قمت بزيارتي الأخيرة إلى سوريا في رمضان عام 2010، وكنت أتوق إلى العودة إليها غير أن الوضع لم يسمح بذلك. خلال العام الأخير، جلست على الضفة الأخرى، إن صحّ التعبير، أتحدث إلى الجيران وأرقب الأحداث من مسافة آمنة.
من العراق المجاور، من كردستان العراق على وجه التحديد، كنت أتابع ما يجري في سوريا. ومن هنا، تكلمت مع السوريين الذين غادروا قبل و خلال الأزمة الحالية. كان بعض طلبتي من العراقيين الذين أمضوا سنوات في سوريا. لقد ترعرعوا فيها ويشتاقون إليها اليوم مثلي تماماً.
في البداية، عندما وصلت العراق للمرة الأولى في خريف العام 2011، كان الأصدقاء السوريون في العراق (وليس جميع طلبتي العراقيين الذين عاشوا في سوريا) داعمين للإنتفاضة على نحو لا لبس فيه، كما أن العديد منهم أعادوا النظر في مواقفهم. لم يرغبوا في أن تسيطر الجماعات الدينية على المشهد ولا أن تنساق البلاد إلى حرب أهلية. ساد التفاؤل بينهم بداية الأمر، وكانوا واثقين من سقوط النظام سريعاً.
أما اليوم، فهم يتوقعون أن تنقلب سوريا إلى عراق آخر، وأن تدخل في نفق العنف لعقدٍ من الزمن على الأقل. من بين أسئلة كثيرة في هذا الخصوص، ثمة سؤالٌ حول مقدرة نظام الحكم السوري على الإستمرار طويلاً، وكيف أمكنه ذلك (خلافاً للنظامين التونسي والمصري اللذين سقطا بسرعة نسبياً). وأيضاً، ماذا فعلت الحكومة السورية (إلى جانب استخدامها القوة المطلقة) لتحافظ على بقائها في السلطة؟ سأقدّم في مقالي هذا دراسة لقناتين تلفزيونيتين سوريتين، سعت الحكومة من خلالهما إلى تعزيز موقفها و تحصيل الدعم.
بعد استقراري في شقتي الجديدة في أيلول/سبتمبر 2010، استعرضت القنوات الفضائية باحثة عن أخبار تتعلق بسوريا. وجدت القناتين المألوفتين؛ "سورية الإخبارية" و"سورية دراما". و فوجئت إذ اكتشفت قنوات سورية أخرى مثل : "سورية التعليمية"، "سوري؛ الطبيّة"، "سورية الحب" و "سورية البلد". كانت "سورية التعليمية" و"سورية الطبية" تبثان موادّ وثائقية أورو – أمريكية مترجمة، بينما تبث "سورية الحب" و"سورية البلد" أعمالاً محليّة. اتسمت "سورية الحب" بطابع قومي وحفلت بأعمال موسيقية ذات توجّه موالٍ، في حين قدمت "سورية البلد" أعمالاً عربية كلاسيكية مثل أغاني فيروز، وكانت تتلقى مكالمات هاتفية أثناء البرامج الحية حيث يتبادل المتصلون والمذيعون التحيات والدعاء والصلاة لسوريا كلّها كي تبقى آمنة، وتومضِ الشاشة بين الحين و الآخر بصور أطفال تترافق مع رسائل تهنئهم بعيد ميلادهم. اختفت قناتا "سورية الحب" و "سورية البلد" بحلول أيار/مايو 2012، ويمكن العثور على مقاطع لما بثته هاتان القناتان على الإنترنت فقط في زحمة الفيديوهات التي تترواح محتوياتها بين الأغاني القومية غير المسيسة والأعمال الموسيقية المناوئة للنظام. مالذي يعنيه اختفاء هاتين القناتين؟
لا يزال العنف قائماً، ولكن هل تخلّت الحكومة عن نموذجها الخاص؟ لسوء الحظ، هذه مهمة ينبغي تركها الآن لأبحاث مستقبلية، لأنني غير قادرة في الوقت الحالي على الوصول إلى المصادر والمراجع الضرورية. محور تركيزي في هذا المقام هو السؤال التالي: ما هي المواضيع الرئيسة التي تتكشّف هنا؟ ومالذي تقوله فيما يخص المخيالات الإجتماعية التي ترمي الحكومة السورية إلى تعزيزها؟ وكيف تحصّلت هذه القنوات على الدّعم بالقوة؟
كانت "سورية الحب" الأقصر عمراً بين القناتين. وفي شباط/ فبراير أو آذار/مارس تقريباً لم يعد بمقدروي مشاهدتها، وبعد شهرين، توقفت "سورية البلد" عن البث أيضاً. خلال بثّها، قدمت "سورية الحب" أعمالاً موسيقية تعبّر عن المحبة؛ محبة البلد ومحبة بشار الأسد من خلال مواضيع متنوعة: أغاني عسكرية، أغاني المسيرات الحاشدة، أغاني تراثية سورية وأغاني الرجال الأشدّاء. أظهرت الأغاني العسكرية بأس القوات المسلحة السورية وتفانيها، وعرضت أغاني المسيرات الحاشدة للمشاهدين داعمي بشار الأسد في الميادين، مرغمةً إياهم على ممارسة دور الداعمين نفسه، و رغم أن الحشود كانت تظهر ولائها علناً وبحماس، بقي مشاهدو التلفزيون خاملين و معزولين في منازلهم.
هدفت أغاني المسيرات الحاشدة إلى إحياء اللحظات العاطفية وإكراه المشاهدين على توحيد مشاعرهم مع "ملايين المحبّين"(1). وأخذت الأغاني التراثية المتابعين في جولةٍ افتراضية حول البلد، تجمع مشاهد للآثار الرومانية، المسجد الأموي، القلاع الصليبية والمدينة القديمة في كل دمشق وحلب. احتفت هذه الأغاني بالتاريخ القومي، مؤكدةً على الأصالة البلدية، وواضعةً إياها على قدم المساواة مع الولاء للدولة. ما تجدر ملاحظته في هذا الباب، أن الأغاني التراثية غالباً ما كانت تقدّمها مجموعات من الشبان، يؤدي معظمهم دور طلبة الجامعة بالنظر إلى طبيعة هندامهم وحقائب الكتب التي يحملونها. وفي عرضها لطلبة جامعيين يحتفلون بالتاريخ القومي، ضفرت القناة التعليمَ الجامعي مع الإستقرار، الولاء للنظام والأصالة في جديلة واحدة. كان المغنّون مزيحاً من الهواة والمحترفين، كما أدت الأغاني التراثية والعسكرية وأغاني المسيرات الحاشدة فنانات ومؤديات يجسدن النسوة السوريات الوطنيات وحتى العسكريّات.(2)
تشدد الأغاني على الصيغة الوسطية (غير الثورية) للتدين والتعايش السلمي، وعلى التعاون مع المواطنين السوريين العلمانيين وغير المسلمين من خلال إظهار النسوة المحجّبات وغير المحجبات وإقصاء المنقّبات عن المشهد. في بعض الأحيان أدى الأطفال أغاني المسيرات الحاشدة وأغان تراثية، و يغني الأطفال الصغار على وجه الخصوص أغاني تمجّد بشار الأسد.(3) صنّفتُ أغاني الرجال الأشدّاء، كتلك الخاصة بعلي الديك و وفيق حبيب، في خانةٍ منفصلة لأن بإمكانها الإستعانة بعناصر تنتمي إلى أنماط أخرى من الموسيقى القومية، إلا أنها ركزت من الناحية البصرية على المظهر البدني القوي للمؤدّين.(4) تتوسل تسجيلات الرجال الأشداء هذه بصورة "القبضاي" طبقاً لتحليل ميشيل جيلسِنان.(5)
تقليدياً، انتمى الرجال الأشداء إلى الفئة الشابة، حيث كان القبضاي هو الضامن للسلم في الحيّ. جرَت أمثَلة صورة القبضاي مؤخراً في المسلسل الرمضاني السوري "باب الحارة"، حيث ظهر القبضاي في صورة المدافع والحارس للقيم المحلية. يُختار هؤلاء من قبل أهل الحارة وهم من الحارة عينها. ومن الناحية المثالية، يمتاز هذا الرجل القوي بشجاعة الشباب، السخاء، و المقدرات القيادية العامة، إلا أنه ليس غنياً ولا متعلماً ولا عجوزاً بكل تأكيد. تَستحضر صورة القبضاي ذكريات عن تعايشٍ مشترك بين الجيران بغض النظر عن الدين أو الطبقة.
في ظلّ الحكم العثماني، كان نظام "القبضاي" عضوياً ومندمجاً بشكل جيد ضمن المنظومة السياسية الرسمية للإمبراطورية. وقد يُسهل هذا النظام أعمال المقاومة ضد الغرباء، سواء كانوا حكاماً أم أعداء، أو يمكنه تعزيز التعاون مع القوى الخارجية. وقد بقيت بعض الجوانب في نظام القبضاي على قيد الحياة بعد صعود الدولة القومية الحديثة في بلاد الشام. و تحوّل الزعيم (الذي يتعاون على نحو وثيق مع الرجال الأشداء) اليوم إلى رجل دين و رجل إدارة محليّ. وكما هو الحال في الماضي، لم يمنحه تعاونه مع الدولة وخاصةً مع السلطة التنفيذية، أي جهاز الشرطة، السلطة وحسب بل القوة أيضاً. علاوة على كونه وسيطاً بين إدارة الدولة البعيدة والمجتمع المحلي، فهو يستند أيضاً على الدعم العضوي الذي يمثله. وقد ضمّ نظام "القبضاي"، على اعتباره جزءاً من البنيات المحلية للسلطة والقوة، مسلمين ومسيحيين وأقليات أخرى أيضاً. لم يكن هذا النظام دينياً بطبيعته، وبالتالي، يمكن استثمارهُ كصورةٍ رمزية للتعاون والتعايش بين الطوائف. حين يؤدي الرجال الأشداء أغاني في محبة بشار الأسد وسوريا، فإنهم يخلقون الأواصر بين البنى المحلية للسلطة، وثيقة الصلة بالحكومة، مع ضامني السلم المحليين، ومع الأبطال الشعبيين كذلك. وحيث تضئ خلفية الشاشة بالمواقع التراثية القومية، التدريبات العسكرية والمسيرات الحاشدة، يقوم الرجال الأشداء في أدائهم بتوثيق اللحمة السورية بصورة رمزية، مؤسساتياً واجتماعياً ودينياً، ويذكرون المشاهدين المحليين والأجانب بأن استقرار المجتمع السوري يتهدده الخطر.
كانت "سورية البلد" أكثر تفاعلية من "سورية الحب"، و في حين قدمت "سورية الحب" فنانين هواة يعرضون أعمالهم الوطنية يتمّ تقييمها وبثّها من ثمّ، أتاحت "سورية البلد" مجالاً أكبر للتواصل. حيث أمكن للسوريين الإتصال في أي وقت تقريباً بالبرامج المباشرة وإرسال رسائل شخصية مدفوعة، وقد جذبت هذه الميزة الأخيرة العائلات من الطبقتين العليا والمتوسطة العليا، فاستخدموها لتقديم التهاني لأطفالهم وأطفال العائلات الأخرى ذات الحظوة بأعياد ميلادهم. وكان ذلك نوعاً من التنافس في إظهار الوجاهة و أسلوباً لخلق الروابط العائلية وتدعيمها. اشتملت البرامج على مضمونٍ شأنيّ Thematic صغير. فقد سمحت للسوريين بإجراء الإتصال على الهواء لطلب أغاني يهدونها لمن يحبون، ويظهر المضمون الوطني في بداية كل مكالمة، حيث يكرر المذيع المضيف (وهو دائماً امرأة) بشكل تبادلي عبارةً واحدة: سوريا بخير. كان معظم المتصلين من الذكور، وهنا يتولد عن التفاعل محادثات تمضي نحو غرضٍ واحد في النهاية: محبّة سوريا، ومعها النظام القائم حكماً. يُسبغ المنحى الجندري على هذه المحادثات طابعاً علمانياً أو على الأقل ليبرالياً دينياً، إذ لم يطلب المتصلون أغاني دينية على الإطلاق. فهم يطلبون عموماً أغاني عربية كلاسيكية لفيروز أو عبد الحليم حافظ على سبيل المثال. تستحضر هذه الأعمال الموسيقية التاريخ، الأصالة والإستقرار، فتخلق بذلك وشيجة رمزية بين الحكم الحالي والإستمرارية. من خلال إفساح المجال للسوريين بإرسال الرسائل وإجراء الاتصالات الهاتفية، أرغمت "سورية البلد" السوريين على المشاركة في الدعاية الرسمية وفي دعم الدولة.(6)
وراء الحدود السورية، أتاحت هذه القنوات للدولة السورية لتبرهن على أنها لا تزال قادرة على حشد الدعم. مع الأخذ بعين الاعتبار قدوم قوات شيعية عراقية ولبنانية على وجه الخصوص لدعم النظام السوري، وغيرهم في لبنان والعراق ممن انضموا إلى المعارضة، يبدو معقولاً أن تسعى الحكومة إلى التأثير في جيرانها عبر وسائل خطابية و جمالية. هذه القنوات هي جزءٌ من معركة أكبر، فهي تشارك في المعركة الخطابية والجمالية والوجدانية لبلوغ عقول وقلوب السوريين وجيرانهم أيضاً.
وفقاً لوالتر بنيامين Walter Benjamin؛ لا يسمح الفن الحديث (أو "الفن في عصر النَّسخ الآلي") للمشاهدين بالتركيز على الأحداث، العواطف والرموز المصوَّرَة والتأمل فيها في واقع الأمر. بالأصح، ينصرف انتباههم إلى الإنتاج الفني الضخم (أو الفن الهابط) مثل الدعاية الداعمة للحكومة التي يبثها التلفزيون.(8) إنها تؤثر في أعماق المشاهدين باستحضارها حنيناً إلى التراث السوري والفخر الذي يمثله، و ربطها ذلك بنظام السلطة. من جانب آخر، تؤثر بالمشاهدين بإكراههم على لعب دور الداعمين الواقفين بين الجماهير المحتشدة لدعم بشار الأسد. تثير قناتا "سوريا الحب" و"سوريا البلد" نوعاً من الرضى المرتبك، ومن الأهمية بمكان ملاحظة هذه الناحية لأن القناتين ليستا فريدتين في هذه الحيثية، إذ تمثل التكتيكات التي تتبعها القناتان نسخة مكررة لأعمال الجماعات القومية والطائفية التي تنشر إنتاجها الدعائي على أقراص مدمجة وعلى اليوتيوب اليوم.(9)
الهوامش
1-"ملايين منهتف منحبّك". 17 تشرين الأول/أكتوبر 2012.
2- إحدى هذه الأغاني التي كانت تبث أغلب الأحيان في خريف 2012 هي "حماك الله يا أسد" لأصالة نصري 17/10/2012. والجدير بالذكر أن أصالة نصري قد انضمت إلى المعارضة منذ ذلك الحين.
http://www.youtube.com/watch?v=058eGyHgQqA). Notably, Asala Nasri has since allied herself withthe opposition. Narmeen Ibrahim (accessed October 17, 2012,http://www.youtube.com/watch?v=P6qTjV8b3v4&feature=related)and Manal Mousa are other female singers who sing in support of Bashar al-Asad (accessed October 17,2012, https://www.youtube.com/watch?v=xCpnBvUUj6c&feature=related )
3- "ملايين منهتف منحبّك".
4- "عيني ربك سوريا". 17/10/2012.
https://www.youtube.com/watch?v=buL4JR14lvc&feature=related; “Hayou Souria,” accessed October 17, 2012,
https://www.youtube.com/watch?v=5AgOWunMKLY&feature=bf_prev&list=PL51FE7A43F026DF8F.
5- انظر :
Michael Gilsenan, Lords of the Lebanese marches: violence and narrative in an Arab society (Berkeley: University of California Press, 1996).
6- انظر:
Lisa Wedeen, Ambiguities of Domination: Politics, Rhetoric, and Symbols in Contemporary Syria (Chicago: University of Chicago Press, 1999).
7- انظر:
Kanan Makiya,The Monument: Art, Vulgarity, and Responsibility in Iraq. (Berkley: University of California Press, 1991)
8- انظر :
Walter Benjamin, Illuminations,ed. Hannah Arendt and trans. Harry Zohn (New York: SchockenBooks, 1968), 238-239
9- انظر:
Edith Szanto,Following Sayyida Zaynab: Twelver Shi‘ism in Contemporary Syria (PhD dissertation,University of Toronto, 2012), 125-132. )
Save
المترجم: باسل عبد الله وطفة
مترجم سوري، قام بترجمة عدد من الأبحاث والكتب والمقالات. عمل مؤخرا على ترجمة كتاب " ما بعد الاستشراق: المعرفة والقوة في زمن الإرهاب " للأكاديمي الإيراني /الأميركي حميد دباشي.
SaveSaveSaveSaveSaveSave