أسْلَمَةُ حيّ: ميراث الشيخ أحمد كفتارو

24 كانون1/ديسمبر 2016
 
ترجمة: بدرالدين عرودكي

نُشِر عام 2007 كتاب بالفرنسية حول سوريا تحت عنوان "سوريا حاضراً: انعكاسات مجتمع.  تحرير: زهير غزال، بودوين دوبريه، يوسف كرباج، محمد الضبيات" وقد ضمّ الكتاب 59 ورقةً وبحثاً حول كافة الجوانب الاجتماعية والدينية والديموغرافية في سوريا المعاصرة.
ونظراً لكبر حجم الكتاب والذي يبلغ ما يقارب ال (880 صفحة) قمنا باختيار 10 نصوص من هذا الكتاب، ومن ثم تواصلنا مع الدار التي قامت بنشر الكتاب (SINDIBAD ACTES SUD) والتي تعد واحدة من أعرق دور النشر الفرنسية. وبناء على هذا التواصل حصلنا على حقوق ترجمة ونشر الدراسات السابقة بشكل حصري للغة العربية. وفي هذا السياق لا بد من أن نوجّه الشكر لكل من الصديق بدر الدين عرودكي الذي قام مشكوراً بترجمة فهرس الكتاب عن الفرنسية مما سهّل عملية اختيار النصوص، وللأستاذ فاروق مردم بك الذي كان له الفضل الأكبر في تسهيل عملية التواصل مع دار النشر.
غلاف كتاب سوريا حاضراً
في النص الأول الذي ننشره تحت عنوان "أسلمة حي: ميراث الشيخ أحمد كفتارو" يسعى الباحث السويدي ليف ستينبرغ (مدير دراسات الشرق الأوسط في جامعة لوند السويدية) إلى تقديم قراءة اثنوغرافية حول مجمّع "أبو النور الإسلامي" الذي أسّسه الشيخ أحمد كفتارو، وحول الحي المحيط بهذا المجمع. كما يهدف إلى دراسة مسألتين، الأولى تتعلق بما دعاه الباحث "توريث البركة" التي شهدها المجمّع بعد وفاة أحمد كفتارو، إذ سعى المجمّع إلى "تقنين" هذا التوريث استجابة للتغير العام في المجتمع السوري، أما الثانية فتتعلق بمستوى تمدّد (مفهوم البركة) لدى الجماعة من السياق المحلي إلى السياق العالمي، الأمر الذي جعل من الجماعة "منظمة عابرة للقوميات" على حد تعبير ستينبرغ.
والجدير ذكره هنا، أن هذا النص هو أول نص ينشر من بين العشرة نصوص، ولاحقاً سيتم الإشارة إلى باقي المواد المترجمة تحت عنوان الكتاب الأساسي "سوريا حاضراً: انعكاسات مجتمع".... (رئيس التحرير)

سوريا حاضراً: انعكاسات مجتمع (10-1)

أسْلَمَةُ حيّ: ميراث الشيخ أحمد كفتارو


خلال معظم سنوات القرن العشرين، كان مسجد "أبو النور"، القائم على سفوح جبل قاسيون بدمشق، مبنى صغيراً تبلغ مساحته حوالي 70 متراً مربعاً.  وكان موقعه في منطقة من المدينة تسكنها أكثرية كردية قد جعل من المسجد مسكنَ شيخٍ ذي أصول كردية وملتقى أتباع فرعٍ من الطريقة النقشبندية الصوفية. ورث العالم الديني الشاب أحمد كفتارو عن أبيه بعد وفاته عام 1938 وظيفته بوصفه شيخ هذه الطريقة الصوفية وواعظاً في المسجد. وقد رسخ كفتارو خلال سنوات 1940 و1950 موقعه كعالم ديني. ثم صار في عام 1964 مفتي سورية، وهي الوظيفة التي شغلها حتى وفاته في الأول من أيلول/سبتمبر 2004. وتكريماً له، غيرَّ مجمع "أبو النور" في خريف عام 2002 اسمه فصار مجمع الشيخ أحمد كفتارو. وبات هذا المجمع اليوم تحت إدارة أحد أبنائه، صلاح الدين كفتارو. 

طوال عهد أحمد كفتارو، تطور مسجد "أبو النور" الصغير وتحول إلى مجموعة واسعة من المباني تضم قاعة كبرى للصلاة، وفضاء تربوياً، ومكتبة، ومكاتب، ومخازن صغيرة. وفي السنوات الأخيرة هذه[1] اقتضى التوسيع أيضاً بناء مساكن طلبة ملحقة بالمسجد ودار أيتام يمكنها أن تستقبل مائتي فتاة من الحي. وينوي المجمع اليوم شراء الممتلكات الواقعة بين المسجد ودار الأيتام لتوسيع مجموعة المباني. وفي إطار هذا التوسيع، حاول المجمع أن ينشئ جامعة حديثة مختصة بالدراسات الإسلامية. كان بوسع الطلبة في مجمع "أبو النور" من قبل الحصول على الدكتوراه بفضل الاتفاقيات المبرمة مع جامعات إسلامية في البلدان الإسلامية، مثل جامعة أم درمان (السودان)  ومنذ عهد قريب جامعة الأزهر (القاهرة). وكما يقول صلاح الدين كفتارو، هناك 680 طالباً تم تسجيلهم لعام 2004 في برنامج مدته أربع سنوات خاص بجامعة الأزهر. وهكذا فإن واحداً من الرهانات هو أن يتم تحويل المجمع إلى جامعة إسلامية في سورية. دفع هذا الطموح المجمع للبحث عن شركاء صالحين من بين الجامعات الأوربية. يبقى أن الفكرة العامة هي أيضاً الاستجابة للاتجاه الحالي للمجتمع السوري في خصخصة التعليم. ويتطلع أحد المطامح إلى تقديم برامجه الدراسية بوصفها انعكاساً لتأويل وسطي للإسلام، عملاً بالمعايير التي تفرضها الدولة في هذا المجال، مع الأمل في جذب رعاة ماليين ممكنين لها، وخاصة من الجزيرة العربية. 

في بداية سنوات السبعينيات، بنيت عمارة جديدة من أجل المسجد الذي وُسِّع خلال السنوات السابقة وبات يضم تسعة طوابق ويمتد على مساحة قدرها 1800 م2...وقد جدد عام 2004 وتم تبليط باحاته الخارجية. وبين عامي 2005 و2006، تم تجديده في الداخل. وقد جرى تمويل التجديد من قبل مُحسِنٍ ثري من الأسرة الحاكمة في الإمارات العربية المتحدة. وقد شرح صلاح الدين كفتارو خلال محادثة لي معه أنه تطرق في حديث على قناة الجزيرة إلى أهمية الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتحدث لصالح تأويلٍ معتدلٍ للإسلام. وغداة بث البرنامج على القناة، تلقى صلاح الدين كفتارو اتصالاً هاتفياً من قبل أمير من الأسرة الحاكمة. وبعد الغداة، التقى الأمير الذي طلب إليه أن يُعدِّدَ له ما يحتاج إليه. عبَّر صلاح الدين عن رغبته في تجديد المسجد وضرورة تزويد المجمع بمكيفات للهواء. وعد الأمير بتمويل المشروعيْن. وعلى لوحة وضعت عند المدخل لتسجيل تاريخ تجديد المسجد كتب اسم المُحسِن، الشيخ دياب بن زايد النهيان. يعكس هذا المثل غموضاً في عملية الهبات. ومع ذلك، كانت نتائج تبليط باحة مجموعة مباني المسجد وتجديد دار الأيتام للفتيات بالنسبة إلى الحيّ هائلة. فمنذ التجديد، بدا المجمع أكثر هيبة بكثير مما كان عليه البناء القديم، وذا لون ترابي ينصهر في محيطه. هكذا يعزز المظهر المهيب لمجموعة المباني فكرة سلطة تأويل الإسلام الذي يمثله المجمع. 

 ويمكن أن تتسم المنطقة المحيطة بمسجد "أبو النور" بوصفها جزءاً من دمشق يتمثّل فيه الدين عادة بصورة حسنة، وخصوصاً من خلال المدارس والمساجد. أشهرها مسجد الصوفي الأكبر محي الدين بن عربي (المتوفي عام 1240)، والذي يقع على مسافة عشر دقائق مشياً على الأقدام من مسجد "أبو النور". موقع آخر ذائع الصيت هو قبر الشيخ خالد (المتوفي عام 1827)، الموجود في مكان أعلى قليلاً على سفوح جبل قاسيون. ويبدو أن الدمشقيين في أيامنا هذه ينظرون إلى هذا الحي باعتباره حياً دينياً ومحافظاً. كما أن أحياء كثيرة بدمشق يُنظر إليها إلى جانب سمعتها بمفردات الثراء، حسب انتمائها الديني، أو القبلي، أو العائلي، أو الإثني. ومع ذلك، قليلة هي الدراسات الإثنوغرافية التي اهتمت بتنوع الهوية الدينية في أحياء دمشق، باستثناء الأحياء شديدة الوضوح، مثل الحي "المسيحي" أو الحي "المسلم". أما في حالة "أبو النور"، فقد كان الحي من قبل ذا أغلبية كردية، لكن التحول العمراني والنمو المادي لدمشق جعل المنطقة أكثر تبايناً اجتماعياً وإثنياً مما كانت عليه قبل عدة عشرات من السنين. معظمُ السكان الذين يعيشون في الأحياء المحيطة بالمسجد هم من السنة. ويقع مبنى المجمع في حي سكني؛ ولكن بالقرب من المبنى، توجد دكاكين صغيرة، وعدد من المكتبات، ومحلات لبيع الأغذية، وأسواق صغيرة وبائعون متجولون يبيعون كل شيء، من المنتجات ذات الطابع الإسلامي ــ المسابح، والعطور، وصور أحمد كفتارو.. ــ إلى الملابس النسائية الداخلية.

خارج مجمع الشيخ كفتارو

وتشارك جميع الدكاكين في بيع فيديوهات تتضمن دروس وصور الشيخ كفتارو. وتسود الملصقات والصور صورة كفتارو في صحبة السياسيين المشهورين مثل حافظ الأسد، والزعماء الدينيين المسلمين أو المسيحيين، أو النجوم المشهورين مثل بطل الملاكمة في الوزن الثقيل السابق محمد علي، أو أيضاً صور للشيخ في حديقته.

يوم الجمعة هو اليوم الأكثر حركة في الأسبوع. فالطرق المحيطة بالمسجد ممتلئة بالناس الذين يروحون ويغدون، بينما تفتح كل الدكاكين والمحلات أبوابها. أما داخل المبنى، فالمؤمنون يجتمعون فيه منذ ساعة مبكرة؛ كثير منهم يجلس على الأرض، يؤدون بصمت طقس الذكر. في حين يثرثر آخرون مع أصدقائهم بانتظار وصول الشيخ. صوت يخرج من مكبر الصوت يسرد السلسلة، أي سلسلة مشايخ هذه الطريقة الصوفية، تقطعه أحياناً صلوات على الأنبياء جميعاً، وتلاوات قرآنية، وأدعية خاصة. أما الدقائق التي تسبق وصول الشيخ كفتارو فهي حافلة بالحماسة، وقبيل دخوله المسجد على وجه الدقة، يبدأ أحدهم بإنشاد نشيد استقبال الشيخ. فلنشيد "الله جليل" شعبية لدى عدد لابأس به من المسلمين، وبصورة خاصة في الحلقات الصوفية. إنه النشيد الذي يفترض أن الناس الذين استقبلوا النبي محمد عند دخوله المدينة المنورة أنشدوه. وقد نُقِدَت هذه الطريقة في استقبال كفتارو في المسجد من قبل السلفيين، الذين أكدوا بوجه خاص على أنه لا يجب أن يعامَل كفتارو كما يُعامل النبي وأشاروا خصوصاً إلى واقعة وقوف المؤمنين في المسجد لدى وصوله، مستندين إلى حديث نبوي يتحدث عن جلوس الناس عند دخول النبي مسجداً ما. حاول ابن كفتارو خلال السنوات الأخيرة من حياة أبيه أن يحمل الناس على الجلوس حين يدخلا كلاهما المسجد. وكان الهدف من ذلك إضعاف نقد السلفيين من خلال تأكيده على أن صراعاً من هذا النوع يُحوِّلُ الأنظار عن المسائل الجوهرية.

لنسجل أن العادة المتبعة أيام الجمعة قد تغيرت بعد وفاة الشيخ أحمد كفتارو. فالمحاضرة الصباحية حول القرآن يقوم بها حالياً شيخان آخران. وهي أكثر إيجازاً مما كانت عليه من قبل، ويتبعها عرض فيلم يستمر عشرين دقيقة. والفيلم الذي يُعرَضُ على جدار قاعة الصلاة الكبرى عبارة عن مونتاج محاضرة لأحمد كفتارو. تلي العرض صلاة الجمعة التي تشتمل على الخطبة التي يلقيها حالياً صلاح كفتارو وهي أطول من تلك التي كانت تلقى في زمن أبيه.

بعد المحاضرة حول القرآن وصلاة الجمعة، يفضل عدد من الزوار، والشباب منهم خصوصاً، البقاء لمتابعة دروس حول معاني الآيات القرآنية. فيجتمعون من حول أساتذة يجلسون في زوايا مختلفة من المسجد ويتابعون دراستهم طوال فترة ما بعد الظهر. وآخرون يغادرون، ومن بينهم من يضع في علب كبيرة موضوعة عند مخرج المسجد مالاً مخصصاً لتمويل أعمال المجمع. على أن يوم الجمعة ليس هو يوم النشاط الوحيد في مسجد "أبو النور". فخلال يوم السبت تخصص قاعة الصلاة الكبرى، الحرم، للنساء، أما خلال بقية أيام الأسبوع فالطلبة يروحون ويجيئون داخل مبنى المجمع الكبير. كثير من الطلاب والطالبات يحضرون من ثمَّ دروس المساء. وبسبب وجود قاعات النوم والمكتبة وقاعة الطعام الكبرى الموجودة داخل المبنى الكبير، فإن الطلبة والمسؤولين يستمرون في الدخول إلى المبنى والخروج منه حتى ساعة متأخرة من الليل. 

يؤكد المسؤولون أن أكثر من 7000 طالب يتابعون الدروس خلال النهار في قسم من المجمع المخصص للتربية. ولكن وفق ما يذكره موقع المجمع الإلكتروني (www.abunour.net)، يبلغ مجموع الطلبة حوالي 12000 طالب بمن فيهم أولئك الذين يتابعون دروس المساء. لا يوجد الاختلاط بين الجنسين فحسب، بل بين الجنسيات أيضاً. إذ أن الطلبة حسب الموقع، جاؤوا من 55 بلد. على هذا النحو، تطبع الروابط مع فروع النقشبندية في أسيا الوسطى ويوغوسلافيا سابقاً بطابعها الحياة في مجمع "أبو النور". كذلك، ارتبط المجمع حوالي نهاية القرن العشرين بعلاقة مع زعيم المسلمين الأفرو ـ أمريكيين، المسمى وريث الدين محمد. وفي شهر كانون الثاني/ديسمبر 1999، وخلال زيارة قام بها لمجمع "أبو النور"، قدّمَ نفسه بوصفه تلميذ أحمد كفتارو. وهو ما يفسر وجود مسلمين أفرو ـ أمريكيين في هذا المسجد جاؤوا لدراسة الإسلام واللغة العربية. من الممكن أيضاً ملاحظة جماعات أخرى: من مسلمي جنوب شرق آسيا، ومن معتنقي الإسلام القادمين من أمريكا الشمالية ومن أوربا ومن أبناء وبنات أشخاص هاجروا إلى أوربا وأمريكا. لكن غالبية الطلبة هم بالطبع سوريون.  
 
الشيخ أحمد كفتارو مع الملاكم الأفرو- أميركي محمد علي كلاي
 
يتم تجنيد التلامذة من مختلف الفئات الاجتماعية. بعضهم ينحدر من عائلات تلامذة سابقين منذ عدة أجيال، وآخرون شباب نشؤا بعيداً عن أية علاقة عائلية خاصة مع الصوفية. تسمح وسائط الاتصال الجديدة بالاستماع إلى الدروس، والمواعظ والدروس العامة وبأن يتم تلقي تعاليم كفتارو على هذا النحو. وتؤلف المساعدة الاقتصادية للعائلات وسيلة أخرى لتعزيز علاقات التلامذة بالطريقة الصوفية. خلال زيارة للمسجد تمت عام 2005، كانت مئات من النساء يقفن ضمن صف طويل بانتظار أن يتلقيْن المساعدة المخصصة للعائلات الفقيرة في الحي. فالقدرة على مساعدة عدد كبير من العائلات تُعَزِّز تأثير المجمع في الحي. وربما لم تكن صدفة أن كان هذا المال قد تم تلقيه من خارج المبنى الذي يؤوي قبر الشيخ أحمد كفتارو.

هناك بالطبع الكثير من الأسباب التي حملت الشباب السوري على الالتفات إلى تربية وتعاليم مجمع "أبو النور". والكثير من بين شباب التلامذة الأكثر إخلاصاً لكفتارو مَنْ يتبع نصيحته الخاصة باكتساب تربية دنيوية وتربية إسلامية في الوقت نفسه. ففي محاضراته كما في محادثاته الخاصة أكد كفتارو مرات عديدة على أن بالوسع تربية مسلم حديث عن طريق الجمع بين التربيتين الدينية والدنيوية. ومن مجرد وجهة نظر عملية، يُنظَرُ إلى هذا الجمع بوصفه مفتاحاً سواء لتطور الفرد أو لتطور الجماعة: على المسلم أن يمتلك معارف عن العالم الحديث وعن الإسلام في آن معاً. وهكذا، ففي الحرم الجامعي بدمشق، يبحث مريدو كفتارو المتحمسين عن طلبة مستعدين لقبول دعوة إلى مجمع "أبو النور". تلك صيغة من الدعوة (الدعوة إلى الإسلام)، تتوجه إلى الشباب الأتقياء والمتعلمين.  وبصورة عامة، فإن عمل الدعوة الذي يقوم به المجمع يتم بالتنافس مع جماعات دينية أخرى بدمشق. وبالنسبة إلى الأشخاص الشباب المتعلمين الذين يصيرون مريدين ضمن الطريقة النقشبندية، تخلق الطريقة شعوراً بالانتماء ــ ضرباً من هوية جماعية. يمكن للانضمام إلى طريقة صوفية أيضاً أن يُنظر إليه بوصفه وحدة اجتماعية تضمن للفرد شعوراً بالأمان في مجتمع يُنظرُ إليه بوصفه مجتمعاً هشاً. وعلى سبيل المثال، يمكنه أن يقدم لطالب طموح إمكان متابعة الدراسة في الخارج أو أن يفتح له آفاقاً مهنية أخرى.

خلال درس الجمعة، وطَّدَ كفتارو مقامه بوصفه شيخ الطريقة النقشبندية الذي امتلك معرفة الباطن (سرّ الحقيقة المكتوم)، والبركة، وآيات أخرى دالة على الولاية مثل القدرة على تحقيق المعجزات. وقد عرض في محاضراته أيضاً عدداً من الأفكار حول كيفية أن يكون المرء مسلماً في عالم اليوم. وكان يلحّ على أهمية التزكية (أو الطهارة). تعني الكلمة تطهير قلب الفرد. إذ لما كان القلب مركز "الدين" داخل الجسم، فإن من الممكن عبر تنظيف هذا العضو إيجاد مسلم حديث جديد. القلب مقرّ الشخص، وإذا كان سليماً، فسوف يعمل جيداً بانسجام مع الإرادة الإلهية. يمكن السهر على طهارة القلب هذه عن طريق ممارسة الذكر، المُعتبر غالباً نواة الصوفية. يُقدَّمُ الإسلام بوصفه ديناً حديثاً، عقلانياً وعملياً، ويُنظَرُ إليه باعتباره قادراً على حل المشكلات سواء على صعيد محلي أو على صعيد شمولي. وقد كان من عادة كفتارو أن يناقش الواجب الأخلاقي لكل مسلم في اتباع أخلاق الإسلام. إذ تتطلب الاستقامة في الحياة الدراسة والعملَ بلا هوادة، وهما فضيلتان هامتان من أجل تنشئة المسلم الحديث. ففي العديد من محاضراته وأحاديثه الخاصة، يؤكد كفتارو على أن إنشاء مجتمع مسلم ناجح يبدأ بالسلوك الفردي لكل مسلم. ومن الأهمية بمكان إلحاحه على أخلاق الفرد ودور المسلم الصالح الذي يعمل بوصفه مثلاً يُتَّبَع من قبل الآخرين ــ وهو تأويل شبه كلاسيكي لرسالة الدعوة.

لم تؤثر فكرة المسلم الحديث الجديد، السليم والصحيح إسلامياً، بوصفها أداة هامة في بناء مجتمع إسلامي، على التعليم في مجمع "أبو النور" فحسب، بل كذلك على حياة السكان في البيئة المحيطة بالمسجد. يحاول مجمع أحمد كفتارو بصورة واعية ترسيخ أفكاره حول الفرد سواء لدى طلبته أو في الوسط المادي لمباني المجمع. والهدف من ذلك استنفار دعم شعبي لقضية مشتركة، وكذلك ما هو أهم أيضاً، استخدام سلطة المراتبية الصوفية من أجل غرس أفكار تم إعدادها في قلب المجمع. على سبيل المثال، طوَّرَ المجمع من أجل التلامذة من النساء، نظاماً في اللباس. إلا أنه لا يوجد هناك، حسب علمي، نظام صريح في اللباس للتلامذة من الرجال. ومع ذلك، فإن عدداً لا بأس به من الطلبة الذكور يفضلون أن يلبسوا وفقاً لما يقدرون أنه لباسٌ إسلاميٌّ مقبول، ويطيل بعض منهم لحاهم. كما أن عدداً منهم، رجالاً ونساء، يبدون أيضاً سعداء حين يرتدون لباساً خاصاً من أجل صلاة الجمعة.

تركت وفاة أحمد كفتارو في عام 2004 المريدين في وضع غامض بالنسبة إلى خليفته. فابنه وخليفته المختار، الشيخ زهير، اغتيل عام 1979. وخلال سنوات التسعينيات، ولاسيما في نهايتها، قام ابن آخر، صلاح الدين، وقد تحدثنا عنه، بأداء أدوار كان أبوه يؤديها عادة. وقد أكَّدَ بعض المريدين أن صلاح الدين كان قد تقدم على ابن أكبر سناً منه، محمود، خلال صراع من أجل السلطة. أياً كان الأمر، صار صلاح الدين مدير المجمع وبدأ يقوم برحلات إلى الخارج من أجل إلقاء المحاضرات، أولاً باسم أبيه، ثم بوصفه شخصاً مستقلاً عارفاً بالإسلام وبالصوفية. على أن رسالة صلاح الدين كفتارو تؤكد في ثيماتها رسالة أبيه من خلال إشارتها مثلاً إلى ضرورة الحوار بين الأديان.

منذ وفاة أحمد كفتارو، كانت زعامة الطريقة موضع اعتراض، لكنها استمرت وتشرعنت أيضاً بطرق مختلفة. إحدى الطرق المعروفة في توريث البركة لإمام (أو إمامة) جديدة تتمثل في تسليمه رسالة إجازة. لكن أحمد كفتارو لم يسمِّ أبداً وريثاً بصورة صريحة. ومع ذلك، أكد صلاح الدين كفتارو خلال محادثة معه، أن أباه قال له إن الشيخ أمين كان قد دعا في الكعبة خلال الحج إلى مكة: وأنه كان في هذا الدعاء يرجو النجاح لابنه أحمد كفتارو ولمن يخلفه. في نهاية حياته، دعا أحمد كفتارو، هو الآخر أيضاً، دعاءً يرجو فيه نجاح ابنه. وحسب صلاح الدين كفتارو، حاول أبوه إعداد الميدان من أجل ابنه خلال السنوات الخمس الأخيرة من حياته كي يجعل منه خليفة ناجحاً.

بدلاً من استلام رسالة تعترف به وريثاً روحياً لأبيه، حصل صلاح الدين على رسالة رسمية من أبيه يقترح فيها على المريدين أن يدعموه في عمله كمدير للمجمع. والرسالة موقعة من قبل جميع كبار المشايخ ومن قبل قادة آخرين لهذا الطريقة الخاصة من الصوفية، لكنها غير مؤرخة. ومعظم هؤلاء أعضاء في مجلس إدارة مجمع الشيخ أحمد كفتارو أو من الناشطين فيه. من الممكن التساؤل عما إذا كان ذلك يؤلف إشارة إلى الأسلوب الذي تتبعه الطرق الصوفية كي تتغير وأن تتصرف استجابة إلى التغير العام في المجتمع السوري. تؤكد هذه الطريقة من النقشبندية صراحة تطوراً معمماً للمجتمع المدني عبر تقنين بنيته التنظيمية. وبطريقة ذات دلالة، تنتقل البركة المرتبطة على نحو وثيق بفرد ما، ضمن هذا التكييف، إلى المنظمة. وهو تغيير يشير إليه أيضاً تحويل اسم "مجمع أبو النور" إلى "مجمع الشيخ أحمد كفتارو".

لا يعتبر التصوف في نظر كفتارو بأي حال منفصلاً عن الإسلام. فهو يرى أن المفردات المركزية في الصوفية الإسلامية مثل "الذكر" و"التوكل على الله" عناصر أصولية في تعاليم وممارسة الإسلام بصورة عامة. وقد استخدم أحد مريديه مجاز تنظيف كأس الماء من أجل وصف طريقة اندماج التصوف في الإسلام. فقبل استخدام الكأس لابد من غسله، وإلا فإن الماء الذي نسكبه فيه سيكون قذراً. والقيام بالذكر وتنظيف القلب لهما ذات التأثير الذي ينطوي عليه غسل الكأس. فالقلب أو الأنا يسمح إذا ما نظف بأن تكون المعرفة المسكوبة في النفس صافية: هكذا، فهو (فهي) سيكون (ستكون) قادراً (قادرة) على القيام بالأعمال الصالحة. من المهم المحافظة على الكأس برّاقاً وممتلئاً بماء صاف. هكذا يصير طقس الذكر، بناء على هذا التشبيه، مفتاحاً من أجل تعزيز الطابع الإسلامي والمحافظة عليه في الفرد. فهو يساعد على التركيز وعلى السلوك سلوكاً حسناً في الحياة. فإذا بذل المسلم الجهد في القيام بالذكر بصورة صحيحة، فإن المعونة الإلهية ستأتي. وكان يقول، وإضافة إلى ذلك، فإن الفرد الذي يرشده الشيخ سيشعر بالتغيير في جسده، بصيرورته أقرب إلى الله. الأمر الجوهري هنا هو أن هذا المجاز يُقَدَّمُ كما لو أن طقس الذكر كان نواة الإسلام. إنَّ متابعة الشعائر ومذاهب الشريعة الأخرى أمر هام، إلا أنه يجب القيام بها بنية صادقة. وبعبارة أخرى، فإن الذكر في تفسير كفتارو جوهري للإسلام ويؤلف مفتاح إصلاح الفرد والتقاليد الدينية في الوقت نفسه. تتجلى هذه الطريقة في رؤية الصوفية أيضاً بصورة عيانية في المسجد. فعلى طرفي المحراب كتب شعار الطريقة النقشبندية: "إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي" ــ وهو شعار لا يتحقق كاملاً إلا عبر القيام بالذكر.

تقود نزهة من حول مباني مجمع المسجد إلى طرقات وأزقة. من النادر في هذه الأماكن سماع الأغاني القادمة من أوربا ومن الولايات المتحدة ومن الشرق الأوسط، أي تلك الحاضرة دوماً في كل مكان آخر من المدينة. ومن المعتاد سماع تلاوات قرآنية أو أناشيد ينظر إليها بوصفها تعبيراً عن الموسيقا الإسلامية. كان مُخبريَّ من الشباب يقولون لي غالباً إن الموسيقا في رأيهم يجب أن تكون صوتية وأن الآلة الوحيدة المعترف بها هي الدف. يقال هذا التصريح مصحوباً غالباً بالرجوع إلى النبي: فهي الموسيقا التي كان يمكن له قبولها. لا يُستشهد بالحديث النبوي حول الموضوع: إذ أن وجهة نظر النبي محمد تُقدمُ بالأحرى بصورة عامة.

ما يراه عدد من مُخبريَّ الشباب في الموسيقا ينسحب أيضاً وبطريقة أكثر عمومية على التسلية. فهم يظهرون جميعاً الاعتدال في طريقة قضاء أوقات فراغهم أو في تسلياتهم. من النادر العثور على مريد شاب لكفتارو في المقهى أو في المطعم. نلقاهم في بيوتهم التي ينفصل فيها الرجال عن النساء. وفي مختلف الاجتماعات التي شاركتُ فيها، يُقدم الشاي والحلويات، ويتناقشون في السياسية الدولية والإسلام وإسرائيل والأسباب التي لم أكن بفعلها مسلماً. أما الأدب والأفلام أو آخر نتائج مباريات كرة القدم فنادراً ما تؤلف موضوعاً للحديث بل إنها لا تؤلف موضوعه أبداً. أعتبر أصدقاء لي بعض مُخبريَّ الذين أعرفهم منذ أكثر من عشر سنوات. فقد التقوا أسرتي وجاء بعضهم لزيارتي في السويد. كنا نناقش أحياناً مسائل شخصية تمتد من المشكلات العائلية إلى الأشياء الهامة في نظرنا. ومع ذلك، فإن علاقتنا لم تفلت في الحقيقة أبداً من إرادة مُخبريَّ في إقامة جو إسلامي والمحافظة عليه. يمتدُّ ذلك إلى الجوار، إلى سكانه بقدر ما يمتدُّ إلى شخصي. والنقطة المركزية في هذا الجو تتمثل في مباني "أبو النور" ومجمع الشيخ أحمد كفتارو. وهي باقية عبر مفاهيم هوية فردية بقدر ما هي جماعية يحتل فيها الدين المقام الأول. ويحافظ على هذا الجو أيضاً بصورة واعية أو غير واعية تجديد مباني المجمع. ففي نظر طلبة "أبو النور"، المنضمين إلى الطريقة النقشبندية، يقدم شعور الانتماء إطاراً للمشاركة العامة. ليس ذلك، ضمن منظور المجمع، شكلاً من الرقابة الاجتماعية بالمعنى السلبي للكلمة بل رغبة في إيجاد مجالٍ حيويٍّ آمن في ظروف تعتبر مفتقرة إلى الأمن.

تستجيب أسلمة حي إلى حاجة الدفاع عن موقع في مجتمع ما. فمسجد "أبو النور" ومجمع الشيخ أحمد كفتارو مثالان على نزعة يشار إليها أحياناً من قبل الباحثين في الإسلام والمجتمع الإسلامي، مفادها أن الإسلام قد دخل في عملية تثاقف. من الممكن أن يُعتبر بلا انتماء إلى أرض محددة مع كونه قائماً ضمن ثقافة محلية خصوصية، دون أن يكون مع ذلك محدداً من قبلها. وفي الوقت نفسه، فإن المجمع ظاهرة شمولية، متأثرة بمناقشات حول الإسلام خارج سورية وبأحداث العالم بصورة عامة. فالرعاية المادية للمراكز الإسلامية، بما في ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، جعل من المجمع منظمة عابرة للقوميات. وبهذا المعنى، تلاءم مفهوم البركة مع ــ ونما بناء على ــ نماذج من التنظيم ومن التواصل شمولية.
           
المراجع:
AL-HABACH M., 1996: Le Cheikh Ahmad Kuftaro et sa doctrine de la modernisation et de la réforme (en arabe). Dar al-shaykh Ahmad Kuftaru, Damas.
Janson T., 2003: Your Cradleis Green: The Islamic foundation and the Cal lto Islam in  Children’s Literature, Almqvist &Wiksell  International, Stockolm.
ROYO.,2004:GlobalisedIslam:TheSearchforaNewUmmah,Hurst,Londres.
SALAMANDRA C.,2004: A New Old Damascus. Authenticityand Distinction in Urban Syria, Idiana University Press, Bloomington.
AS-SAWWAF M.S., 1999: La Doctrines soufie dans la pensée et la prédication de son excellence le cheik Ahmad Kuftaro (en arabe), Maktabal-Asad, Damas.
STENBERG  L., 2005 : “Young,Male and  Sufi Muslim in the   City of Damascus”, dans J.B. Simonsen (éd.), Youthand Youth Culture in the Contemporary Middle East, Proceedings from the Danish Institute in Damascus III, Aarhus Forlag, Aarhus.
 
[1]  كتبت هذه الدراسة حوالي عام 2006 ونشرت عام 2007. (هـ. م.)

بدرالدين عرودكي
كاتب ومترجم سوري، له العديد من الكتابات والدراسات الثقافية، ترجم أكثر من ثلاثين كتاباً عن الفرنسية مثل "تدابير التاريخانية"، "نظام الزمان"، "لا بد من قتل شاتوبريان".
ليف ستينبرغ

مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة لوند السويدية، تتركز دراساته على قراءة التفسيرات المعاصر للإسلام عند الجماعات الصوفية، وبين المسلمين في أوروبا.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.