيضا. ومع ذلك، فقد بات واضحا في السنوات الأخيرة أن العنف الجسدي بمستوياته الأعلى أضحى مهيمنا على الصراع، ويشمل ذلك الكثير من حالات القتل والاغتصاب والنزوح الجماعي ذي الطابع الطائفي، فضلا عن العنف الرمزي مع تزايد استخدام اللغة الطائفية ،وأحيانا التحقير، لتمييز "الآخر" في الحياة اليومية.[1]
هناك طرحان رئيسيان يسعيان إلى تفسير الرواج الحالي للعنف الطائفي في سوريا. يشير الطرح الأول ،ويفضله الكثير من صانعي السياسات الغربيين ويتم ترديده إلى حد كبير في وسائل الإعلام، إلى أن التوترات السنية العلوية هي في الغالب نتيجة "ضغائن قديمة" ذات طبيعة تاريخية وتيولوجية مزعومة، وأن سوريا، بحكم كونها تشكُّلا كولونياليا، كانت من المرجح دائما أن تكون برميل بارودٍ طائفيّ مهيئا للانفجار. بينما يلقي الطرح الآخر ،السائد في الأوساط المتعاطفة مع المعارضة السورية، اللوم على النظام والتدخلات السعودية والإيرانية التي أدت إلى ظهور جماعات تحركها أجندات طائفية في سوريا. وتسعى هذه الورقة إلى تجاوز هذين الطرحين وتوضيح تصاعد ومأسسة العنف الطائفي في سوريا.
الطائفية، مُحرِّك للانتفاضات؟
تكمن الإشكالية الرئيسية لحجاج "الضغائن القديمة" في توصيفه للصراع الحالي في سوريا على أنه صراع قروسطي، في حين أنَّ له في الواقع جذور حديثة نسبيا سياسية في معظمها.[2] وبطبيعة الحال، دائما ما تكون الهوية الطائفية مسألة مهمة بالنسبة للمجتمع في بلد يتسم بدرجة كبيرة من التنوع الديني (غالبا ما يُقدَّر أن التركيبة السكانية في سوريا تتألف من 64٪ من العرب السنة، و 12٪ من العلويين، و 9٪ مسيحيين، و 3٪ دروز، و 1٪ شيعة، و 1٪ من الطوائف الأخرى)*.
ولكن في الوقت نفسه، تكاملت هذه الانتماءات الدينية التي لم يتعاظم دورها بحيث تناقض الهوية الوطنية السورية التي تفاخرت غالبا بالفسيفساء الدينية للبلد.[3] وفي الواقع، حتى العام 2012، نادرا ما تُرجم هذا التنوع الديني إلى اضطرابات طائفية واسعة النطاق في العصر الحديث. وعلى الصعيد السياسي، لم ينقسم السوريون إلى حد كبير على أسس طائفية كما هو الحال في لبنان المجاور، حيث توزع المكاسب تقليديا بين الطوائف المحلية والعنصر الأهم في هوية حزب ما هو الانتماء الديني لمعظم أعضائه. بدلا من ذلك، فإن أحزابا مثل حزب البعث السوري على سبيل المثال الذي كان قوة سياسية متنامية في الخمسينيات قبل أن يصبح الحزب الحاكم في العام 1963، ضمّ أعضاءً من الأقليات مثل المسيحيين والعلويين، ولكنه تضمن أيضا نسبا كبيرة من السنة الأكثر فقرا المنجذبين لرسالته الاجتماعية. وعندما أصبح فارس الخوري، زعيم حركة الاستقلال السورية، رئيسا للوزراء مرتين ورئيسا للبرلمان أربع مرات في الأربعينيات والخميسنيات، فإن حقيقة كونه مسيحيا وليس سنيا ،ككثير من كبارالسياسيين في وقت سابق، لم تقف عقبة في طريق نجاحه الشعبي.
مع مجيء حافظ الأسد إلى السلطة في العام 1970، بدأت عملية تسييس الطوائف الدينية إلى حد ما. قبل حلول تلك الفترة، حاول الانتداب الفرنسي ضرب الطوائف بعضها ببعض من أجل القضاء على الحركة القومية، وخاصة في الأعوام 1920-1936 عندما انقسمت سوريا إلى ست ولايات أصغر، بما في ذلك ولاية للعلويين وأخرى للدروز. ولكن هذا المشروع فشل في نهاية المطاف. من جانبه، كان حافظ الأسد علويا، ولكن سنواته الأولى في السلطة لم تتميز بإبداء استعداد خاص لتمييز العلويين بأي ثمن وتهميش الطوائف الأخرى. ومع ذلك، فإن ما تغير هو عندما بدأت المعارضة السورية رفض حكمه السلطوي المتزايد، وعندما واجه موجة من الاحتجاجات الجماهيرية في أواخر السبعينيات، بدأ الأسد الاعتماد أكثر من أي وقت مضى على طائفته للحصول على الدعم، وتقليد الكثير منهم مناصب في الحكم. وأصبح العلويون بارزين بشكل خاص في أجهزة المخابرات والقوات المسلحة، إلى درجة أنهم بالرغم من كونهم يشكلون 12٪ فقط من الشعب السوري، إلا أنهم صاروا يشكلون 30٪ من هيئة الضباط في الستينيات. وتشير أغلب التقديرات الحالية إلى أنهم يشكلون الآن الأغلبية الساحقة.[4] ومن ثمَّ، فإن "علونة" النظام وقعت في سياق محاولة حافظ الأسد للبقاء السياسي حيث كان يواجه معارضة أكثر من كونه يدبر "مؤامرة علوية" كبرى. استمرت تلك الديناميكية في ظل حكم ابنه بشار الأسد، وتصاعدت بعد العام 2005 عندما بدأ بشار يواجه تحديات لحكمه. ومع ذلك، فإن هذه العملية لم تثر عنفا طائفيا على نطاق واسع حتى وقت قريب. وعندما بدأت الانتفاضات في العام 2011، لم تكن "المسألة الطائفية" من صميمها، إذ تراجعت لصالح القضايا السياسية والاجتماعية الأكثر إلحاحا في تلك المرحلة، والتي اجتاحت البلاد كلها في أعقاب الربيع العربي. وفي الواقع، شارك الكثير من العلويين في البدء المتظاهرين مطالبهم وانضم بعضهم إلى التظاهرات[5]. ومع ذلك، أصبحت المشكلة الرئيسية في الأزمة طائفية تدريجيا مع تزايد عدد العلويين الداعمين للنظام بطرق أكثر وضوحا، ودعم الكثير من السنة للمعارضة.
"تطييف" الصراع السوري
بادئ ذي بدء، "تطييف" الأزمة السورية هو جزء متعمَّد من استراتيجية "فرّق تَسُد" التي يعتمدها النظام السوري وتهدف إلى إذكاء التوترات الطائفية من أجل شق صفّ المعارضة والحصول على دعم الأقليات التي تمثل مجتمعة ما يصل إلى ثلث الشعب السوري. تنفيذا لذلك، عمد النظام إلى استهداف المدنيين السنّة في المناطق المختلطة دينيا على أمل تشريدهم وبث نزعة التطرف فيهم. وقام بتسليح قطاع الطرق العلويين (المعروفين باسم الشبيحة) الذين قتلوا ما يصل إلى 600 سنيا معظمهم من المدنيين في ريف حمص بين عامي 2011 و2012 فقط، بحسب مصادر مختلفة.[6] وتشير نتائج التحقيق الذي أجرته منظمة الأمم المتحدة إلى أنهم قاموا في أيار/مايو 2012 بإعدام 108 من النساء والأطفال السنّة في منطقة الحولة المجاورة[7]. بالتوازي مع ذلك، في وقت مبكر من شهر آذار/ مارس 2011، أي بعد أيام من اندلاع الانتفاضة، قرر النظام إطلاق سراح 200 سجينا من الإسلامويين المتطرفين السنّة من سجن صيدنايا سيئ السمعة، وهي الخطوة التي عجّلت بنهوض الجهادية والطائفية في صفوف المعارضة[8]. انخرط هؤلاء السجناء، فور إطلاق سراحهم، في عمليات تشكيل أو انضمام إلى بعض الجماعات الأكثر عنفا وطائفية مثل جبهة النصرة ،فرع تنظيم القاعدة في سوريا في ذلك الوقت، أو أحرار الشام، وهي جماعة سلفية لا ترعوي عن التصرف والتحدث على أسس طائفية. في الواقع، سوف تعمل ھذه الفصائل الإسلاموية في صیف العام 2013 علی التوحد ومداهمة المناطق العلوية في ريف اللاذقیة، في شمال غرب سوریا، مما أسفر عن مقتل 190 مدنیا علويا بحسب التقديرات التي جمعتها ھیومن رایتس ووتش.[9] ھذه النوعية من الھجمات عززت من الدعم العلوي للنظام.
بيد أنَّ تلك الواقعة أبرزت أيضا حصة المعارضة السورية من المسؤولية في "تطييف" الأزمة. في الواقع، قد يكون بعض فصائل المعارضة مثل المجلس الوطني السوري أو الائتلاف الوطني بمنأى عن ذلك مع تولي السنّة وشخصيات من الأقليات أدوارا رئيسية في قياداتهم، ولكنهم ،وبسبب عسكرة الأزمة، كانوا يقيمون في الخارج في اسطنبول وتعوزهم الشرعية المحلية. ونتيجة لذلك، كانت ردة فعلهم بطيئة في إدانة التطرف المتنامي الذي يتشكل في صفوف الثوار. وسيستغرق الأمر حتى العام 2014 مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية لكي تبدأ فصائل المعارضة في تناول هذه القضايا على نحو أكثر جدية. مع ذلك، وبحلول ذلك الوقت، كان من الممكن القول إنّ الوقت قد تأخر جدا، لأن الثوار داخل سوريا أصبحوا مهيمن عليهم بشكل واضح من قبل الجماعات الإسلاموية السنية. ديناميكية التطرف هذه لها جذور محلية، لكنها في الوقت نفسه تنبع أيضا من التنافس الجيوسياسي الأكبر الذي يضع المملكة العربية السعودية في مواجهة إيران. تدخلت الأخيرة في مرحلة مبكرة من الصراع، أولا عن طريق تقديم ما يقرب من 4 مليار دولارا من المساعدات الاقتصادية إلى النظام السوري، وثانيا، وربما هو الأهم، عن طريق إرسال 3000 عنصرا من أفراد الحرس الثوري الإيراني، ومن خلال توفيد 15000 عنصرا من أفراد الميليشيات الشيعية الأجنبية الأخرى من لبنان، والعراق، وأفغانستان، وباكستان للمساعدة في دعم القوات المسلحة للنظام السوري[10]. أثار هذا الحضور الضخم للمقاتلين الشيعة الأجانب في سوريا قدرا كبيرا من الاستياء السنّي المحلي، وشجّع دول الخليج السنّية على معارضة النفوذ الإيراني. ومن ثمَّ، موّلت المملكة العربية السعودية وقطر العديد من الجماعات الإسلاموية الراديكالية في سوريا. وأصبح بعضهم، مثل جيش الإسلام، حليفا مقربا للرياض وفاعلا على الأرض، ولكن محاولاتهم الحثيثة لنشر المذهب الديني الوهابي الذي ترعاه السعودية وخطابهم الطائفي عن التعالي السنيّ ساهما في تنفير الأقليات السورية.[11]
نحو مأسسة الخلاف الطائفي؟
ثمّة خطر متنام الآن يكمن في كون بعض توجهات العنف الطائفي والغضب الذي نشهده حاليا يتجذر في المجتمع بطرق من الصعب التغلب عليها في المستقبل. وبالنظر إلى استحالة إجراء بحوث ميدانية داخل البلد منذ بداية الأزمة، فإنه يصعب الحصول على بيانات موثوقة عن تطور الأنماط المجتمعية. إلا أن استطلاعا موثوقا إلى حد ما، أجرته منظمة "اليوم التالي" The Day After غير الحكومية على أكثر من 2500 سوريا من جميع الخلفيات الدينية والسياسية والاجتماعية-الاقتصادية، يسلط الضوء على حجم التحديات التي تنتظر سوريا عقب انتهاء الحرب.[12] من جانبه، أشار الاستطلاع إلى أن غالبية السوريين ينظرون بالفعل إلى "المشكلة الطائفية" في البلاد على أنها ذات جذور سياسية حديثة ولا تنبع من "ضغائن قديمة"، ومن ثمّ، يفتح ذلك الباب نظريًا أمام الحد من التوترات الطائفية الرائجة بمجرد معالجة جذور الصراع. ومع ذلك، أشار الاستطلاع من ناحية أخرى أيضا إلى اتجاه مقلق لمستقبل سوريا وهو مأسسة الانقسامات الطائفية. ومما يسترعي الانتباه على سبيل المثال أن 72٪ من السوريين أفادوا بأنهم وقعوا ضحايا للتمييز الطائفي، وهي نسبة عالية جدا بما ينبئ بأن هذه المشكلة، إن لم يتم التصدي لها بشكل عاجل، تؤسس لعقود قادمة من العداء تجاه "الآخر". وهذه الإحصاءات هي أكثر إلحاحا في الأماكن التي تستضيف اللاجئين السوريين في تركيا، حيث أصبحت السرديات الطائفية رائجة بين أولئك الذين عانوا كثيرا بسبب الصراع. على أرض الواقع، يُترجَم هذا العداء إلى انفصام مجتمعي أكبر بين الطوائف التي لا تزال في بعض الأحيان تعيش جنبا إلى جنب. إحدى الطرق البسيطة ،ولكنها معبرة، لقياس هذا الانفصام المجتمعي هي رصد جمهور القنوات التلفزيونية. ففي حين يتابع غالبية العلويين قناة الدنيا، التي تعتبر في كثير من الأحيان القناة الناطقة بلسان النظام، فإن 2٪ فقط من السنة يشاهدون ذات القناة، ومن جانبهم، يقول السنّة إنهم يفضلون مشاهدة قناة أورينت المدعومة من المعارضة، وهي ذات القناة التي يشاهدها 0.4٪ فقط من العلويين. هذه الأمثلة ليست مجرد حديث مرسل؛ إذ تلعب القنوات التلفزيونية دورا رئيسا في ترسيخ السرديات واستقطاب المجتمع.[13]
منذ إجراء الاستطلاع في العام 2015، تصاعدت مستويات الطائفية والعنف. هناك سببان رئيسيان يقفان وراء هذا التدهور المتزايد في العلاقات بين الطوائف السورية. الأول هو أن محاولات النظام في "الهندسة الديموغرافية" بدأت تسفر عن نتائجها. وقد أفرغت براميل النظام المتفجرة، وهجماته بالأسلحة الكيميائية، وتكتيكات "الجوع أو الاستسلام" إلى حد كبير دمشق وحمص من المعارضة السنية، بالإضافة إلى عدد كبير من المدنيين أيضا في العديد من الحالات[14]. تم نقل هؤلاء السكان إلى شمال سوريا، الذي تسيطر عليه المعارضة، وظهرت تقارير تفيد بأن منازلهم قد مُنحت أحيانا للميليشيات الشيعية الأجنبية التي تدعم النظام[15]. وهذا لا يؤدي إلى زيادة أنماط الانقسام الطائفي والاستياء فحسب، بل يصعّب أيضا من احتمالية عودة اللاجئين بما يؤدي إلى تغيير خريطة سوريا الديموغرافية في الواقع. والسبب الثاني وراء زيادة التوترات السنية العلوية هو القوة المتزايدة للجماعات الإسلاموية الراديكالية. قد يكون تنظيم الدولة الإسلامية محاصرا بشكل متزايد في "عاصمته" الرقة، ولكن قدرته على العمل خارج هذه المناطق لاتزال كبيرة، كما يتضح من التفجيرات التي نفذها في أيار/مايو 2016، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 120 مدنيا علويا حول اللاذقية. أيضا، حتى مع تراجع تنظيم الدولة الإسلامية، فإن التنظيمات التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا في نهوض مستمر، خاصة بعد سقوط حلب في أيدي النظام في كانون الأول/ديسمبر عام 2016.[16] بينما لا تخفي جبهة النصرة، التي تعرف اليوم باسم جبهة فتح الشام وهي جزء من تحالف هيئة تحرير الشام الجهادي، استعدادها لقتل المدنيين العلويين والشيعة ثأرا لقتل النظام للمدنيين السنة. وتظهر إمكاناتها التدميرية بشكل منتظم، كما أن حضورها المتزايد في شمال غرب سوريا قد أدى إلى زيادة كبيرة في التوترات الطائفية. لذلك، في حين أن العنف الطائفي قد يكون ظاهرة حديثة نسبيا في سوريا، إلا أن هناك خطر حقيقي من أن تزايد حدوثه، وعدم توافر آفاق للسلام يدفعه إلى أن يأخذ مساره الخاص.
توصيات للاتحاد الأوروبي
يجب أن تكون أولوية الإتحاد الأوروبي بالطبع هي مواصلة الضغط الدبلوماسي من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار، وبدء المفاوضات، والشروع في عملية انتقال سياسي وتشجيع إصلاح النظام السياسي السوري وهيكلة الأمن. ومع ذلك، يمكن تصوُّر بعض الخطوات الإضافية. مثلا، في حين يمتلك الإتحاد الأوروبي علاقات جيدة مع إيران، فإنه يمكن أن يشجع طهران على سحب عناصر الحرس الثوري والميليشيات الشيعية الأجنبية من سوريا. فإن وجودهم في البلاد، تماما مثل حضور الجهاديين السنّة، يشكّل عقبة أمام المصالحة بين السوريين في المستقبل. ويمكن أيضا النظر في اتخاذ تدابير أخرى قصيرة الأجل. في الحقيقة، سيكون من المفيد بالنسبة إلى المفاوضين وصانعي السياسات أن يمتلكوا المزيد من البيانات واستطلاعات الرأي حول ما يفكر فيه السوريون ويشعرون به وما يريدونه لمستقبل بلادهم، وهو ما يمكن أن تساعد نتائجه في اتخاذ أي قرارات قادمة فيما يتعلق بالجهود التي تقودها الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي لإعادة الإعمار والمصالحة. وبالمثل، يمكن الشروع في إرسال بعثات مستقلة لتقصي الحقائق لتوثيق جرائم الحرب التي يرتكبها جميع الأطراف، ليس فقط من أجل الأمل البعيد في تقديم الجناة إلى العدالة، بل من أجل كشف الحقيقة. ولأن السرديات الطائفية بشأن "العلويين يقتلون السنّة" -أو السردية المضادة لذلك- رائجة للغاية، والفروق بينهما دقيقة من حيث العثور على الجناة الفعليين بدلا من إلقاء اللوم على جماعات كبيرة من الناس، يمكن أن يساعد ذلك في نهاية المطاف في استعادة درجة ما من الثقة بين الطوائف. ويمكن أيضا استخدام التقارير المنتجَة من قِبل أي لجنة سورية مستقبلية لتقصي الحقائق والمصالحة.
بموازاة ذلك، يجب بذل المزيد من الجهود لتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للجيل الأصغر سنا من السوريين الذين ينشأون في سياق العنف وبدون تعليم. وتقدّر منظمة إنقاذ الطفولة أن ما يصل إلى ثلثي الأطفال السوريين قد فقدوا أحد أفراد أسرهم أو وقعوا أنفسهم ضحايا للعنف مباشرة، وهو ما تراه المنظمة غير الحكومية مشجعا على السلوكيات العدوانية[17]. وبالتالي يمكن للإتحاد الأوروبي زيادة دعمه الحالي للمبادرات الخاصة بتعليم السوريين النازحين داخل بلادهم واللاجئين في البلدان المجاورة، كما يمكنه أيضا أن يستثمر المزيد في المنظمات غير الحكومية التي تشارك في علاج الصدمات النفسية والجسدية، وكذلك تلك المنظمات التي تستهدف لُحمة الطوائف المحلية. وأخيرا، يمكن للإتحاد الأوروبي أيضا استخدام نفوذه المالي الفعّال من أجل فرض، عندما يحين الوقت، شروط "إعادة الإعمار الشامل" في سوريا. وفي الواقع، إذا كان الإتحاد الأوروبي يمتلك المقدرة الفريدة والرغبة في دفع الجزء الأكبر من الرقم التقديري البالغ 200 بليون دولار الذي غالبا ما تكون هناك حاجة إليه من أجل إعادة بناء بلد مزقته الحرب، فإنه يمكن أن يفعل ذلك كجزء من اتفاقية كبرى من شأنها أن تجبر الدولة السورية على أن تصبح أكثر استيعابا للجميع، وأن تراعي حقوق ملايين السوريين النازحين حاليا. وأخيرا، لأن جذور العنف الطائفي تتعلق في نهاية المطاف بقضايا اجتماعية - سياسية ملحة أكثر من كونها ترجع إلى "ضغائن قديمة"، فمن خلال معالجة هذه القضايا، يمكن في نهاية المطاف تحجيم تسييس الهوية الطائفية.
الهوامش
[1] Aaron Y.Zelin and Philip Smyth, “The vocabulary of sectarianism”, Syria Deeply (31/1/2014).
[2] للإطلاع على أمثلة لحجاج "الضغائن القديمة" راجع:
James Satvridis, “Syrian Ghosts”, Foreign Policy (6/11/2015) or news articles such as “Ancient hatreds tearing apart the Middle East”, Daily Mail (12/6/2014).
* هكذا وردت النسب في النسخة الإنجليزية، ولعل الصواب أن نسبة العرب السنة 74%.
[3] من أجل الإطلاع على تحليل تاريخي جيد للغاية وتفكيك مفهوم الفسيفساء السورية وأهميته في بناء الهوية الوطنية، راجع:=
Max Weiss, “Colonial and social scientific discourses on the Alawis in Syria during the Mandate and early independence periods”, Chapter 3 in Michael Kerr and Craig Larkin (eds.), The Alawis of Syria: war, faith and politics in the Levant (London, Hurst, 2015).
[4] من الصعب الحصول على بيانات دقيقة بشأن التطورات الأخيرة، ولكن تشير معظم الدراسات إلى أن العلويين يشكلون مؤخرا ما بين 60% إلى 80% من الضباط السوريين. راجع:
Nikolaos Van Dam, The struggle for power in Syria (London, I.B.Tauris, 1979), Moshe Maoz, “Alawi military officers in Syrian politics”, in H.Z. Shiffrin (ed.), The military and state in modern Asia (Jerusalem, Israel Universities Press, 1973) and Hicham Bou-Nassif, “’Second-class’: the grievances of Sunni officers in the Syrian armed forces”, Journal of Strategic Studies (Vol.38, No.5, 2015), p.632.
[5] “Disaffection, fear growing among Syria’s Alawites”, The National (8/4/2012).
[6] تستند هذه التقديرات إلى الأرقام التي جمعها كريستوفر فيليبس، انظر:
Christopher Phillips, “Sectarianism and conflict in Syria”, Third World Quarterly (Vol.36, No.2, 2015), pp.359-360
[7] "Oral update of the Independent International Commission of Inquiry on the Syrian Arab Republic”, United Nations Human Rights Council, 20th Session (June 2012).
[8] "Assad regime set free extremists from prison to fire up trouble during peaceful uprising”, The National (22/1/2014)
[9] You can still see their blood’: Executions, indiscriminate shootings and hostage taking by opposition forces in the Latakia countryside”, Human Rights Watch (10/10/2013)
[10] انظر:
Phillip Smyth, “The Shiite Jihad in Syria and its regional effects”, Washington Institute for Near East Policy (2015). See also “Iran’s new way of war in Syria”, Institute for the Study of War (2017.
[11] من أجل رؤية أعمق لقبضة جيش الإسلام على ضواحي دمشق، وسياسات الثوار بشكل عام في منطقة دمشق، انظر هذا التقرير المميز:
Aron Lund, “Into the tunnels”, The Century Foundation (2016(
[12] راجع التقرير المميز:
“Syrian opinions and attitudes towards sectarianism in Syria – survey study”, The Day After (2016).
[13] “Syrian opinions and attitudes towards sectarianism in Syria – survey study”, The Day After (2016), pp.39-41.
[14] “No return to Homs: a case study on demographic engineering in Syria”, The Syria Institut (21/2/2017).
[15] “Militiamen of Shiite villages resettled in Qusayr town”, Zaman al-Wasel (26/4/2017).
[16] Charles Lister, “Al-Qaeda is starting to swallow the Syrian opposition”, Foreign Policy (15/2/2017)
[17] “Invisible wounds: the impact of six years of war on the mental health of Syrian children”, Save the Children (March 2017).
مصطفى الفقي
كاتب ومترجم مصري.
كاتب ومترجم مصري.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- الرابط (969 تنزيلات)
رفائيل لوفيفر
باحث بكلية New College بجامعة أكسفورد تركز أبحاثه على الصراع السوري، والسياسة اللبنانية، ودور الجماعات الإسلاموية في الشام. وهو أيضا باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. له العديد من المنشورات من بينها كتاب "رماد حماة: جماعة الإخوان المسلمين في سوريا" الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد عام 2013.
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.