يدور الكثير من النقاش عن دعم الدول للثوار السوريين حول مسألتين رئيسيتين: الأولى، الأهداف القصوى التي تحاول الدول الراعية تحقيقها (مواجهة نفوذ إيران في المنطقة، وإضعاف الإنفصاليين الأكراد في شمال سوريا، الخ)؛ وثانياً، أولويات هذه الدولة فيما يخص شركائها الثوار (التعاطف أو العداء تجاه الفصائل الإسلامية، والدعم السعودي لكتائب معينة في مواجه فصائل مدعومة قطرياً، وبالعكس). على أية حال، فإن جوانب المشكلة التي غالباً ما أُغفِلت هي قدرات الدول الراعية للثورة السورية ومقدرتها الناتجة عن ذلك (أو عدمها) على توجيه شركائها الثوار وفقاً لرغباتها، وذلك بغض النظر عن وسائلهم المالية غير المحددودة تقريباً(1). ومقارنة بإيران، تعاني دول مثل الملكيات الخليجية، والأردن وتركيا من عيب كبير عندما يتعلق الأمر بدعم القوات شبه العسكرية في الخارج بسبب تناقضات سياسية ونقص الخبرة(2).
من أحد الأسباب الرئيسية لاختلال التوازن هذا هو الطبيعة اللاثوريّة للدول الراعية للثورة السورية، وذلك خلافاً للطابع الثوري للنظام الإيراني. ولا يقوم هذا التمييز على مواقف كل من هذه الدول تجاه الثورات العربية في عام 2011، بل على أصول أنظمتها: ففي حين أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي نتاج ثورة 1979، فإن ملكيّات الخليج والأردن هي أنظمة محافظة قاومت موجات تغيير ثوري إقليمية متعاقبة منذ خمسينيات القرن العشرين، أما النظام السياسي لتركيا فهو حصيلة تحوّل شهد إخضاع الجيش التدريجي للسلطة المدنية من خلال (بشكل أساسي حتى الآن) وسائل دستورية.
تتمتع الدول الثوريّة مثل إيران (أو الدول الأوليّة (البدئيّة) مثل الدولة الإسلامية) بميزتين واضحتين عندما تنخرط في أنشطة تخريبية خارج حدودها. أولاً، الإيديولوجيات الثورية مُناضلة وعالمية بطبيعتها، وبالتالي توفّر نموذجاً قابلاً للتكرار من قبل المقاتلين الأجانب. وفي حين أن وكلاء إيران غير الحكوميين في لبنان والعراق (حزب الله، ومنظمة بدر، وعصائب أهل الحق،...) هي ميليشيات طاعة خمينية صارمة، لا يوجد فصيل مسلح سوري يروّج بفعالية لإقامة ملكية باتريمونالية (ميراثية) على الطراز القطري أو السعودي. أمّا تجربة حزب العدالة والتنمية التركي التي تُدرك بشكل إيجابي من قبل الشرائح المعتدلة في الثورة السورية، فهي نموذج غير مناضل بطبيعته، وهذا ما قد يُنظر إليه بوصفه النتيجة النهائية للعملية الثورية وليس مخططاً لتعبئة الثوار. والنتيجة المنطقية لغياب الايديولوجية الثوريّة بين الدول الراعية للثورة السورية هي الدور البارز لأطراف ثالثة، والتي يمكن تسميتها "مقاولو قضية". ولأن الدول الراعية لا تقدم أساساً منطقياً ايديولوجياً خاصاً بها لتعبئة عنيفة، فقد شُغِل الفراغ بجهات فاعلة غير حكومية من ناشطين محليين مؤيدين للديمقراطية إلى جهاديين متعددي الجنسيات. وعلى النقيض من ذلك، فإن أطراف ثالثة كهذه تغيب بشكل واضح من العلاقة بين إيران ووكلائها شبه العسكريين.
أمّا الميزة الثانية للأنظمة الثورية فهي حقيقة أن جهاز الدولة لديها يتضمن نخبةً مكرّسةً للعلاقات مع القوى شبه العسكرية الأجنبية كجزء من أجندة تصدير الثورة. ونظراً للدور الرئيسي الذي لعبته هذه النخبة في العملية الثورية في موطنها، فهي تمارس نفوذاً كافياً داخل الدولة لتأمين موارد كبيرة من أجل دعم طموحاتها في الخارج. فإيران تتعامل مع وكلائها الاقليميين من خلال الحرس الثوري وهي وكالة حكومية متخصّصة تماماً راكمت أكثر من ثلاثة عقود من خبرة متواصلة في التسليح والتدريب والإشراف على قوات شبه عسكرية أجنبية. أما بالنسبة للدول الداعمة للمعارضة السورية، فهي تقوم بالأمر نفسه من خلال أجهزة الاستخبارات، التي يبقى اهتمامها الأساسي هو الأمن المحلي، وشاركت في بعض الأحيان أو لم تشارك أبداً في عمليات تخريبية في الخارج(3). بعبارة أخرى، الدول الثورية قادرة على تقليص واحدة من المشاكل الأساسية التي واجهتها الدول الراعية للمجموعات المتمردة: تباين الأولويات السياسية(4). وذلك لأن الدول الثورية توفر لشركائها المتمردين أساساً منطقياً إيديولوجياً متماسكاً لتعبئة عنيفة، ولأنها تمتلك موارد بشرية وتنظيمية أكثر وأفضل لتشكّل وكلائها في صورتها الخاصة.
سأوضح في هذا الفصل حدود تأثير الرعاة الأجانب على الثورة السورية من خلال التركيز على الطرف المتلقّي. وسوف أُظهر على وجه الخصوص أنه سواء أثبتت فصائل الثورة السورية نجاحاً أم لا (أي تماسكاً وكفاءة عسكرية) فإن ذلك أقل ارتباطاً بالدعم الخارجي مما بعيوبها أو بصفاتها المتأصّلة. بالتالي تركيزي هنا ليس على أداء التمرد السوري بشكل عام، بل على الاختلافات بين المجموعات التي واجهت ظروفاً سلبيةً مماثلةً على مدى السنوات الماضية: أولاً، من جهة؛ عدم توازن كبير بين الدعم الفاتر الذي تلقّوه من الدول الأجنبية الراعية لهم، ومن جهة أخرى؛ الاشتراك الأكثر حزماً لإيران وروسيا في النزاع إلى جانب نظام الأسد. ثانياً، صعود أطراف ثالثة مثل الدولة الإسلامية وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، والتي أجبرت الثوار على القتال على عدة جبهات وحوّلت استراتيجيات الدول الأجنبية الراعية لهم على حساب نضالهم ضد الأسد.
عملياً، تُرجِمت عبارة "أي أحد إلا الإسلاميين" إلى تركيز على منشقي الجيش مثل العميد مصطفى الشيخ والعقيد قاسم سعد الدين والرائد ماهر النعيمي وفصائل غير متبلورة ايديولوجياً تتبنى تسمية الجيش السوري الحر(8). وكانت كتائب الفاروق في حمص واحدة من أوائل الفصائل المتمردة التي استفادت من السخاء السعودي، وهي فصيل رائد في الجيش السوري الحر كانت خلال العام الأول من التمرد ربما المجموعة المتمردة الأغنى والأكثر قوة في سوريا(9). ولم تكن موارد كتائب الفاروق المالية نتيجة الدعم السعودي فقط، ولكن أيضاً نتيجة قدرة المجموعة للعب على قوتها وهيبتها (مثل فصيل رائد في ما كان يُعرف آنذاك ب"عاصمة الثورة") من أجل الحصول على تمويل من مصادر متنافسة. وبحلول أيلول/سبتمبر من عام 2012، انضمّت كتائب الفاروق إلى جبهة تحرير سوريا الإسلامية، وهي تحالف على الصعيد الوطني يُموّل من قبل شبكات سلفية ترتبط بالمنظّر السوري المتمرّس محمد سرور زين العابدين، الذي أعرب علانيةً عن احتقاره للنظام السعودي وحافظ على صلات وثيقة مع قطر(10).
وإضافة إلى الولاءات المتعدّدة والمتغيّرة، خيّبت كتائب الفاروق آمال السعودية (ورعاتها الآخرين) باختلالاتها التنظيمية. فقيادة المجموعة هي مجموعة مُرتجلة من منشقين عسكريين (الملازم عبد الرزاق طلاس)، وناشطين ثوريين مدنيين (حمزة الشمالي) وشيوخ (أمجد البيطار). وتفاقم هذا الطابع المخلخل لهيكل قيادة كتائب الفاروق أكثر عندما استخدمت المجموعة قدرتها الشرائية الكبيرة لتتوسع في شمال البلاد، حيث اكتسبت موارداً أكثر وجعلت من نفسها شريكاً أساسياً لتركيا بالسيطرة على المعابر الحدودية(11). وقد قاد كتائب الفاروق الشمالية المثير للجدل نورس المحمد والذي يُعرف ب"البرنس"، والذي اتُّهِم بعمليات ابتزاز كبيرة وأعدمته لاحقاً المحكمة الشرعية في حلب بناءً على هذه الأسس(12). وفي أواخر عام 2012، بدأت كتاب الفاروق بالتشظّي كنتيجة للنزاعات الشخصية التي تُرجِمت إلى إقالة شخصيات رئيسية مثل طلاس والبيطار وإلى إنشاء فصائل منشقّة مثل كتيبة الفاروق عمر المستقلّة(13). وبحلول أواسط عام 2013، تحوّلت الفاروق إلى كتيبة ثانوية، وخلال عام دمّرت المزيد من الخلافات الداخلية ما تبقى من المجموعة(14). ثم شارك القادة السابقون لكتائب الفاروق في خلق حركة حزم(15)، المفضّلة لدى الولايات المتحدة والتي انكشفت هشاشتها عندما تحلّلت بسرعة في ظل هجمات جبهة النصرة في أوائل عام 2015(16). كما أُنفقت مبالغ ضخمة من الأموال السعودية على ألوية أحفاد الرسول، وهي تحالف وطني يديره منشقون عسكريون بدوا في النصف الأول من عام 2013 قادرين على منافسة أكبر الفصائل الإسلامية(17). ومثل كتائب الفاروق، كانت أحفاد الرسول في البداية جذّابة بما فيه الكفاية لتضمن تمويلاً من كل من قطر والسعودية، ولكن أيضاً مثل قيادة كتائب الفاروق كانت قيادتها ترتكز على شبكات رخوة (قبلية جزئياً) أثبتت اختلالها وجعلت التحالف غير قادر على مقاومة الهجمات الشديدة المتتابعة من جانب المنافسين الجهاديين: ففي منتصف عام 20142013- دمّرت الدولة الإسلامية المعاقل الرئيسية لألوية أحفاد الرسول في وادي الفرات(18)، وفي نهاية 2014 أبادت جبهة النصرة الفرع الشمالي من جبهة ثوار سوريا، وهي نتاج عملية اندماج سابقة بين ألوية أحفاد الرسول وتجمع ألوية وكتائب شهداء سوريا التابعة لجمال معروف، وهم من غير الإسلاميين أيضاً المفضّلين لدى السعودية(19). وبفقدان السعودية لوجودها في شمال سوريا مع بداية عام 2015، لم يكن لديها أي خيار آخر سوى الانخراط في تقارب حذر مع أحرار الشام، أي الحليف الإسلامي الرئيسي لتركيا في المنطقة(20).
يدين هؤلاء الشركاء السعوديون، الذين أثبتوا مرونة أكثر على المدى الطويل، بنجاحهم النسبي لعوامل أخرى غير التمويل من الرياض. ففي الضواحي الشرقية لدمشق، لم يتمكن جيش الإسلام (للمتوفي زهران علوش) من مجرد البقاء على قيد الحياة خلال ثلاث سنوات من الحصار من قبل قوات النظام، ولكن أيضاً رسّخ نفسه كفصيل مهيمن في المنطقة (أحياناً عبر عمل عسكري مباشر ضد فصائل منافسة مثل جيش الأمة الذي دمّره جيش الإسلام في أوائل عام2015)، كما تمكن من القضاء على الخلايا النائمة المحلية للدولة الإسلامية، والإبقاء على جبهة النصرة تحت السيطرة، والتوسع في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك فإن جيش الإسلام ليس صنيعة سعودية. فهو مجموعة سلفية، وبالتالي الاستثناء الكبير الوحيد لإحجام الرياض عن التعامل مع الفصائل الإسلامية (21)، ارتبط ذات مرّة بتحالفات متحيّزة لقطر (جبهة تحرير سوريا الإسلامية والجبهة الاسلامية) واستلام الدعم من شبكات سرور. وقد نبع اتصال المجموعة مع السعودية عبر روابط طويلة الأمد بين والد علوش، وهو عالم سلفي، وبين المؤسسة الدينية السعودية، لكن بعض مراكز صنع القرار السعودي لا تثق بجيش الإسلام منذ فترة طويلة. أيّاً ما كان، فإن ترابط البنية التنظيمية للمجموعة (وهو ذاته نتيجة شبكة دينية شبه سرية سابقة للحرب ومترابطة بشكل وثيق) هو ما جعلها فعّالة بهذا الشكل وبالنتيجة هدف جذّاب لمصادر تمويل مختلفة وليس العكس(22).
وتشكّل محافظة درعا الجنوبية المنطقة الأساسية الأخرى للنفوذ السعودي، التي تكاد تكون المنطقة الوحيدة حيث ساد تفضيل الرياض لفصائل غير إسلامية بالدرجة الرئيسية واستمر على المدى الطويل. تبقى الجبهة الجنوبية (وهي عبارة عن تحالف واسع لفصائل ترفع راية الجيش السوري الحر) إلى حد بعيد القوة المهيمنة في المحافظة بما لايقل عن 25 ألف مقاتل مقابل مجرد عدد رباعي الخانات على الأرجح من المتمردين الإسلاميين. ينتج هذا الاستثناء عن مجموعة من العوامل، من بينها السيطرة المحكمة على خطوط إمداد الثوار من قبل السلطات الأردنية، التي كان انحيازها ضد الإسلاميين أكثر وضوحاً حتّى من انحياز السعودية(23). وفي علاقاتها بالثوار السوريين، استفادت عَمّان من أجهزة مخابرات كبيرة ومؤهّلة وعلى دراية بالسياق الثقافي والاجتماعي لجنوب سوريا بسبب القرب الجغرافي. على أية حال، حتّى في مثل هذه الظروف المثالية كان هناك حدود لما يمكن أن يحقّقه المتمردون المحليون فيما يتعلق بالتوحيد. ومن الملاحظ أنه رغم غياب انقسام ايديولوجي رئيسي بينهم، واعتمادهم المشترك على مصدر واحد للدعم اللوجيستي، إلا أن أعضاء الجبهة الجنوبية احتفظوا بهياكل قيادة منفصلة ولم يتمكنوا من الانتقال من مجرد التعاون باتجاه اندماج كامل(24). ورغم أن الأردن قد تخشى من أن جبهة جنوبية أكثر اندماجاً قد تصبح أكثر استقلالية عنها، فلا يبدو أن هناك دليل أن عمّان أحبطت بنشاط حركات التوحيد داخل التحالف. لا يشكّل النفوذ الخارجي المتغيّرَ الرئيسي لهذا التشرذم المستمر، بل الهيكل الاجتماعي للتمرد الجنوبي؛ أي تشكيلة مجموعات راسخة بإحكام داخل مجتمعاتها المحليّة ولكن قادة كل منها مرتبطين سوية بشكل رخو لا يضمن تحقيق مستوى الثقة الذي يتطلّبه التوحيد الكامل.
قطر وتركيا: الرهان على جميع الأحصنة:
في عام 2013، زوّدت قطر المتمردين السوريين بمجموعة صغيرة من أنظمة دفاع جوي، محمولة على الكتف، صينية الصنع وسودانية المصدر (إف إن 6 منظومات دفاع جوي محمولة FN-6 MANPADS). امتدّت المجموعات الثمان التي استفادت من إيماءة الكرم هذه قبل أن تُوقَف الشحنات (ربما بضغط من الولايات المتحدة) عبر طيف ايديولوجي واسع بما في ذلك المجالس العسكرية المحليّة للجيش السوري الحر المدعوم غربياً، وهيئة دروع الثورة التي تتبع الإخوان المسلمين، والسلفيون المتشدّدون أحرار الشام(25). تعكس هذه الانتقائية استراتيجية تشكّلت بصفة أساسية عبر اثنتين من الخصائص الرئيسية لإمارة صغيرة: أولاً؛ رغم الوسائل المالية الهائلة، لديها مصادر إنسانية ومؤسساتية محدودة نادرة لإدارة علاقات مع قوى شبه عسكرية أجنبية، ثانياً؛ على العكس من الملكيات الخليجية الأخرى، لديها لامبالاة نسبية بالميل الايديولوجي للشركاء الأجانب بسبب الثقة القصوى لعائلة "آل الثاني" بالاستقرار الداخلي لحكمهم(26).
يمكن تفسير علاقات قطر المميّزة مع الفصائل الإسلامية السورية كشكل من الاستعانة بالمصادر الخارجية، بمعنى أن هذه الفصائل جُلِبت إلى ميدان نفوذ الدوحة من قبل أطراف ثالثة غير حكومية التي حافظت لفترة طويلة على علاقات وثيقة مع الإمارة. وكانت هذه الأطراف تقريباً وبكل بساطة، كل الشبكات السنيّة الإقليمية التي كانت على علاقة سيئة بالسعودية: الإخوان المسلمون (هيئة دروع الثورة، وهيئة حماية المدنيين التي حدّثت صورتها في عام 2014 بوصفها فيلق الشام) والفصائل المتماثلة فكرياً لكن غير التابعة (أجناد الشام في دمشق وجيش المجاهدين في حلب)، وشبكات الحركية السلفية المرتبطة إما بسرور زين العابدين (جبهة تحرير سوريا الإسلامية) أو ببقايا الحركة السلفية في الكويت (الجبهة الإسلامية السورية من حركة أحرار الشام التي اندمجت مع جبهة تحرير سوريا الإسلامية في أواخر عام 2013 لتشكيل الجبهة الإسلامية)، بالإضافة إلى جامعي التبرعات الجهاديين المسكوت عن عملياتهم في قطر من قبل السلطات المحلية (جبهة النصرة)(27).
رغم ذلك، لم تكن سياسة قطر تجاه الثورة السورية مؤيدة للإسلاميين بشكل منتظم. وكما توضّح حادثة FN-6، فإن الدوحة قد وفّرت الدعم أيضاً للتابعين للجيش السوري الحر الذي يسيطر عليه المنشقّون العسكريون. وفي الواقع، منذ أن أصبحت شراكة الإمارة مع الفصائل الإسلامية مرتبطة بسمسرة أطراف ثالثة غير حكومية أكثر مما بتفضيل ايديولوجي، لم يمنع شيء قطر من محاولة زيادة نفوذها من خلال الرهان على جميع الأحصنة، أي عبر تمويل كل من الفصائل الإسلامية و"الوطنية". وفي عامي 2012 و2013، عندما تأسست هياكل الجيش السوري الحر التي يسيطر عليها منشقو الجيش (المجلس العسكري الأعلى، وهيئة الأركان، والمجالس العسكرية المحلية)، عملت قطر لمجاراة النفوذ السعودي داخل هذه البُنى، وعلى انتزاع حصتها من ما كان من الممكن أن يصبح حينها قناة رئيسية للدعم الغربي للثوار. وبعد انهيار هذا المخطط التنظيمي للجيش السوري الحر في أواخر عام 2013، أعادت الولايات المتحدة تنظيم الدعم الغربي للفصائل "المعتدلة" من خلال إيجاد غرفتي عمليات، قيادة العمليات العسكرية مقرها الأردن (MOC) ومركز العمليات المشتركة في تركيا (MOM). وبدلاً من المرور عبر قيادة سورية مركزية، فإن الدعم الآن (وخاصة في شكل صواريخ تاو مضادة للدروع صنع أميركي من مصدر سعودي) من شأنه أن يوزّع مباشرة إلى فصائل مُوافق عليها (بشكل عام غير إسلامية). دخلت قطر اللعبة من جديد ، حتى أنها باتت تستضيف دورات تدريبية على أراضيها لمستخدمي صواريخ التاو(28). وفي نفس الوقت، واصلت الدوحة دعم الفصائل الإسلامية وبحلول ربيع عام 2015 ظهرت جنباً إلى جنب مع تركيا بوصفها الراعي الرئيسي لتحالف جيش الفتح الذي طرد قوات النظام من محافظة إدلب(29).
إنّ اتحاد قطر مع فصيل متماسك وفعّال كأحرار الشام لا يجب أن يشير إلى أن التمويل القطري كان المتغير الرئيسي وراء نجاحه، بما أن الدعم القطري كان أيضاً في صالح فصائل كانت أقل إقناعاً على المدى الطويل. فعلى سبيل المثال، لواء التوحيد (الذي أعيدت تسميته بالجبهة الشامية في عام 2015)، كان بدايةً المفضّل لدى قناة الجزيرة، كما كان فصيل يقدّر أفراده بالآلاف لعب دوراً بارزاً في الاستيلاء على الجزء الشرقي من حلب في تموز/يوليو من عام 2012. على أية حال، بعد اغتيال قائده العسكري الكاريزمي "عبد القادر صالح" في تشرين الأول/أكتوبر 2013، خسر قوته تدريجياً نتيجة لسوء الانضباط والشقاق الداخلي(31)، والذي أدّى بدوره لانخفاض الدعم الخارجي. وخلافاً لأحرار الشام، الذي بُنيت قيادته الأساسية من جهاديين قدامى، الذين كان العديد منهم قد احتُجِزوا في السابق سويةً في سجن صيدنايا قرب دمشق، فقد كان لواء التوحيد ائتلافاً ضعيفاً لمجموعات محلية جمعتها كاريزما صالح معاً عبر الزخم قصير الأمد للانتصارات الساحقة ضد النظام في عام 2012، ومن خلال المال الأجنبي، ولاسيما القطري. كما أسهمت دول أجنبية أخرى (أي السعودية والولايات المتحدة) في إضعاف لواء التوحيد/الجبهة الشامية من خلال منع وصولهم إلى صواريخ التاو التي يوفّرها مركز العمليات المشتركة في تركيا، وهذا ما شجّع على إنشاء فصائل منشقّة مثل الفوج الأول في ربيع عام 2015(32). وقد لوحظ هذا النمط أيضاً في العام الذي سبقه عندما حصل فصيل حلبي آخر، حركة نور الدين زنكي، على إمدادات تاو بمجرد مغادرته لجيش المجاهدين، الذي عارضته السعودية لعلاقته المزعومة مع الإخوان المسلمين(33). ومع ذلك فمن اللافت للنظر أن إقصاء أحرار الشام من قائمة (مركز العمليات المشتركة في تركيا) للمتلقّين المُوافق عليهم لم يمنع احتوائهم المستمر للفصائل الأصغر. لذلك يبدو أن الضغوط الخارجية كان لها تأثير ضار على تماسك الفصائل المتمردة حين كان هذا التماسك هشاً أساساً.
الخلاصة وانعكاسات السياسة:
على الرغم من أن دعم الدول الأجنبية كان ذا أهمية كبيرة للثوار السوريين، لكن لم يكن له سوى تأثير محدود على صلابة وتماسك الفصائل المستفيدة منه. فالفصائل التي مُوِّلت ذات مرة بسخاء مثل كتائب الفاروق وألوية أحفاد الرسول ولواء التوحيد، تفكّكت أو ضعفت بشكل كبير، بينما استمر الآخرون بالازدهار رغم الخسارة المؤقتة للموارد، مثل أحرار الشام، أو في ظل ظروف لوجيستية وعسكرية قاسية، كما في حالة جيش الإسلام. وفي كل الحالات، لم يكن مستوى الدعم الخارجي الذي تتلقّاه هذه المجموعات هو المتغير المستقل الذي يحدد نجاحها أو فشلها، بل طبيعة قيادتها: فمن جهة شبكات شركاء قدامى متماسكة بشدة، ومن جهة أخرى ائتلافات مُرتجلة هشّة. وبنفس الطريقة، تُظهِر حالات درعا وحلب أنّه حتى عندما يُمارس النفوذ الخارجي من قبل أو من خلال راع أجنبي مهيمن واحد (الأردن وتركيا على التوالي) على موقع متمرد متجانس أيديولوجياً، فقد كان من الصعب التغلب على الاختلالات الوظيفية النابعة من الهيكل الاجتماعي المجزَّأ لقيادة المتمردين من أجل الرعاة الأجنبيين.
ومن انعكاسات السياسة العامة للتطورات المذكورة أعلاه أنه مهما كانت الموارد المالية التي تصبّها الدول الراعية في شركائها المتمردين، فهي لا تستطيع جعل فصيل متمرد ناجحاً عندما تكون قيادته مختلّة وظيفياً، ولا تستطيع فرض وحدة دائمة على فصائل ضد ديناميكياتهم الجاذبة المركزية المتأصّلة فيهم. وقد اعتُرِف بالفعل بآثار كهذه إلى حد ما عندما هُجِر مشروع "جيش سوري حر" مندمج بالكامل لصالح مقاربة (قيادة العمليات العسكرية في الأردن/مركز العمليات المشتركة في تركيا) أكثر تواضع، فحلّ التنسيق محل مخططات وحدة طموحة أكثر من اللازم، والدعم الذي يقدّم مباشرة إلى فصائل معتدلة مُنتقاة نجت من عملية الاختيار الدارويني للحرب. وربما تقليص أهدافها في تشكيل تمرد أجنبي هو أكثر الاستراتيجيات واقعية للدول التي تفتقر إلى كل من أيديولوجية مُناضلة للتصدير وإلى وكالة مكتملة الأركان تهدف إلى دعم المتمردين الأجانب الذين يعتنقون تلك الايديولوجية، أي تقريباً جميع الأنظمة باستثناء الثورية منها.
مترجمة من سوريا، تترجم عن اللغتين الإنجليزية والروسية. تركز في ترجماتها على الدراسات التي ترصد علاقة الحداثة بالعمارة في الشرق الأوسط. إضافة إلى الاهتمام بالدراسات حول الإسلام اليومي والاستشراق.