حلب، مدينة دائمة في التاريخ

05 شباط/فبراير 2017
 
ترجمة: بدرالدين عرودكي
 
نشرت هذه المادة بعد أخذ موافقة الكاتب والجهة الناشرة. وكان النص الأصلي قد نشر بالفرنسية بتاريخ 7- 17/ 11/ 2016 على ثلاثة أجزاء.

الروابط الأصلية للمادة:
 
 كيف يفسر التاريخ أحداث حلب الراهنة (ج1)
 
حلب، مفترق طرق جغرافي
فلنتجنب اعتماد كل حتمية حتى وإن بقيت العوامل تبدو حاسمة منذ الماضي الأقدم للمدينة. ففي الألف الثالث قبل عصرنا، أو بصورة أقدم خلال العصر الحجري الأخير، كان من الممكن آنئذ تحديد العوامل التي يسّرت تأسيس ونمو مدن الهلال الخصيب ويسعها أن تفسِّرَ ديمومة وأهمية حلب ودمشق، بل وكذلك حمص وحماه، وأن تعطي أسباب خمود بعضها واستمرار الأخرى.
يملك أكروبول حلب الذي صار قلعة نُظِّمَت على امتداد العصور، قيمة دفاعية، لكن هذه الأكمة كانت بوجه خاص مقاماً دينياً، وموقع معبد إله الجوّ الأكبر، المسمى بأسماء متباينة: حدد، حدو، آدا، بعل، تِسهوب (حثي)، أو أيضاً "إله حلب" الهام في نظر كل شعوب الشرق الأوسط، ومكان حجّ. تمّ التعرف على علامات معبد الألف الثالث. وقد حرَّرت الحفريات التي استؤنفت منذ عام 1996 لوحات النقش البارز البازلتية من كتلة الجدار الحجرية يعود بعضها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، كما حررت أساسات أشدّ قدماً. كان التردد على المعبد قد انخفض بالتدريج خلال الفترة الإغريقية والرومانية، بالتوازي مع تدهور المدينة. وقد حلت كنائس ثم مساجد على الأكروبول محل المعبد القديم المنسي.
يحاذي حلب أيضاً مجرى مياه صغير، لا غنى عنه لزراعة موادّ غذائية. وقد أتاحت ضفافه ولادة مواقع أخرى قديمة، كانت حلب قد حجبتها.
لكن أهمَّ عامل في ديمومة حلب هو دون شك موقعها في البرزخ السوري، على الممر الأقصر بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي عبر نهر الفرات، ملتقى بين البحر المتوسط وآسيا وأفريقيا. فإبلا الواقعة على مسافة 75 كيلومتر جنوباً وسواها من المدن في العصر البرونزي المشابهة لها في وضعها اختفت قديماً، في حين كان للبعض منها، القريب نسبياً من حلب أيضاً كأنطاكية وأفامية، أهمية أكثر من حلب في العصور القديمة الكلاسيكية قبل تدهورها.
حكايةٌ تعود إلى عام 1765 قبل الميلاد، قرئت على رقيم من الطين، تروي الرحلة الطويلة التي قام بها زيمري ليم، ملك ماري، باتجاه البحر المتوسط، ذات دلالة: حلب أو يامخاد محطة هامة على طريق زيمري ـ ليم، أولاً بموقعها بين عطفة الفرات والبحر المتوسط. فبفعل ذلك، كانت التحالفات مع السلطة الحلبية جوهرية بالنسبة إلى ملك ماري. وقد رافقه انطلاقاً من حلب، صهره، الملك ياريم ـ ليم الحلبي، وزوجته وابنه والعديد من أفراد الحاشية حتى أوغاريت، التي كان ملكها أحد أتباع ياريم ـ ليم. وقد أقاموا شهراً في أوغاريت حيث التقوا تجاراً من كريت وقبرص، كانوا يقومون بمبادلات هامة مع الشرق الأوسط.
وفي حين كانت الموانئ على البحر المتوسط، مثل أوغاريت ثم الموانئ الفينيقية، على وجه الخصوص منفذاً ومكاناً للإقلاع على محور شرق ـ غرب، كانت حلب ملتقى بين هذه الدروب الشرقية الغربية ومحوراً أرضياً شمالي جنوبي، ملتقىً كان يسمح لها فضلاً عن رقابة الدخول إلى المتوسط وإلى الطرق المؤدية إلى فارس والمحيط الهندي عبر نهر الفرات أو عبر الأناضول، حسب المراحل الزمنية، رقابة الطرق المؤدية إلى فلسطين ومصر في الجنوب. كانت حلب عاصمة المملكة التي يمكن لأراضيها أن تكون واسعة، لكن أهميتها تقلصت خلال الفترات الهلنستية والرومانية كي تستعيدها بالتدريج في عهد الإمبراطورية البيزنطية ثم بعد الفتح العربي والإسلامي.
كان موقع دمشق وهي قديمة قدم حلب ولا ش، أقل أهمية على محوري الشرق ـ الغرب، اللذين كانا شديدا الصعوبة في اتجاه الغرب عبر سلسلة الجبال الساحلية وفي اتجاه الشرق عبر منطقة واسعة شبه صحراوية في اتجاه بلاد ما بين النهرين؛ يمرُّ درب الشرق عبر تدمر، ونحو الشمال أكثر، عبر حمص ويؤدي إلى البحر المتوسط عبر فرجة واسعة في السلاسل الساحلية. كانت دمشق قد ولدت من مصادرها الغزيرة ومن واحتها الثرية والواسعة بصورة استثنائية : كانت وظيفتها أكثر مناطقية بالمعنى الواسع للكلمة، لكن إمكان انفتاحها على البعيد كان أقل صلاحية من إمكان حلب.
وعلى امتداد العصور، عرفت حلب بصورة عامة أن تستفيد من موقعها الممتاز على ملتقى القارات والبحار هذا، قبل أن تقلصها الحدود الوطنية الحالية والمراتبيات الإدارية التي نمت داخل هذه الحدود إلى دور عاصمة منطقة صغيرة في سورية الحالية.

حلب في العصور الوسطى والحقبة العثمانية على الصعيد السياسي
تتوقف مناسبة السؤال على ما نعنيه بكلمة "سياسي". كانت حلب مثل دمشق عاصمة مملكة وبالتالي مقر حكومة دول في العصور القديمة ما قبل الإغريقية ثم في القرون الوسطى، إلى جانب المدن ـ الدول الأخرى، لكن حلب، على العكس من دمشق، لم تكن مركز إمبراطورية واسعة.
ومن الغريب أن حلب هي في آن واحد موقع حدودي وملتقى طرق. فهي من جهة، تتواجد على خط اتصال بين فضاءات طبيعية وثقافية شديدة الاختلاف، نتوءات الشاطئ المتوسطي، والهضبة السورية، والجبال الأناضولية، والجزيرة المفتوحة على ما بين النهرين، وهي غالباً، من ناحية أخرى، مكان تبادل بين فضاءات سياسية مختلفة وعدوة يخوض بعضها الحرب ضد البعض الآخر دورياً (مثلاً الحروب الفصلية بين البيزنطيين والعرب التي تشبه الغزوات) وتكون ميادين حروبها غالباً قريبة من حلب. بعد المرحلة الأموية التي كانت خلالها دمشق عاصمة امبراطورية عربية شاسعة دامت أقل من قرن، استقرت حلب ودمشق بالتدريج في ما يشبه التساوي على الأصعدة الإدارية، وكانتا كلاهما تابعتيْن لعاصمة بعيدة، أولاً بغداد، ثم القاهرة، وأخيراً إسطنبول.

صورة قديمة لقلعة حلب
 
خلال قرون عدة، كانت حلب المسلمة قاعدة من أجل فتحٍ مأمولٍ لأراض بقيت بيزنطية في الشمال، ثم بعد تراجعهم صارت منافسة لسلطنة الروم، والسلجوقيين وبكويات الأناضول، المرتبطة بمعنىً ما رسمياً بخليفة بغداد، ثم في عهدي آل زنكي والأيوبيين كانت قلعة مقاومة لممالك الصليبيين، في الغرب وفي الشمال وفي الشرق، ثم أخيراً قاعدة تبادل معهم قبل أن تكون مركز دعم لفتوحاتهم. في الفضاء المملوكي، بقيت حلب خلال عدة قرون شديدة القرب من حدودها الشمالية على جبال طوروس، ثم حصناً ومركزاً إقليمياً من توابع القاهرة، تارة في صراع مع بكويات الأناضول، التي انبثقت منها السلطة العثمانية. حينئذ تأكد تنظيم الأراضي في سورية: التنظيم الذي وضعته الإدارة المملوكية والقائم على منطقتين أساسيتين تاريخياً، منطقة دمشق ومنطقة حلب. برزت مدن أخرى لكنها بقيت أقل أهمية.
في عام 1516، احتلَّت حلبَ جيوشُ سلطان إسطنبول وصارت عثمانية، وكذلك احتلت دمشق. تواجدت حلب آنئذ ضمن مجموع واسع، كانت فيه عنصراً مهماً في شبكة علاقات وتبادلات داخل نسق الهيمنة الذي كانت إسطنبول مركزه. فهي واحدة من هذه المدن والمراسي الحضرية في الإمبراطورية، المنفصلة بأراضي طوافِ الرعاة الرحالة والقوافل، جماعات أخرى "منظمة" عسيرة على الرقابة رغم الجهود المتكررة التي بذلتها الإدارة العثمانية في اتجاه "التنظيم الإقليمي"، على الأقل في القرن السادس عشر ثم في القرنين التاسع عشر والعشرين.
لم تكن حلب في الإمبراطورية العثمانية، وليس أكثر من دمشق، سوى عاصمة ولاية (بشاليك)، مثلها مثل طرابلس ثم صيدا، المدينتان الأخريتان الرئيسيتان في المحافظات السورية. وحتى نهاية الإمبراطورية العثمانية، لم تكن حلب تابعة لدمشق التي لم تكن تحتل درجة أعلى من حلب ضمن المراتبية العثمانية. فحلب كانت تقدم حساباتها إلى العاصمة إسطنبول وتتصرف وفق مصالحها الخاصة ومصالح الإمبراطورية والسلطان. وكانت التوترات الإقليمية والمحلية تعالج أحياناً من قبل إسطنبول التي تجعل انكشارية دمشق يتدخلون ضد انكشارية حلب، كما حدث مثلاً في القرن السابع عشر.
تنتظم المدن بآليات داخلية من الرقابة وباجتهادات قضائية تشارك في حل المشكلات المحلية التي تقدم تقارير عنها إلى الإدارة شديدة المركزية من حيث المبدأ وإلى السلطان في اسطنبول. يسمح نسق الأوقاف لرؤساء البلدية وللحكام العثمانيين بوضع البنى التحتية المادية للخدمات العامة التي تجعل المدينة تعمل، وخصوصاً أماكن النشاطات الاقتصادية والخاصة بالدين، وهي بنى تحتية لم يعد وضعها الخاص وضع الملكية الخاصة بل الهِبَات من أجل الدين والعمل الخيري: إذ أن هيمنة الأموال الوقفية هائل بحلب ويمثل ما يقارب 70% من الأسواق والخانات المركزية.
ويشارك كبار موظفي الإدارة العثمانية والوجهاء المحليون بمجلس الديوان.
والواقع، يقع السياسي حينئذ عند ملتقى المصالح الخاصة، مصالح الجماعات ومصالح العاصمة إسطنبول، لكن السلطة الحقيقية تكمن في ما يُسمّى الآن "المجتمع المدني" الذي لا يقتصر على النخب والذي ينظم الحياة في المسار اليومي لفضاء الخدمة والأحياء وفي فضاء النشاطات الاقتصادية والأسواق، وهي كيانات ممثلة من قبل شيوخ المهن أو الأسواق وشيوخ الأحياء. في هذا الظرف المحلي الضيق وفي العلاقات مع إسطنبول والمناطق الأخرى في الإمبراطورية، يبقى السياسي محدوداً جداً. وقد تغير عمل مدينة مثل مدينة حلب وتلعب البلدية بين عوامل أخرى دوراً جوهرياً الآن، لكن طرق العمل القديمة لا تزال تطبع الأذهان.
ولابد من انتظار النضال ضد "الطغيان العثماني" في القرن التاسع عشر، ثم الاستعمار عبر الانتداب الفرنسي، كي نرى السوريين يستعيدون الميل إلى الالتزامات السياسية والأحزاب، في المدن وفي المناطق، بما في ذلك لدى القبائل. دامت هذه المرحلة الغنية بالسياسي أكثر من قرن، بما في ذلك عقود سنوات ما بعد الاستقلال. وقد انتهت خلال الوحدة السورية المصرية (1958 ـ 1961) وفي الانقلابات المختلفة ولاسيما الانقلاب البعثي (1963) وتصاعد السلطة الأسدية. لم تكن حلب ودمشق تتنافسان حقيقة خلال مراحل النضال الوطني، لكن كلاً منهما كانت تتجاهل الأخرى وغالباً ما كانت كل واحدة منهما تلعب لعبتها الخاصة، الإقليمية، كما حدث بمناسبة مقاومة الاحتلال الفرنسي الذي بدأ في شمال سورية (1919 ـ 1921) الذي ساعدته لكن لم تنظمه حلب، مع إبراهيم هنانو، وانتهى بدمشق بعد عام 1925 دون أن يكون منسقاً بصورة حقيقية.
 لكن دمشق وقد غدت العاصمة تفوقت اعتباراً من الانتداب الفرنسي واكتفت حلب شيئاً فشيئاً بدور العاصمة الصناعية والتجارية.

حلب، ملتقى طرق الاتصال والتجارة
ورثت حلب المميزات الطبيعية والعلاقات الممكنة التي تفعِّلها حسب المناسبات والوضع السياسي المحلي والإقليمي: فالمدينة تتكيف باستخدامها مختلف الوسائل التي يتيحها لها وضعها. تطورت ولاية حلب، والولايات العثمانية الأخرى في سوريا، بل وكذلك الظرف الأوسع، خلال العصور العثمانية: علاقات الإمبراطورية مع بلاد فارس كانت متوترة غالباً، وكذلك علاقاتها مع ولايتها مصر. هذه الجيرة تعني حلب بالتأكيد؛ فمناطق الإمبراطورية في المتوسط، وفي أوروبا، وفي البلقان، مضطربة غالباً. ولكن حلب في هذه الإمبراطورية الواسعة غالباً ما تكون بعيدة عن مناطق الصراع (باستثناء فارس) وبوسعها الاستفادة من تنوع علاقاتها. وقد بقيت زمناً طويلاً المدينة الثالثة في الإمبراطورية العثمانية، بعد العاصمة إسطنبول وبعد القاهرة، قبل دمشق، وطرابلس بلبنان، وتونس، وسميرنا، وبورصة، ومدنٍ كبرى أخرى في الإمبراطورية.
ومثل دمشق، تندرج حلب في أراض غير متماثلة، واسعة ومتشظية في بعض الاتجاهات. لكن الوزن الاقتصادي، والسراب الاجتماعي والاقتصادي اللذين تمثلهما حلب لم يكن يُنافَسُ حقيقة قبل القرن التاسع عشر من قبل دمشق على مسافة 400 كيلومتر جنوباً. فعلاقات حلب، فضلاً عن المدخل إلى المتوسط، موجَّهة خصوصاً نحو الشمال ونحو الشرق، نحو الموصل، وبغداد، وبصرى، والخليج، وديار بكر، وأورفه في الشمال الشرقي، ومدن الأناضول الأوسط والغربي الأكثر انغلاقاً أو الأقل أهمية. أما العاصمة إسطنبول فهي على مسافة 1200 كيلو متر تقريباً. معظم هذه المدن أصغر من حلب بكثير وتبعد مسافة تتراوح بين 500 و1000 كيلو متر. وفي الفضاء الذي يفصلها عن حلب، تبقى هذه الأخيرة عاصمة اقتصادية وضرباً من أسطورة بالنسبة إلى السكان ولا سيما الأقليات من الأكراد والمسيحيين، (في القرن التاسع عشر على سبيل المثال). ومركزاً مرغوباً لا يملك مع ذلك القدرة على تكوين الوحدة السياسية والإقليمية من حوله.
أما التجهيزات والخدمات التي تصنع المدينة، فهي موجودة حتى في أصغر المدن، لكن عددها وجودتها يتناسبان مع أهمية المدينة ومع غناها ونشاطها الاقتصادي. حلب هي المدينة الأغنى في الإمبراطورية العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة، وقبل دمشق قليلاً دون شك. فأهمية أسواقها وعدد خاناتها الهائلة (كرافانسيراي) يشهدان على ذلك، وهي التي لا يمكن مقارنتها إلا مع أسواق وخانات القاهرة وإسطنبول. وتبيِّن التقارير التجارية المحررة من قبل القناصل العاملين في حلب أن المدينة كانت لا تزال مزدهرة في القرن الثامن عشر وأن المبادلات التجارية كانت لا تزال متوازنة حتى مع الغرب (سوفاجيه 1941). لايزال رجال الأعمال الحلبيون يعرفون الاستفادة من الفرص، مثل تصدير النسيج الهندي الذي تصنعه نحو أوروبا، قبل تطوير المصانع في فرنسا. وتتجلى قوة صادرات حلب في بناء عشرات القيصريات، وهي مبانٍ جماعية تجمع فيها الورشات، خارج السوق، في المدينة وفي الأحياء الشمالية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
ظهرت أطوار أخرى من الازدهار بالنسبة إلى حلب في العقود الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية مع بداية استعادة مناطق الزراعة من الرعاة الرحل، ثم في حقبة الانتداب الفرنسي مع زراعة القطن المسقي على أراض يملكها كبار الملاكين الحلبيين، أو المستأجرة من قبلهم، وهم أصحاب مشاريع كانوا غالباً أيضاً مُلاك مصانع أسست مؤخراً لحلج وغزل القطن، وهي أولى الصناعات المؤللة في المنطقة، ثم مع الازدهار المفاجئ للقمح عند نشوب حرب كوريا. يُلاحظ أيضاً أن حلب كانت لا تزال تصدر كميات من الأقمشة المختلفة، من الحرير، ومن الخيوط الليفية المركبة، ومن القطن، ومن الصوف، من مصنوعاتها التقليدية، إلى منطقتها، وإلى الأناضول، وإلى اليمن، والسودان، والمغرب، حتى سنوات 1950 قبيل الاختفاء الكامل لهذه الفعاليات بعد عقدين من ذلك.
ثم كان لا بدَّ بعد مرحلة من التدهور العميق رافقت التأميم والإصلاح الزراعي أيام الوحدة مع مصر وبدايات البعث، من مرور عدة عقود قبل أن تعثر ثانية على ازدهارها بفضل تشجيع بشار الأسد، ومع القوانين الجديدة في الاقتصاد الليبرالي وبفضل رأس المال الذي أعيد تكوينه على أيدي مقاوليها. فنمو الصناعات النسيجية الحديثة وقطاعات أخرى (الصيدلة البلاستيكية، إلخ.)، القائم على بناء عشرات المصانع الجاهزة في مناطق صناعية واسعة كان نشيطاً خلال سنوات 1990 ـ 2000. لكن هذه الانطلاقة التي وسمت المدينة بعلامات واضحة من التحديث والرفاه تباطأت بفعل تحرير المبادلات، ومع اتفاقيات التبادل الحر التي وقعتها سوريا عامي 2005 و2007 والتي استفاد منها بوجه خاص المنافس التركي، التي كانت مدمِّرة لاقتصاد بقي محمياً زمناً طويلاً. ففي عام 2009، تقدمت صادرات تركيا إلى سوريا بنسبة 27% في حين انخفضت الصادرات السورية إلى تركيا بنسبة 48 %. وقد عمم إفلاس منشآت كبرى بحلب هذه النتائج السيئة بعد سنوات عدّة قبل بداية الحرب في سوريا (سيريل روسلCyril Roussel  2014).
لقد نهبت المصانع الجديدة بعد عام 2012، وبيعت آلاتها عن طريق التهريب في تركيا، واختفى النشاط الاقتصادي، ونُوِّمَ الاقتصاد.

الخطة السياسية بحلب اعتباراً من الاستقلال: قادت المركزية وتصاعد الفساد البلدَ وحلبَ إلى تبعية شبه مطلقة
بعد حلقة الإصلاح الزراعي والتأميم خلال الوحدة مع مصر (1958ـ1961)، كانت بورجوازية حلب من التجار ورجال الأعمال دون أي شك هي من تلقى المعاملة الأسوأ. فحلب كانت مدينة يجب هدمها، بوصفها عدوة النظام، لا تؤخذ على نحو منتظم بعين الاعتبار من قبل الخطط الخمسية ولا من أجل تمويل المشروعات. فقد فُضِّلت مدن أخرى ومشروعات الزراعة والسقاية بهدف محمود تمثلَ في إعادة التوازن بين المناطق والمدن عن طريق مساعدة تلك التي لا تميل "بصورة طبيعية" إلى تنمية اقتصاد حديث. ففي عهد حافظ الأسد وحتى سنوات 1980 كان الفساد أقل ظهوراً وكانت لا تزال بعض "الطهارة" الاشتراكية قائمة. وكان لبناء سد الفرات والإصلاح الزراعي، رغم الإخفاقات، أثار إيجابية.
  شهدت نهاية سنوات 1970 ولاسيما في حلب نمو ثورة مضادة للأسد كانت تغذيها معارضة في جزء منها إسلامية (الإخوان المسلمون)، لكنها ميالة أيضاً إلى الليبرالية الاقتصادية وإلى الإصلاحات، والتي انضم إليها وجهاء مسلمون ينحدرون من أرستقراطية حضرية عريقة. تأثرت مدن أخرى بطريقة أقل حدة، مثل دمشق أو حمص، ثم كانت أحداث حماه عام 1982 المأساوية. وعوقبت حلب من جديد بسبب ثورتها، فاحتُلت وحُوصِرت من قبل الجيش خلال سنة عامي 1979ـ1980، إلا أن سياسة الجزرة مورست بعد استخدام العصا وستستعيد حلب بصورة تدريجية حظوتها.
بعد موت أبيه في حزيران/يونيو 2000، طور بشار الأسد حركة لصالح المدن، مدفوعاً بالليبرالية الاقتصادية وإرادة تنمية اقتصاد البلد: استفادت حلب من ذلك، وتحدثت المدينة واستهلكت، مع إنشاء المراكز التجارية الكبرى (المول)، وإعادة إنشاء وسائل المواصلات العامة، وإنجاز البنى التحتية العمرانية في المدينة، والحدائق، واستقرار عشرات المنشآت النسيجية الجاهزة من أجل منتجات صناعية أخرى. كانت الاستثمارات من أجل تجديد البنى التحتية في الأحياء القديمة فعالة، وكذلك الاستثمارات السياحية وترميم العديد من الصروح التاريخية وأجزاء من النسيج العمراني التاريخي. ولا شك أن البورجوازية الرأسمالية التي كانت تزدهر صارت داعمة للنظام، وربما اعتمد بشار الأسد عليها للسيطرة على المدينة، على الأقل للحيلولة دون تفاقم المشكلات. وقد أفاد الازدهار الاقتصادي أيضاً السكان الفقراء في شرق المدينة.
يمكن لهذه العوامل أن تفسر فترة السنة قبل أن تؤخذ المدينة بالحرب مع دخول الثوار إليها في تموز 2012. إذ أثار دخولهم المدينة وكذلك تحديات النظام عمليات العنف. فقد كانت عسكرة الصراع في نظر السلطة أفضل وسيلة لقمع المظاهرات غير المسلحة لمعارضة سلمية كانت تستمر وتعبر عن نفسها بحلب وفي أماكن أخرى من سوريا.
 
أية أسباب تاريخية يمكنها أن تفسر أن المدينة هي اليوم رهان؟ (ج2)

أحياء شرق حلب القديمة هي جنين الأحياء غير الشرعية وغير المعترف بها التي بنيت امتداداً لها اعتباراً من عام 1960، حيث يعيش فيها بين مليون ومليون ونصف من السكان قبل الحرب الراهنة.
خلال سنوات الثمانينيات، كان الحلبيون من سكان الأحياء البورجوازية الذين لم يكونوا يذهبون أبداً إلى الأحياء الشرقية حيث لا شيء يستدعي وجودهم فيها، الأحياء التي يتواجد فيها في نظرهم خصوصاً ما يشبه الخطر، ينصحون الباحث الأجنبي بأن يذهب إليها بصحبة شخصٍ ما كي يستطيع التجول فيها. تعبر هذه النظرة للأحياء الشرقية عن الجهل المتبادل بين السكان، على الرغم من أنهم في غالبيتهم من المسلمين السنة سواء أكانوا من سكان شرق حلب أو غربها، لاسيما وأن هناك استمرارية شديدة القدم لخصومة ثقافية بين الحضر وأهل القبائل ذوي الأصل الريفي أو البدوي، إذ لاغنى عن هؤلاء وأولئك من سكان المدينة لحياتها الاجتماعية والاقتصادية.

نموذجان للتعمير في الحقبة العثمانية: الأحياء الجديدة خارج الجدران في الشمال وفي الشرق
لم يقم الإقطاع بتصنيف أراضي الشرق الأوسط حسب مرا تبيتها. وتعد المدن بين أماكن الرسو التي لا غنى عنها للسيطرة على الأراضي وعلى المجتمع؛ لكنها ليست على الدوام صالحة لأداء هذا الدور ولإقامة الصلة بين السلطة المركزية والمناطق. ففي القرن العثماني الأخير، وفي الوقت الذي كانت فيه القبائل تضرب خيامها أحياناً على أبواب المدن، لم يكن تأثير رقابتها يصل إلى أبعد من حدودها: ففي نهاية القرن التاسع عشر، كانت الأرياف ملغومة بـ"الحماية" الثقيلة أو بأشكال الاستغلال من قبل القبائل البدوية، التي لم تكن السلطات العمرانية فعالة ضدها؛ وقد تصرف الانتداب الفرنسي بهمة وبنجاح من أجل إعادة الهدوء وتحضير البدو الرحل.
صعوبتان حاليتان موروثتان من الماضي العثماني القريب، لكن أسبابهما أكثر قدماً بكثير: والمقصود العجز عن تحمل أعباء هذا الدور في نقل السلطة المركزية، ولكن بوجه خاص الصعوبة المتزايدة في ذلك، بفعل الضغط السكاني في النصف الثاني من القرن العشرين، من أجل تنظيم المدن، ومواجهة المشكلات المرتبطة بنموها المتسارع ولتقديم الحد الأدنى من الخدمات ووسائل العيش لشعب فقير نسبياً. اعتباراً من سنوات 1950، كانت الهجرة الجماعية للفلاحين ولسكان المدن الصغيرة متزايدة، وكان الرحيل نحو المدن الكبرى الذي تفاقم أكثر فأكثر قد استؤنف في حلب وتابع التوجهات التقليدية في الاستقرار بالمدينة ضمن الأحياء الواسعة خارج جدرانها في الشمال وفي الشرق، إثر ضروب التطور التي بدأت في الحقبة المملوكية.
أحياء حلب خارج الجدران في الشمال، مختلطة بشدة، وحضرية بصورة واضحة ومرتبطة وظيفياً بالأسواق المركزية. وقد استقبلت عدداً كبيراً من السكان المسيحيين خلال الفترة العثمانية، من حول كنائس بدائية، وظلت نوى هذه الأقلية حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، والاستقلال، وتسارع نمو المدينة. هذه الأحياء مختلطة بشدة اجتماعياً ومن وجهة نظر طائفية وإثنية وتتضمن أرستقراطية غنية مسيحية ومسلمة من تجار الجملة وأصحاب المصارف، ومن التجار والحرفيين الذين يؤلفون طبقة وسطى، ومن عمال وحرفيين فقراء يعملون في النسيج (نساجون)وملحقاته (الصباغة)، والصناعة المعدنية الصغيرة التقليدية. وخلال القرن العشرين بل وإلى وقت متأخر، تمتد الأحياء الجديدة المسيحية، العربية وغير العربية، على الدوام باتجاه الشمال، وبصورة ثانوية نحو الغرب، مختلطة دوماً أو مجاورة للأحياء غير المسيحية، العربية منها وغير العربية، والكردية والتركمانية، والمسيحية الأرمنية. صارت عمرانية بسرعة، بعد أن فقد السكان معظم صلاتهم غير العائلية مع مناطق سكنهم الأصلية. يتسم هؤلاء السكان بندرة فعاليات الاتصال مع العالم الريفي وبضعف الصلة مع خلفية البلد الريفية في هذا الاتجاه. وهذه الأحياء هي إحدى نوى الأحياء الغربية المستقبلية التي كانت مشروعاً ضمن خطة المدينة حوالي عام 1900 (خطة شارتييه) والتي بدأت تمتلئ بالسكان بعد الحرب العالمية الثانية.
الأحياء خارج الجدران في الشرق، على كونها حضرية أيضاً على طريقتها، وخصوصاً بالعمارة، وبمواد البناء، وتنظيم الخدمات العمرانية وأخيراً بأهمية الأوقاف رغم أنها أكثر ضعفاً مما هي عليه في الأحياء الأخرى، فإنها أقل عمرانية على الصعيد الاجتماعي. والقسم الذي طُوِّرَ في الحقبة المملوكية، مع المساجد الكبرى، والحمامات، والأسواق وكل التجهيزات الخاصة بالمدن، والمجموع داخل سور المدينة الجديد قبل الفتح العثماني، صار عمرانياً من خلال ربطه مادياً بجسم المدينة. ولكن بعد هذا الإلحاق، بقي التوسع الجديد خارج الجدران في الحقبة العثمانية موسوماً بالصلات الوثيقة مع العالم الريفي، مع الأسواق المختصة والخانات/المخازن الخاصة بمنتجات الريف، وبالصلات القبلية مع سكان خارج المدينة. وأسماء الأحياء المسجلة على المسح الذي تمَّ عام 1930، بكارة، سخانة، قرباط، إلخ.، لا تزال تشهد بسكناها منذ الأصل من قبائل وجماعات مختلفة، ورجال القوافل (صلات مع سفيرة وسخنة ...)، وأكراد وتركمان وقرباط (نَوَر أو غجر)، وانكشاريين. وقد نمت على الدوام نحو الشرق، على امتداد محوري الفعالية الاقتصادية المتصل بالعالم الريفي، سوق باب النيرب المختص بالفعاليات المرتبطة بالمواشي وحي وسوق بنقوسا مع مخازن القمح الكبرى غير البعيدة عن أماكن تحضير البرغل (مسبق الطبخ والمجفف). ولا تزال هذه المحاور الطويلة للخروج من المدينة باتجاه طرق وقرى سهب الجنوب الشرقي، والفرات والجزيرة، محاور تنمية أحياء الشرق التي يقصفها النظام بشراسة.
هذا التفاوت في الفضاء العمراني بين مدينة داخل السور و"اللا ـ مدينة في المدينة" في أحياء الشرق، يتواجد منذ قرون في استمرارية ثقافية ذات علاقة ما مع شروح ابن خلدون في مقدمته. ويعكس هذا التفاوت الذي يستمر وينتقل عبر العصور التنظيمَ غير الرسمي وغير المؤسساتي لدخول المدينة من قبل غير الحضر من أصل البدو الرحل أو الحضريين، لكنهم ينتمون بصورة عامة إلى نسق قبائلي (ج.ك. دافيدJ. C. David  1996). هذه الأحياء الخاصة بـ"الحضريين غير المكتملين" والجماعات غير المتحررة من عصبية الدم، كانت تتواجد في العصور الوسطى جنوب شرق المدينة، في الحضر، وهي أحياء دمرت كلياً خلال الغزو المنغولي في عام 1260 (جان سوفاجيه Jean Sauvaget  1942). ولايزال اسم "الحضر" الدال على الاستقرار أو الإقامة، ذو الوضع الخاص على هامش المدينة، موجوداً  ولاسيما في حماه وفي اسم مدينة حترة في العراق. وكان قواد الفتن في عام 1850 بحلب الذين كانوا يستهدفون أولاً السلطة العثمانية والإصلاحات التحديثية التي كانت تقوم بها، ثم انقلبوا ضد المسيحيين، قد انطلقوا من هذه الأحياء التي كانوا قد وجدوا فيها وسائل العمل والرجال بين السكان (تشجعهم النسوة في المسيرات، وهن يصرخن الله أكبر).
 
آليات الإقصاء: لا تستطيع المدينة قبول دوام حسّ التضامن والعصبية
ليست مبادئ الإقصاء أو التمييز بحلب طائفية بصورة عامة ونادراً ما تكون إثنية، ولا تترجم بصورة جوهرية بإنشاء محاجر مسيحية، أو يهودية، أو شيعية، أو سنية أو حتى كردية أو أرمنية.  فسكان الأحياء الشرقية من جهة موضوعون جانباً من قبل حضريي الداخل ومن جهة أخرى يبقون جانباً  بإقصاء ذاتي، لا بسبب أصولهم الريفية فحسب بل بسبب الاحتفاظ  بممارستهم الخاصة بتنظيم قبلي وخصوصاً بهوية موسومة بصورة قوية بالعصبية، أو حس التضامن، مع أنساق المبايعة، واحترامٍ لروابط الدم والواجبات التي تؤلفها والتي تؤلف أو تصون الوعي الجماعاتي والتماسك الاجتماعي، مع نمط حياة خصوصي، من خلال التجمع في الأحياء ذاتها (إيفرنيل ج. Hivernel J.، 2001، 2004...). يسكن هؤلاء السكان الحضريون في أحياء هامشية لكنهم يحتفظون مع ذلك بدور في المدينة كوسطاء لا غنى عنهم مع العالم الريفي.

خارطة مدينة حلب

كان التغيير الجوهري الذي قلَبَ الظرف السياسي هو ولادة سوريا بعد الحرب العالمية الأولى، أولاً تحت الانتداب الفرنسي، ثم الاستقلال اعتباراً من 1946 ومغادرة آخر جنود جيش الاحتلال. صارت حلب عاصمة محافظة ودمشق العاصمة الوطنية، حيث توجد الحكومة والوزارات وحيث تتخذ القرارات الحيوية التي تخص البلد بأكمله. في غياب الديمقراطية ومن دون برلمان تمثيلي حقيقي، لم تعد المدن والمحافظات هي التي تدير ميزانياتها الخاصة بالتجهيزات بل السلطة المركزية، وبصورة عامة، وخلال أكثر من نصف قرن، خفضت الميزانيات الخاصة بحلب وضعفت الاستثمارات. وبقدر من السرعة، رسخت الديكتاتورية نفسها وصارت القرارات تتخذ أكثر فأكثر لصالح أفراد، أو أسرة ما، في عشيرة الأٍسد. نمت المركزية مثلما نما الفساد. قليلاً ما يخرج السياسي إلى العلن خارج العاصمة، إن لم يكن في معارضة غالباً ما تُطارَد. وقد تأكد وضع القزم السياسي لمدينة مثل حلب. لكن مصالح عشيرة الأسد في عهد بشار ستتطابق من جديد مع مصالح حلب.

مدينة/لا مدينة: سبب الحرب الراهنة والمجزرة ضد المدينة الجارية حالياً بحلب
في صيف 2012، حين دخل المتمردون حلب، عملوا على أن يستقروا في الأحياء الشرقية، لأنهم ولا شك شعروا بأنهم أكثر قرباً اجتماعياً من شعبهم في حين أن الأحياء الغربية كانت مجهولة من قبلهم ولا يمكن السيطرة عليها إلا بالسلاح. يسكن الأحياء الشرقية على وجه الخصوص سكان من أصل ريفي أو جاؤوا من مدن صغيرة كي يستقروا بحلب منذ جيل أو عدة أجيال. تتضمن الأحياء الغربية بورجوازية حديثة، سنية خصوصاً، ولكن مع أقليات مسيحية خصوصاً، وكذلك القسم الأكبر من البنى التحتية للدولة وللنظام الخاصة بالمدينة وبالمحافظة، ولاسيما البنى التحتية التي ترتبط بالجيش، أو أنها ترتبط بالأمن وبالمخابرات: قاعدة للمدفعية، المخابرات العسكرية، الأكاديمية العسكرية، قاعدة الدفاع الجوي، القاعدة العسكرية، مخابرات القوى الجوية، مركز البحث العسكري، قصر العدل، مراكز الاعتقال والتعذيب، جامعة حلب، مخازن مياه المدينة.
لا تتضمن الأحياء الشرقية إلا القليل من الخدمات ذات المستوى العالي بالنسبة إلى المدينة، بل مساجد أقل عدداً وأصغر من سواها في الأماكن الأخرى، وأسواقاً صغيرة شعبية غير رسمية أو مبنية من قبل البلدية وغرفة التجارة، وكذلك مناطق حرفية غير رسمية. تندر السيارات في الطرق الضيقة؛ وهناك خدمة للباصات الصغيرة وللتاكسي. استقر المتمردون في هذه الأحياء التي استقبلتهم مع ذلك بلا حماس، شأن الأحياء الشعبية الواقعة في الجنوب الغربي، والمختلطة اجتماعياً، سيف الدولة، الأنصاري، صلاح الدين، التي كانت مقر معارك عنيفة خلال عامي 2012 ـ 2013 وبقيت منذ ذلك الحين مقسمة بخط الجبهة.  أما الوضع الحالي فهو وضع تموز 2012 تقريباً، والذي يعكس إرثاً قديماً في التوزّع الاجتماعي.

حلب، رهان الحرب الحالية
عدة أسباب يمكن أن تفسر حلب بوصفها أحد رهانات الحرب الراهنة. وليست هذه الأسباب متجاورة ومستقلة، بل تؤلف أنساقاً من التفاعل متشابكة بصورة وثيقة. فالتاريخ القديم أو المتأخر يستخدم المعطيات الطبيعية ويسمح بفهم المجموع.
ففي نظر النظام، حلب مدينة كبرى في ذاتها يجب امتلاكها؛ لكنها أيضاً مدينة استراتيجية مركزية بين مناطق سوريا الغنية أو المفيدة، في الغرب، يسيطر عليها النظام وثوار الجيش السوري الحر القديم والمعتدل، وفي الشمال والشرق المناطق المتأخرة ذات الطبيعة السكانية العسيرة على السيطرة والتي تسيطر عليها داعش والأكراد، مع بعض المناطق التي يحتلها النظام، ومن ثم فإن استعادة حلب تمرُّ باستعادة الأحياء الشرقية.
تعَبِّرُ استراتيجيات فتح أو إعادة فتح الأراضي من قبل المتحاربين بوضوح عن أن المدينة مقسومة إلى قسمين هما أكثر من مجرد حيّيْن، دون أن يشكلا مع ذلك مدينتيْن. فالنظام يحتلّ غرب المدينة حيث لا يثير حضوره حقيقة اعتراضاً ما، في حين أن بقية المدينة يؤلف رهان المعارك. لكن طبيعة الرهانات غامض، لأنها لا تقتصر على الأراضي. ومن الواضح أن هدف الاستعادة لا يقتصر على استرجاع مجموع الأحياء لإعادة ضمها إلى الكيان العمراني وإعادة تكوين وحدة كانت على الدوام جزئية وغير متساوية، بل هو في أفضل الحالات استرجاع فضاء نُظِّفَ من سكانه لتعميره من جديد حسب معايير جديدة وربما في جزء منه مع سكان جدد وفعاليات جديدة، فضاء فُرِّغ من ا المتمردين الذين استقروا فيه ومن السكان الذين آووهم طوعاً أو غصباً، وكل ذلك بمساعدة الروس بلا شك، وربما من خلال إعادة إنتاج نموذج غروزني.
وخصائص سكان الأحياء الشمالية والشرقية والجنوبية الشرقية هي إحدى أسباب هذا التنظيف، الذي ليس هو طائفي أو إثني كما سبق ولوحظ ذلك في البوسنة، بل هو تنظيف اجتماعي/مجتمعي. فسكان هذه الأحياء في الشرق، سواء سكان الفضاءات التاريخية في المدينة المملوكية أو العثمانية، أو السكان الجدد الذين استقروا خصوصاً في الستينيات، هم في غالبيتهم سكان فقراء، يسكنون مساكن بنيت بصورة غير شرعية. ومهنهم حين يمتهنون مهنة ما هي على الأغلب مهن غير رسمية وغير مصرح بها، حتى وإن كانوا يمثلون جماهير من الشغيلة وينتجون مردوداً هاماً بالنسبة إلى المدينة، في الصناعات المعدنية الخفيفة، كالجلد والأحذية، بين مجالات أخرى؛ وقد تكاثرت الورشات الصغيرة مع الازدهار العام الذي استقر بفضل بشار الأسد، إلا أنه لا وجود لأية إحصاءات تؤكد ذلك.
ورثت هذه الأحياء أيضاً عدة عقود من عمران البلديات وعمل الدولة، فيما يتعلق بالتمييز والتصفية الاجتماعية التي تبدو منظمة (انظر صقال 2014، ودافيد 2014). ومع ذلك، فلا بد أن هذه الأحياء قد مثلت قبل الحرب، في عام 2010، ما يقارب نصف المدينة، أي بين مليون ومليون ونصف من السكان، وهي كتلة هائلة مهمشة بصورة منتظمة من قبل السلطة، رغم بعض المحاولات في الإدارة والتحسين، وخصوصاً بفعل مبادرات محلية (وأحياناً البلدية وغرفة التجارة). وكانت الخطة التوجيهية التي تمت المُصادقة عليها عام 1974 للسنوات العشرين تطبق توجيهات البلدية لتحقيق هذا الهدف في التمييز الاجتماعي، باختيار تحديد المناطق الواجب إعمارها في الغرب والمخصصة للبورجوازية وللطبقة الوسطى من الموظفين وأصحاب المهن الحرة والعسكريين الذين صاروا ملاكاً بفضل نسق التعاونيات المهنية. وبالمقابل، كانت المناطق في الشمال وفي الشرق وفي الجنوب مخصصة لكي تحتلها مجاميع هائلة من المساكن الشعبية، بعضها تم بناؤه (هنانو في الشمال الشرقي، سيف الدولة في الجنوب الغربي، وهي غير كافية)، في حين أن الفضاءات الأخرى كانت قد عمرت وفق إجراءات متفرقة من أراض مفروزة غير شرعية حيث خصصت فضاءات لمصلحة الطرق والخدمات، والمدارس، والحدائق العامة والساحات. كانت الإجراءات في الأحياء الشرقية، تسمح بشكل من الوصول إلى الملكية بفضل تأسيس شركة عقارية وتوزيع الأسهم في الشركة بدلاً من الأسهم في الأرض، وهي حلول كان يشارك فيها مهندسو البلدية. وقد تمت شرعنة هذه الأراضي المفروزة فيما بعد، وهو ما يشبه العهدة بصورة ضمنية ببناء سكن أفقر الناس إلى إمكاناتهم الخاصة، من دون نهبهم كلياً مع ذلك. يعكس هذا الحل قصور الدولة إن لم يكن يعكس سياسة واعية برفض جزء من السكان.
 
تدمير التراث الثقافي للمدينة وللصروح في الصراع في سوريا منذ 2011:
المنطقة الغربية والمنطقة الشرقية، تراث متباين (ج3)

تم إعداد قوائم التراث الرسمي، المكونة بصورة جوهرية من الصروح، بصورة عامة، من قبل المختصين ذوي الأصول الغربية أو من الذين درسوا في الغرب، حسب معايير جمالية أو علمية يمكن أن تكون موضع نقاش. فهذا المفهوم عن التراث المذاع بالتدريج في العالم مع ضروب الاستعمار الغربي يمكن أن يكون قد حجب أِشكالاً أخرى أقل مادية من التراث تدمج نمط الحياة والممارسات، وكذلك أيضاً اعترافاً شاملاً بالمدينة بوصفها تراثاً، بفعل "حكايات المدن “بدلاً من الصروح المنعزلة. فـ"حكايات المدن"، وهي عبارة عن أوصاف طوبوغرافية وتاريخية توجد بالنسبة إلى حلب منذ القرن الثاني عشر على الأقل، وكذلك تطورية يتم تحديثها حسب المؤلفين الذين يرجون التدخل، تقترح أن كياناً عمرانياً هو تراث في ذاته، مادي ولا مادي في آن واحد، وهي فكرة تمارس أيضاً في ثقافات شرقية أخرى (دافيد 2015 على الأنترنت و2016 طبعة ورقية).
ولفهم الاتساع الحقيقي للتدمير الأخير للتراث الحلبي، والذي يتجاوز المس بالتراث الرسمي، يجب أولاً تحديد ما هو التراث المعترف به والمعتمد من قبل المجتمع (دافيد و بواسيير 2014) ضمن هذا الظرف. ويجب أيضاً الأخذ بعين الاعتبار أن خط تقسيم المدينة بين أحياء الشرق وأحياء الغرب يجتاز مركز المدينة ولاسيما الأحياء القديمة والأراضي المصنفة تراثاً عالميا من قبل اليونسكو. أول نتيجة هي تجزيئ التراث وبالتالي فقدان معنى وحدة المدينة التي تؤلف تراثاً في ذاتها، ومن جهة أخرى، تنويع وسائل التدمير المستخدمة بفعل قدرة الابتكار لدى كل طرف من المعسكرين، كل منهما له أسبابه الخاصة كي يدمر عامداً متعمداً وغالباً بصورة منتظمة عناصر ما كان يؤلف التراث المشترك.  
لم يكن جوهر التدمير بفعل الخسائر الجانبية للمعارك أو تدمير مردّه أسلحة معارك الشوارع، والعصابات، بل إلى استخدام وسائل خصوصية، كُيِّفت لأهداف التدمير. فالحرب الجارية هي إذن أيضاً حرب تراث، موازية لحرب الأسلحة والجيوش، لكنها لا تبدو ثانوية بل وحتى إنها في بعض مظاهرها يمكن لحرب التراث هذه أن تكون الحرب الرئيسة. فاللامبالاة الظاهرية للسكان في وجه هذا التدمير يمكن أن تعكس واقعة أن هذا التراث المؤسساتي، الذي كان قد فُرِضَ بهذا القدر أو ذاك رسمياً، ليس إلا جانباً من التراث لم يكن معترفاً به ومقبولاً بصورة كاملة. من الواضح أن إدراك التراث المؤسساتي من قبل  المتمردين يمكن أن يكون شديد الاختلاف عن إدراك الأقربين من النظام ومن جيشه ومن موظفي المديرية العامة للأثار والمتاحف. ليس ا المتمردين جميعاً ولا شك حلبيين لكنهم بأصولهم الاجتماعية والإقليمية وغالباً الريفية، قريبون من الحضريين الجدد الذين استقروا عندهم في الأحياء الشرقية. ليس لجيوش النظام إلا نادراً صلة مع المدينة ويمكن أن يعتبروا غير حضريين جاؤوا من مناطق بعيدة، إلا أن عليهم نظرياً أن يأخذوا بعين الاعتبار توجيهات موظفي المديرية العامة للآثار والمتاحف، الذين يضمنون من وجهة نظر مؤسساتية وينخرطون غالباً شخصياً بحكم وضعهم حماةً للتراث.
وفوق ذلك، فإن رجال جيش النظام ومعداتهم يستقرون غالباً عملاً بمبدأ تكتيكي في أماكن حساسة يفترض ألا تهاجَم وتدمر، كالصروح التراثية، والأحياء ذات الكثافة السكانية، والمؤسسات الحساسة، والحدائق والأراضي الزراعية الخصبة والهشة، ويمارسون منذ تاريخ طويل استخدام شكل موسع من "الحزام البشري". وقد رأينا دوماً حول دمشق دبابات هجومية ترابط في مزارع الزيتون وبحلب منذ بداية الحرب الحالية، في مبان مريحة تقع في المنطقة التاريخية، المصنفة تراثاً عالمياً مثل فندق كارلتون في المستشفى الوطني القديم عند قدم القلعة، أو المدرسة الخسروية المبنية من قبل سنان حوالي 1530، تم تفضيلها عند الاختيار. كما أن القلعة والمسجد الكبير القريبين من خط الجبهة، وهما ينطويان على أهمية استراتيجية، هما أيضاً مكانان مقدسان للهوية الحلبية والوطنية وكانا كهدفين موضع تنازع خلال سنوات أو محتلين بسرعة من قبل عسكريي النظام.
يمكن لعودة إلى الماضي أن تُعَلِّم: خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات، في الحقبة التي حددت فيها أولى مناطق حماية التراث في البلدية، نظر السكان إلى منع تهديم أو تعديل النسيج القديم للصروح في هذه المناطق التي كانت تغطي آنئذ عدة هكتارات بوصفها تدخلاً من قبل السلطة في الأموال والامتيازات الخاصة المعترف بها منذ قرون. وكانت فكرة الاستملاك للمصلحة العامة غريبة جداً على الممارسات القديمة، وكانت قد أُدْخِلت أولاً من قبل الإدارة العثمانية باسطنبول لإنجاز ترميم وإعادة بناء ما أصابته حرائق القرن التاسع عشر. وكان الانتداب الفرنسي قد اقترح الاستملاك كي يتمكن من النفاذ إلى النسيج العمراني لكنه لم ينجز فيه إلا القليل بسبب كلفته ونتائجه الاجتماعية والاقتصادية وكذلك التحفظات البلدية. كان هذا الحذر يتواجد في فترات الاضطرابات خلال سنوات السبعينيات بحلب: فقد دعيت ميليشيات السلطة المسلحة من قبل قريبين سياسياً لحماية أنفسهم من تدخل مديرية الأثار والبلدية التي كانت تود حماية نصب التراث المسماة مؤخراً من الهدم والتي كانت ستسوى بالأرض من قبل متعهد بناء. كما ألغيت في النهاية خلال الثمانينيات بعض الاختراقات الكبرى عبر المدينة القديمة التي كان يجب إنجازها لأسباب الأمن السياسي (ضد الإخوان المسلمين).

أمثلة محددة ذات دلالة في تدمير التراث
تعود أولى ضروب المسِّ بالتراث المؤسسي إلى خريف 2012، بُعيْد دخول المتمردين إلى حلب، أي بعد عام من بداية الصراع السوري.
* نهاية أيلول 2012. بيت زمريا في الجديْدة. في المنطقة المصنفة "تراثاً عالمياً" من قبل اليونسكو. من بين أوائل البيوت التاريخية المدمرة، وكان قد رمم بهدف الاستثمار السياحي. بيت جميل متوسط الحجم في حي مسيحي قديم، بني في القرن الثامن عشر، وحول إلى فندق ومطعم في التسعينيات. احتله  المتمردون عند دخولهم المدينة من الشمال عام 2012، واستخدم مركزاً للقيادة، ثم هوجم من قبل قوات النظام التي طردت ا المتمردين. وقد أظهرت صور نشرت على شبكات الأنترنت في 26 أيلول 2102 الأضرار التي خلفتها المعارك: لم يكن هناك تدمير للبيت عامة بل دون شك نهب الخشب المزخرف القديم وكل اللوازم السياحية. والصور المنشورة بعد عدة أيام (1 تشرين أول 2012) أظهرت المباني مدمرة كلياً تقريباً، ومحروقة، بهدف إخفاء سرقات ما؟
* أحرقت يومي الجمعة 28 والسبت 29 أيلول 2012 الأسواق المركزية وقصفت جزئياً في غياب التجار وبعد النهب دون شك. كما دُمِّرَ سوق الذهب كلياً.
حسب التجار، لم يكن هناك جيش داخل الأسواق بل  المتمردون فقط. "كان الجنود يصوبون انطلاقاً من حواجز موضوعة خارج الأسواق، مثل أحياء عقبة التاريخية في الأعلى والعواميد أو أيضاً بالقرب من المسجد الأموي.
* منتصف تشرين أول 2012، قصف ونهب المسجد الكبير يوم 3 تشرين أول، قنبلة (شاحنة مفخخة) ضد نادي الضباط، في وسط المدينة.
* شباط 2013، صور نشرت عن تدمير البلدية القديمة والذي سبق أن حدث قبل ذلك، في تشرين أول 2012. تدمير إثر معارك على الجبهة، بين فريقين؛ دون استخدام التفجير بالديناميت من تحت الأرض.
* الأربعاء 24 نيسان 2013، انهارت مأذنة المسجد الكبير التي تعود إلى عام 1099. وتبادل ا المتمردون والنظام الاتهام بهدمها.
 * بتاريخ 8 أيار 2014، تم تفجير فندق كارلتون، القائم عند قدم القلعة، وهو المستشفى الوطني القديم الذي بني في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك عن طريق وضع الديناميت من تحت الأرض مما أدى إلى تدميره كلياً تقريباً. وكان يستخدم من قبل النظام كقاعدة عسكرية.
* صيف 2014، دمر المسجد/المدرسة الخسروية كلياً من قبل المتمردين (عن طريق الديناميت من تحت الأرض). وقد كان مسجداً عثمانياً أمبريالياً بناه سنان في القرن السادس عشر. أما المدرسة فهي دينية صوفية (انظر مقال توماس بييريه Thomas Pierret 2014)، كما كانت مدرسة دينية وقاعدة عسكرية للنظام.   
* كانون أول 2015، بيت غزاله وحي الجديْدة (ساحة الحطب، وقف إبشير باشا وبهرام باشا، إلخ). وقد أعطت صورة قمر صناعي بثت عن طريق Digital Globe inc/Asor CHI حالة أماكن المنطقة المدمرة على نحو واسع عن طريق الديناميت تحت الأرض والقصف المدفعي. هذه المنطقة التي تتواجد على خط الجبهة، وشديدة الثراء تاريخياً وثقافياً، وتؤلف قلبَ الأحياء المسيحية التاريخية، دُمِّرَت بفعل ضربات النظام والمتمردين. أما بيت غزاله الذي رممته المديرية العامة للآثار والمتاحف بين 2007 و2011 فقد نهب عام 2012، في بداية الصراعات، من أجل سرقةٍ منظمةٍ للخشب المزخرف القديم.
** 15 آب 2016 (نشرت الصور عن طريق البريد الإلكتروني)، بيت قديم شديد الجمال يطلق عليه خان الدّرَج، يعود إلى بداية القرن السابع عشر أو قبل ذلك؟ رُمِّمَ وصار مركز ورقة، ويشتمل على مركز ثقافي وروحي، ومكتبة، ونظم قبْل الحرب من قبل حلبيين صاروا معارضين. دُمِّرَ بالقصف الجوي أو بقذائف المدفعية من قبل النظام؟

اختيار أهداف التدمير من قبل المتحاربين
أضخم ضروب تدمير تراث الصروح الرسمية بحلب كان على أيدي المتمردين ، عن طريق النسف بالديناميت من تحت الأرض. والأهداف المستهدفة هي أولاً صروح أو أحياء، استقر فيها رجال النظام، وهم عسكريون عموماً، إلا أن المقصود أيضاً في المدينة القديمة كانت أماكن محمية من قبل مديرية الآثار والمتاحف أو أنها تحت إدارة الأوقاف الإسلامية، وأماكن عامة للاستخدام الديني من قبل المسلمين، وكلها تقريباً قديمة. هذه الأموال هي بصورة عامة صروح تاريخية مصنفة منذ زمن طويل، وألفت فيما بعد جزءاً من التراث العالمي الذي صنفته اليونسكو؛ دُمِّرَ كثير من المساجد على هذا النحو. وفجرت أماكن أخرى بالديناميت، من قبل  المتمردين على ما يبدو، كانت تنظيمات سياحية أنجزت أو لا زالت مشروعاً مثل المجموع الموجود عند الطرف الجنوبي للقلعة وقسم حّيْ الجديْدة حول ساحة الحطب والأوقاف العثمانية لبهرام باشا وإبشير باشا، وبالتالي فهي استثمارات خاصة أو هبات دولية، مثل إسهامات مؤسسة آغا خان أو الاستثمارات الألمانية وبرنامج ج ت ز (GTZ)، أو برامج السياسة العمرانية التي تمارسها البلدية. بعض هذه الأماكن، مثل فندق كارلتون، والمدرسة الخسروية، والفندق الجديد قيد الإعداد في السرايا الفرنسية القديمة، كانت فعلاً محتلة من قبل مجموعات صغيرة من جيش النظام. وكانت معظم المباني المفجرة بالديناميت في هذه المنطقة أيضاً مبان أو مؤسسات تملكها الدولة في الأصل، وتعود إلى الانتداب الفرنسي أو إلى الحقبة العثمانية (وكثير منها من القرن التاسع عشر).

أحد الأسواق القديمة لمدينة حلب قبل وأثناء الحرب
 
كان التدمير شديد الاتساع بواسطة الديناميت من تحت الأرض في حي الجديْدة يستهدف خصوصاً الفضاء العام المنظم، الذي أعيد تقويمه، في إطار الاستثمارات السياحية الخاصة أو الحكومية الهامة، وكذلك الأوقاف العثمانية من القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، التي كانت معدة لتكون مواقع استثمارات سياحية. ولم يتم تحديد أصل السرقات وآثار القصف على متحفي بيتيْ غزاله وآتشيك باش على وجه الدقة. وقد سُرقَ هذان البيتان الواقعان على خط والعائدان إلى مديرية الآثار، وخصوصاً الخشب المزخرف والتحف فيهما. ولا يبدو أن المتفجرات أو القذائف المستخدمة هي آثار ديناميت من تحت الأرض ولا نتيجة قصف جوي، بل يمكن أن تكون آثار قنابل مدافع هاون أو دبابات، وبالتالي آتية من هذا أو ذاك من المتحاربين. وتدمير التراث الذي اتهم به  المتمردون يمكن أن يكون أيضاً نتيجة استفزازات النظام من أجل اتهامهم المتمردين.
كثير من هذه الأفعال مصورة سينمائياً بطريقة مهنية عالية انطلاقاً من نقاط عديدة عالية. والفيديوهات الموقعة من قبل الجماعات المتمردة، غالباً الجبهة الإسلامية، موضوعة على الأنترنت وتؤلف أشكالاً من الدعاية.
وعلى العكس، فإن جوهر التدمير الذي قام به النظام لا يتعلق بالأحياء القديمة والتراث المؤسسي، الذي ينظر إليه بصورة عامة بوصفه معبراً عن النظام أو من أملاك الدولة، بل بقصف الأحياء الشعبية في الشرق، وغالباً مع معدات قنابل عنقودية. ومن المعلوم أن هذا القصف يمكن أن يترافق مع استخدام غاز المعركة. والأهداف المقصودة هم المتمردون  المقيمون في هذه الأحياء ومن دون شك أيضاً وبصورة قصدية السكان، الذين حددناهم من قبل بوصفهم حضريين لم يندمجوا تماماً وغالباً ما يكونوا موضع احتقار، لكنهم أيضاً كانوا أمناء نمط من الحياة والتقاليد الشعبية وقبل كل شيء سكاناً لا متحاربين. كثيرون منهم رحلوا.
 
التراث المادي واللا مادي
أهداف  المتمردين أيديولوجية وتستهدف النظام، وفساده واستبداده الإجرامي، في بعض تعبيراته. في حين أن التدمير من قبل النظام يستهدف على العكس الفضاء المادي للحياة اليومية للسكان. والمقصود عرقلة استمرارية العائلات، ومعاقبة أولئك الذين يساعدون ا المتمردين، والدفع في اتجاه الفوضى والهجرة عن طريق قطع الجذور كما تقطع الجذور في الريف عند قطع الأشجار، فتحرق البيوت، وتدمر المحاصيل، والمؤن، لجعل العودة صعبة أو مستحيلة. وأخيراً، فإن الأهداف العسكرية للتدمير عن طريق القصف في هذه الأحياء التي يعسر على الدبابات وسواها من العربات المحملة بالمدافع دخولها هي أيضاً استراتيجية في حرب العصابات.
حتى وإن كان من الممكن قياس مستوى الخطورة أو الطابع الإجرامي لهذه الأفعال، فإن الحصيلة يجب أن تكون شاملة بما أن الهدف هو تدمير المدينة مأخوذاً بصورة إجمالية، حتى وإن بقيت الأحياء في الغرب الذي يسيطر عليه النظام، وهي معسكر محصن، زمناً طويلاً بمأمن من قذائف ووسائل  المتمردين الأخرى، الضعيفة نسبياً، للتدمير، كما تشهد على ذلك الخريطة التي وضعت بتاريخ الأول من شباط 2016 من قبل مؤسسة
UNOSAT/UNITAR(Percentage of buildings damaged, Aleppo, Syria, UNOSAT, UNITAR, synthèse 01-02-2016
أو الصور التي تحدد مكان حواجز الرقابة من حول هذه الأحياء، والتي تمنع مثلاً دخول السيارات المفخخة
هذه الحرب هي حرب على المدينة وعلى الحياة ومنها حرب ضد التراث الأكثر جوهرية والأكثر عادية، تراث الدكاكين وفضاءات التموين، الحي والدرب الذي يتشارك فيه مجتمع كامل من الجيرة، وأخيراً البيت، فيما وراء التراث الثقافي المؤسسي: فالمدينة، بما هي فضاء حياة، ليست تراثاً بالطريقة نفسها التي هو عليها موقع أثري أو تحف في متحف. لقد مسَّ التدمير الذي قام به النظام على هذا النحو بصورة أخطر النسيج الحياتي، والاقتصادي، والفضاء العام الشعبي في مضمونهم اللامادي، والرمزي أو بصورة أبسط الممارسات الاجتماعية والحيوية. ففي الأحياء الشرقية، كان ما استُهدِفَ ودُمِّر هو مجموع هذه التجهيزات الشعبية الحديثة، التي لا تبدو تراثية، وحيث المادي فيها هو حامل وإطار الحياة الذي تندرج فيه بصورة قوية حياة الناس اليومية، وضمن منطق يحمل على التفكير بأن مدينة مختلفة سوف ترى النور بعد الحرب، مقطوعة عن الموروثات وأنها لن تبنى من جديد على القواعد نفسها والمنطق نفسه.

المراجع المختارة:
Sélection bibliographique :
Boissière Thierry et David Jean-Claude (dir) 2014, Alep et ses territoires Fabrique et politique d’une ville 1868-2011, 25 articles (20 auteurs), IFPO (Institut Français du Proche-Orient), Damas-Beyrouth janvier 2014 590 pages.
Boissière Thierry et David Jean-Claude (dir.) 2014, Alep et ses territoires : Fabrique et politique d’une ville (1868-2011). Nouvelle édition [en ligne]. Beyrouth - Damas : Presses de l’Ifpo, 2014 (généré le 29 septembre 2014). Disponible sur Internet: Link ISBN : 9782351595275.
Boissière Thierry et David Jean-Claude 2014, « La destruction du patrimoine culturel à Alep : banalité d’un fait de guerre ? » 2014, Confluences Méditerranée 89, 163-171.
Boissière Thierry et David Jean-Claude 2014c, « Guerre contre l’État, guerre contre la ville : Alep, otage des combats en Syrie », 2014, Moyen-Orient 24, octobre-décembre, 84-91 (carte p. 89).
David Jean-Claude 1996, “Les territoires des groupes à Alep à l’époque ottomane. Cohésion urbaine et formes d’exclusion”. Revue du Monde Musulman et de la Méditerranée, 79-80, Biens communs, patrimoine collectif et gestion communautaire dans les sociétés musulmanes, 1996, Aix-en-Provence : 225-254.
David Jean-Claude 1997a, “Urbanisme contemporain et tradition en Syrie”, Sciences sociales et phénomènes urbains dans le Monde Arabe. Fondation Abdel Aziz al-Saoud. Casablanca, 1997 : 185-191.
David Jean-Claude 2014 « Production et qualification de l’espace urbain ;
 entre informel et corruption », Alep et ses territoires Fabrique et politique d’une ville 1868-2011. Dir .Thierry Boissière et Jean-Claude David, IFPO (Institut Français du Proche-Orient), Damas-Beyrouth janvier 2014 179-196.
David Jean-Claude 2014 « 
Valorisation du patrimoine mondial alépin.
Valeur d’usage et référence identitaire,
 attraction touristique, vitrine du nouveau centre », Alep et ses territoires Fabrique et politique d’une ville 1868-2011. Dir .Thierry Boissière et Jean-Claude David, IFPO (Institut Français du Proche-Orient), Damas-Beyrouth janvier 2014 393-417.
David Jean-Claude 2015 « Décrire la ville, écrire le patrimoine », Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée [En ligne], Etudes libres inédites, mis en ligne le 03 juillet 2015, URL : Link
David Jean-Claude 2016 « Décrire la ville, écrire le patrimoine », Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée, n° 139, juin 2016, 193-204.
Delaistre Anne-Fleur et Roussel Cyril et alii 2014, « La frontière turco-syrienne dans la province d’Alep : un nouvel espace de circulation », in Alep et ses territoires Fabrique et politique d’une ville 1868-2011. Dir .Thierry Boissière et Jean-Claude David, IFPO (Institut Français du Proche-Orient), Damas-Beyrouth janvier 2014 265-279.
Hivernel Jacques 2001, « La madâfa de bâb al-Nayrab, un repaire dans la ville, un relais dans l’espace », Espaces et sociétés 2001/1 n°108, 253-316.
Hivernel Jacques 2004, « La vengeance de sang dans un quartier d’Alep : entre justice privée et justice d’État », Droit et Culture p. 147-166.
Kawakbi Salam 2016, Entretien avec Salam Kawakibi, « Syrie : Une vie politique à inventer sous les bombes », Confluences Méditerranée 2016/3 (N° 98), p. 115-123
Kawakbi Salam 2016, Link
Méouchy Nadine 2014, « Les temps et les territoires de la révolte du Nord (1919-1921) », in Alep et ses territoires Fabrique et politique d’une ville 1868-2011. Dir .Thierry Boissière et Jean-Claude David, IFPO (Institut Français du Proche-Orient), Damas-Beyrouth janvier 2014 265-279.
Meouchy Nadine 2016, "Etat et société dans la Syrie d’aujourd’hui. Une histoire d’impensés et d’impasses", Bozzo Anna, Luizard Pierre-Jean, dir., Vers un nouveau Moyen-Orient ? Etats arabes en crise entre logiques de division et sociétés civiles. 147-172.
Pierret Thomas 2014, « Le clergé sunnite alépin : provincialisation et affirmation de l’élément tribalo-rural », in Alep et ses territoires : Fabrique et politique d’une ville (1868-2011). Nouvelle édition [en ligne]. Beyrouth - Damas : Presses de l’Ifpo, 2014 (généré le 29 septembre 2014). Disponible sur Internet: Link. ISBN : 9782351595275.
Pierret Thomas 2014, « Le clergé sunnite alépin : provincialisation et affirmation de l’élément tribalo-rural », in Alep et ses territoires Fabrique et politique d’une ville 1868-2011. Dir .Thierry Boissière et Jean-Claude David, IFPO (Institut Français du Proche-Orient), Damas-Beyrouth janvier 2014 265-279.
Sakkal Salwa 2014, « Croissance et contrôle de l’espace. L’informel et l’urbanisme, la municipalité et l’État » in Boissière Thierry et David Jean-Claude (dir.) Alep et ses territoires Fabrique et politique d’une ville 1868-2011, Nouvelle édition [en ligne]. Beyrouth - Damas : Presses de l’Ifpo, 2014 (généré le 29 septembre 2014). Disponible sur Internet: Link. ISBN : 9782351595275
Sakkal Salwa 2014, « Croissance et contrôle de l’espace. L’informel et l’urbanisme, la municipalité et l’État » in Boissière Thierry et David Jean-Claude (dir.) Alep et ses territoires Fabrique et politique d’une ville 1868-2011, IFPO (Institut Français du Proche-Orient), Damas-Beyrouth janvier 2014 197-227.
Sauvaget Jean 1941, Alep, essai sur le développement d’une grande ville syrienne des origines au milieu du XIXe siècle.

بدرالدين عرودكي
كاتب ومترجم سوري، له العديد من الكتابات والدراسات الثقافية، ترجم أكثر من ثلاثين كتاباً عن الفرنسية مثل "تدابير التاريخانية"، "نظام الزمان"، "لا بد من قتل شاتوبريان".
جان كلود دافيد

يعمل جان كلود دافيد (Jean-Claude David) حالياً باحثاً مشاركاً ضمن فريق آثار الشرق في المركز القومي للبحث العلمي (Archéorient du CNRS) في بيت الشرق والمتوسط، بمدينة ليون (فرنسا).

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.