عرض سلطة العلماء: الاحتفال بالمولد النبوي في مدن سوريا
ترجمة: يسرى مرعي
ترجمت هذه الدراسة بعد أخذ موافقة د. توماس بيريه/ محاضر في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، جامعة أدنبره. وكانت الدراسة الأصلية قد نشرت باللغة الإنكليزية في كتاب " إثنوغرافيا الإسلام :الممارسات الطقوسية والسلوكيات اليومية، جامعة أدنبره، 2012) تحت عنوان:
Staging the authority of the ulama: The celebration of the Mawlid in urban Syria
العلماء موضوع غير مألوف بشكل خاص للإثنوغرافيا. وبوصفهم النموذج المثالي للثقافة النصّية في المجتمعات المسلمة التقليدية، فقد دُرِسوا مراراً من خلال كتاباتهم وخطبهم، أي من خلال خطابهم. يركّز هذا المقال على أنواع أخرى من الممارسات ولاسيما على الاحتفال السنوي بالمولد النبويMawlid(1) في أواسط عقد ال2000 في دمشق.
كانت المؤلفات الأكاديمية حول الاحتفال بالأولياء والأنبياء المسلمين غالباً ماتعنى بالمواسم الدينية الشعبية، والتي، كما في مصر، تضمّنت تكراراً ما يصفه علماء الدين بممارسات "غير إسلامية" (الاختلاط بين الجنسين، الرقص، وحتى استهلاك الكحول والبغاء).(2) وأُوليَ القليل من الاهتمام حتى الآن إلى واقع أن المولد Mawlidيُحتفل به علناً أيضاً من قبل الذين نصّبوا أنفسهم حراساً للدين الحنيف، أي علماء المسلمين.
الهدف من هذه المقالة هو إظهار أن الإثنوغرافيا تسمح باستيعاب جوانب الموالد "العلمية" التي تبقى عموماً مختفية في الخطابات المنتجة من قبل الفاعلين الاجتماعيين. ويمكن تصنيف هذه الخطابات إما خلافية أو توافقية. تُعنى الفئة الأولى بالنزاعات حول تعريف الأرثوذكسية والأرثوبراكسية* وتتمثل إما في الجدالات المُثارة من قبل خصوم المولد Mawlid السلفيين(3)، أو في بيانات معيارية حول حدود ممارسته الصحيحة، والتي تسلتزم استنكاراً للسلوكيات "غير الإسلامية" المذكورة آنفاً. أما الفئة الثانية من الخطابات غالباً مكونة من خُطب معلنة خلال الاحتفال ومن مقالات منشورة في وسائل الإعلام مع اقتراب المولد النبيMawlid. إذ يبثون تصوراً مثالياً لمقاصد الأخير(المولد)، والتي تدور حول أفكار الأخلاق والهوية: من جهة، يدعو الكتاب والمتكلمون الجمهور لمحاكاة السلوك المثالي للنبي ويأكدون ضرورة الإلتزام بسنته؛ ومن جهة أخرى، فهم يقدمون مولد النبي كأفضل مناسبة لإعادة توحيد أتباعه ضد أعدائهم. يناسب التأطير الأخير للمولد Mawlid تصورات وظيفية للاحتفالات كأدوات تهدف لتدعيم وحدة المجتمع من خلال تذّكر "أسطورة المؤسسين". بشكل متوقع، من وجهة النظر تلك، نجد واقع أنه في سوريا، تأخذ الموالد بسهولة مسحات سياسية. وقد تحولت أحياناً في ستينات وسبعينات القرن العشرين إلى لقاءات ضد البعثيين(4). في 2006، بدأت الاحتفالات بعد أسابيع قليلة من قضية الرسوم الكارتونية الدنماركية وعدم اعتراف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بحكومة حماس المنتخبة في فلسطين، مما أدى إلى ازدهار الخطب المعادية للغرب في هذه المناسبات.(5)
على كل حال، فإن مراقبة كيفية تأدية الموالد –بدلاً من مجرد الاستماع إلى ما يقال حولها أو أثنائها- يكشف بعداً آخراً هاماً للاحتفالات بالمولد النبوي. بالتأكيد، ستُظهر هذه المقالة أن العلماء أعطوا المولد mawlid مظهراً لا يعكس فقط قلقهم بخصوص الأرثوبراكسية، كل الممارسات "غير الإسلامية" التي تُجنِبت بعناية، بل أيضاً يحمل معنى تراتبياً بقوة. وكنتيجة، في مدن سوريا، يبدو المولد mawlid كاحتفال لرجال الدين أكثر مما هو للمجتمع ككل.
تعتمد هذه المقالة على ملاحظات أُنجِزت بين عامي 2006 و2008 في ما يقارب العشرين مسجداً في دمشق. وعدا عن التركيز في المناطق المدينية (إذ لم يغط عملي الميداني الريف لأنه غالباً ما يتواجد العلماء في المدن)، وباستثناء حقيقة أنه سُمِح لي بحضور احتفالات الذكور فقط، لم يكن هناك أي تحيّز معين في اختيار هذه الجوامع: فهي تقع في مناطق ذات سمات اقتصادية واجتماعية مختلفة (من الضواحي الشعبية، شبه الريفية إلى مناطق السكن الفاخرة)، وضمّت عينتي كل من الجماعات الإسلامية المؤيدة للنظام والأكثر استقلالية.
توصيف:
في كل سنة في مدن سوريا، يمثّل الثاني عشر من الشهر الهجري ربيع الأول بداية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. وهذه الفترة، التي تستمر لحوالي ستة أسابيع، تلي رمضان أهمية في السنة الدينية. إذ تُنظّم الموالد كل مساء في مساجد مختلفة، تُزيّن في هذه المناسبة بأضواء، ولافتات وأعلام خضراء. وهذه الاحتفالات هي تجمع شعبي كبير، إذ تستقبل بعض من أكبر المساجد أكثر من 5000 شخص في تلك المناسبة.
يدوم كل احتفال من ثلاث إلى أربع ساعات بداية من صلاة العِشاء. بعدها، يملأ الحشد الجامع المضاء بالنيونات تدريجياً ثم يجلسون على السجاد مواجهين القبلة. في أماكن العبادة الأكبر، والتي تتكون أحياناً من عدة طوابق، يدل متطوعون الزوار إلى المساحة المتوفرة المتبقية. يحتل الرجال فقط قاعة الصلاة الرئيسية في حين تجتمع النساء في طابق منفصل أو غرفة جانبية. يمكن للنساء أحياناً مشاهدة الحفل على شاشات التلفاز كالرجال الجالسين في خلفية المسجد، وذلك بفضل (اعتماداً على الموارد المالية للمنظمين) كاميرا أو عدة كاميرات والتي تُحرّر صورها مباشرة من خلال غرفة مراقبة. وفي بعض الأحياء الغنية، تُعرَض الصور أيضاً على شاشة عملاقة خارج المسجد. عندما يجلس الجميع، يوزع المتطوعون ماء، وقهوة عربية (مرّة وقوية)، ولوز مغلّف برقائق ألمنيوم، وفي بعض الأحيان، أعلام بلاستيكية للأطفال تحمل شعارات مثل "هو يعيش في قلوبنا"، أو"فلنعد إحياء سنته"، أو"نحن نتبع سنته".
يجلس المنشدون في أحد أركان المسجد، وستُسمع أناشيدهم المضخمة تكريماً للنبي من خلال نظام صوت قوي طوال السهرة. يسمح مظهر المنشدين بتعريفهم كفنانين: على عكس رجال الدين، يرتدون ربطة عنق وبدلة خالية من العيوب ويفضلون شارباً، ولحية قصيرة أو حتى مشذبة إلى طويلة؛ على عكس العامّة المتدينين العاديين، فهم غالباً ما يمتنعون عن تقصير الشعر خلف رقبتهم.على أية حال، يلتزم أداؤهم بشكل صارم بقواعد الشريعة المُحددة من قبل النخبة الدينية الدمشقية، التي تحرّم أي نوع من الرقص فضلاً عن استخدام الآلات الموسيقية فيما عدا عن آلات إيقاعية، وهي الدفوف في هذه الحالة.
تجلس "الشخصيات الهامةVIP" في مواجهة الجمهور، مقابل جدار القبلة، في صفين أو ثلاثة من كراس بلاستيكية، ومقاعد، ويجلس الأكثر تميزاً منهم على مقاعد جلدية. أما منتصف الصف الأمامي فهو محجوز للشيوخ، أي العلماء. من الممكن تمييزهم من خلال سلوكهم الكهنوتي والجدّي، ومن خلال وشاحهم أو عمامتهم البيضاء بالإضافة إلى زيهم المميز، والذي غالباً ما يكون في هذه المناسبة الخاصة عبارة عن جُبّة (رداء مذهّب الحواف). يجلس على جانبيهم رجال الدين المبتدئين إضافة إلى الأعيان المدنيين، وهم بغالبيتهم تجار. هؤلاء التجار الذين يطلق عليهم عادةً لقب "حج"، غالباً ما يظهرون إشارات خارجية عن التديّن مثل لحية قصيرة، ودشداشة (سترة تصل إلى الكاحل)، وطاقية (قلنسوة صلاة بيضاء). في بعض الحالات، يحضر أيضاً بعض رجال الأعمال الأكثر شهرة بشارب وبدلة أنيقة. وبالنسبة للأعضاء في القطاع الخاص، فإن التمتع بمكان الهيبة في المولد mawlidغالباً مايكون مكافأة رمزية عن التبرعات للمسجد وأنشطته الخيرية. بناء على ذلك، وكما يخمن الجمهور بسهولة، فكلما زادت حرارة الترحيب بالتاجر عند وصوله، وكلما دُعَي إلى الجلوس أقرب إلى العلماء، فهذا يعني أن كرمه أكبر. في بعض الحالات، تُنظّم خلال المولد mawlidنفسه دورات جباية موارد مالية كالمزاد والتي تسمح للأشخاص الميسورين بإظهار استعدادهم لإنفاق الأموال "في سبيل الله" علناً(6).
تناسب طريقة تعزيز سمعة الشخص هذه، بشكل خاص أولئك من بين رجال الأعمال الذين يهدفون إلى أن يُنتخبوا كنواب برلمان "مستقلين". على سبيل المثال، خلال الحملة الانتخابية في عام 2007، والتي تزامنت مع موسم المولد Mawlid، جال بعض المرشحين مساجد العاصمة من أجل جني الفوائد الرمزية لتبرعاتهم السابقة. يعني البعد "الديبلوماسي" للمولد mawlidرجال الدين أنفسهم أيضاً: العلماء الذين تربطهم علاقة طيبة يدعون بعض بانتظام، في حين أن الترحيب بممثل فصيل ديني منافس هو وسيلة شائعة أيضاً لاستهلال انفراج.
يحتل صفوف الكراسي فئتين من الناس: من جهة، المضيفون، بمن فيهم، شيخ المسجد(7)، كبار مريديه، وداعموه البارزين، ومن جهة أخرى، الزوار من رجال الدين والأعيان الآخرون. بشكل عام، لا يحضر الزوار كامل الاحتفال، مما يسفر عن قادمين وذاهبين بشكل غير منقطع بين مدخل المسجد و "جوقته". ومن أجل الوصول لهذه الجوقة، فيجب على الزوار البارزين أن يمروا خلال الحشد،أحياناً بفضل ممر محدّد بشرائط. في طريقهم، يُرحب بهم مريد من مريدي الشيخ المضيف. وما أن يصلوا إلى الجوقة، حتى يقف العلماء والأعيان الموجودين أصلاً من مقاعدهم ليتبادلوا العناق أو المصافحات مع القادمين الجدد. ومن خلال تبادل التحية بهذا الشكل، يُبدِي المضيفون والزوار إحساساً بالمساواة الاجتماعية، وبالتالي تفوقاً على الناس العاديين، بما أن هؤلاء الناس العاديين عادةً ما يحيون رجال الدين بتقبيل يدهم. بشكل خاص يخضع الشيوخ الكبار والمحترمون لمعاملة خاصة. فعندما يكونون بين المضيفين لا يقفون عندما يصل الزوار بل ينتظرون أن يأتوا هم إليهم ويقبلوا يدهم أو جبينهم. بشكل مماثل، إن كانوا من الزوار، فهم يُحاطون فوراً بالمضيفين المحترمين ما أن يصلوا إلى صف الكراسي، وهو ما يفعلونه أحياناً على نقّالة مرتجلة يتحملها ثلاثة أو أربعة شبان. قد يختار بعض الزوار أيضاً الجلوس بين الجمهور من باب التواضع. وفي هذه الحالة، يرسل الشيخ المضيف واحداً من مريديه لكي يجلبهم إليه.
تتوقف الأناشيد الدينية عدة مرات خلال الأمسية لتتيح مجالاً لكلمات علماء الدين. كما ذكرنا سابقاً، تغتنم هذه الكلمات المناسبة للتعامل مع قضايا الأخلاق والوحدة الإسلامية. تصدر الكلمة الأولى عن عراف الحفل، وهو غالباً مريد مقرّب من شيخ المسجد. كلمة شيخ المسجد، والذي يأتي لاحقاً في الأمسية، هو بشكل عام أهم لحظة في الاحتفال. وكبادرة احترام غالباً ما يُطلب من رجال الدين الزوار الرئيسيين أن يتكلموا أيضاً. يُختتم الاحتفال بدعاء يقوده عالم اختير لكبر سنه -وهذا مرادف للبركة-، لفصاحته الملحوظة، أو لسبب "ديبلوماسي" ما.
طوال الأمسية، يشاهد الحشد "العرض" ويبقون بشكل عام هادئين وساكنين. فهم لا ينشدون بالترافق مع المنشدين ولا يُدعون لذلك أصلاً. وباستثناء الصلاة الختامية والدعاء، فإن المشاركة الوحيدة التي تُطلب من الجمهور –وهذا قبل كل شيء وسيلة لضمان شد انتباههم- أن يرددوا الصيغة الدينية "صلى الله عليه وسلّم" في كل مرة يُذكر فيها اسم النبي محمد في كلمة ما.
غالباً ما دفعتني تمضيتي لساعات كثيرة في الموالد السورية إلى التساؤل إن كان الحضور راضياً حقاً باحتفال رسمي جداً لا تزوّده إلا بمتعة قليلة، ناهيك عن جو من الروحانية مشابه لما تشهده جلسات الذِكر الصوفي. قد يكون أحد الأجوبة المحتملة أن الناس لا يبحثون عن المتعة بقدر ما يسعون للإلتزام بالواجب الاجتماعي والديني.(8) وهذا صحيح جزئياً بالطبع، لكن العديد من السوريين يبحث بالفعل عن بعض المتعة من المولد mawlid. وبالتحديد، فمن الواضح أن نسبة منهم أكثر إهتماماً بالبعد الموسيقي من أي شيء آخر. على سبيل المثال، لم يحضر واحد من أصدقائي المولد mawlid في جامع شيخه لأن جوقة من الطلاب الذين يعتَبر صوتهم "عادياً" هي من تغني الأناشيد هناك. وفضّل الذهاب إلى مكان آخر مشهور بتوظيف "أفضل منشد في سوريا". خلال مولد mawlid آخر، تقول إحدى السيدات للمراقبة الأجنبية الجالسة بجوارها عندما تسمع تعجّبها من صوت المنشد الرئيسي: "لماذا تظنين أننا هنا إذاً؟"(9). وتبعاً لذلك، فأحيانا عُدِّلت أقراص الفيديو المدمجة لهذه الاحتفالات والتي تباع على الأرصفة وفي المكتبات الإسلامية، بحيث تقتطع كلمات العلماء منها، وبالتالي تبقى فقط الأناشيد الدينية. يبدو واضح أيضاً سعي الناس ل "المتعة الحقيقية" في الموالد في الهواء الطلق النادرة التي سمحت بها السلطات في منتصف عقد ال 2000 كجزء من التخفيف التدريجي للقيود المفروضة على النشاطات الدينية السنية. تضم الاحتفالات التي نُظِّمت في مناطق المشاة أو الحدائق العامة أحياناً ملامح أكثر احتفالية كالدراويش الدوّارين، الذين هم الآن غالباً راقصون محترفون.
يتصرف المتفرجون خارج الفضاء المقدّس للمسجد بطريقة مختلفة: فهم يبقون جالسين ولكن كثيراً ماتراهم "يرقصون" من خلال التلويح بأذرعهم. يمنع المنظمون الناس من الرقص فعلاً من خلال التلويح باستهجان على بعض المتفرجين الذين يقفون بسبب الحماسة، وهم يعنون أيضاً "الراقصين الجالسين" باستهجانهم. ومع ذلك، يشجب بعض رجال الدين سراً هذا الموقف ويصرون أن الموالد يجب أن تبقى داخل المساجد من أجل تلافي "تجاوزات" كهذه.
على أية حال، حتى في الداخل، لا ينجح العلماء المسلمون دوماً في ردع الحشد من تحويل المولد mawlid إلى "حفلة" حقيقية. هذا ما لاحظته في مسجد في حي الميدان الجنوبي، حي البرجوازيين الصغيرين، في نيسان من 2007.
كالعادة، يبدأ المولد mawlid بتحية وإجلال للعلماء وبشكل أكثر تحديداً لشيخ المسجد التسعيني المشلول. زادت العاطفة حالما حُمِل الشيخ الجليل إلى داخل المسجد من قبل ثلاث رجال أقوياء. احتشد الناس من حوله للمس ثيابه للحصول على بعض من بركته. وبالفعل، يُنظر إلى الشيخ على أنه من الأولياء بسبب الأعوام السبعين التي قضاها في توفير التربية الدينية لأبناء الحي، وبسبب انتمائه الصوفي بالإضافة لمناهضته، إذ أنه لجأ إلى لبنان خلال انتفاضة الثمانينات من القرن العشرين وخُطِف هناك من قبل المخابرات السورية. لاحقاً في الأمسية، شكّل التفاني لشخصية العالم ذريعة ليكسر الجمهور البروتوكول(القواعد).
وقع "الحادث" بعد أن بدأ طلاب الشيخ حضرة صوفية، وهذا أمر مألوف في المولد mawlid. وحسب الطريقة الشاذلية التي ينتمي إليها الشيخ، فإن الذكر هو ممارسة جماعية منظمة بإحكام حيث يشكل المشاركون مربعات أو دوائر متحدة المركز، ثم يتبعون الإيقاع الذي يضبطه "عميد الاحتفال". على كل حال، في هذه الحالة سرعان ما كُسِرت الصفوف حين توجّه شباب متحمسون إلى مركز قاعة الصلاة، ثم بدؤوا بالركض في دائرة حول كرسي الشيخ. وضع المنظمون فجأةً حداً للحضرة عندما رؤوا أن الأمور تصبح خارجةً تماماً عن نطاق السيطرة. ومن أجل تهدئة المشاركين، دعوهم للوقوف في طابور من أجل تقبيل أثر من الرسول موضوع في صرة صغيرة (وهي ممارسة تُعرف بتقبيل الأثر). وفي حين أن المؤمنين عموماً، في مثل هذه الظروف، ينتظرون دورهم بطريقة منظمة جداً، إلا أن الشباب المنفعلين جداً، هذه المرة، كانوا يتقاتلون (بمعنى الكلمة) مع بعضهم للوصول إلى الصرة. ثم طلب الموظفون من الجمهور مغادرة الجامع، رامين حفنات من الحلوى(سكاكر) إلى الفناء لتشجيع الأعضاء الأصغر على فعل ذلك. في نهاية المطاف وبعد بضع لطمات أخرى بين المراهقين، فرغ المكان تماماً.
تعليقات:
غالباً ما يقارن العلماء السوريون ما بين أرثوبراكسية احتفالهم بالمولد النبوي والممارسات "الغير الإسلامية" كالتي تُلاحظ في المهرجانات الاحتفالية في بلدان كمصر. وبالفعل، في مصر، نجحت بشكل جزئي فقط المحاولات الإصلاحية ل "تحضيرCivilizing " المهرجانات الدينية الشعبية(10)، بينما في المدن السورية، كان المولد mawlid "العلمي" –وهو ليس بعادة جديدة أبداً-(11) الشكل الوحيد لاحتفال ديني سني عام لمدة نصف قرن. ويعود ذلك جزئياً إلى التغيير الاجتماعي والانتشار التالي للمفاهيم الحداثية-الإصلاحية، والتي وجّهت في مطلع الخمسينات من القرن العشرين ضربة قاضية للمهرجانات الدينية الشعبية مثل "خميس المشايخ" في حمص(12). ولعب اهتمام النظام البعثي بالنظام العام دوراً رئيسياً، بالطبع إذ أن معظم المهرجانات السنية الخارجية مُنِعت منذ ستينات القرن العشرين وبعد، وبالتالي تُرِكت المساجد الأماكن الوحيدة لمثل هذه الاحتفالات. على أية حال، وكما رأينا، يبقى هناك توتر أساسي بين تصورين متنافسين لكيفية أداء المولد mawlid، أي في جهة، النهج الاحتفالي لرجال الدين، وفي جهة أخرى، الجمهور للمتعة.
احتفال ديني بحمص 1935
على الرغم أنه من الأسهل غالباً أن تجبر البرجوازيين الدمشقيين الأتقياء على الجلوس مكتوفي الأيدي لعدة ساعات من أن تفعل ذلك مع فلاحي دلتا النيل، إلا أن أشكال المولد mawlid التي وصفتها في هذه المقالة ليست مجرد تعبير عن الثقافة المدينية "الرزينة" في سوريا: ففي أحياء أكثر شعبية، بخاصة، بقيت هذه الأشكال تحت التهديد الدائم من "كرنفالية"، وكنتيجة فإن قواعد السلوك "المناسب" يجب أن يُعاد تأكيدها من قبل المنظمين.
ماهو سبب التزام العلماء السوريون القوي بهذا الشكل المعيّن من أداء المولد mawlid؟ من وجهة نظري، القلق من الأرثوبروكسية مهم ولكنه لا يشكّل تفسيراً كافياً.
باستخدام تصور ميخائيل باختين، يصف صامولي شيلكه المهرجانات الشعبية لأولياء مصرب "الكرنفالات"، مايعني أنها مميزة من خلال التعليق المؤقت للعادات الاجتماعية الاعتيادية، وأنها لا تعرف الفصل بين المشاركين والمشاهدين لأنها تُأدّى من قبل المشاهدين بأنفسهم بطريقة غير منظّمة وعفوية.(13) من وجهة نظر باختين، تفسّر الإمكانية المخربة للكرنفالات محاولات الطبقات المسيطِرة لتحويلها (تحويل الكرنفالات) إلى "مشهد (مسرحية)"، أي، احتفالات فيها المؤدون مستقلون بشكل واضح عن المشاهدين . يبين شيلكه، المهتم خصوصاً بسياسات الدولة تجاه المولد mawlid ، أن نموذج انتشاري –أي انتشار المفاهيم الحداثية للنظام والأخلاق العامة منذ القرن التاسع عشر- يفسّر وبشكل أفضل من تحليل الطبقة لباختين، المحاولات الحديثة لإصلاح المولد Mawlid. على أية حال في نموذجي، أعتقد أن ماهو على المحك تصوّر معيّن لنظام اجتماعي. ما يحميه العلماء المسلمون السوريون بتمسكهم بهذا النموذج من المولد mawlid–والذي كان قائماً قبل قرون من بزوغ الأفكار الحداثية- هو هيبتهم وسلطتهم أكثر مما هو النظام السياسي والاجتماعي العام. حقيقة، فإن المولد mawlid، كما يؤدى في سوريا، هو وسيلة مسرحية (متصنعة) تقدّم نظاماً اجتماعياً مثالياً يسود فيه العلماء وأصدقاؤهم الأعيان، ويُحتفَل بهم بدلاً عن المجتمع ككل.
من وجهة نظر باختين، يشكّل المولد المديني السوري نوعاً مثالياً من "لا كرنفال" لأنه مشهد طقوسي للغاية. لا تُعرَض سلطة رجال الدين من خلال احتكارهم للكلمات فقط، بل والأهم من ذلك، من خلال "المكانية المرسومة" للاحتفال.(14) ومن المثير للاهتمام، أن هذا التنظيم يعارض بشكل جذري مخطط المساواة في الصلاة الجماعية الإسلامية، حيث يصلي كل المؤمنين في نفس الاتجاه، وإلى أقصى حد ممكن، جنباً إلى جنب. أما في المولد mawlid، وعلى نقيض ذلك، يجلس رجال الدين والأعيان على الكراسي ويواجهون عامة الناس، الذين يجلسون على السجاد. وبهذا فإن التراتبية تظهر بوضوح أكثر حتى من خطبة الجمعة، التي يعود الخطيب في نهايتها للأسفل، نازلاً من محرابه ليصلي جماعةً مع اخوته في الدين، أو أكثر من الحضرة الصوفية، حيث يحتل الشيخ فيها أيضاً موضعاً مركزياً ولكن يأخذ مكانه على محيط دائرة أو مربع يشكله مريدوه. وعلاوة على ذلك، يسمح "طقس العناق" في المولد mawlid للجمهور بتقدير عدد ونوعية أصدقاء الشيخ من بين الأعيان، أي، رأس ماله الاجتماعي. إذ أنه الوحيد الذي يقرر من له الحق بأن يجلس في مكان الصدارة، وهذا ما يتّضح تماماً عندما يختار بعض الزوار المتميزون الجلوس بين الحشد ومن ثم يصنّف علناً من قبل المضيف بأنه جدير بالجلوس مع الأعيان الآخرين.
وكما قلت سابقاً، حقيقة أن المولد Mawlid يحتفل بالعلماء بقدر ما يمجّد النبي نادراً ما يُعتَرف بها من قبل الفاعلين الدينيين المحليين. إلا أنه، وبعد عدة أسابيع من إقامتي الأخيرة في سوريا، في ربيع عام 2008، اكتشفت مثالاً معاكساً لذلك في السيرة الذاتية المنشورة مؤخراً للشيخ "عبد الكريم الرفاعي"، وهو عالم دمشقي توفي في عام 1973، إذ يستحضر النص التزام الشيخ بالاحتفال بالمولد mawlid، واصفاً ذلك بالطريقة التالية:
يشعر هؤلاء الذين يدخلون المسجد في هذه المناسبة وكأنهم في واحدة من حدائق الجنة بسبب العلماء، إن ورثة النبي الحبيب هؤلاء، هم مركز الحضرة. ومن خلال هذا الحشد من المسلمين، تعرض دمشق بهجتها لانتمائها لهذا الدين فضلاً عن ولائها لعلمائها.(15)
مثل هذا الوصف الاستثنائي جداً ينتج من واحدة من العديد من الميزات الخاصة في سيرة الرفاعي: بينما تركز مثل هذه النصوص تقليدياً على علم علماء المسلمين غير القابل للقياس وفضائلهم الأخلاقية المميزة، فإن هذا النص يولي اهتماماً كبيراً للممارسات الاجتماعية للشيخ. من المحتمل أن يكون من السابق للأوان الحديث عن "منعطف وصفي" في أسلوب التراجم الإسلامية، لكن مقاربة جديدة كهذه تعكس تغيرات عميقة في مفهوم الولاية في الإسلام المعاصر، وهي قضية تقع خارج نطاق هذا المقال.
خاتمة:
في سوريا، يُقدّم المولد Mawlid من قبل مؤيديه كوسيلة لدعوة المسلمين للعودة إلى الطريق المستقيم للنبي بالإضافة إلى مناسبة لإعادة توحيد المسلمين حول شخصية محمد المؤسّسة للدين الإسلامي. على أي حال، تكشف الإثنوغرافيا جانباً آخر من هذا الاحتفال، وهو حقيقة أن هذا الاحتفال أولاً وقبل كل شيء مشهد طقوسي يعرض سلطة العلماء. في الواقع، فإن التنظيم المكاني للاحتفال والترحيب المسرحي بالأعيان، ولاسيما التجار، يجعل رجال الدين يبدون العنصر الأعلى داخل نظام اجتماعي مثالي. ومن أجل الحفاظ على هذا النمط التراتبي، فيجب على العلماء احتواء سعي عامة الناس إلى المتعة والعاطفة. وعلى الرغم من أنهم يفعلون ذلك باسم الأورثوبراكسية، فقد أَظهرتُ أن ماهو أساساً على المحك هنا تحديد من سيُحتفل به خلال المولدmawlid : إما رجال الدين، أو المجتمع ككل.
هوامش المترجم:
*Orthopraxy: تعني العمل القويم أي الإيمان الصحيح والممارسة الصحيحة، أي الاعتقاد بأن العمل الصحيح لا يقل أهمية عن الايمان.(صاحب المسلك القويم).والارثوذكسية الايمان القويم.
المراجع:
1) Depending on the context, the Arabic term mawlid (plur. mawālīd) designates the Prophet’s birthday itself, its actual celebration, or a celebration that follows the same modalities (see my description below) but is organized at another moment of the year, for instance on the occasion of a marriage or in honor of guests. I will use the written form ‘Mawlid’ in the first case and ‘mawlid’ in the two last ones.
1) اعتمادا على السياق فإن المصطلح مولد وجمعه موالد، يرمز للمولد النبوي ذاته، والاحتفال الفعلي به، أو لاحتفال يستخدم نفس الأساليب (انظر لشرحي بالأسفل) ولكن يُنظّم في وقت آخر من السنة، على سبيل المثال في مناسبة حفلة زفاف أو تكريما لضيف ما. واستخدمت الصيغة Mawlid للدلالة على الحالة الأولى والصيغة mawlid للحالتين الأخيرتين.
2) Mc Pherson, J.W. The Moulids of Egypt (Egyptian saints-days), Cairo, 1941; Biegman, Nicolaas Egypt. Moulids Saints Sûfîs, Den Haag, 1990; Schielke, Samuli, ‘On Snacks and Saints: When Discourses of Rationality and Order Enter the Egyptian Mawlid’, Archives de sciences sociales des religions, no. 135, Link (accessed 30 March 2010).
3) See Johansen, Julian Sufism and Islamic Reform in Egypt. The Battle for Islamic Tradition, Oxford, 1996, pp. 70-91 ; Holmes Katz, Marion The Birth of the Prophet Muhammad: Devotional Piety in Sunni Islam, London, 2007, pp. 169-207.
4) Buti, Sa‘id Ramadan Hadha walidi (This Is my Father), Damascus, 1995, p. 130-131; Hawwa, Sa‘id Hadhihi tajribati ... wa-hadhihi shahadati (This Is my Experience … This Is my Testimony), Cairo, 1987, pp. 1301.
5) Observations by the author.
6) Pierret, Thomas, and Selvik, Kjetil ‘Limits of ‘Authoritarian Upgrading’ in Syria. Welfare Privatization, Islamic Charities and the Rise of the Zayd Movement’, International Journal of Middle East Studies, vol. 41, no. 4, November 2009, p. 595.
7) In Syria, the sheikh of a mosque (an informal title) is the latter’s most senior teacher, but not necessarily its imam or Friday preacher.
8) Attending the mawlid is not a formal religious obligation like the two ‘Id prayers. However, the social importance of this event is such that many committed Syrian Muslims see it as compulsory.
9) I thank Nathalie Bontemps for this anecdote.
10) Schielke, ‘On Snacks and Saints’.
11) On the history of the Mawlid, see De Jong, Frederick ‘Mawlid’ in Encyclopaedia of Islam, 2nd ed., Leiden, vol. 6, p). 895-7; Kaptein, Nico Muhammad's Birthday Festival: Early History in the Central Muslim Lands and Development in the Muslim West until the 10th/16th Century, Leiden, 1993.
12) Gillon, Jean-Yves Anciennes fêtes de printemps à Homs (Ancient Spring Festivals in Homs), Damas, 1993, pp. 68-71.
13) ’On Snacks and Saints’, p. 120. Schielke relies on Bakhtin, Mikhail Rabelais and His World, Cambridge, 1968.
14) Parkin, David ‘Ritual as spatial direction and bodily division’ in Daniel de Coppet, ed., Understanding rituals, London, 1992, pp. 11-25. On this concept, see Ben Hounet’s contribution in this volume.
15) ’Al-shaykh ‘Abd al-Karim al-Rifa‘i wa masīratuhu al-da‘wiyya – 12 (Sheikh ‘Abd al-Karim al-Rifa‘i and his Course in the Islamic Call), Sada Zayd (website), 20 April 2008, Link (access: 30 March 2010).
ترجمة: يسرى مرعي
مترجمة من سوريا، تترجم عن اللغتين الإنجليزية والروسية. تركز في ترجماتها على الدراسات التي ترصد علاقة الحداثة بالعمارة في الشرق الأوسط. إضافة إلى الاهتمام بالدراسات حول الإسلام اليومي والاستشراق.
مترجمة من سوريا، تترجم عن اللغتين الإنجليزية والروسية. تركز في ترجماتها على الدراسات التي ترصد علاقة الحداثة بالعمارة في الشرق الأوسط. إضافة إلى الاهتمام بالدراسات حول الإسلام اليومي والاستشراق.
توماس بييريه
محاضر في الإسلام المعاصر والدراسات الشرق أوسطية بجامعة أدنبرة. صدر له كتاب حول سوريا بعنوان " البعث والإسلام في سوريا: سلالة الأسد في مواجهة العلماء".
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.