الحرب الأهليّة كبراديغم سياسيّ: هل يمكن للديمقراطيّة أن تنقذنا؟

04 نيسان/أبريل 2018
 
[هذه هي المادة السابعة من ملف ينشره موقع العالم عن سوريا، وللاطلاع على المادة الأولى انقر هنا، والثانية هنا، والثالثة هنا، والرابعة هنا، والخامسة هنا، والسادسة هنا]

«لِيعو، سَربروس في الدروب/ في بابل الحزينةِ المهدّمه/ ويملأ الفضاء زمزمه،/ يمزِّقُ الصِغارَ بالنيوب، يقضمُ العظام/ ويشرب القلوب».
 سربروس في بابل، ديوان السياب، دار العودة، ص 127.
لعلّه من غير المناسب أسطرة هذا القاتل الخسيس. لكنّ سربروس وهو يحمي «مملكة الموت» يمثل نزول الأسطورة نزولاً استراتيجيّاً في البلاد السوريّة، كما هو حالها مع نزولها في قصيدة السياب، فهي لم تكن عنده مجرد كناية بلاغيّة. الكلب سربروس الذي يمزّق العراق هو في الحقيقة تجسيم لواقع العراق المعاصر. وهو صورة الحاكم العربيّ كراعٍ للحرب الأهليّة. وصورة البلد العربيّ كمعسكر يكتّظ بالموت اقتتالاً. ففي غمرة الحرب، لا يترك لك الموت مجالاً إلّا للظنّ بأنّه المتصرّف الوحيد. ليس الموت في سوريا، ولا بأيّ شكلّ مخفف للوصف، مجرّد مُستقلبٍ فرعيّ أو ثانويّ للصراع على السلطة. لقد توطّد حكم الأسديّين على مجزرة خاطفة في حماة تركت الحياة السياسيّة في سوريا جثّة غير مدفونة.

لم تكن تلك المجزرة مجرّد صدام مسلّح تخللته بعض حالات الانتقام. وإنّما كانت على الهيئة التي وقعت عليها ومن ثمّ التي انتشرت فيها رواياتها سرّاً كما لو كانت قادمة من زمنٍ للموت، لا علاقة للسوريّ به إلّا عبر ارتكاسي الخوف والصمت، وخبرة الذاكرة المخيفة. كانت هذه المجزرة صيغة من الصيغ ما قبل الدستوريّة التي ستحكم سوريا طوال كلّ هذه السنين. مجزرة ذلك اليوم لم تكن حدثاً معزولاً أو عابراً، فحتّى مع حدوثها بعيداً عن الأنظار والأسماع، وحقيقة أنّه أريد لها بأنْ تنتهي بسرعة كحدث؛ كان الحرص شديداً على أن تستمّر في الممارسات السفليّة للسلطة، وفي الفضاء العام المشحون بالرموز السلطويّة الرديئة، وفي السجون التي ستُقدّم في الكلام الليليّ والكلام السريّ للسوريّين بوصفها انحسار ظلال المجزرة من المدينة وتكثّفها في حجرة التعذيب عشوائيّة المقاسات، في تدمر وغير تدمر.
 
ههنا، ليس العنف الرمزيّ، وتكثيف العنف الرمزيّ، ومركزة العنف الرمزيّ؛ مسألة يحتاج شرحها لذكاء التحليل أو التأويل. أو، العنف الرمزيّ في سوريا من بعد هذا هو عنف سافر ومسّف، وليس "غير مرئيّ"، وليس بينه وبين القول والفعل إلّا انفعال تافه لأحد أهل السلطة. إنّ مكوّن القسر والإكراه في الدولة الأسديّة متعرّ ووقح، وظلّ كذلك كتقنيّة أساسيّة أو سائدة للحكم، لا تظهر بدائيّتها فقط في وحشيّة التعذيب في السجن السياسيّ، وإنّما كذلك في المخافر وفي السجون غير السياسيّة، وكذلك في شتى مؤسسّات الدولة، في الجامعات مثلاً والمشافي ثمّة فرق حزبيّة وفروع أمنيّة، أو مندوبو أمن وحزب مخيفون حقيقةً لا مجازاً، ويعرف ذلك كلّ سوريّ.

وبين مجزرتين و"حربين"، صارت السيطرة أكثر وضوحاً، وتكشّفت طبيعة البنية التحتيّة للتسلطيّة الأسديّة. بين الثمانينيّات وسنيّ هذه الحرب؛ لم يعد ثمّة من حاجة إلّا للتذكر والرواية. بالتأكيد ثمّة مساحة زمنيّة للادعاء بأنّ الأمور تغيّرت. لكن من أيّ كهفٍ طلع كلّ هذا الموت ومرّة واحدة. أفلا تقدّم هذه الحرب/المجزرة بطريقة راجعة مقولات تفسيريّة لا تنضب، وربّما تفيض عن حاجة زمنٍ شبه فارغ إلّا من رموز وبلاغة مبتذلة وبذيئة.
 
وعلى أيّ حال، ثمّة أمر آخر تغيّر أو صار واضحاً، فهيئةُ سربروس الحارس لمملكة الموت هي من انكشفت أكثر في حربنا هذه. إذ لا يبدو رأس النظام هو المتصرّف الوحيد بالمجزرة، وليس هو سيّد القتلة، عاهل الموت والموتى، أو هو صاحب السلطة التنفيذيّة العليا للمجزرة. تشير وقائع الحرب، ومع حاجته لكلّ هؤلاء القتلة النظاميّين وغير النظاميّين، إلى أنّه يُلجم أحياناً ويطلق أحياناً أخرى. لم تعدْ له سلطة وحريّة مطلقة للعواء والتمزيق والنهش والقضم، ليس لأنّ سيدّه أكثر رحمة أو تعقلّاً منه، وإنّما فقط لضرورة توضيح الفارق بين سربروس وسيدّه، أو لأنّ فيها شركاء [قتلة] متخاصمون. سيبدو لنا تاريخ سوريا، كما هو تاريخ الدولة العربيّة، في هذه المرحلة ازدهاراً لمملكة الموت.

وسربروس سيحظى بوظيفته صراحة، سيسمن، وسيمصّ عيون سوريا وسوريّيها إلى القرار. هذه الحرب هي تأسيس ثانٍ، وتفسير مضاف، عبر تقانة القتل العاديّ الكثير والتدمير الرخيص الواسع. ليس تاريخ هذه الحرب تاريخ معارك، وإنّما تاريخ مجازر كثيفة وغزيرة وقعت بين زمنين. يبسط سربروس ذراعيه في وصيد عالم سفليّ لسلطة الموت، فتظهر صورة الحاكم العربيّ بدولته التحديثيّة بسماتها الشموليّة حارساً لـ"مملكة الموت" ومُعِدّاً لـ"الحرب الأهليّة".

ستازيز أغامبين

يبدو أنّ استسهال إطلاق اسم "الحرب الأهليّة" على "الحرب السوريّة" عائدٌ إلى تحرّي الدقّة أو الموضوعيّة في غير مواضعها. هذا عادة ما يحدث في السجال السياسيّ الشائع. حيث يُضمّن "النقاش العلميّ" تضمينات سياسيّة اعتباطيّة، تخفي دوافع مختلفة تشكّل مواقف. وهذا السجال هو في النهاية وفي البداية حبيس قوالب ذهنيّة، هي البقيّة المهيمنة أو المتداولة، مقابل انغلاق التاريخ والمعرفة على البدائل التي هزمت أو اندثرت أو كان محلّها الإهمال ببساطة كما يوصّف بورديو إلتزاماتنا وإلزاماتنا الفكريّة. سيتراوح إذاً السجال السائد، حتّى في المستوى العلميّ، في الحالة السوريّة بين وصف الحالة بالحرب الأهليّة أو بالأزمة السوريّة. إلى جانب ذلك، تبرز توصيفات مثل "حرب بالوكالة" أو "حرب طائفيّة" أو "حرب دوليّة"، من قبل مختلفين، في سياق محاولة إعطاء الحرب اسمها اللائق.

وليس محلّ اشتغال أغامبين في كتابه (Stasis, der Bürgerkrieh als politisches Paradigma) بالضبط وضع نظريّة للحرب الأهليّة. وهو يشكو من افتقار النظريّة السياسيّة لنظريّة للحرب الاهليّة (Stasiologie). وإنّما ينحصر اهتمامه بفحص تشكلّها في الفكر السياسيّ الغربيّ في لحظتين: في شهادات مؤرخيّ وفلاسفة اليونان الكلاسيكيّة، وفي التراث الفكريّ لهوبز. وينطلق أغامبين في فحص هاتين الحالتين أو اللحظتين من مشكلة عدّم توفر النظريّة كما أسلفنا. ويعزو ذلك بشكل أساسيّ، في مرحلة سابقة، إلى شيوع مفردة الثورة وفقاً للفهم الماركسيّ كتقييم إيجابيّ في الغالب.

الأمر الذي ضلل عمليّة البحث والدراسة فيما يتعلّق بتمييز ما هو ثورة وما هو حرب أهليّة وما هو حرب ثوريّة وما هو حرب عموماً. لكنّ مع نهاية السبعينيّات من القرن العشرين، ومن ثم مع نهاية الحرب الباردة، انحسر "ألق كلمة الثورة" لوصف القلاقل والنزاعات والصراعات الاجتماعيّة والسياسيّة، دون أن يتطور بشكل موافق نظريّة متكاملة عن "الحرب الأهليّة" لعزلها عن الأشكال الجديدة والمختلفة من الحروب منذ الحرب الباردة. والحال، أنّ ما سميّ بالحروب المناطقيّة أو الداخلّية (internal and regional wars) ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة لم تجد نهايتها مع نهاية الحرب الباردة.

حيث يقدّر بأنّ حوالي نصف دول العالم عانت من واحدة أو أكثر من أشكال النزاعات المسلّحة منخفضة النطاق SSCs. هذه الحروب من حيث طبيعتها، ومن حيث طبيعة الوضع الدوليّ السائد، لا تسمح لنا بوضع تصنيفات حادّة بين حرب أهليّة وحرب غير أهليّة. والواقع، أنّه من المسلّم به بأنّ الحروب الكلاسيكيّة ما بين الدول قد انتهت -ولو مؤقتّاً- وأنّ طبيعة الحرب القادمة بين الدول بعد مراكمة كل هذا الكمّ من السلاح الشامل وتقنيّة الحرب تبدو طبيعة مجهولة قياميّة المصير. فحتى حرب الخليج، كما يقول أغامبين، والتي كانت آخر حرب بين دولتين، لم تبدأ بـ"إعلان حرب"؛ الأمر الذي اعترضت عليه الحكومة الإيطاليّة مثلاً. ويضيف بأنّ استمرار إهمال فحص الحرب الأهليّة وتنظيرها ترافق مع تزايد الاهتمام بما سمّته أرندت في كتابها في الثورة بالحرب الأهليّة العالميّة. ومن ثمّ صار يُعتبر اعتباطاً بأنّ "العمليّات الإرهابيّة" هي أشبه بعمليّات في سياق حربّ أهليّة ضمن "حيّز المجتمع الدوليّ".

في هذا الصدد، تشكل عودة أغامبين للحظة اليونانيّة، وتشخيص حالة الستازيز (Stasis) محاولة مهمّة لتصوّر الحرب الاهليّة كشكل متمايز من الحروب، وتصوّرها كبراديغم سياسيّ بالأحرى كما يقترح أغامبين. الأهميّة الأولى تأتي من ضرورة عدم سحب تلك اللحظة على الحالات التي قد تبدو مشابهة أو تعميم إسقاطها، وإنّما من أهميّة تمييز ما يمكن تسميته في النهاية حرباً أهليّةً، والتوقف عن إدراج ذلك في سياق السجال السياسيّ والتنابز بالألقاب. والأهميّة الثانية تكمن في تصوّر الحروب بوصفها عمليّة صميمة في نشأة الدولة والقانون، وفي توزّع وإعادة توزيع رؤوس الأموال الرمزيّة والماديّة. وعلى أيّ حال، لا تمثل الحرب أيّاً كانت، إلّا طفح التناقضات والتضادّات التي لم تعد تطاق في النظام السياسيّ والاجتماعيّ. فالحرب تكمن في صميم السياسيّ، أو في صميم تكوّن النظام السياسيّ والقانونيّ، والسياسيّ الاجتماعيّ.

بمراجعة الأدب المنشور عن الستازيز، ينتقي أغامبين دراسة Nicole Loraux معلّلاً ذلك بحثثها الستازيز اليونانيّ في موقعه الأثير in situ؛ بين البيت oikos والمدنية polis. في الوصف الأفلاطوني، تسمّى مثل هذه الحرب بأنّها حرب الأخوة، ويستخدم مصطلح (oikeios polemos) الذي له وقع النشاز اللغويّ عند ابن البولِس اليونانيّ من أثر الإرداف الخلفي [التّناقض اللّفظيّ] (oxymoron). حيث إنّ اسم الحرب (polemos) يطلق عندهم في العادة على الحرب مع العدوّ الأجنبيّ أو الخارجيّ، ما يشكل قرنه بالـ oikos نفوراً وتناقضاً. إنّها حرب بين بيوت المدنية، حرب الأخوة وأبناء العمومة. والعائلة أو البيت هي في الوقت والشكل ذاته محلّ الستازيز، وكذا محلّ المصالحة السياسيّ.

"اليونانيّون يقتتلون فيما بينهم كما لو أنّهم يريدون التصالح ثانية"، يكتب أفلاطون. ومتابعة مع مرويّات إحدى الحروب الاهليّة [stasis] من إحدى المدن اليونانيّة الصغيرة (Nakon) تتوفّر لدى Loraux معطيات إضافيّة لشرح الستازيز وموقعها من النظام السياسيّ. فبعد أن ارتوت الحرب من دماء أهل البولِس، ووضعت أوزارها، جاء الصلح على هيئة نسيان مُجسدن وقابل للتوريث، إذْ صمم هذا النسيان بحيث إنّ كل خمسة أفراد كوّنوا عائلة وأخويّة جديدة، وبدلّوا أسماءهم، بحيث تنسى في الجيل الثاني أخوة الدّم، بهدف قطع سلسلة الثأر والذاكرة، وبحيث تترسخ على نحو حصريّ أخوّة المدينة، أو أخوّة البولِس المحضة. ومن أنماط هذا النسيان ما هو بمثابة العفو والصفح، فالنسيان هنا ليس بمعنى فقدان الذاكرة، وإنّما يعني وينصّ على ألّا تحمل الضغينة وألّا تختزن ذاكرةً شريرّة. العفو الأثينيّ كان فكرة قانونيّة موجبة، وكان عهداً وعقداً، ولم يكن مجرّد نسيان أو تجاهل؛ فهو يعني بالأحرى عدم سوء استغلال ذاكرة الستازيز.

 
علينا، بالاستناد لأغامبين، أنْ نفكرّ بالبولِس، بالمدينة اليونانيّة ككيان سياسيّ مكون من عشيرة (Phylon)، الروابط فيها روابط أخوّة الدّم وأبناء العمومة، لكنّ هذه المدينة، هذه الوحدة السياسيّة تحتوي على تمايز مقونن، أوضح ما يتظاهر في الستازيز. كان أخوة، أو مواطنو، المدينة اليونانيّة مطالبين بممارسة واجبهم السياسيّ بالانخراط في الحرب الاهليّة -أي الستازيز. ويفسر أغامبين النصوص التي تطلب منهم ذلك، وإلّا ضحوا بحقوق المواطنة، بأنّه ليس تمجيداً أو استحباباً لمثل هذه الحروب، وإنّما هو الحرص على تميّز وتمييز مجالين للحياة وللنشاط، البيت والمدينة هما مقابلان لــ، ومتواشجاً مع، الحياة الطبيعيّة  Zoe (gr. ζωή)  والحياة الإنسانيّة [السياسيّة] „Bios“ (gr. Βíος) ، وفي هذه الحالة ثمّة تقابل بين البيت والحياة الطبيعيّة [العيش] وبين المدينة والحياة المدنيّة أو السياسيّة [الحياة].

وإنّ هذين المجالين مجالان يتم صيانتهما سياسيّاً وقانونيّاً. وإنّ الحرب الأهليّة، الستازيز، من هنا نفهم مع أغامبين، لا تقع في المدينة ولا في البيت. إنّها عتبة من التسيّس واللاتسيّس، يحدث عندها نزع أو نكوص تسيّس المدينة، وتسيس أو فرط تسيس العائلة/البيت، وتستمر كموجات جيئة وذهاباً في تناقضات وتضادّات في شتى المجالات، من البيت نحو المدينة، ومن المدينة نحو البيت.

ومن هنا نفهم فلسفة واجب المشاركة في الحرب الاهليّة المنقول من نصوص فقهاء وفلاسفة ومؤرخّي وشعراء اليونان. إنّه ثمرة وعي الأثينيّ، أو ساكن البولِس اليونانيّ عامّة، بالتمايز والحدود القانونيّة والأخلاقيّة بين البيت والمدينة، فمن لا يشارك في الستازيز يحرم من حقوقه السياسيّة والمدنيّة، بمعنى، يتم حصره في البيت وتصان حقوقه البيولوجيّة أو الإنسانيّة. ومن يشارك، فإنّما يمارس واجبه وحقّه السياسيّ، بشرط أن يتذكّر شعيرة العفو، بوصفها تشريعاً قانونيّاً وكفاحاً سياسيّاً هي الأخرى. ومن لا يشارك في الستازيز لا يصون المدينة ولا يصون البيت. بالاستناد إلى كلّ من Meier وشيمت وLoraux يُجْمل أغامبين القول: إنّ الحرب الأهليّة لا تحدث في العائلة/البيت ولا تقع على حدود المدينة أو خارجها أو من خارجها.

وإنّ السياسيّ هو طاقة تتظاهر آثارها في فروق الشدّة والتوتر في وحدة سياسيّة بين افتراق أو ارتباط. وإنّه عند عتبة ما في التوتر المقيم بين كلّ مكونات الوحدة السياسيّة يحتدّ التسيس، وتتشكل عتبة، يعني تجاوزها نشوب الحرب الأهليّة، والتي تعني حالة من عدم القدرة على التمييز ومن عدم التمايز بين البيت والمدينة، بين السياسيّ واللاسياسيّ. حالة من نزع تسيس المدنية، وفرط تسيّس البيت. إنّها [الستازيز] تكمن مع السياسيّ في جملة من الاستعدادت والميكانزمات -في مطرِق جزيئات وروابط السلطة Dispositiv بتعبير فوكو- المنتشرة واللابِدة في المجموعات والجماعات والمجتمعات وفي علاقات السلطة الجنينيّة والمتمايزة. وهي تلعب دور حالة الاستثناء، فكما أنّه في حالة الاستثناء تستدمج "الحياة الطبيعيّة" في النظام السياسيّ القانونيّ، كذلك فإنّ البيت oikos يُستدمج من خلال الحرب الأهليّة Stasis في المدينة polis.

لا مشّاحة في الاصطلاح. فيمكن أن يطلق على ما يحدث في سوريا بأنّه حرب أهليّة ويدرس تحتها حرباً أهليّة سوريّة. لكنّ ذلك يجب أنْ يتضمّن ضرورة، وعلى غرار تناول أغامبين للستازيز اليونانيّة كبراديغم سياسيّ، دراسة "المدنية السوريّة" و"القرية السوريّة" و"البيت السوريّ" و"الدولة السوريّة" و"السياق السوريّ" و"الحرب السوريّة" لرسم المعالم الوافية للمسألة السوريّة. حيث يبدو بأنّ اسم الحرب الأهليّة يستخدم دون استشكال ودون تساؤل أو مساءلة، وأكثر في سياق الحكم القيميّ أو الجماليّ، في سياق الذمّ والهجاء، عوضاً عن العلميّ السياسيّ أو القانونيّ. فهل يمكن بداية التعامل مع حرب وقعت أساساً بين طرفين: الأوّل سلطة سياسيّة حديثة، أو نظام سياسيّ حديث، ذات أجهزة ومؤسسّات لها هيكليّة وهرميّة معينّة أيّاً كان مستوى النضج والتجانس فيها؛ والثاني مدن وبلدات وجهات وجماعات وتجمّعات مختلفة وكثيرة؛ التعامل معها كحرب أهليّة كلاسيكيّة، أو كحرب أهلية بداهة، تقع أساساً في أو بين مدن أو جهات أو كيانات أهليّة روحيّة.

وهل يمكن الاستمرار بذلك مع كلّ هذا الكمّ من العنف التقنيّ المؤسساتيّ المدولن، والتدخل الأجنبيّ والخارجيّ الدولتيّ وغير الدولتيّ؟ أين هي حدود التمييز الواضحة بين حرب ثوريّة وحرب أهليّة، بين حرب مخصخصة وحرب نظاميّة، بين حرب شرعيّة وحرب غير شرعيّة، بين حرب محدودة وحرب شاملة، بين حرب محليّة وحرب إقليميّة ودوليّة؟ وما هي النتائج والاستنتاجات التي يمكن إقامتها على مثل هذه التمييزات؟ أهميّة مثل هذه التساؤلات تكمن بداية في التوقف عن استسهال مثل ذلك في سياق السجال والتنابز.

وكذلك التوقف عن تناول الحرب عموماً كما لو أنّها خطيئة مدنّسة من أولّها إلى آخرها وبكلّ من فيها. وكذلك التوقف عن فهم أنّ نتيجة الحرب الوحيدة هي انتصار هذا الطرف أو هزيمة ذلك الطرف. مثل هذا مهمّ وضرويّ، أو جارٍ لا محالة، إلى حدّ كبير في النقاش والسجال السياسيّ اليوميّ والراهن ولا شكّ. ولكنّ قيمته العلميّة وقيمته التقنينيّة وقيمته التنظيريّة السياسيّة تقترب من الصفر. إنّ النظر في الحرب بما هي "براديغم سياسيّ" كما يقترح أغامبين، أو بما هيّ واقع أو تطوّر اجتماعيّ-سياسيّ، فيما يشبه الدورة، هو الطريق [الوحيدة] للوقاية من، أو لإدارة وتنظيم وقوننة، الحروب عبر التنظير والتنظيم السياسيّ والقانونيّ.

في هذا الصدد، يمكن استشكال مسألتين اثنتين في الحرب السوريّة لجهة عدم وضوح ما المراد بنعتها العام بـ"الحرب الأهليّة": المسألة الأولى تتعلّق بطبيعة الدولة الحديثة عموماً، وبالطبيعة الخاصّة والاحتلاليّة للدولة الأسديّة. لن تكون الصعوبة في هذا السياق في توصيف التشابه بين تصّرف حكومة احتلال وتصرّف حكومة الأسد، إنْ من حيث البنى الحاكمة والمتسلطة أو من حيث مسالكها ووظائفها وعلاقاتها. فطبيعة هذا الطغيان ترجمت في طبيعة حرب دمّرت بها "الحكومة" "دولتها" و"مدينتها"، وانتهى الأمر. لكن ما قد يتعذّر البتّ فيه هو، قبل ذلك، الخلاف على [قصر] فهم الدولة إلى كونها أجهزة وقوّة إداريّة وتنظيميّة تتركّز وتتجانس وتتماهى فيها التشابهات والتناقضات لتأسيس الأجهزة الأساسيّة للسلطة الحاكمة، والتي في أساسها تكمن عمليّة مركزة واحتكار للمصلحة والمنفعة والقوة والعنف الفيزيقيّ والماديّ، فتصير في المحصلّة السلطة الحاكمة شيئاً واحداً مختلفاً أو مفارقاً -بهذا القدر أو ذاك- عن أجزائه أو مكونّاته، وأضخم وأقوى إلى حدّ بعيد من مجموعها.

هذا [القصر أو الاختصار] بطبيعته يفضي بأثر لاحق لتجاهل التركّز والتركيز والاحتكار للرمزيّ والروحيّ، وكذا لتجاهل القانون في ذاته [فهمٌ للقانونيّ في نزعة شكلانيّة]؛ وما هو أهم في السياق هنا، لتجاهل الأناركيّة الطبيعيّة في الناس، أي، يتجاهل العصبيّات والقبْليّات، الاستعدادات والتشكلّات، التعقلّات واللاتعقلات، العلاقات والانفصامات، مما هو سابق للدولة، هذه الدولة المعيّنة، أو تلك. بيد أنّ هذا الاستشكال يطرح في المقابل إذا ما مال كلّ الميل للفهم والتناول الأخير [الأناركيّة ممتدة بالضرورة للدولة أو تترجم فيها] إلى وجوب فهم أي صراع أو اختصام أو اقتتال في مجال أو إقليم دولة بوصفه حرباً أهليّة، حتى ولو كان هذا يجري على سبيل المثال بين مجموعة فرق عسكريّة تقودها أوليغارشيا ضبّاط وبين جهة أو فئة أو جماعة أو تحالف في مجال هذه الدولة المعترف به أو غير المعترف به.

وحتى لو أفضى هذا الاقتتال لحسم سريع في ما يشبه الانقلاب العسكريّ، أو كان في مبتدئه أو في واسطته أو نهايته يتداخل بما هو خارجيّ أو أجنبيّ تداخلاً معتبراً. وعندها سيظهر المعيار التفريقيّ في الفرق في الشدّة أو النطاق [فقط]، ما يقود لعدم استشكال تسمية مثل هذا، وما هو مثل الانقلاب العسكريّ، أو ما هو مثل الثورة قليلة العنف؛ تسميتها بـ"الحرب الأهليّة المحدودة" مثلاً. في حين أنّ الحرب ذات الشدّة والنطاق الأوسع ستوصف بـ"الحرب الأهليّة المنتشرة" حتى ولو كان مُبتدأ التنازع والاقتتال بين الدولة [أجهزة الدولة] وعدوّ لها من بين الناس في مجال إقليمها، أو كان في سببها وسيرها العامل الأجنبيّ أو الخارجيّ.
 
 بكلام آخر، يمكن الحديث فقط عن تغاير في الشدّة والنطاق في التفريق بين ما هو تمرّد داخليّ وما هو ثورة شعبيّة أو حرب أهليّة. فمجزرة حماة 1982، وكل الصدامات التي وقعت آنذك هو تمرّد "كان حقّه" ما وقع به على يد "الدولة". وذلك أنّه تطوّق أو طوّق في "فئة" أو "مدينة" أو "تيار". فهو لم يرق في شدّته وفي نطاقه حتّى لمستوى "الحرب الأهليّة المحدودة". وأمّا ما حدث في 2011، وكل المجازر التي وقعت منذ أولى عمليّات القتل فهو إمّا ثورة شعبيّة أو حرب أهليّة؟ وذلك أنّ الصدام بين "الدولة" وبين "الناس" وقع على مستويات عدّة وعلى نطاق واسع وبشدّة كبيرة.

يبدو مثل هذا الفهم مقبولاً إلى حدّ أو آخر. لكن نقطة الجدل هي أنّه طرح يعوق تلمّس أو تفحّص الاختلافات النوعيّة بين هذه الأشياء والأمور. وبالتالي قد يحول دون إدراك واستيعاب ما يشير إليه أغامبين، وما سأوضّحه أكثر في سياق هذا المقال، وهو؛ كون الحرب الأهليّة، أو هذا النمط من الحروب، يمثل براديغماً سياسيّاً متمايزاً في ذاته، كجزء من "دورة السياسيّ". أي يسبب مشكلة في إدراك الأبعاد السياسيّة/القانونيّة والاجتماعيّة/الاقتصاديّة الكامنة خلف الحالات المختلفة.

إنّنا قد نسمّي الحالة كليّاً بين حماة 82 وسوريا 2017 حرباً أهليّة منتشرة مع فترة سلام استسلاميّ طويل. أو قد نميّز ما هو حرب أهليّة بالخاصّة عمّا هو حرب أهليّة عموماً. أو نفرق بين حرب في أساسها لم تنشب بين مكوّنات أناركيّة إقاطعيّة عصبويّة الطابع، أي لم تصطدم فيها كتل اجتماعيّة باختلافاتها المذهبيّة والعرقيّة والجهويّة؛ وإنّما أخلاط من هذه مع "السلطة الحاكمة"، مع اعتبار طبيعة مؤسسات الحروب واستراتيجيّات الحروب الحديثة. إلى هذا الأخير، ينتمي الاستشكال الثاني، وهو في غاية الأهميّة فيما أحسب. إذا اعتبرنا بأنّ الحرب الأهليّة التي تنشب على هوامش -الهوامش كبيرة ومهمة بلا ريب- الحرب التي تقع بين السلطة الحاكمة ومكوّن واحد أو أكثر من مكونات الناس أو الشعب الواقعين في مجال اختصاصها القانونيّ الاعتباريّ، أو ببساطة في مجالها الإقليميّ والسياديّ كما آلت إليه الأحوال.

فإنّ ضرورة تمييز مجمل هذه الحرب عن الحروب بين الدول أو الحروب النظاميّة من جهة، ومن جهة ثانيّة وهو المعتبر في سياقنا عن "الحروب الأهليّة الكلاسيكيّة"، وأعني بها تلك الحروب التي تنشأ في ظروف الأناركيّة عصبويّة الطابع، أو بعض طبائع الحروب التي تنشب في الظروف الحديثة في بلدان لا زالت الأناركيّات العصبويّة ممسكة بتلابيب بنيتها القبْليّة الأساسيّة أو الاجتماعيّة. وضرورة تمييز النمط المتغاير غير المتجانس لهذه الحروب، أي عزل الصدامات بين الكتل أو الجماعات الأهليّة والروحيّة عن الصدامات مع السلطة الحاكمة [مع اعتبار البنية القبليّة لهذه]. ومن جملة ما يضاعف أهمية هذا التمييز هو تقنيّة الحروب الحديثة، أسلحتها وتكتيكاتها واستراتجياتها واقتصاديّاتها، وغير ذلك.

الثورة السوريّة أو الحرب السوريّة، أو الحرب الأهليّة السوريّة لو أحببت، هي الثورة والحرب الأهليّة الأولى من نوعها التي تواجه سلاح الجوّ، وكلّ ما يقصف من مسافة بعيدة من البحر أو البرّ، على هذا المستوى من الشدّة والنطاق والتواتر والزمن. في الحروب الأهليّة الكلاسيكيّة، أو في الحروب الأهليّة الحديثة الأكثر تمايزاً لجهة كونها حروباً أهليّة تنشب من مواقع متساويّة ومتشابهة، أو متقاربة لناحيّة الذرائع والوسائل والغايات، على إثر احتدام الصراع بين كتل أهليّة وروحيّة عند بلوغ عتبة تسيّس -تكون الدولة في هذا الحالة إمّا طرفاً محايداً أو فاشلاً أو ضعيفاً أو مساوياً أو مقارباً لقوّة أقوى الأطراف-، أقول في مثل هذه الحروب يحدث التحام عنيف بين هذه الكتل وبين حشود من الأفراد، وليس علينا أن نفترض هنا غياب نيّة الإبادة أو إلحاق الهزيمة التامّة بالعدوّ من حيث المبدأ، ولكن مثل هذا الالتحام والاشتباك المباشر له دور في التأثير في المضمون والمحصول السياسيّ-القانونيّ، الاجتماعيّ-الاقتصاديّ لمثل هذه الحروب.

ففي حالة سلاح الجوّ والقصف البعيد، والقدرة والقوّة المطبقّة أو المتوفرّة لسحق أو إبادة أو استباحة العدوّ، في هذه الحالة، الفرضيّة تقول إنّها حرب أهليّة، من دون إلتحام مباشر معه، وبحسب البراديغم الأغامبيني في الستازيز، سينجم عن ذلك تشّوه التسيّس واللاتسيّس المرافق لحالة الحرب. فإذا ما كان طرفٌ في هذه "الحرب الاهليّة" يشغل الدولة العامّة ويملك أجهزتها، ويسيطر على "مؤسسّة الموت" عالية الكفاءة؛ فإنّ علينا أن نفترض تغيّر طبيعة هذه "الحروب الأهليّة" من الأساس. وهذا أمرٌ لم يختبره التاريخ بعد.
 
 
هل يمكن للديمقراطيّة أن تغيثنا؟
 
نعود مرّة أخرى لبورديو، وكيف يشير إلى أنّ مسار التاريخ هو مسار تفضيل وحذف وانغلاق، دون التسرّع في تلقي هذا الكلام بمفهوم غائيّ أو تاريخانيّ. فما يراه بورديو هو أنّ البدائل لا تعود مطروحة مع الزمن، فهذا التفضيل أو الاصطفاء أو التمايز ليس تطوريّاً خطيّاً صاعداً أو نازلاً، وليس هو في حينه وفي موضعه يوم اصطُفي مجرّد مسألة براهين أو قناعات بقي منها الاقوى أو الأوضح أو الأصلح. وإنّما، في كلّ مرّة وعند كلّ حدث ذهب الزمن باتجاه ما، وما بعده ترسّخ أو رسخ فيما يشبه القوالب الذهنيّة، التي لا تتيح فيما بعد ولا بأيّ شكل تجاوزها. فهل يمكن أنْ يحاجج المرء اليوم بأنّ الديمقراطيّة ليس صالحة ببساطة، وبأنّه يجب استدعاء البدائل من التاريخ القريب أو البعيد؟

 يمكن طرح ثلاثة مستويات للإجابة: على مستوى التنظير السياسيّ العمليّ، يبدو هذا متعذرّاً ومثيراً للاستهجان ورجعيّاً -دون افتراض حمولة إيديولوجيّة معيّنة للفظة الرجعيّ. وعلى المستوى العلميّ السياسيّ والسوسيولوجيّ، يبقى هذا ممكناً وواجباً، ولكنّه سيحظر على هيئة نقد المهيمن والسائد والمركزيّ. على المستوى العمليّ والتطبيقيّ، ليس مستبعداً أن ينتج تخيل ذلك نماذج مفرطة في كاريكاتوريّتها كما هو الحال في جلّ التجارب والنظم السلطويّة التوتاليتاريّة والثيوقراطيّة المتأخرة [عربيّاً بالمقام الأوّل].

مثل هذا يتضّح أكثر في التفكير بالدولة بحدّ ذاتها. فلا يمكن تصوّر أنْ تطرح فكرة ألّا توجد دولة أساساً. ولا يمكن تصوّر حتى أن تطرح أفكار عن دولة بوظائف دولة زمن خلى أو دولة غير سياديّة من حيث الأساس. لا يمكن تصوّر طرح ذلك في النقاش السياسيّ على الأقلّ. لكن مثل هذه الطروحات موجودة في نظريات وعلوم الدولة النشوئيّة والوظائفيّة واللاهوتيّة والغائيّة. والمعنى بأنّ التفضيلات أو الإجبارات المعرفيّة والمنطقية السائدة، وإنْ كانت لا تحمل في كنهها وفي جوهرها الأفضليّة والإجباريّة، تمثّل انغلاقاً في الخيارات والتصورات والاستشرافات. وما سيحدد الخطورة التالية من التاريخ هو التاريخ نفسه، دون أن نحسن الظنّ به.

يبدو آلان باديو متشككاً تماماً في مقاله “شعار الديمقراطيّة". وهو يأخذ هذا التشكك على محمل الجدّ، ويأخذه على مستوى العالم، أو المستوى العالميّ. ويقول: "لا يمكنك بأنْ تكون لا ديمقراطيّاً، وإلّا اتخذوك هزواً، فلا يمكن التفكير ب»العالم كلّه« –عندنا- دون شعار ديمقراطيّ. ويمكن للمرء أن يسمّي ذلك ببداهة الشعار. [ل]كن، بالنسبة إلينا، ليس الأمر متعلّقاً بـ »العالم كلّه« وإنّما بـ»العالم«، فالعالم ليس هو عالم »كلّ العالم« [...]". يقوم الافتراض هنا على إنّ البشر اليوم في عالمين اثنين؛ عالم ديمقراطيّ وعالم غير ديمقراطيّ. هذه إثنينيّة غير مفضّلة على سبيل الإطلاق وهذا مفهوم. ولكن، يمكن التفاوض وفي كلّ مرّة، وبهدف إثراء الثنائيّة المذكورة، على إسناد مسندٍ إليها، أو إسنادها هي مسند إليه، فهي تبقى تفيد في هذه الحالة في النقاش السائد حول ما الحلّ أو ما العمل؟ بما أنّها المشروع السياسيّ الوحيد المطروح على الساحة نظرياً، والغائب كتجربة متفاعلة بطرق مختلفة في العالم غير الديمقراطيّ، عالمنا العربيّ مثالاً.

فرغم كلّ ما قد يقال، فإنّك واجد بأنّ كلّ الأذواق والأمزجة تتوافق ضمناً أو صراحة على إنّ الديمقراطيّة هي "المشروع". المحافظ والليبراليّ، الإسلاميّ والعلمانيّ، القومي العربيّ والقوميّ الكرديّ، الأناركيّ والعدميّ. فلا أحد يطرح اليوم مثلاً تصوراً لأرستقراطيّة فاضلة، ولا أحد يطرح ديكتاتوريّة البروليتاريا العبوريّة، ولا أحد يطرح جاداً خلافة راشدة أو غير راشدة، ولا لحكم سلالة أو ما شابه.

المدخل الأوّل كما يشير إليه باديو في مقاله المذكور والمنشور من بين عدّة دراسات في كتاب (Demokratie?: Eine Debatte: Suhrkamp Verlag)، هو الوعي بهذا العالم، العالم الديمقراطيّ، أهل الديمقراطيّة، شعوب الديمقراطيّة. وعالم غير ديمقراطيّ، حروب ومشاكل وتخلّف وضياع. في العموم لا يتناول باديو في هذا السياق مسألة العوالم الثلاثة أو الشمال والجنوب أو الشرق والغرب على أسس جيوسياسيّة أو سياسيّة اقتصاديّة. باديو يعالج هنا مسألة إيتيقيّة وجماليّة متعلّقة بالديمقراطيّة تخص الإنسان بالمقام الأوّل، وتتعلق بالشباب على نحو خاص. وبداية، فما يربط بين الحرب ومثل هذا الطرح هو حاجة الحرب للمجاهدة والمصابرة والتقشّف من ناحية، ولكن ليس كمواجهة عارية تنتصر على السلاح الجويّ والسلاح الشامل، وإنّما يفهم ذلك في سياق أوسع فيما يسمّى اليوم حروباً أهليّة وحروباً مناطقيّة وحروباً غير نظاميّة، في سياق أخلاق وإتيقيا للسلم والحرب والسياسة مختلفة جذرياً.

وحاجتها [الحرب] إلى تسيّس مؤدلج بهذا المعنى أو ذاك، أو بالحدّ الأدنى على تمثل "قيم سياسيّة" تمثّلاً يتضمن القدرة والأهبة المبدئيّة للدفاع عنها "حتّى الموت". ومن ناحية ثانية، حاجة زمننا، وحاجة "ديمقراطيّتنا"، وهنا نقطة باديو في سؤال الإنقاذ، إلى أخلاق وإيتيقيا وجماليّات مختلفة للتسيّس؛ إلى تذوّت سياسيّ يقوم على "الحياة الخيّرة والصالحة" وليس فقط على "مبدأ الحريّة". عند باديو، ليس الأمر فقط أنّ الديمقراطيّة ليست كلّ شيء، وليس هي عينها الأخلاق والإيتيقيا والقيم والقانون والحضارة والسياسة؛ وإنّما، هي، أو فيها -كما هي عليه اليوم- بيئة أو استعداد لـ"إفساد" أخلاق وآداب وأذواق وأحلام الناس، الشباب على نحو أخصّ.

أفلاطون يتساءل "هل يمكن للديمقراطيّة أن تنقذنا؟"، وبحسب باديو، فإنّ موقف أفلاطون وإنْ كان "رجعيّاً"، أرستقراطيّاً (عسكرياً)؛ إلّا إنّ التاريخ قال فعلاً إنّ الديمقراطيّة لم تنقذ البولِس اليونانيّ. وتقوم فرضيّة أفلاطون على نقطيتين: الأولى: العالم الديمقراطيّ ليس عالماً ديمقراطيّاً على الحقيقة، وليس هو كلّ "العالم". والثانية: الذات الديمقراطيّة تتكون حصريّاً بمعنى السعيّ إلى الملّذة [انتهى كلام أفلاطون بصياغة باديو]. فهي مَفسدة أخلاقيّة تعزز الركون للكسل والخمول، واتبّاع الأهواء والشهوات، وتحصيل العاجل والفاني.

إنّها، ولا سيما فيما يتعلّق بالشباب الذين يترعرعون في كنفها، بيئة للتمتع الحواسيّ، والمجون المنفلت، الديونيسي [Dionysus (; , Dionysos)] اللامبالي، والأنانويّ على مستوى أساليب الحياة. المال، يشكّل هنا الوسيلة الأهم، لتحقيق كل شهوات وأهواء النفس. وبالنسبة إلى الشباب، فإنّ المال هنا ليس هو ثمرة الكدّ والكدح، ولا الغزو والحرب، ولا الشُّقّة والمشقّة؛ وإنّما الكسب السهل والمجانيّ، و"الهجرة" الرخيصة والميسّرة، بين عالمين، ديمقراطيّ وآخر غير ديمقراطيّ. في "العالم الديمقراطيّ" تعني الحياة المتعة بلا حدود، ليس فقط لأنّ كلّ شيء متوفّر، بل لأنّ أساليب الحياة السائدة لمن يترعرعون في هذا العالم، تعني تربية على وهم أنّ كلّ شيء متاح ومباح.

بكلام آخر، فما يجادل باديو هنا وهو يربط المسألة بـ"المال"، ولكن ليس المال هنا بمعنى رأس المال وما يحيل إليه من تحليل طبقيّ أو سياسيّ اقتصاديّ، وإنّما بمعنى "النقود" أو "الفلوس" كمنفعة وملّذة وعبادة، وكوسيلة لتحصيل ما يشتهى المرء وما يرغب وما يدّعي؛ يجادل بأنّ لذلك، وعلى هذا المستوى من التحليل، دوراً في إفساد التسيّس والتذوّت. الذات السياسيّة الديمقراطيّة، أو ما يعرف بالإنسان الديمقراطيّ، هو حالة من الأناركيّة الأنانويّة الفردويّة يترعرع فيها الناس [الشباب]، وتالياً حالة من استبطان "مبدأها الخفيّ" [مبدأ الأناركيّة]، أو مستقلبها الأساسيّ هو مبدأ التبادل والتدوير غير المقيّد للرغبات والأشياء والمتع. يقول باديو في مقام آخر: "ما يُقال لنا حول الذات [وحول السياسة]؟ إنّها تلك التي تتطابق مع منفعتنا المباشرة الاقتصادية والشخصيّة.

وعندما يُسلّم المرء بهذا الميل، فإنّه يعمل على حلّ مفهوم "الذات" (Subjekt) ببداهة خاطئة في "الفرد" (Individuum). تماماً كمن يحلّ "السياسة" الحقيقيّة في صقيع "الرأسماليّة". بعض المفكرين الأميركيين المعاصرين يمارسون هذا المنطق إلى حدّ بعيد. إنّهم يسلّمون بتجذير شبه أنطولوجي للبراليّة نفسها؛ فوفقاً لهم، على المرء أنْ يمضي مع فكرة الذرّة الفرديّة، والمسيرّة من قبل مصالحها الخاصّة؛ لشرح كلّ شيء، وليس فقط أسلوب عمل الاقتصاد. "[فمفهوم الذات عندي] هو ما يصف الأُهبة والقدرة على وضع مصير المجموعة نصب العين من زاوية نظر المصلحة الشخصّية، لا مقصوراً عليها. وهذه الـ "لا مقصور عليها" هي ما يشكل برأيي أثافيّ السياسة". [ما العمل؟ حوار مع باديو وغوشيه؛ الشيوعيّة، الرأسماليّة ومستقبل الديمقراطيّة].

ههنا تجب ملاحظة الفرق بين أناركيّة الإقطاعيّة [العصبويّة]، أناركيّة العصور الوسيطة، وبين أناركيّة الديمقراطيّة، أو الأناركيّة عدميّة المزاج أو أنانويّة الطبيعة للحداثة والحداثة المتأخرة. في الحالة الأولى، أتت الأناركيّة إلى التعبير في السجال السياسيّ والتداول الخطابيّ كما في النظريّة السياسيّة والنظريّة الدستوريّة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وبعيداً عن الدلالة التأثيليّة للكلمة "غياب الحكومة"، أو تعريفها اللاحق الذي اقترحه Proudhon (1849) "نظام بلا حكم"؛ تمّت مفهمة الأناركيّة في الموسوعة 1751 كما يلي: »اضطراب في الدولة يؤدّي إلى عدم وجود أي طرف يمتلك السلطة للحكم أو لفرض القانون، وبالتالي يتصرف الناس كيف يشاءون دون أي انضباط ودون أي هرميّة«. لقد فهمت فكرة الأناركيّة بأنّها حالة من تدرّك الدولة والبناء السياسيّ العام، أو، كمرحلة في سلسلة تقويضيّة أو تطوريّة، خطيّة ثالوثيّة، طرفها الأوّل النظام الجمهوريّ، والأناركيّة في الوسط، وفي الطرف الثانيّ الاستبداد.

والتعديلات التي دخلت على هذه الأطروحة مع الوقت، هو تصوّرها كحلقة، بحيث لا تكون الأناركيّة سلفاً للاستبداد بالضرورة، وإنّما فقط، كمستقلَب في عمليّة التطوّر [في أيّ اتجاه كان] السياسيّ. بهذا المعنى تفّهم أناركيّة العصور والوسطى بما فيها المتأخرّة بوصفها حالة خاصّة من الأرستقراطيّة، وكمطرِق لنظام سياسيّ موزّع وتمثيليّ من قبل بعضهم. وتفهم حالة فوضى سياسيّة تامّة من قبل البعض الآخر. لكن، على أيّ حال، لا علاقة لها بفقدان المعنى والعدميّة واعتلال التسيّس والتذوّت، وقبل كلّ شيء بأساليب وإيتيقا الحياة في السلم والحرب. فهي وقتئذ تعبير يصف شكل الممارسة السياسيّة العموميّة، وشكل من مراحل إمّا انتقاليّة وإمّا مراحل ببساطة بين سيادة هذه وتلك الدولة السلاليّة أو الدينيّة أو المذهبيّة أو غيرها. فلم تكن الأناركيّة من جهة مذهباً فلسفيّاً، ولا، وهذا هو الأهم، رؤية للكون أو أسلوباً للحياة بالمعنى الواسع، الواعيّ بنفسه أو غير الواعي.

بمقاربة سياسيّة_قانونيّة جنيالوجيّة، إنّ التأسيس لمجتمع المواطنة ولحقوق المواطنة وصيرورتها إلى أشكالها في نظام ليبراليّ ديمقراطيّ مثّل "السياسة للمرّة الأخيرة" كما يقول البروفسور كريستوف مينكة في نقده للحقوق، مستنداً إلى ماركس. إنّ التأسيس والإعلان عن حقوق المواطنة كان تتويجاً لسعي التجمعات السياسيّة التي كافحت ضدّ أسس وبؤر اللاعدالة واللامساواة الموروثة في المجتمع التقليديّ. وهذه التجمعّات هي ذوات سياسيّة نبتت في أرضيّة أخرى، مختلفة، خصبة للتسييس، أو قابلة للتسييس. لكنّ حقوق المواطنة كما رأى ماركس وكما يتفّق منكة أنجبت ذوات اجتماعيّة أو ذوات خاصّة، أنانيّة، أو غير سياسيّة. فإعلان حقوق المواطنة هو أثر السياسيّ. وهو في الوقت ذاته، إذ مكّن وفوّض حقوق الإنسان غير السياسيّ والإنسان الأنانيّ؛ هو التدرك في السياسيّ. لكن، إلى ماذا يُستقلب السياسيّ وهو يتدّرك. إلى معاملات في السوق، أو إلى مواقع في بيروقراطيّة المؤسسّات والأجهزة الإداريّة والخدميّة والشرطيّة للدولة.  [Menke :2015].

في الحالتين، وفي العالمين الديمقراطيّ وغير الديمقراطيّ، ولتناول حالتنا على نحو خاص، بوصفها تقع في العالم "غير الديمقراطيّ"، وبوصف الثورات العربيّة 2011 أدرجت في سياق "التطلّع الكونيّ للديمقراطيّة"؛ أقول في الحالتين يبدو التساؤل جديراً بالاهتمام؛ هل إنّ الجوّ السائد من الأفكار والمثل فيما يتعلّق بالسياسيّ يساعد، أو، هل هو أرضيّة وبيئة مناسبة لتسيّس ولتذوّت سياسيّ فاعل وقادرٍ على الإندماج في "قواعد اللعبة السياسيّة" في مواضعها الطبيعيّة الأوليّة، أو قادرٍ على "ممارسة سياسة" لإحداث تغيير بما هو قائم، أو لبلوغ عتبة "الثورات وحروبها" بما يمكن تخيلها كنموذج سياسيّ انتقاليّ في الوضع القائم في العالمين، والذي نفترض، كما في الطرح ماركسيّ الجذور، وغيره من طروحات متعددّة في الحقيقة، بأنّهما عالمين متعايشان يلقّم أحدّهما الآخر، أو يعززان ويخلقان مشاكل وإشكالات بعضهما الآخر. لأكون أكثر تحديداً، سأطرح الإشكاليّة النظريّة التي تتعلّق بسوريا، والحرب السوريّة.

إنّ حالة التسيّس التي أطلقتها الثورة، خلقت مثل هذا الذي نتحدث عنه، وأحدثت انقساماً أو افتراقاً بين نمطيّ تسيّس، نمط سياسيّ محارب [بمعنى يذهب بقضيّته حتى الموت]، تبدو قيمه ومعانيه قائمة على الخير والشر والعدوّ والصديق والعدل والظلم، قادر على الإندماج في بيئته وظروفه السياسيّة المتاحة دون قدرته _وهنا نتحدث عن عجز نظريّ وعمليّ_،  على تجاوز هذه الظروف وهذه البيئة، وهنا يمكن الحديث مجازاً عن أناركيّة إقطاعيّة عصبويّة الطابع فواعلها الطوائف والقبائل والمدن والمذاهب والأحزاب المختلفة.

ونمط سياسيّ سلمويّ، ديمقراطيّ أناركيّ [الأناركيّة الديمقراطيّة] غير قادر على الاندماج في بيئته وظروفه، وإنْ كان قادراً على تجاوزها وتجاوز قوانينها نظريّاً، إذ تبدو قيمته المطلقة قيمة الحريّة والعدالة والمساواة [وربّما بمعنى آخر الحريّات الشخصيّة غير المقيدّة _كمزاج ليبراليّ شائع، وكإختلاط أو ترافق مع الاعتلال الذي يشير إليه باديو]. وتجب الإضافة، مع هذا النمط الثاني تنسجم نسبة كبيرة من الناس [ومن الشباب] غير المسيّس بالضرورة، أو غير المسيس إطلاقاً، أو غير المسيّس في سياق ثورة 2011، ولكنّ أسلوب حياته ورؤيته للعالم يشبه هذا الأخير، وتضّم هذه النسبة في حالة سوريا شباباً وأناساً من جميع الانقسامات [مع أو ضد الدولة الأسديّة].

وهل يمكن للديمقراطيّة، والديمقراطيّة الليبراليّة، أن تخوض معركة [قضيّة] حياة أو موت من الصفر؟ وهل يمكن تأسيس مجتمعات المواطنة وحقوق المواطنة اعتماداً على مواطنين بلا أوطان وأفراد بلا جماعات أهليّة وبلا أمم سياسيّة بعد أنْ تسببت هيمنة الأفكار الليبراليّة الديمقراطيّة المتمركزة حول الفرد أخلاقيًّا وقانونيّاً [الحقوق لا الحقّ] في إنتاج أنماط من أناركيّة أنانويّة مترفة عدميّة الأفق؟ وهذا السؤال سؤالٌ تقليديّ، لكنّه عادة ما يطرح وتصاغ أجوبته بطرق أخرى. مما أثار دهشة بورديو خلال اهتمامه بدراسة تطوّر الدولة اليابانيّة بأنّ اليسار اليابانيّ كان لديه جدل بخصوص إنْ كانت اليابان شهدت "ثورة فرنسيّة" أم لا. ويلاحظ بأنّ هذا الجدل موجود في حالات غزيرة، حيث أصبحت "الثورة الفرنسيّة" هي "النموذج المعياريّ"، وقاد ذلك إلى النظر في الحالات المختلفة من قبل أهلها عبر جدل مفاده هل لدينا أو هل يجب أن تحدث عندنا "ثورة فرنساويّة". لكنّ الثورة الفرنسيّة وحروبها التي أطلقتها لم تكن ليبراليّة ولا ديمقراطيّة ملوّنة في طبائعها على أيّة حال.

فهل تشتغل الديمقراطيّة، والديمقراطيّة الليبراليّة، بهذه الطريقة أو تلك لتخوض حرباً من الصفر أو من قرب الصفر؟ هل تشتغل في تسييس العالم العربيّ تسييساً جديداً وإحداث ما نسميه "انتقالاً وتغييراً" على نحو ما شاع استخدامه مع اندلاع ثورات الربيع العربيّ؟ في الفترة الأخيرة صرنا نعثر أكثر في المتداول بالعربيّة على كلام في هذا الصدد، عبر إعادة قراء تاريخ الدولة الأوربيّة وتاريخ الدولة العربيّة، وتاريخ الدولة، بطريقة جديدة نسبيّاً، سمتها محاولة الانفلات من الطرح الثقافويّ للثورة الفرنسيّة وتطور الدولة الفرنسيّة والذي أشرت لمثله بملاحظة بورديو.
 
دورةُ حياة السياسيّ
 
ربطاً مع أفلاطون ومحاولة باديو لفهم مشكلة الديمقراطيّة على مستوى الأخلاق والإيتيقا للإنسان الديمقراطيّ -الإنسان الذي يترعرع في كنف الديمقراطيّة ومن هنا تركيزه على الشباب كفئة عمريّة وكذات سياسيّة- وبلوغه بالأمر إطلاق الأناركيّة الديمقراطيّة؛ ربطاً مع ذلك يمكن الانتقال لمستوى آخر من التحليل متشابك في مواضيعه وذواته مع هذا الأوّل. يلاحظ كارل شيمت بأنّ مفكريّ القرن السادس عشر والسابع عشر لم يُعنوا في دراستهم للتاريخ الرومانيّ بـ"البراديغم السياسيّ" الذي تمثّل بتغيّر شكل الحكم من النظام الجمهوريّ [الديمقراطيّ] إلى النظام القيصريّ [الدكتاتوريّ]، حيث يجادل شيمت بأنّ الديكتاتوريّة التفويضيّة التي كانت شكلاً قانونيّاً مميزاً لممارسة الحكم عنت تمييز أو عدم دمج الدكتاتوريّ كنظام قانونيّ بالسلطان [Souvernität]، فالدكتاتور المفوّض الرومانيّ لم يكن هو السلطان Der Souverän [صاحب السيادة أو الحاكم المطلق]، وإنّما كان مكلّفاً توكل إليه صلاحيات تنفيذيّة واسعة محددة بمدّة ستة أشهر، في حالة حرب أو تمرّد أو أزمة داخليّة أو خارجيّة.

ومع توالي الحروب الأهليّة والقلاقل الاجتماعيّة والأزمات الاقتصاديّة التي انتابت المدن الرومانيّة، ومع توسعيّة روما خارج شبه الجزيرة الإيطاليّة والتي خلقت أزمات دستوريّة، صار الأمر إلى تمديد فترات الدكتاتور المفوّض Der kommissäre Diktator لتصل إلى مدى الحياة، وفي السنة الـ 82 قبل الميلاد مددّ لـ Sulla لأجل غير مسمّى، ومن بعده لقيصر لمدى الحياة. ويسمّي هذه الدكتاتوريّة السولانيّة والدكتاتوريّة القيصريّة تباعاً بالدكتاتوريّة السلطانيّة [السياديّة].

ثمّ يتابع شيمت ليستخلص محاججته المعروفة لجهة نظريّة السلطان [السلطان أو السيادة Souvernität] في الديمقراطيّة؛ يتابع بأنّ هذا الفصل الذي عرف في الدكتاتوريّة التفويضيّة تمّ ابتلاعه في الثورة الفرنسيّة، حيث امتلكت "الثورة" مطلقيّة القرار والحكم في "الموت والحياة" -أنا أحيي وأميت- بـ"اسم الشعب" وبـ"اسم الثورة"؛ فتمّ الدمج باسم الشعب واسم الثورة بين "السلطان" و"الدكتاتوريّة" كمعطيّات في البداهة أو المقدّمة في المبادئ السياسيّة-القانونيّة لاحقاً وبشكل تراكميّ في الدولة الحديثة.

هذا يعني، بأنّه بالنسبة إلى شيمت، فإنّ النظريات الليبراليّة في القانون التي تنفي "نظريّة السلطان" وتقوم على "النظريّات الدستوريّة" حيث تعيد جميع تصرّفات الحكم والحاكم للقانون، ليس فقط غير دقيقة في فصلها هذا، أي بافتراضها إمكانيّة وواقعيّة لديمقراطيّة بلا سلطان، وإنّما هي [الديمقراطيّة] حسب قول شيمت تستدمج وتستدخل السلطان [السيادة المطلقة والصلاحيّة التامّة للحكم في الموت والحياة] في بنيتها أساساً. فالنظام الديمقراطيّ كشكل للحكم كغيره يقوم على صناعة وصياغة التجانس، وخلال ذلك، يستدمج كلّاً من الدكتاتوريّة والسلطان، كأشكال سياسيّة وقانونيّة للحكم، في بنيته السياسيّة والقانونيّة هو الآخر.

مثل هذا الاستدماج والاستدخال يجري كعمليّة معقدّة في "حالات الاستثناء" -كما في "الحرب الأهليّة" وفي "العنف الثوريّ" وفي "حروب الفتح"- بما هي براديغم سياسيّ في "دورة السياسيّ"، كما سنرى مع أغامبين تالياً لتقرير [للبت وللقطع في] من هو صاحب السيادة [السلطان] الذي له الأمر وله سلطة حالة الاستثناء، قبل كل شيء وبعد كلّ شيء في قيَة الحياة والموت. أي، من هو المخوّل، السلطان، الذي يستطيع تأوّل وإنزال القانون في الحالات الاستثنائيّة.

ويفترض بأنّه سواء كانت الدولة دولة دستوريّة أو دولة قانون، أم لم تكن، أم كان الدستور والقانون يحتوي على بنود تتتعلّق بالجهات المختصّة والحالات المخصوصة لحالات الاستثناء إم لم يكن؛ فإنّ هذا الأمر غير مفيد ومتعذّر، لأنّ الخلل والورطة في مثل هذا الحالات تحدث على هذا المستوى، وليس على المستوى الذي تحته. التفكك والتفسخ سيحيق بالدولة الدستوريّة مثل ما يحيق بالدولة التسلطيّة، لأنّ تطبيق القوانين وصلاحيّة الدساتير تشترط مسبقاً حالة السواء.

لا يفيدنا التعنّت الشيمتيّ كحالة تفضيل أو ترجيح بين نظام ديمقراطيّ وغير ديمقراطيّ في الأحوال الطبيعيّة والعامّة، ولا في الغايات والسعي. ولكنّ هذه المقاربات تفيد في فهم منطق السياسيّ في حالات الاستثناء، أو، تفيد في مقاربة الحروب الأهليّة، وفي تفشي الأناركيّة بأشكالها، وفي كلّ مراحل الفوضى والقلاقل والتفسّخ السياسيّ. وهنا، يمكن المتابعة مع أغامبين، في مقاربته للستازيز، وفي تحليله للحرب الأهليّة كبراديغم سياسيّ. الطرح الشيمتيّ الهوبزيّ هو قاعدة مقاربة أغامبين.


يبيّن الترسيم المرفّق [المعدّل قليلاً من قِبلي بإضافة هيئة منتخبة] الدورة السياسيّة المقترحة من قبل أغامبين بالاستناد إلى هوبز في اللفياثان. يبدأ أغامبين بالتساؤل عن سرّ اللوحة التقديميّة لكتاب هوبز [الصورة المرفقة أعلاه مع النص]، ومن بين عناصر أخرى ملفتة للنظر يلاحظ بأنّ الحاكم [صاحب السيادة] يطفو فوق الأرض طالعاً من البحر خارج المدينة، وأنّ جذعه مكوّن من جسوم كثيرة، وأنّ المدينة خالية من السكان إلّا من ثلاثة شخوص قبالة الكاتدرائيّة. تبدو الدولة في الصورة واقعة خارج مجالها الإقليميّ. ويشرع بالإجابة من تمييز هوبز بين الشعب Populus والحشود [سواد الناس] Multitudo، بوصفه يكشف عن تناقضٍ ظاهر ما Paradoxum، في قول هوبز (Populus-Rex).

الشعب هو وحدة ذات إرادة وفيه قابليّة لأنْ يساس. وهذه الثلاثة [الوحدة، والإرداة، والقابليّة] لا تنسحب على الحشود. الشعب يَحكم في كلّ مدينة، لا سيما في الملكيّة، وهذا يعني أنّ الشعب ينقل إرادته لتتمثل في الفرد. الحشود هم سواد من المواطنين أو من الأتباع أو من الرعيّة. في الديمقراطيّة والارستقراطيّة فإنّ المواطنين هم الحشود، والجمعيّة [مجلس شيوخ المدينة أو ما شابه Curia] هي الشعب. في الملكيّة، فإنّ الرعيّة هي الحشود -ورغم أنّ هذا تناقض يقولها هوبز فإنّ الشعب هو الملك Populus-Rex. من هذا التمييزات والفويرقات الهوبزيّة المفترضة، التي قد تُنعت بالاحتيال القانونيّ؛ فإنّه حين تسري قالةٌ بين الناس بأنّ المدينة خرجت على الملك [الحاكم/الجمعيّة الحاكمة/هيئة الحكم/مجلس الحكم/مجلس الشيوخ] فإنّ هذا ممتنع في ذاته. أو قالة تفيد بأنّ الشعب يريد كذا وكذا، فهذا أيضاً متعذّر ممتنع كتناقض. هذا ينسحب في الحقيقة في حالة الملك على الرعيّة المتذمّرة أو الهائجة. بهذا المعنى، ثمّة فصل بين الشعب/الحشود، وموافقة بين الملك/الشعب.

فحين نقول بأنّ الشعب هو صاحب السيادة، فهذا يعني بالضرورة أنْ ينقسم على نفسه مرّة ثانية إلى شعب وحشود. يقدم هوبز اقتراحاً لحلّ أو لتفسير أو لتأوّل هذا "التناقض" أو هذه "الأحجية" الظاهرة في كلامه في التفريق بين المكونات الأربع في كتابه De Cive، حيث يجمل القول بأنّ الشعب هو صاحب السيادة، صاحب الأمر وصاحب الحكم، فقط للحظة، وهي اللحظة التي يسمّي فيها صاحب السيادة [من ملك أو هيئة حاكمة أو مجلس حكم منتخب أو حكومة منتخبة]، حيث تجسّد الشعب في الملك أو الحكومة المنتخبة، ومن بعدّها ينحلّ [يذوب] في حشود وعامّة.

ويوضّح ذلك في مواقع أخرى وبطريقة أخرى، حين يكتب: إنّ الواحد من الناس إذا أخذ على نفسه من خلال العقد أنّ يسمّي حاكماً له [الأمر] السلطة العليا، فلا يسمح له من بعدها قانونيّاً أن يبرم عقداً جديداً، يقرّ فيه بالطاعة لحاكم آخر. ويطنب [المعنى]: لا يمكن لرعيّة الملك دون إذنه نقض المَلكيّة، والنكوص إلى حالة الحشود المنحلّة، ولا، نقض البيعة لملك أو الانتخاب لهيئة، وعقد بيعة أو إجراء انتخابات جديدة. فالحشد غير المتحدّ يسبق حالة العقد الاجتماعيّ وحالة الحشود المنحلّة تلي [فسخ] العقد الاجتماعيّ. فالتناقض الملك-الشعب Populus-Rex يتكون في كنهه، أو هو مرحلة، من عمليّة أو دورة.

لكن، وهنا مكمن الاقتراح الأغامبينيّ، ثمّة فاصلة أو مرحلة أو وسط أو عمليّة، تمرّ فيه الحالة من حشود منحلّة [لا قوام لها، وغير قابلة لأن تساس، ولا أن تتحدّ أو تتعاقد] إلى حشود غير متحدة [فيها قابليّة لكلّ ذلك]؛ وهذه الفاصلة هي "الحرب الأهليّة".

إن الحشود [سواد الناس أو العامّة] لا قوام سياسيّ ذا معنى لها، بلغة هوبز لا جسد سياسيّ لها، وهذا ما تشي به صورة غلاف الكتاب. ولكي تقوم الدولة يجب أنْ تختفي الحشود من المدينة، ويجب أنْ تتمثل أو تتجسّد في الشعب، والذي [الشعب] هو الملك/الحاكم المُدعي أو المتغلّب أو المسمّى، أو الحكومة/الهيئة الحاكمة المّدعية أو المتغلبة أو المنتخبة. يجب بأنْ نفهم هنا بأنّ التسميّة في حالة الملك لا تعني بالضرورة التسميّة حرّة الإرادة، وهذا ينسحب على الانتخاب، فكل الاعتراضات والتوافقات والتسويات والخضوعات والتنازلات وحالات الصمت أو الامتناع أو اللامبالاة، والتي تجري وتحسم في بيئات وحقول ومسارات غزيرة ومتغيرة، ووفق شروط ومحدّدات عدّة، قلْ هيراركيّات اجتماعيّة، أو تراصفات جهويّة أو روحيّة، أو مستويات طبقيّة، أو كلّ ما هو استعداد أو قابلّة أو هابيتوس [في القبول أو الرفض أو الحياد] في مطرق علاقات السلطة. وهذا لا يختلف كثيراً في حالة انتخاب الممثلين والحاكمين.

فالحرب الأهليّة، هي حالة الاستثناء القصوى، أو حالة الاستثناء النماذجيّة، أو الحالة الطبيعيّة [المعاشة بخلاف المتخيّلة]، التي تصنع من الفوضى، ومن الأناركيّة البنيويّة والوظيفيّة المنتشرة والمتفشيّة، الإقطاعيّة العصبويّة والديمقراطيّة العدميّة؛ تجعل منها مادة قابلة للسياسة، عبر حدثيّات مركّبة من التسيّس ونزع التسيّس، فيما يشبه تهيئة "الوسط المتجانس" القابل للسياسة عبر الديمقراطيّة أو غير الديمقراطيّة.

لا يفوتني التنويه إلى أنّ أغامبين في كتابه الستازيز ومقاربته للحرب الأهليّة كبراديغم سياسيّ، يتابع تحليله في البعد اللاهوتيّ السياسيّ وعلم الأخرويّات (Eschatologie) في دولة اللفياثان عند هوبز. لكنّ اهتمام هذا المقال توقّف على اقتراح مداخل قديمة جديدة لمقاربة السياسيّ، والحرب والحرب الأهليّة، ونظريّات السلطان والسيادة.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.