سوريا من الإصلاح إلى الثورة: الثقافة، المجتمع، والدين

11 شباط/فبراير 2017
 
ترجمة: حبيب الحاج سالم

هذه المادة هي بالأساس مقدمة كتاب "Syria from Reform to Revolt" الصادر بالإنكليزية عام 2015، والذي أشرف على تحريره كلا من الباحثة الانتربولوجية كريستا سلمندرا والباحث السويدي ليف ستينبرغ. وقد تُرجِمت المادة في موقع المعهد بعد أخذ موافقة كلا المحررين.

قامت الانتفاضة المضادة للسلطويّة، التي بدأت في مارس/ آذار عام 2011، والتي تطوّرت بعد ذلك تدريجيّاً إلى حرب أهليّة، بنقل سوريا المعاصرة إلى الوعي العالميّ. وقد كشف الصراع، وتغطيته الإعلاميّة الملتبسة التي يعوزها الإطلاع في كثير من الأحيان، شحّ الكتابات الخبيرة بأحوال البلد، ما جعل النظرة العلميّة ضرورة ملحّة. ويقدّم المساهمون في الجزء الثاني من كتاب "سوريا من الاصلاح إلى الثورة: الثقافة، المجتمع، والدين" مدوّنة بحثيّة فريدة تحفر تحت سطح محيّر. فقد درس بعضهم سوريا طوال مشوارهم المهنيّ وضمّنوا كتاباتهم عقوداً من الخبرة؛ فيما أنهى بعضهم الآخر أطروحاتهم للدكتوراه مؤخراً وتميّزت نصوصهم بالكثافة الثريّة لعملهم الميدانيّ حديث العهد. وتُظهر الأعمال كيف ولّد العقد الأوّل المحوريّ من حكم بشار الأسد تغييرات في علاقات السلطة وفي الخطاب العام، كانت وراء تأجيج حركة الاحتجاج عام 2011. كما تستكشف تلك الكتابات خطوط الصّدع الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة المعقّدة والمتقاطعة التي أعاقت التحوّل السلميّ.
 
والحقّ أنّه نادراً ما كانت سوريا وجهةً يختارها الباحثون المهتمون بالعالم العربيّ المعاصر (1). فعلى مدار خمسة عقود من حكم حزب البعث الذي بدأ عام 1963، خشي المختصّون في شؤون المنطقة جهاز أمن النظام سيّء السمعة، وربّما كانت صعوبة حصول بعض الباحثين على تصريح رسميّ سبباً في تجنّب الأكاديميّين المجازفة بالتخطيط لمشاريع بحثيّة تنتهي بعدم الحصول على وثائق الإقامة الضروريّة. وبالنسبة للأكاديميّين الأمريكيّين والبريطانيّين، فقد عنت العلاقات الديبلوماسيّة الهشّة مع سوريا عدم تلقّيهم أيّ مساعدة عمليّة مثل تلك التي يحصل عليها الباحثون العاملون في بلدان مثل مصر، التي حافظت فيها الولايات المتّحدة على علاقة طويلة مع أكاديميّين محليّين وبعض مؤسّسات البحث. فلا وجود لأيّ مؤسسة بحثيّة أمريكيّة أو بريطانيّة في سوريا، وهو ما جعل دعم السفارة غير المؤكّد للباحثين الأمريكيّين في الحصول على تصاريح الإقامة، تحديّاً مستهلِكاً للوقت.

وبالنتيجة، فإنّ المختصّين في الشأن السوريّ اليوم لا يشكّلون سوى حقل معرفي فرعي صغير ومهمّش، ويعملون انطلاقاً من خلفيات علميّة وتقاليد أكاديميّة متباينة (2). وقد التقى كثير منا لأوّل مرة حين جمعنا مركز دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة لاند (Lund University)، بتمويل من مؤسسة الذكرى المئويّة السويديّة (Swedish Tercentenary Foundation)، في عام 2010 لتقييم مسار العقد الأوّل لحكم بشّار الأسد. ويوفّر كتاب "سوريا من الإصلاح إلى الثورة: الثقافة، المجتمع، والدين" سلسلة من التحليلات المختصّة المستمدة من ذاك المؤتمر. وتُظهر الفصول القادمة كيف قاد خطاب بشّار الأسد الإصلاحي – وتنفيذه المناسباتيّ – الفاعلين الاجتماعيّين في ميادين مختلفة إلى تصديق أنّ تفكيك الديكتاتوريّة كان في متناول اليد، وأنّه يُمكنهم العمل مع ومن خلال المؤسسات بهدف جعل النظام أكثر تجاوباً.

وتُظهر المساهمات في هذا الجزء المشاعر المتناقضة، المتراوحة بين الأمل والتوقّع والخيانة، التي ميّزت الحياة في سوريا خلال العقد الأول من حكم بشّار. فقد أثار "ربيع دمشق" – وهو الفترة التي شهدت نقاشاً وحواراً إصلاحيّاً خلال الأشهر الأولى من حكم الزعيم الجديد- تطلّعات للتغيير داخل صفوف السوريين من جميع الطبقات والمناطق والانتماءات الدينيّة والإثنيّة. فهذا الوعد بتوسيع حريّة التعبير والمشاركة السياسيّة، وإن لم يتمّ الوفاء به، إلاّ أنّه لم يُكبت أو ينسى قطّ. لقد تباطأ فحسب خلال العقد، ليسمح في النهاية بولادة خطاب نقدي وسابقة في النشاط ساعدت المحتجين على تحويل مظالمهم المشتركة إلى فعل جماعيّ.

جدار خوف متحرّك:

على امتداد العقد الماضي، استمرّ النشطاء المعارضون، والفنانون، والمثقفون في الضغط باتجاه تحقيق وعد ربيع دمشق، مستخدمين في ذلك أساليب بارعة وملتبسة أكثر من استخدامهم المطالب العلنيّة. وقد خبروا فترات ارتفعت فيها آمالهم، وأخرى خابت فيها، حيث توقعوا في المناسبات التي ارتخت فيها قيود الرقابة أن تعود الأمور إلى سابق عهدها. مع ذلك، اعتقد كثيرون بإمكان نشوء نظام حكم تشاركيّ دون الإطاحة العنيفة بالنظام، وعملوا من أجل ذلك من خلال هامش المناورة الضيّق الذي سمحت به القيادة. وقد مهّدت جهودهم الأرضيّة للانتفاضة من خلال حفاظهم على تطلعاتهم في التحوّل، واستخدامهم لغة نقديّة جنحت عن بلاغة النظام النيوليبراليّة، وكشفت خواء الشعارات الرسميّة. وبينما احتفى المعلقون بكسر متظاهري العام 2011 ما يسمى جدار الخوف، إلاّ أنّ ذلك المسار كان قد استهلّ قبل ذلك بكثير من قبل نشطاء حقوق الإنسان، وفنانين ملتزمين اجتماعيّاً، ونقاد سياسيّين، حيث بدؤوا بكسر ذلك الجدار وخلخلته من أجل توسيع نطاق الخطاب العام. وبذلك كان للاستمراريّة أهميّة توازي أهميّة التمزّق.

وبالفعل، فقد استمرت مثل تلك الجهود في السعي لإحداث تغيير تدريجيّ غير عنيف طوال الأشهر الأولى للمظاهرات. ورغم نظر بعض السوريّين إلى تلك المحاولات على أنّها رجعيّة واعتقادهم أنها ستدعّم على الأرجح السلطويّة بدل تقويضها، فقد برهنت الحالات الفرديّة أنّ المسألة كانت أكثر تعقيداً. وقد وصف المخرج البارز نبيل المالح، بعد عرض شريطه الوثائقيّ "الطريق إلى دمشق" (إنتاج 2006) في مركز لاند لدراسات الشرق الأوسط، لحظة دعوة إصلاحيّة مشابهة. فقبل اندلاع العنف، أبدع "أب السينما السوريّة"، المنشق القديم عن النظام والناشط الرئيسيّ في ربيع دمشق، خطّة اعتقد أنّ بإمكانها تجنيب سوريا الآثار المدمرة للصراع العنيف. فقد اقترح، وهو العليم بمحوريّة القنوات الفضائيّة في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة السوريّة، إنشاء محطّة تلفزيونيّة جديدة باسم "الحوار الوطنيّ"، تكون بمثابة أوّل منتدى مفتوح للنقاش والحوار في الدولّة البعثيّة. لقد تصوّر محطّة "الحوار الوطنيّ" بمثابة راعية للمناخ الديمقراطيّ الوليد حيث يمكن تبادل الآراء فيها دون خوف من الانتقام.

لم تكن مثل تلك المجالات موجودة، إذ كانت التجمّعات السياسيّة ممنوعة والإعلام تحت مراقبة صارمة. وقد أمل المالح في أن يجعل الحوارُ نظام آل الأسد أكثر عرضة للمساءلة، ويساعد على تجنّب إراقة الدماء التي بدت وشيكة. وانطلاقا من اعتقاده بعدم مناعة الوضع السلطويّ القائم، عمل المالح في سبيل انتقال سلميّ باتّجاه الحوكمة التشاركيّة لعقد من الزمن، ورأى في المنتدى التلفزيونيّ فرصة أخيرة لتحقيق ذاك الهدف. وقد قام في أبريل /نيسان عام 2011 بنقل الفكرة إلى بثينة شعبان، المتحدثة الرسميّة باسم الرئيس وإحدى أعضاء دائرته المقربّة، التي شجّعته على المضيّ قدماً.

وسرعان ما حصل المالح على دعم من شخصيات معارضة من مختلف أرجاء البلاد، وقدّم طلباً مكتوباً إلى بثينة شعبان، مؤكداً شرطاً مسبقاً مفاده "الحصانة الكاملة للمحطّة من التدخلات الأمنيّة والسياسيّة". وحين لم يتلق أيّ ردّ، بعث إليها برسالة يلتمس فيها الضوء الأخضر لافتتاح المحطّة لأنّه، في ظلّ تصاعد الاضطرابات، "لكلّ يوم وزنه".

لكنّه لم يتلقّ مجدّداً أيّ إجابة، وحينها اعتقد المالح أنّ النظام وجد مطلبه في الحريةّ التحريريّة خطوة أبعد من اللازم في اتجاه إحلال الديمقراطيّة. وما زاد من مرارته، إدراكه أن لغته استخدمت لتهدئة المعارضة، إذ بعد مرور أربعة أشهر، ومع تصويب القوات المسلّحة السوريّة أسلحتها في اتجاه المتظاهرين وتصاعد عدد الضحايا، استدعى النظام شخصيات معارضة إلى مؤتمر لـ"الحوار الوطنيّ". وقد قاطع الحوار أغلب المدعويّن لحضوره، وبدأ العديد من المثقفين المنشقّين، وكذلك مواطنون عاديّون، في مغادرة البلاد في ربيع العام 2011، مع قمع النظام للمحتجيّن السلميّين. كما غادر المالح قبيل توقّف سيارات الجهاز الأمنيّ أمام شقتّه في دمشق (3).

لقد مثّل دفن المقترح الذي تقدّم به المالح لإنشاء محطّة تلفزيونيّة تعرض نقداً سياسيّاً مفتوحاً، صدىً للممارسات الرسميّة خلال العقد الأوّل لحكم بشار الأسد. ولم تتجاوز ايماءات النظام في اتجاه توسيع المشاركة السياسيّة مجرّد "تحديث سلطويّ"، أي إعادة تشكيل القمع وفق آخر طراز عالميّ، حيث تلحّفت الكلبتوقراطيّة بلحاف لغة نيوليبراليّة وعملت المنظمات غير الحكوميّة التي تسيطر عليها الحكومة على خلق واجهة مجتمع مدنيّ (4).

لم تظهر الأمور على ذلك النحو في يوليو/ تموز عام 2000، حين ورث بشار الأسد البالغ من العمر 34 عاماً النظام السوريّ. إذ مع وجود زوجته، الخبيرة الماليّة الأنيقة، لتلميع صورته العامة، بدا الطبيب المتعلّم في بريطانيا مستعداً لتغيير نظام الحكم القديم (5). ولم يشجّع الزعيم الجديد، الذي يبدو ظاهريّاً كرئيس أكثر منه دكتاتوراً، مظاهر عبادة الشخصيّة التي وسمت ثلاثة عقود من حكم والده حافظ الأسد، ووعد بحزمة من الاصلاحات السياسيّة والاقتصاديّة. كما أغلق سجن المزّة وأطلق سراح مئات من المساجين السياسيّين. وبدأ بشار الأسد، كرئيس للجمعية العلميّة السوريّة للمعلوماتيّة خبيراً بالتكنولوجيا، في توسيع النفاذ إلى الإنترنت والسماح بأطباق القنوات الفضائيّة التي كانت موضع ريبة تحت حكم والده: حيث كان مسموحاً بها عادة لكنها لم تكن مرخصة بصفة رسميّة. كما قام بشّار بتسريع مسار اللبرلة الاقتصاديّة الذي أطلقه والده في سنوات التسعين وطبّقه بتعثّر، وهو ما استحسنه التجار الحضّر والصناعيون وشجّع رجال الأعمال السوريّين المغتربين على العودة. وتوقّعت الطبقات التجاريّة السنيّة، التي تعاملت طويلاً وامتعضت في آن من النخبة الحاكمة التي يهيمن عليها العلويّون، تفكيك الامتياز الطائفيّ الذي من شأنه تعزيز مصالحهم. وإن لم يكن يوجد حينها ولع شديد ببشار، إلاّ أنّ القائد الجديد استقبل بتفاؤل حذر.

وبهذا، أعادت الآفاق الجديدة مؤقتا – وهو ما سيُدرك لاحقاً أنّه كان مجرّد سراب – إحياء آمال النشطاء والمثقفين والمستثمرين السوريّين الذي تعوّدوا طويلاً على العطالة التي يمارسها النظام، وعوّضت اللّغة التكنوقراطيّة للمؤسسات الحديثة شعارات حزب البعث، حيث رشحَت عبارات مثل "اقتصاد السوق الاجتماعيّ" و"التعدّدية" إلى الخطاب العامّ (6). وسمح ارتخاء الرقابة على حريّة التعبير بشهر عسل للمنتجين الثقافيّين، واتّسعت فضاءات الرأي السياسيّ. 

وفي ديسمبر/ كانون الأوّل عام 2001، أطلق رسام الكاريكاتير السياسيّ علي فرزات صحيفة "الدومري"، وهي أوّل نشريّة مستقلة في الحقبة البعثيّة (7). واقتنص نشطاء وفنانون ومستثمرون متشجعون تلك اللّحظة، فانبثق مجتمع مدنيّ لطالما عانى من القمع، وتكاثرت الملتقيات المستقلة التي أطلق عليها اسم المنتديات، في دمشق أوّلاً، ثمّ في سائر أرجاء البلاد.


وقد بدأت تلك الملتقيات في مناقشة مسائل الفنون والآداب والثقافة، لكنها سرعان ما انتقلت نحو مناطق الخطر مثل السياسة، ودور الدين في المجتمع، وحقوق الإنسان، ومستقبل سوريا. وكانت مجموعة لجان إحياء المجتمع المدنيّ من أبرز تلك المجموعات، وقد التأمت اجتماعاتها في منزل المخرج نبيل المالح في دمشق، وأنتجت المجموعة وثيقة تعرف باسم "بيان الـ99"، وقّعها في سبتمبر/ أيلول من عام 2000 مثقفون، وأكاديميون، وفنانون كبار. وقد دعت الوثيقة إلى خطوات عمليّة باتّجاه إحلال الديمقراطيّة، ومنها وضع حدّ لقانون الطوارئ المفعّل منذ الانقلاب البعثيّ عام 1963، والعفو عن المعتقلين السياسيّين، والسماح بعودة المعارضين، وتحرير الحياة العامة من القيود. ولاحقاً، في "بيان الألف"، الذي أطلق في يناير/ كانون الثاني عام 2001، قام تحالف أوسع من الفنانين والأكاديميّين والمثقفين بالتأكيد مجدّداً على مطالبهم، وأضافوا نداءات من أجل ديمقراطيّة تعدديّة وقضاء مستقل، والتخلي عن القوانين التي تكرّس التمييز ضد المرأة (8). وقد ازدهرت الحركة حتى عام 2001، رغم وجود علامات عن ردّة فعل عنيفة وشيكة الحدوث.

وبنهاية العام 2001، وقع الارتداد على جزء كبير من التقدم الذي حصل: فقد أغلق النظام جميع المنتديات ما عدا واحد فقط، وتمّ إسكات الصحافة المعارضة، وأوقف أو أرهب قادة حركة الإصلاح (9). كما وجّهت القيادة نشاط التنميّة نحو المنظمات غير الحكوميّة التي تسيّرها الحكومة، والتي قامت بمحاكاة المجتمع المدنيّ لكنها بقيت تحت السيطرة المحكمة للنظام (10). كما حجبت مواقع الاعلام الاجتماعيّ وخدمات البريد الإلكترونيّ. ويؤّول الآن كثير من السوريّين تلك الفترة القصيرة من إرخاء العنان بوصفها مكيدة من النظام لاختبار مدى قوّة المعارضة وتحديد مصادرها، ومن ثمّة سجن بعض عناصرها.

لكن بالنسبة للشريحة العليا من الطبقة الوسطى المتّسعة والراغبة في دخول شراكة مع النظام، فقد ازدهرت تجارتها (11). إذ تمتّعت الطبقات الماليّة بصناعة ترفيهيّة مزدهرة شملت المطاعم والفنادق والمقاهي، وأضحت المتاجر الراقية تعرض ملابس سوريّة مصنوعة بتراخيص أوروبيّة، وتصيّدت شركات الإعلان البضائع الجديدة الغالية في مشهد إعلاميّ متوسّع وخاصّ، بعد أن تحرّرت من القيود الاشتراكيّة المفروضة على التبجّح الذي اعتبرته الأيديولوجيا البعثيّة أمراً مثيراً للاستياء. وانتشرت اللوحات الإعلانيّة على الطرقات السريعة التي كانت في ما مضى قاحلة. وبهذا، أخفى الازدهار الواضح مرونة بنى السلطة القديمة والانقسام الطبقيّ المتنامي (12): فقد جعل الجفاف المدمّر وإلغاء الإعانات الاجتماعيّة، الحياة اليوميّة لأغلب السوريّين صعبة بشكل متزايد (13). ولئن أنهى المرسوم الصادر في أبريل/ نيسان عام 2011 حالة الطوارئ بشكل رسميّ، إلاّ أنّ ذلك لم يكن له أثر عمليّ محسوس، إذ تكثّفت الإجراءات القمعيّة بدل أن تقلّ، كما كشفت عنه الانتفاضة.

وقد كان لخطاب الاصلاح الذي شجّعه نظام بشار الأسد نتائج متناقضة. إذ كان من نتائجه اختطافه الشعور المؤيّد للإصلاح بنجاح كبير إلى درجة أضحى فيها من يتبناه عرضة للاتهام بالتواطؤ (14). ولم تسمح الرقابة الصارمة على الإعلام الخاصّ إلاّ بتفويض الدعاية إلى منتجين من خارج الدولة. وبالفعل، فإنّ منح رخص الإعلام حصراً إلى المقربين شخصيّاً أو مهنيّاً من النظام، يقوم شاهداً على استمراريّة البنى السلطويّة. أمّا أكثر النتائج ضبابيّة ودلالة سياسيّة لعمليّة استيعاب النظام الخطاب الإصلاحيّ وانتشاره في المجال العامّ، أنّه سلّط الضوء على غياب أيّ تغيير جوهريّ، وهو تناقض مذموم في الثقافة الشعبيّة والآداب ساهم في توليد التحرر من الوهم، كما توضح عدّة فصول من الكتاب.

ووسط الأوراق المتساقطة لخريف دمشق، تواصل إرث التطلّعات المرتفعة في صفوف نشطاء ومثقفين ذوي توجّه إصلاحيّ. واستمر التعبير الفنيّ في الازدهار، وهو الممنوع رسميّا في المشاريع التجاريّة مثل الدراما التلفزيونيّة، من خلال أعمال منشقّة بشكل علنيّ مثل الروايات، وفي أشكال ثقافيّة تبدو ظاهريّاً غير سياسيّة مثل الرقص. وواصلت الأصوات المعارضة تذمّرها، حيث نشطت المنتديات تحت الرقابة المشدّدة، وواصل السوريّون انتقاد الحكومة في أحاديثهم الخاصّة، وقامت مجلتان دوريتان ناطقتان بالإنكليزيّة، سيريا توداي (Syria Today) وفورورد ماغازين (Forward Magazine)، بطرح مواضيع حسّاسة بحذر شديد، وغدا القادة الدينيّون أكثر صراحة في الحديث عن قضايا مثل النوع الاجتماعي والعدالة وحقوق الإنسان. وقد غذّت تلك الديناميّات انتفاضة 2011-2012 ضدّ أربعة عقود من الديكتاتوريّة البعثيّة، وهي حركة كثيراً ما يُظن خطأً أنها عفويّة وغير مسبوقة، وبمثابة تمرّد يقوده شباب حامل لأفكار جديدة كليّاً.

هذا الإرث من التطلّعات المرفوعة في حقبة بشّار الأسد، هو ما يحاول المساهمون في هذا الكتاب الثاني رسمه انطلاقاً من تخصّصات متنوّعة وفي مجالات مختلفة داخل المجتمع السوريّ. وكما تظهر الفصول التي كتبوها، فقد شجّع الأمل في التغيير مختلف الفاعلين في الحياة الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة على العمل مع الدولة، ومن خلالها، إمّا من أجل الإصلاح أو من أجل تقويض النظام. وخلال تلك الفترة الحرجة، حاول الروائيّون السياسيّون، وصنّاع الدراما التلفزيونيّة، ومصمّمو الرقص التجريبيّون، والحركات والمنظمات الدينيّة المستقلّة التعاون، وتوظيف، وتقويض أو تجنّب سيطرة الدولة، مع نقدها علنيّاً في نفس الوقت. وقد تمّت إعادة صياغة خطابات الاستياء، التي صيغت خلال ربيع دمشق، ضمن البنى الرسميّة عوض التخلي عنها، قبل أن تعود إلى البروز بشكل أكثر صخباً في حركة الاحتجاج عام 2011.

سرديّات متنافسة وتقاربات غير متوقّعة:

توضّح المساهمات المتنوّعة في هذا الجزء كيف يبني الفاعلون والمجموعات الاجتماعيّة، في مجالات مختلفة وفي خضمّ مسار تحرير اقتصاديّ، وعلى أساس إرث تطلّعات مرتفعة، محاولتهم إصلاح النظام من خلال الدولة أو من خلال مؤسسات تسيطر عليها الدولة. ولعلّ من بين المفاهيم التي قد تساعد على فهم الحقبة التي سبقت الحرب، ما يطلق عليه كلّ من كريستا سلمندرا (Christa Salamandra) وليف ستينبرغ (Leif Stenberg) "الاستقلاليّة المحدودة": وهو شكل فعل ولّده أسلوب حكم بشار الأسد من خلال خطابه حول التغيير. حيث أتاح هامش الحريّة درجات متفاوتة من الفاعليّة وإمكانيّة المراوغة، لكنه سهّل أيضاً الاستلحاق والاحتواء. ولعلّ دوره الأهمّ كان في إبقائه الأمل قائماً في إمكانيّة وجود حريّة أوسع ومشاركة سياسيّة أعظم، وهذا ما غذّى الانتفاضة في نهاية المطاف. وتهدف الاستكشافات التالية لذلك الإرث توضيح الانتفاضات بين عامي 2011 و2014.

ظلّت الثقافة، كما يلاحظ ماكس فايس (Max Weiss)، مجال تحدٍّ ديناميكيّ، رغم محاولات النظام – المستفزّة للتحدّي أحياناً - استمالة المنتجين الثقافيّين وأعمالهم. ولعلّ الأدب الخياليّ، الذي يحظى بجمهور ضيّق وتكاليف إنتاج منخفضة، هو الشكل الفنيّ الأكثر استقلاليّة عن سيطرة الدولة. ويستكشف فايس جنساً جديداً هو رواية المخابرات التي وُلدت في أجواء إرخاء العنان النسبيّ للتعبير السياسيّ في سنوات الألفين.

ورغم نشر تلك الروايات في الخارج ومنعها داخل سوريا، فإنّ نصوصاً مثل "عزف منفرد على البيانو" لفوّاز حدّاد، وهي دراسة سرياليّة للبارانويا، و"الصمت والصخب" لنهاد سيريس، التي تتناول الاستلحاق الثقافيّ بسخريّة، تمّ تداولها بشكل واسع عبر قنوات غير رسميّة متسامح معها رسميّاً. وكما يجادل فايس، فإنّ تلك الأعمال كانت توظّف اصطلاحات الشرطة وروايات ساخرة بهدف تعرية التشريط الأيديولوجيّ (ideological policing) في ثقافة تقوم على المراقبة. وبما أنّ تلك الروايات لا تقترح خلاصاً أو حلولاً، فإنّها غالباً ما تنتهي باستقالة لا مبالية.

لقد وسّعت الأشكال المبتكرة للسخرية الأدبيّة نطاق إعادة التخيّل النقديّ، وقد تقيّد في النهاية الاستلحاق الرسميّ للمجال الثقافيّ من خلال تجنّب القيود التحريريّة. وعلى عكس أغلب المنتجين الثقافيّين الآخرين، أمكن للروائيّين النشر في الخارج للوصول إلى سوق قراء سوداء في سوريا، وتحقيق صيت خارج حدودها.

أما المسلسلات التلفزيونيّة الواقعيّة والساخرة فقد كانت، كمحمل يفتقد لاستقلاليّة الأدب، تخضع لتضييق أيديولوجيّ، إضافة إلى ما تتطلّبه من معدّات ومن قيود ماليّة، وما تفرضه قوى السوق. لكن مع ذلك، يتشارك التلفزيون السوريّ المعاصر الشعور بالقتامة والنقد اللاذع الذي نجده في أدب روايات المخابرات. لقد غدت سوريا مزوداً رائداً للدراما التلفزيونيّة للقنوات العربيّة الموجودة في دول مجلس التعاون الخليجيّ الثريّة. وقد تنافس صناع الدراما السوريّون بنجاح مع نظرائهم المصريّين الأكثر رسوخاً، وقدّموا اللّهجة السوريّة الإيقاعيّة لأجيال جديدة من المشاهدين. كما أضفى ما تطلق عليه كريستا سلمندرا "الجماليّة القاتمة" على المسلسلات السوريّة المعاصرة أسلوباً يسهل تمييزه عند جماهير المحطات العربيّة. وتنزع تلك البرامج إلى إبلاغ الاستقالة السياسيّة التي يعبّر عنها الروائيّون المعاصرون – وهي خصلة من خصال الفنّ الواقعيّ بصفة عامّة، ولطالما تعرّضت إلى النقد بسبب فشلها في تقديم أمل أو بدائل (15).

وتعكس المسلسلات التلفزيونيّة، التي كثيراً ما سخر منها مثقفون سوريّون وعدوها جزءاً من "صمّام أمان" لاستراتيجيّة النظام من أجل السيطرة على النقد، تجديداً على المستويين الموضوعيّ والشكليّ، ولا يمكن النظر إليها كمجرد دعاية رفيعة. وتظهر سلمندرا كيف استخدم صناع الدراما، العاملون ضمن القيود التجاريّة والسياسيّة للصناعة التي تسيطر عليها الدولة، لغة التلفزيون لإبلاغ رسائل معارضة.

وقد تعزز المسلسلات الاجتماعيّة الواقعيّة الوضع القائم من خلال تصوير "الأوضاع على ما هي عليه" عوض تقديم رؤى عن "كيف يمكن أن تكون الأوضاع". ومع ذلك، تجادل سلمندرا بأنّ المسلسلات تلعب دور المذكِّر المستمرّ لما لا يجب أن يستمرّ: أي ما وعد النظام بتغييره، لكنه باقٍ ويتطلّب تغييراً. وعلى سبيل المثال، فإنّ الدراما الواقعيّة والسخرية السوداء تنقد النظام بمجرّد استحضاره. فقد وجد مسلسل "ما في أمل"، الذي بثّ على القناة الرسميّة، صدى ثوريّاً في مسلسل "حريّة وبس" الذي بثّ على قناة "أورينت" المعارضة. حيث يتبنّى ممثلان شابّان ناشطان شكل إخراج مسلسل "ما في أمل"، لكنهما يحوّلان نبرة الاستقالة القاتمة إلى نبرة حماسيّة ثوريّة. وبذلك يبدو دَيْنهما جليّاً تجاه السخريّة التي تجيزها الدولة.

يدرك نظام بشار الأسد القدرة التحويليّة للخيال التلفزيونيّ، وقد ابتغى توظيفه عبر التأثير على صنّاعه. وبالمقابل، كان على صنّاع الدراما بدورهم التفاعل مع مختلف أجنحة النظام وأجهزته الأمنيّة حتى تبثّ انتاجاتهم.

وعلى عكس سلمندرا، ترى دوناتيلا ديلا راتا (Donatella Della Ratta) تحالفاً قويّاً بين صنّاع الدراما والنظام. فهي ترى أنّ القيادة سمحت بالإنتاج الخاصّ لتتلاعب به، ورسمت حدود تعبير الإعلام الجماهيريّ من خلال تحديد مسائل تريد تحويلها إلى شكل درامي تلفزيونيّ. وتقترح، من خلال تحليل إنتاج واستهلاك المسلسلات في حقبة بشار الأسد، أنّ تكتلات مختلفة في صفوف النخبة الحاكمة استخدمت "استراتيجيّة الهمس" لترويج أجندات مخصوصة ومتنافسة في كثير من الأحيان. وهي توضّح آليّة عمل ردود الفعل من خلال مسلسل "فوق السقف" الذي تعتبره، من بين أعمال أخرى، استجابة فاشلة من تلفزيون الدولة للانتفاضة المطالبة بالديمقراطيّة. فقد شكّل النظام النقاش العامّ عن طريق اقتراح مواضيع ومكافأة المنتجين الثقافيّين المستجيبين له. ويهمس صنّاع التلفزيون بدورهم للتلاعب بمسار الرقابة وخدمة رؤاهم. وقد أتاح تطبيق نيوليبراليّة انتقائيّة على القطاع التلفزيوني ثروة وهيبة للمنتجين الثقافيّين الأكثر إخلاصاً في الاستماع للنظام والتجاوب معه. فقد كفلت المكافآت مستوى معيّناً من الطاعة، وحتى الامتنان، في صفوف جيل جديد من صناع الدراما المستثمرين في الوضع القائم.

وتستكشف شاينا سيلفر شتاين (Shayna Silverstein) كيفيّة تداول الراقصين المحترفين انزياح الطموحات والأذواق في خضمّ اصلاحات السوق الاجتماعيّة التي وسّعت الانقسامات الطبقيّة خلال سنوات الألفين. حيث تضع تلك الجهود ضمن الجدالات حول الإرث الثقافيّ لمناقشة كيفيّة اختلاف رموز الوطنيّة بين الراقصين المتبنين للتعبيرات الشعبويّة للثقافة الوطنيّة، وبين المتبنّين لأشكال كونيّة من باليه ومسرح غنائيّ. فقد استهوت فرق الرقص الشعبيّ الفنانين المعتمدين على توظيف الدولة ومعاشاتها، فيما تبنّت النخب، المستفيدة من الشبكات الزبونيّة المرتبطة بالنظام، الجماليّات المعولمة للرقص المعاصر.

مع ذلك، أبرم الرقص المعاصر أيضاً تفاهمات تاريخيّة ومعاصرة مع "الشعبيّ" الذي يقف كدالّ متعدد يُعبّر عن الممارسات الشعبيّة التقليديّة، الفولكلوريّة، واليوميّة التي تتجلى في الدبكة. ويُظهر الجدال حول وجوب أو طريقة تكييف الدبكة مع انتاجات الرقص المعاصر، كيفيّة تداول مصمّمي الرقصات والجماهير تبدّل المواقف تجاه الهويّة الوطنيّة والإرث الثقافيّ، والتطلّع في الوقت ذاته لتخيّلات أكثر عالميّة. ويعكس ارتياب النخبة تجاه طريقة تمثّل الهويّة الشعبيّة، التناقض الوجدانيّ عند المنتجين الثقافيّين بخصوص انتشار رأسماليّة المحسوبيّة وتنامي الانقسام الطبقيّ.

وظيفة الدين: تحفيز الدعم أم تسويغ المعارضة؟

كثيراً ما تقاربت سيطرة الدولة على قطاعات متباينة على غرار الفنون، والصورة العامّة، والسياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة، والممارسات الدينيّة خلال رئاسة بشار. فقد ظلّت الارتباطات الدينيّة، مثل الانتاج الثقافيّ، مجالات نزاع يتنافس داخلها الفاعلون على السلطة والشهرة، وربّما الحماية على وجه الخصوص. فمنذ وصول الرئيس الجديد إلى السلطة، تزايد عدد المنظمّات الدينيّة، وتبنّى بعضها خطاباً إصلاحيّاً حفّزها للعمل مع المؤسّسات والمسؤولين في الدولة بدل العمل ضدّها.

يشمل المشهد الدينيّ السوريّ عدداً من المجموعات الأقليّة الدينيّة والإثنيّة مثل الدروز والإسماعيليّين والعلويّين، وعدّة طوائف مسيحيّة. ومن الصعب التيقّن من أعداد كلّ منها؛ إذ لا تعكس الاحصائيّات الرسميّة واقع الهجرة الحديثة، كما أنها مبنيّة على سياسات الدولة أكثر منها على أرقام واقعيّة (16). وقد تنكرّت الأيديولوجيا البعثيّة منذ أمد بعيد للانقسامات الاجتماعيّة والجهويّة والطبقيّة والمليّة، في حين تركّزت المواقع القويّة في الجهاز الأمنيّ بين أيدي العلويّين. وقد استفحل ذلك خلال الحرب الراهنة، حيث طهّرت أغلب المؤسّسات الحكوميّة صفوفها من موظفي الخدمة المدنيّة غير العلويّين، وخاصة منهم السنّة (17). وبالنظر إلى هذين العاملين، بقي التديّن حسّاساً من الناحية السياسيّة، خاصّة إذا ما اعتبره النظام أساساً محتملاً لتغذية المعارضة.

وحين لا يقمعه –أو بالكاد يتسامح معه – النظام، يفعّل الدين من خلال بناء مؤسسات ومنظّمات وحركات وشبكات. وخلال حكم بشار الأسد، انخرط قادة دينيّون بصفة علنيّة في النشاط الاجتماعيّ والسياسيّ، حيث شاركوا في منتديات "ربيع دمشق" المنادية بالاصلاح، رغم تركيز أغلب التقارير حول تلك الحركة بالتحديد، وحول المعارضة بصفة عامة، على الأصوات العلمانيّة. كما بقي بعض المسؤولين الدينيّين معارضين، وفضّل البعض الآخر الصمت، فيما ساند بعضهم علانيّة حكومة بشار الأسد. إلاّ أنّ النظام بقي حذرا: فمشاركة الوجوه الدينيّة في النقاشات الإعلاميّة، والحضور المتنامي للدين في المجال العام، والتوترات بين المجموعات الدينيّة، استحثّت إصدار مرسوم رئاسيّ عام 2008 ينظّم حركات المجموعات الدينيّة المسلمة. لقد لعب الانتماء الدينيّ دوراً معتبراً في خلق الدعم للنظام كما معارضته.

أما الطوائف المسيحيّة، فقد حظيت باهتمام علميّ قليل؛ وتوفّر دراستهم تبصّراً قيّماً حول كيفيّة عمل الأقليّات الدينيّة في الدول القمعيّة، والكيفيّة التي يحتمل أن تحافظ من خلالها على البنى السلطويّة. إنّ الحياة السياسيّة للمسيحيّين في سوريا معقّدة، وقد كانوا، على غرار الكثير من المجموعات المشار إليها في هذا الجزء، يأملون في أن يُقرّ القائد الجديد التغيير خلال العقد الأوّل من القرن الواحد العشرين. ولطالما أشارت أهميّة المسيحيّين في المجتمع السوريّ المتعدد دينيّاً إلى تسامح الدولة البعثيّة. فقد سمح نظام بشار الأسد للطوائف المسيحيّة بإدارة مدارسها الخاصّة، وممارسة طقوسها الدينيّة، وتطبيق قوانينها الخاصّة في مجال الأحوال الشخصيّة، وخاصّة في ما يتعلّق بالزواج والطلاق.

وفي أعقاب النيوليبراليّة، توسّع في سوريا قطاع رعاية دينيّة خاصّ يمثّل أحد ميادين المشاركة الدينيّة النشَطة. ففي سوريا، وعلى غرار العديد من دول الشرق الأوسط، شهد العقد الأخير ازدياد عدد المنظمات الخيريّة غير التابعة للدولة التي وفّرت خدمات اجتماعيّة لقطاعات سكانيّة مفقّرة على نحو متزايد بفعل انكماش دولة الرعاية. فقد غدت الجمعيات الخيريّة التي يرتبط أغلبها بطوائف ومنظمات دينيّة، مساعداً أساسيّاً للشرائح الأفقر في المجتمع.

وفي حين يتناول عدد كبير من البحوث الأكاديميّة الجمعيات الخيريّة الإسلاميّة، ظلّت المنظمات المسيحيّة غير مدروسة جيّداً بشكل كافٍ، على ما تُظهر لورا رويز دي إلفيرا (Laura Ruiz de Elvira) في تحليلها أنشطة الجمعيات الخيريّة المسيحيّة كجزء من تغيّر أوسع في السلطة العامّة مكّن الفاعلين غير الدولانيّين من لعب دوأدوار جديدة في التطوّر الاجتماعيّ والاقتصاديّ: وهو إشارة في اتّجاه الإصلاح الموعود. وقد عملت الجمعيّات المسيحيّة، في ظلّ نظام بشار الأسد، من خلال رعاية الكنيسة؛ حيث دُعّمت الجمعيات من قبل قادة دينيّين وتبنّوها ضمن كنائسهم. وترى دي إلفيرا أنّه رغم سهولة سيطرة النظام على الجميعات المسيحيّة، مقارنة بمثيلاتها الإسلاميّة، إلاّ أنها حظيت أيضاً بدرجة نسبيّة من الحريّة.

ونظراً لافتقاد تلك المنظمات قوّة سياسيّة واجتماعيّة معتبرة، لم ير فيها النظام تهديداً لاستقراره. بل إنّها شكّلت، كدعامة للوضع الاجتماعيّ الاقتصاديّ القائم، عنصراً أساسيّاً في إظهار مدى علمانيّة النظام وحمايته للأقليّات. كما إنّها تحالفت مع النظام، في ما تدعوه دي إلفيرا "علاقة منفعة متبادلة"، من أجل الحفاظ على الحقوق الدينيّة لأقليّة مختارة، ومعارضة عدوّ مشترك، هو الإحيائيّة السنيّة. وتختم بأنّ الجمعيات المسيحيّة كسبت، مقابل دعمها للنظام، أفضليّة سياسيّة على نظيرتها الإسلاميّة؛ تمثّل في وضع قانونيّ استثنائيّ، ووجود روابط مع فاعلين أجانب، ما أتاح لها درجة أكبر من الاستقلاليّة. ويمكن القول بأنّ الدعم المسيحيّ للنظام، خلال جزء كبير من الانتفاضة، يعود إلى تلك الممارسات المنفعيّة المتبادلة القائمة منذ أمد طويل، لكنّها احتدّت مع الخطر المدرك الذي تشكله بعض المجموعات الإسلامويّة المعارضة للأقليّات غير السنيّة.

وتُمثّل مكانة المسيحيّين في الكيان السياسيّ السوريّ الأوسع، إحدى القضايا المفصليّة التي يهتمّ بها الفصل الذي كتبه أندرياس بانداك (Andreas Bandak). وهو يرى أنّه من المهمّ فهم الدور الذي لعبته الأقليّات المسيحيّة في خلق المعنى خلال رئاسة بشار الأسد، ويقوم من خلال تقرير حول حدث ثقافيّ، بتحليل الوضع الاجتماعيّ والسياسيّ للمسيحيّين في سوريا وتصوّراتهم لمكانتهم. فقد ساهم المسيحيّون في بناء صورة رسميّة وإيطوس (ethos) للوحدة الوطنيّة السوريّة في مناسبات مثل الاحتفال بعيد ميلاد المسيح في دار الأوبرا بدمشق الذي يصفه بانداك.

ومع ذلك، فإنّ تلك العروض لم تكن مجرّد تعبيرات عن تواطئهم أو خضوعهم. حيث يجادل بانداك بأنّ مشاركة المسيحيّين على الساحة الوطنيّة، من خلال استيعاب خطاب النظام حول الوحدة الوطنيّة، جعلتهم ينظرون إلى أنفسهم كجزء لا يتجزّأ من الأمّة. ويختم بانداك بأنّ الاحتفال في دار الأوبرا وما يشابهه من تعبيرات عن المسيحيّة السوريّة، هو ما ساهم في ترسّخ الهويّة المسيحيّة على الساحة الوطنيّة.

إنّ العلاقة بين اللبرلة الاقتصاديّة والعلماء المسلمين السنّة نموذج لأهميّة الدين في المجتمع السوريّ. فالعلماء المسلمين، وفقاً لتوماس بيريه (Thomas Pierret)، ليسو جزءاً من التغيّر الأيديولوجيّ النيوليبراليّ. والأحرى أنّهم ربطوا علاقات قويّة مع شبكات من التجار، خاصّة عندما أخذت التغيّرات الاقتصاديّة شكل الماليّة الإسلاميّة. وقد تزامنت نيوليبراليّة الدولة مع ذلك المسار لكنها لم تحدثه.

ويرى بيريه أنّ الأخلاق الاقتصاديّة حين يُشكّلها العلماء الدينيّيون السوريّون الرئيسيّون، فإنّ الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة تتغلّب على الاعتبارات اللاهوتيّة. وفي استكشافه الأخلاق الاقتصاديّة التي تبنّاها العلماء الدينيّون الرئيسيّون في سياق ما قبل العام  2011، يصرّح بأنّ العلماء اعتمدوا على موارد من القطاع الخاصّ. وبالتالي، فقد أعطوا الأولويّة للظروف الماديّة، واحتضنوا القيم البورجوازيّة، مثل التشغيل الذاتيّ والاجتهاد في العمل والنجاح والازدهار الفرديّين، بدل احتضان الاشتراكيّة.

فرقة دينية في صحن الجامع الأموي

وتقع الأسئلة حول الدين، السياسة، والمجال العام في قلب الفصل الذي كتبه ليف ستينبرغ حول دور مؤسسة أحمد كفتارو، إحدى أهمّ المؤسسات السنيّة في سوريا، خلال سنوات الألفين. ويفحص ستينبرغ الموقف العقائديّ والإداريّ والسياسيّ المتغيّر لتلك المؤسّسة في المشهد الدينيّ السوريّ.

ومن خلال مناقشة التحوّلات الحديثة لبنية المنظّمة وممارستها الطقسيّة، يكشف ستينبرغ عن علاقة معقّدة بين مؤسّسة كفتارو والدولة، ويحلّل ازدواجيّة مواقف الحكومة تجاه المؤسسة والأحداث التي قادت زعيمها إلى السجن، قبل أن يستقصي في خاتمة الفصل إمكانيّات الفعل في دولة قمعيّة. فهو يشير إلى أنّه بدل العلاقة العموديّة بين الدولة والحركات الدينيّة، فإنّ ما يوجد هو تفاعل متعدد الأوجه بينهما تلعب فيها الشبكات غير الرسميّة دوراً مهمّاً. ويخلص إلى أنّ الفاعلين الدينيّين على غرار مؤسسة كفتارو أوجدت فضاءاً للعمل، ومارست استقلاليّة محدودة سمح بها النظام، لكنه راقبها. وبهذا، تمكّنت المؤسّسة من خلال حفاظها على روابط غير رسميّة (مثل علاقة مسؤولين رسميّين بالاطار الصوفيّ للمؤسسة)، وعدم معارضتها للسياسات الرسميّة والتزامها بتأويلات وممارسات الإسلام التي تجيزها الدولة، بحريّة المناورة.

مع الدولة، ضدّ النظام:

يستكشف الجزء الثاني من كتاب "سوريا من الإصلاح إلى الثورة: الثقافة، المجتمع، والدين"، المسافة بين النقد العلنيّ للنظام والدعم المخلص له، وهو ما برز بقوّة خلال العقد الأوّل من حكم بشار، وطمح كثير من السوريّين إلى أن يقود إلى اللبرلة السياسيّة. وتوّفر الأعمال المقدّمة في هذا الجزء من الكتاب، تقارير تحمل فروقات دقيقة حول تقلّب إتخاذ موقف إصلاح النظام دون إعتبار ما كان غير وارد حينها: الثورة. فكما يوضّح منتدى نبيل المالح التلفزيونيّ للحوار الوطنيّ المجهض، تواصلت الجهود لدفع القيادة لتطبيق خطابها الإصلاحيّ حتى اندلاع الصراع المسلّح. ويظهر هذا الجزء أنّ الكثير من السوريّين الذين لم يكونوا منشقّين كانوا مع ذلك مستائين من سلطويّة الوضع القائم: حيث طالبوا بسيطرة أكبر على ميادينهم، وبحصّة مما طمحوا أن يكون نظاماً سياسيّاً بصدد التحوّل. لقد عقّد العاملون على هامش النظام، والقابعون خارجه، استخدامه للتغيير الاجتماعيّ والاقتصاديّ. تسبر هذه الفصول مختلف الاستراتيجيّات التي تبناها فاعلون اجتماعيّون متمركزون بأشكال مختلفة للعمل في ظلّ نظام قمعيّ لوّح أحياناً بامكانيّة المشاركة السياسيّة.

كما تظهر الفصول بعض السوريّين المنحازين إلى جانب السّلطة؛ وآخرين يحاولون التلاعب بها لخدمة أغراضهم؛ وقسم ثالث يحاول أضيق المنافذ من أجل فتح المجال أمام حصول تحوّل سياسيّ، وبعضهم معارض بشكل موارب، فيما يُعلن البعض الآخر انشقاقه بشكل علنيّ. ولهذه الاحتجاجات والتكيّفات سابقة تاريخيّة، حيث سبق أن اتّسمت بها الرؤى المتنافسة حول سوريا الحديثة منذ الاستقلال.

لكن خلال تحوّلات سنوات الألفين، تكثّفت المعارضات والمساومات في سبيل حوكمة أفضل. حيث عمل قادة دينيّون وفنانون علمانيّون مع الدولة ومن خلالها، وذلك رغم أنّهم قد يكونون ضدّ النظام. ومن شأن هذا التمييز الحاسم أنّه يساعد على تفسير التحالفات والولاءات متعدّدة الأوجه التي تبدو داعمة للدكتاتوريّة في وجه ثورة واضحة المعالم. ويقدّم المساهمون في هذا الجزء من الكتاب فهماً نقديّاً وإضاءة تاريخيّة للظروف التي قادت إلى ثورة "الربيع العربيّ" التي كانت يوماً ما باعثة على الأمل، وتحوّلت إلى حرب أهليّة كارثيّة راح ضحيّتها أكثر من 250 ألف شخص، وتسبّبت في شقاء لا يوصف لعدد آخر أكبر بكثير.
 
الهوامش والمراجع:

-1- حدّدت ليلى أبي لغد، في مقال نشرته عام 1989، "المناطق المرموقة" للبحث الأنثروبولوجيّ، ولم تكن سوريا بالتأكيد من بينها. وتتواصل عدم شعبيّة سوريا في صفوف الأنثروبولوجيين إلى اليوم، وتمتدّ إلى علوم اجتماعيّة وإنسانيّة أخرى قائمة على العمل الميدانيّ. وحتى وقت قريب، كان العمل العلميّ حول الدين في سوريا المعاصرة شحيحاً؛ انظر: ستينبرغ (ليف)، "المنظمات المسلمة في سوريا بشار الأسد: تحوّلات الشيخ أحمد كفتارو"، الفصل التاسع من هذا الكتاب.
-2- كان للأكاديميّين الفرنسيّين، وحديثاً لنظرائهم الدنماركيّين والفنلنديين، حضور أقوى في سوريا نظراً لوجود مؤسّسات بحث وطنيّة مهتمّة بها.
-3- نبيل المالح، مراسلة خاصّة مع كريستا سلمندرا بتاريخ: 30/03/2012.
4 Steven Heydemann, "Social Pacts and the Persistence of Authoritarianism in the Middle East," in Debating Arab Authoritarianism, ed. Oliver Schlumberger (Stanford, CA: Stanford Univ. Press, 2007), 21–38; Steven Heydemann, "Upgrading Authoritarianism in the Arab World," Analysis Paper No. 13 (Washington, DC: Saban Center for Middle East Policy at the Brookings Institution, 2007).
-5- تدرّب بشار الأسد في لندن منذ العام 1992 وإلى نهاية العام 1994، ثمّ استدعي إلى سوريا عقب وفاة شقيقه باسل، وليّ العهد. وقد تمّ إعداد بشار للرئاسة خلال الفترة المتبقيّة من ذلك العقد، وصعد إلى السلطة عام 2000.
-6- عند استعادة الأحداث، يبدو من الواضح أن هذه اللّغة – رغم نغمتها الحديثة المتفائلة- لم تنبئ بإصلاح تقدميّ بل بتكريس السّلطة بين أيادٍ خاصّة مرتبطة في الغالب بالنظام. حيث يفهم بسّام حداد "اقتصاد السوق الاجتماعيّ" كاستراتيجيّة أمن للسيطرة على الاقتصاد من خلال شبكات الثقة والعلاقات والولاء؛ أنظر:
Bassam Haddad, Business Networks in Syria: The Political Economy of Authoritarian Resilience (Stanford, CA: Stanford Univ. Press, 2012).
ويهدف ذلك لحصر السيطرة على الاقتصاد في يد النخبة السياسيّة. وتربط سلوى اسماعيل ذلك بمسار تعزيز السلطويّة في ظلّ أزمة؛ أنظر:
; Salwa Ismail, "Changing Social Structure, Shifting Alliances and Authoritarianism in Syria," in Demystifying Syria, ed. Fred Lawson (London: Saqi Books and London Middle East Institute SOAS, 2009), 13-28.
وأنظر أيضا:
Aurora Sottimano, "Nationalism and Reform under Bashar al-Asad: Reading the 'Legitimacy' of the Syrian Regime," in Syria from Reform to Revolt, Volume I: Political Economy and International Relations, ed. Raymond Hinnebusch and Tina Zintl (Syracuse: Syracuse Univ. Press), 66–88.
-7- أغلقت "الدومري" عام 2003.
-8- أعيد طباعة التصريحين في:
Flynt Leverett, Inheriting Syria: Bashar's Trial by Fire (Washington, DC: Brookings Institution Press, 2005) and Alan George, Syria: Neither Bread nor Freedom (London & New York: Zed Books, 2003).
-9- للاطلاع على مناقشة مستفيضة لربيع دمشق، انظر:
Najib Ghadbian, "Contesting Authoritarianism: Opposition Activism under Bashar al-Asad, 2000–2010" Syria from Reform to Revolt, Volume I: Political Economy and International Relations, ed. Raymond Hinnebusch and Tina Zintl (Syracuse: Syracuse Univ. Press), 91–112.
-10- وفقاً للفريت (Leverett)، في الصفحة 95 من كتاب "وراثة سوريا" (Inheriting Syria)، أعرب بشار عن تقديره لضرورة حصول تنمية تدريجيّة للمجتمع المدنيّ من خلال المنظّمات غير الحكوميّة، لكن أغلب "الحركات" تطوّرت في شكل منظمات غير حكوميّة تحت رعاية حكوميّة.
-11- أنظر:
Bassam Haddad, Business Networks in Syria.
12 Christa Salamandra, A New Old Damascus: Authenticity and Distinction in Urban Syria (Bloomington: Indiana Univ. Press, 2004), 158-64.
-13- في بداية الانتفاضة، قدمت الدولة بعض المساعدات الماليّة وزادت في رواتب موظفي الدولة في محاولة لاحتواء الانشقاق.
14 Salwa Ismail, "'Authoritarian Civilities' and Syria's Stalled Political Transition" (presentation at the American Political Science Association Annual Meeting, Philadelphia, PA, Aug. 31–Sept. 3, 2006).
-15- أنظر:
John Caughie, Television Drama: Realism, Modernism and British Culture (Oxford: Oxford Univ. Press, 2000), 105-8, on the debate over the politics of realism.
-16- بصفة عامة، يعتقد أن المسلمين السنّة يمثّلون أكثر بقليل من 70% من السكان؛ ويمثّل العلويّون والإسماعيليّون والشيعة الاثني عشريّة 13%؛ وتمثّل مختلف الطوائف المسيحيّة 10%؛ ويمثّل الدروز 3%. وتزعم دراستان أنّ المسيحيّين لا يتجاوزون 6% من عدد السكان السوريّين؛ انظر:
Youssef Courbage, "La population de la Syrie," in La Syrie au present: Reflets d'une société, ed. Baudouin Dupret, Zouhair Ghazzal, Youssef Courbage, and Muhammad al-Dbiyat (Paris: Sindbad Actes Sud, 2007), 189, and Laura Robson, "Recent Perspectives on Christianity in the Modern Arab World," History Compass 9, no. 4 (2011), 313.
-17- ياسمين رمان (صحفيّة)، مراسلة خاصّة مع ليف ستينبرغ في شهر مارس/آذار 2014، وذلك بعد إقامتها في دمشق في وقت سابق من نفس العام. انظر أيضاً؛
"Smell of Fear in Damascus Proves Assad’s Illegitimacy," The National, Mar. 3, 2014, Link for a summary of her observations (retrieved Mar. 13, 2014).

حبيب الحاج سالم
مترجم وباحث من تونس، مجاز في اللغة والآداب والحضارة الإنكليزية ويواصل دراسة الماجستار في نفس الاختصاص، له مقالات وحوارات مترجمة منشورة على الإنترنت وفي بعض المجلات الثقافية والكتب.
كريستا سلمندرا - ليف ستينبرغ


كريستا سلمندرا:
أنثروبولوجية أميركية تدرس في كلية ليمان ومركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك. لها العديد من الدراسات الأنثروبولوجية حول سوريا، كما أنها أصدرت كتابا في نفس السياق تحت عنوان "دمشق القديمة الجديدة: الأصالة والتميز في المناطق الحضرية السورية".

ليف ستينبرغ:
مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة لوند السويدية، تتركز دراساته على قراءة التفسيرات المعاصر للإسلام عند الجماعات الصوفية، وبين المسلمين في أوروبا.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.