التضحية بتدمر .. تحقيق استثنائي في قلب الرعب السوري
غالباً ما تكشف التحقيقيات الصحفية الميدانية عن مفاتيح لقراءة وقائع الساحة بشكل يُضاهي أو يتجاوز أحياناً ما تكشف عنه الدراسات والأبحاث، وهذا ما ينطبق بشكل أو بآخر، على كتاب ألفته ليلى مينيانو بالفرنسية، ويشتغل على واقع مدينة تدمر السورية، ومصيرها التراجيدي، وعنوانه: "التضحية بتدمر.. تحقيق استثنائي في قلب الرعب السوري" 1.
لم تؤلف الكاتبة شيئاً من خيالها أو أوهامها الشخصية، كما لَمَّح أحد النقاد في منبر إعلامي مسيحي المرجعية 2، وإنما مُجمل مضامين العمل عبارة عن تأكيدات توصلت إليها، ومؤسسة على شهادات استقتها بشكل مباشر من لدن اللاجئين خلال السنين الأخيرة (وخاصة في الفترة بين 2015 و2016)، ومن هنا أهمية العمل.
والواقع أن أصل العمل، كان مرتبطاً بتحقيق حول تهريب الآثار، وقد تمت أغلب التحقيقات في مقاهي تركية، بحكم الجوار الجغرافي والتاريخي بين البلدين، سوريا وتركيا، في لقاءات وحوارات واستفسارات وجهت إلى العديد من ساكني وأهالي تدمر، من الشباب والكهول، ذكرتهم المؤلفة جميعاً، لكن بأسماء مستعارة 3، (ص 22): القاسم المشترك لهؤلاء أنهم فروا من القمع السياسي للسلطات السورية ومن الرعب الديني لتنظيم "داعش". (ص 18)
فجوات في التفسير
ثمة لائحة من الأسئلة المُعلقة في تفسير الوضع، استفزت المؤلفة أثناء هذه اللقاءات، وهي تستمع وتوثق شهادات من التقت بهم، وهي فراغات تهم بالتحديد ما جرى بين 13 و21 أيار/ مايو 2015، ولخصتها في أسئلة مؤرقة من قبيل: كيف تجاهل هؤلاء التحذيرات والوقائع التي جرت تحت أعينهم في المدينة في نفس الأسبوع سالف الذكر؟ لماذا انسحبت القوات السورية بشكل مفاجئ من المدينة، قبيل "غزو" تنظيم "داعش" لها؟ كيف نفسر قدوم حافلات لنقل السجناء من سجن تدمر الشهير، قبيل نفس الفترة؟ لماذا شرعت إدارة متحف تدمر في نقل أهم التحف والمآثر التي يتضمنها المتحف؟ اللهم ــ تضيف المؤلفة ــ إن كان سيناريو هزيمة القوات السورية محسوماً فيه سلفاً، دون أن يتم إخبار ساكنة المدينة بذلك، وهذا ما خلُصت إليه بالشهادات والوقائع في مضامين الفصل الثاني من الكتاب.
جاء الكتاب موزعاً على بابين بعنوان: الغزو؛ تدمر، مشهد الدولة الإسلامية، ويتضمن كل باب خمسة فصول، مع مقدمة بعنوان "علي بابا والأربعون حرامي"، وخاتمة بعنوان: "تدمر، تاريخ المنتصرين"، وجاءت عناوين الفصول كالتالي: الهجوم المفاجئ؛ الإخلاء السري؛ ذعر الجيش النظامي؛ الفخ يتعاظم؛ خيار التضحية؛ التطهير؛ سجن الصحراء: مملكة الموت؛ تدمر الشهيدة؛ التحف: تهريب في الذروة؛ ترتيبات صغيرة بين الأعداء.
من مُميزات العمل أيضاً أن خلاصته كانت أكثر تعقيداً، لأن المشهد كذلك، رغم أن مؤلفته اشتغلت على تسجيل شهادات، والسفر إلى عدة دول (تركيا ودمشق وفرنسا وسويسرا)، إضافة إلى متابعة تحليلات خبراء عسكريين من المنطقة ومن الغرب (أوروبا وأمريكا)، والتدقيق في صور التقطت عبر الأقمار الاصطناعية، وجلسات مع أعيان تدمر، مقربون من السلطات المركزية في دمشق. وقد اختتمت الكاتبة مقدمة العمل بشهادة جامعة صادرة عن محلل عسكري سوري، جاء فيها أن "التناقض في ذروته عندما نتحدث عن الوضع في تدمر: فرغم المتابعة الإعلامية الكبيرة التي حظيها بها هذه الأحداث، ولكن يبقى الجهل سيد الساحة، وما هو مؤكد أننا إزاء حرب قذرة، ولا تخضع لأي قواعد، وعليه، سوف ننتظر سنوات عدة حتى تخرج الجثث من الخزانات". (ص 20)
"علي بابا والأربعون حرامي"، هو عنوان المقدمة العامة للكتاب، وتتوقف فيها المؤلفة عند تبعات دخول "تنظيم داعش" إلى تدمر، مشيرة إلى هذا الغزو تسبب في استرجاع ذكريات أليمة سابقة حول مصير مآثر تاريخية طالت بعض البقاع الإسلامية بسبب غزو "الجهاديين"، لعل أشهرها واقعة تدمير تماثيل باميان في أفغانستان في 2001، أو الدمار الذي طال متحف الموصل في شباط/ فبراير 2015. يحدث ذلك في زمن حوّلت فيه الحرب الأهلية السورية أربع مدن إلى خراب طيلة أربع سنوات، وهي حلب، حمص، الرقة ثم تدمر. والنتيجة، أن "التضحية بالشعب السوري" طالت التاريخ السوري العريق نفسه، ووصل الأمر مع تهريب الآثار، إلى تغذية مصالح المستفيدين من التهريب: في أمريكا وأوروبا وإسرائيل وحتى في بعض دول الخليج العربي. (ص 26)
عنوان المقدمة سالف الذكر، مرتبطة بتعرف الكاتبة على أحد أشهر المُهربين في المدينة، من الذين يتاجرون في كل شيء: السجائر، جوازات السفر، المخدرات، وبالطبع، بعض القطع الأثرية، ولذلك كانت الساكنة تلقبهم بجماعة "علي باب والأربعون حرامي". (ص 27)، وتضمنت المقدمة مزيداً من الأسئلة المُحيرة والصادرة هذه المرة عن الشاهد عصام [إسم مستعار]، بخصوص التطورات التي سبقت الغزو "الداعشي"، وفي مقدمتها سؤال حيّر ساكنة تدمر: لماذا رفضت قوات النظام الدفاع عن المدينة حتى آخر رمق؟ مضيفاً أن الساكنة كانت تعاين بتذمر كبير التناقض بين حالة السخط التي بدت واضحةً في المتابعات الإعلامية، وواقع الحال، لأن ذلك السخط لم يتجاوز سقف الأقوال، بمقتضى غياب قصور الجميع في الدفاع عن ساكنة المدينة، سواء تعلق الأمر بالثوار، أو قوات التحالف الدولي، وبالنتيجة، لا أحد تصدى للخراب الذي طال تدمر.
خُصّص الفصل الأول لاستعراض المقدمات التي ستجعل من المدينة، معنية بالصراع والخراب الذي طال أغلب المدن السورية الكبرى، فحتى مطلع 2015، أجمعت شهادات الشباب الذين التقت بهم المؤلفة، أن تدمر لم تكن مثل حمص أو حلب أو المدن السورية التي طالها الخراب بسبب الحرب، وكانت المدينة بالتالي، بعيدة عن مناطق النزاع، بل إن آلاف من السوريين حجوا للمدينة، هرباً من أهوال الحرب، وحسب أرقام هيئة الأمم المتحدة، تضاعف عدد سكان المدينة في السنوات الأخيرة أربع مرات، من 50 ألفاً إلى 200 ألفاً، حتى مطلع أذار/ مايو 2015.
ولكن أهوال الفتنة طالت المدينة رويداً رويداً، ومن الشرارات التي سوف تتسبب في اندلاع احتجاجات ساكنة تدمر، تلتها حملات الاعتقالات التي طالت الشباب، أو الزج بهم في التجنيد القسري، بلْه حالات الاختفاء القسري الذي طال بعضهم. (ص 39)
محافظ حمص.. صحاف تدمر
افتتحت المؤلفة جميع فصول الكتاب بجُملة استهلالية، وفي الجملة المفتاحية الخاصة بالفصل الثاني، نقرأ تصريحاً صادراً عن محافظ مدينة حمص، طلال البرازي مفاده أن "الهدوء والاستقرار يسودان في داخل المدينة" 4، وقد تعمدت المؤلفة الاستشهاد بهذه الجملة، والتي ستتوقف عندها بالنقد والتفصيل لاحقاً، من باب استحضار ما كان يصدر عن وزير الداخلية العراقي الأسبق محمد سعيد الصحاف، أثناء الغزو الأمريكي للعراق.
خُصّص هذا الفصل لاستعراض شهادة الشاب عصام [إسم مستعار] الذي كان فيما مضى من قاطني المدينة، ولكنه يُدلي بهذه الشهادة اليوم في إحدى مقاهي مرسين، بتركيا، حيث يعيش اليوم على بعد 800 كلم من مسقط رأسه، مُعرباً عن حسرة كبيرة على مصير مدينة أثرية كان عدد السائحين الذين يحجون إليها يتراوح بين 150 و200 ألف سائح سنوياً، قبل أيلول/ سبتمبر 2011، لتصبح في زمن الحرب مدينة مغايرة كلياً للزمن الذي مضى.
أوردت ليلى مينيانو شهادات بعض ساكنة المدينة، مباشرة بعد اندلاع أولى الاشتباكات بين السلطات الأمنية السورية وأتباع تنظيم "داعش"، وتصب أغلب هذه الشهادات في أن الساكنة عاشت رعباً حقيقياً من"حرب قائمة بين جبهتين تهاجمنا". ففي حال غزو "تنظيم الدولة" المدينة، كنا نخشى أن يتهموننا بأننا ساندنا النظام وبالتالي نُصبح عرضة للانتقام، والذي غالباً ما يتم عبر المشانق؛ أما في حالة إحكام الأمن السوري القبضة على المدينة، فقد يُعاقبنا لأننا أيدنا أو تعاطفنا مع "تنظيم الدولة". وبالنتيجة، تضيف المؤلفة، لم تتمكن ساكنة تدمر من الفرار، وطال الأمر نفسه الآلاف من اللاجئين الذين حطوا بتدمر هرباً من أهوال الحرب في مدن أخرى. (ص 54)
خلُصَت المؤلفة إلى أن النظام لم يستعد بما يكفي لحماية تدمر من الغزو الداعشي المحتمل، أما ساكنة المدينة، فكانت خارج التغطية، ولم يتم إخبارها بالمستجدات الأمنية التي تهدد مستقبلها القريب مع اقتراب الخطر "الجهادي"، ولكن ما وقع قبيل غزو التنظيم، يُفيد أنه كانت للنظام حسابات أخرى، حيث تم إخلاء السجون، كما تم إخلاء أهم الإدارات العمومية، وخاصة محكمة المدنية ومعها المؤسسات البنكية، مع سحب الأرشيف والوثائق الإدارية، وإرسالها إلى حمص أو إلى مدن أخرى. ونفس الأمر تم مع إخلاء متحف المدينة، والذي يُعتبر من أهم متاحف المنطقة، اذ اتضح أن عملية الإخلاء هذه، تمت قبل أسابيع من دخول تنظيم "داعش" للمدينة (ص 67). ولخصت المؤلفة المشهد في خاتمة الفصل الثالث، مُعتبرة أن السلطات المركزية أعطت الأوامر للضباط وعائلاتهم والقوات الخاصة بإخلاء المدينة، مقابل عدم الاهتمام بمصير ساكنة المدينة التي كانت خارج الحسابات، بما يُفسر الحسرة التي صدرت عن بعض الشهادات، بخصوص إصرار محافظ حمص، من أن الوضع تحت السيطرة، وأن كله على أحسن ما يرام، والحال أن إخبار الساكنة بحقيقة الوضع، كان حينها، فرصة لمساعدتها على الفرار قبل قدوم تنظيم الدولة. (ص 75).
بالنسبة للسجناء، فقد تم إخلاءهم على دفعتين: تم ترحيل السجناء العسكريين نحو سجن حمص، بينما ترحيل الباقي نحو سجون مدن أخرى. (ص 59) وتضيف المؤلفة في هذه الجزئية الدقيقة، أنه تم إخلاء سبيل حوالي 1000 سجين 5، نظير مشاركتهم في الحرب ضد تنظيم "داعش"، وبالنتيجة، عندما دخل التنظيم إلى المدينة يوم الأربعاء 20 أذار/ مايو 2015، وجد السجن خالياً من السجناء، وهذا ما أقر به لاحقاً أبو الليث السعودي، القيادي العسكري للتنظيم في تدمر، من أن عملية الإخلاء الجماعية التي كان يراهن عليها "الجهاديون" في سياق الدعاية الإعلامية و"الشحن الديني"، لم تتم كما كانت تروم رموز التنظيم، وهذا عين ما اطلع عليه المتتبعون لأشرطة التنظيم الدعائية، والتي تظهر سجن تدمر خالياً، وكان على المتتبعين انتظار التعويض الرمزي والصادم لهذا الفشل الداعشي، من خلال بث شريط الرعب والخاص بإعدام 25 جندياً من جنود النظام السوري في مسرح تدمر الروماني الشهير، وتم ذلك كما هو معلوم في 25 تموز/ يوليو 2015.
مُحددات التضحية بتدمر
المشهد مفارق كلياً: ليست الحرب السورية التي سلطت الأضواء على سقوط تدمر، وإنما هذا الأخير هو الذي سيُكثف من تسليط الضوء على الحرب في سوريا، إلى درجة معاينة حملات رقمية دولية، تم تتويجها مع التفاعل الكبير الذي طال متابعة "هاشتاج [#تدمر أوPalmyre#]، وبالرغم من حملات التنديد الدولية، فإنها لم تدفع الجيش السوري أو قوات التحالف الدولي للدفاع عن ساكنة المدينة، فيما يُشبه الإعلان الأمني عن "التضحية بتدمر" (ص 97)، ومن هنا عنوان الفصل الخامس: "خيار التضحية"، حيث أوردت المؤلفة لائحة من المُحددات التي تفسر اتخاذ هذا القرار، وتتطلب هذه المحددات الأخذ بعين الاعتبار الوضع السياسي والأمني والمجتمعي في سوريا المنهكة بهذه الحرب الدموية، وفي مقدمة تلك المحددات الإنهاك الذي طال الجيش السوري من كثرة الجبهات العسكرية المفتوحة، ومن النتائج المباشرة لذلك، أن عدد الجنود والعسكريين والضباط تقلص من 250 ألف إلى 125 ألف، وذلك بالرغم من انخراط ميلشيات عراقية أشرفت قوات إيرانية على تدريبها.
من المُحددات أيضاً، أن التضحية بتدمر تندرج في سياق تطبيق قاعدة "سوريا النافعة"، وهي استراتيجية بلورتها دمشق في سياق التفاعل مع التطور التراجيدي للوضع بعد اندلاع الحروب وفتح الجبهات العسكرية هنا وهناك، مع تركيز بالتحديد على محيط درعا ودمشق وحمص، بمعنى أن النظام ارتأى الدفاع عن المناطق الأكثر إنتاجية من الناحية الاقتصادية، وحيث توجد حوالي 65 في المائة من الساكنة، وهنا بالذات، كانت تدمر خارج الحسابات. (ص 100)، وهذا خيار واجهته المؤلفة بعدة استفسارات، منها: إذا افترضنا أن النظام السوري لم تكن لديه قوات كافية للدفاع عن تدمر، ما الذي أعاق القيام بضربات جوية على تنظيم "داعش" في طريقه إلى المدينة؟ (ص 101)، والاستفسار الثاني: بما أن النظام كان متيقناً من الغزو "الداعشي" للمدينة، لماذا لم يُخبر الساكنة بذلك، على الأقل، لتأخذ احتياطاتها من هول ما هو قادم، وفي مقدمة تلك الاحتياطات، الخروج من تدمر.
اختتم هذا الفصل بالتوقف عند الخلاصات الكارثية لخيار التضحية بتدمر، لأنها صبت أيضاً في التضحية بمئات من أعضاء الجيش النظامي والساكنة أيضاً، لأنه مباشرة بعد الغزو "الداعشي"، سيُعاين أهل تدمر المجازر تلو المجازر في شوارع المدينة (ص 109).
حملة التطهير هذه (عنوان الفصل السادس)، تم افتتاحها للمفارقة، ببضع عشرات من الساكنة التي هلّلت لقدوم التنظيم وهي ترفع شعارات "الله أكبر" أثناء دخول أعضاء التنظيم إلى المدينة لأول مرة، في 21 أذار/ مايو 2015، وأغلبهم من المراهقين، وقد كانت مضامين هذا الفصل مُخصّصة بشكل كبير لاستعراض المجازر التي راح ضحيتها الجنود والساكنة في آن، مع تذكير بقاسم مشترك في أغلب حالات الإعدام والاغتيالات: الضحية المفترضة، سواء كان عسكرياً أو مدنياً، يتم اغتياله في منزله برصاصة، قبل جر جثته إلى الشارع أو إلى ساحة عمومية؛ وبالنسبة للذين لم يُطلق عليهم الرصاص، ولكن في الساحة، يتم قطع الرؤوس.
في البداية، أعدم تنظيم "داعش" بعض رجالات النظام في المدينة، ولكن في مرحلة لاحقة، أصبحوا أشبه بالحمقى حسب شهادات استقتها المؤلفة (ص 117)، حيث أعدموا موظفين في المستشفى، إدارة البريد، إدارة الكهرباء، بما في ذلك قاضي المدينة الذي كان مشهوداً له بالمصداقية، والأدهى أن "الجهاديين"، كانوا يتعمدون أن تبقى الجثث في الساحات العمومية، دون دفن، حتى تعتبر الساكنة، وهذه واقعة كانت تثير اشمئزاز الساكنة، ليس فقط بسبب خروجها عن السائد في التعامل مع الموتى، ولكن أيضاً بسبب نتانة الروائح المرتبطة بالجثث.
ومما رواه الشباب للمؤلفة، أنه بمجرد تأكد عضو في تنظيم "داعش" بوجود هاتف ذكي لدى أحد الساكنة، يتم محو جميع الصور وأشرطة الفيديو في الهاتف، مع تعويضها بأدعية وأشرطة فيديو لعمليات الإعدام التي يقوم بها التنظيم. (ص 121).
إنسان بلا تاريخ، إنسان بلا مستقبل
مضامين الفصل الثامن من العمل كانت عبارة عن مقام من مقامات الاعتراف في حق خالد الأسعد (81 سنة)، وهو أحد رموز المتاحف والآثار في سوريا، ولو أن إسمه ارتبط بمتحف تدمر دون سواه، حيث كان يسهر على تدبير شؤون المتحف والمناطق الأثرية في المنطقة منذ أربعة عقود، ويعود له الفضل بشكل كبير في الإشعاع الأثري للمدنية إقليميا ودولياً، لأنه كان مرشد رجالات الدولة أو مشاهير عالميين في الفن والتجارة، أثناء زيارتهم للمتحف والمناطق الأثرية.
لم يشفع هذا المسار الإداري والنضالي لخالد الأسعد، حتى يهرب من حكم بالردة صادر عن تنظيم "داعش"، وكان مقدمة لإعدامه، بعد رفضه إعلان البيعة لأبي بكر البغدادي (ص 148)، حيث تم فصل الرأس عن الجسد، في ساحة عمومية، مع إبقاء الجثة في الساحة، لمدة ناهزت ثلاثة أيام، في حدث أسال بعض مداد وسائل الإعلام الدولية، ومعه مواقف بعض المسؤولين الغربين، أوردت منهم المؤلفة تفاعل المديرة العامة لليونسكو، إرينا بوكوفا، أو تصريح حافل بالتناقضات، لوزير الخارجية الفرنسي السابق، لوران فابيوس، مفاده أننا إزاء "قتل بربري لرجل معرفة" (ص 146). وفابيوس للتذكير، هو نفس المسؤول الفرنسي، وفي نفس مقام المسؤولية الرسمية [وزارة الخارجية] الذي صرّح يوماً، في بدايات الحرب السورية بعد اندلاع أحداث "الربيع العربي" أن "جبهة النصرة، تقوم بعمل جيد" 6.
أوردت المؤلفة موقفاً دالاً لخالد الأسعد، والذي رفض طلب ابنه وطلب العائلة بضرورة مغادرة تدمر، ومتحف تدمر، لأن تنظيم "داعش" لن يتسامح معه، ولا يفقه في موضوع التحف والآثار، فجاء رده كالتالي: "الإنسان بلا تاريخ، إنسان بلا مستقبل، وعندما ندافع عن مبدأ طيلة حياة، لا نتخلى عنه في اليوم الأخير من حياتنا" (ص 147)، ولذلك كان طبيعياً أن تكون رغبته الوحيدة قبل إعدامه، أن يُشاهد متحف تدمر للمرة الأخيرة. (ص 150).
عالم الآثار السوري خالد الأسعد
خُصّص الفصل الموالي للموضوع الذي بسببه حرّرت المؤلفة الكتاب، لأن الأصل في التحقيق، لم يخرج عن الاشتغال الميداني على واقع الآثار في تدمر بعد اندلاع الحرب السورية، إلا أن تطورات الأحداث، وفداحة الوقائع، دفعت المؤلفة، للاشتغال على الخراب الذي طال المدينة، مع إفراد فصل للموضوع الأصلي، وكانت أهم خلاصاته، أن التهريب تورط فيه الجميع: في الداخل (الدولة وتنظيم "داعش") والخارج (إسرائيل وأمريكا وأوروبا وبعض دول الخليج العربي).
فحتى بعد دخول تنظيم "داعش" لتدمر، ومع أنه دمر بعض المآثر، ولكنه سمح وتورط في تهريب أخرى، بشرط الحصول على نسبة من أموال التهريب، وكانت تناهز الخمس (ص 169)، مع الإقرار بصعوبة تقدير حجم العائدات المالية من عمليات التهريب هذه، سواء كانت تتم تحت أعين التنظيم أم لا، خاصة أنه قبل اندلاع الحرب، كانت حوالي 80 في المائة من المآثر خارج التدقيق والتقييم، حسب شهادة أبو علي، الضيف/ الشاهد الرئيسي في هذا الفصل، والملقب في تدمر بـ"اليهودي الصغير"، مع فارق نوعي مرتبط بتورط تنظيم "داعش" في عمليات التهريب هذه، أشار إليه خبير دولي يُقيم في نيويورك، متخصص في المآثر اليونانية والرومانية، واعتبر أن تهريب المآثر في هذه الحالة، لا يمكن التعامل معه بقاعدة التبخيس من قبيل أنه لا يقتل في نهاية المطاف، وإنما مجرد تبادل مآثر بأموال، بل إنه أسوأ، يُضيف الخبير، لأن أموال التهريب هنا، لا تتعلق بالجريمة المنظمة أو بالمافيا، وإنما تتعلق بمنظمة إرهابية. (170).
الصراعات البراغماتية
من يقرأ عنوان الفصل العاشر والأخير، والذي جاء كالتالي: "ترتيبات صغيرة بين الأعداء"، يعتقد أن الفصل مُخصّص لتسليط الضوء على بعض الترتيبات أو المفاوضات التي طالت المعنيين بالصراع، محلياً وإقليمياً، والحال أنه بالكاد تطرقت المؤلفة لهذه الجزئية في خاتمة الفصل، عندما أشارت إلى أن أطراف النزاع في تدمر، انتصروا للعقل البراغماتي؛ فمن جهة، ساهمت الشعارات الكبيرة التي رُوجت حول "الحرب على الإرهاب"، في تغذية خزائن تنظيم "داعش" مع تواطؤ لرجال أعمال، مع أن التنظيم هو المُستهدف الأول من هذه الحرب؛ ومن جهة ثانية، تواطئ بعض الطهرانيين "الجهاديين" في تنظيم الأمن ببعض أحياء المدينة، مقابل تلقي أجور من دمشق، مع أنهم يزعمون قتال الجهاد ضد النظام. (ص 190).
سلطت المؤلفة الضوء في هذا الفصل على الأداء "الداعشي" في تدبير شؤون المدينة، حيث خلصت شهادات من التقت بهم المؤلفة إلى أن التعامل مع الجهاديين الداعشيين، يفترض بداية، أننا إزاء متدينين يُطبقون "الإسلام الصحيح"، بتعبير عبد الله [جهادي سابق من التنظيم]، ولكن "عندما تجالسهم وتخالطهم وتقضي الوقت الكثير معهم، تكتشف أن أغلبهم عبارة عن سُرّاق" (ص 176)، يقودهم زعيم التنظيم في المدينة، وهو تونسي الجنسية، ولو أن الانتماء الوطني عند الفاعل الإسلامي الحركي، وخاصة الفاعل القتالي أو قل "الجهادي"، ثانوي الأهمية، مقارنة مع إحساس الانتماء للجماعة والأمة.
ليس هذا وحسب، تضيف شهادة عبد الله، فقد استقطب التنظيم حوالي 1500 شاباً من المدينة مباشرة بعد احتلاله لها، مقابل أجر شهري يناهز 150 دولاراً، وهذا مبلغ يُغطي الشيء الكثير عند هؤلاء الشباب، الذين لا علاقة لهم بالمرة بما يُصطلح عليه "المرجعية الجهادية"؛ ومن أسباب تخلي عبد الله عن الخطاب/ المشروع "الداعشي"، استفساره عن غياب كلي لأعضاء من عائلات ومقربين القيادات "الداعشية" التي كانت مُكلفة بإقناع الشباب حديثي الانتماء للمشروع، للقيام بعمليات انتحارية أو العمليات "الاستشهادية" بالتعبير الإسلامي الحركي في شقه الدعائي.
من المفاتيح المفاهيمية التي جاءت في هذا الفصل الهام، تأكيد ما خلُصت إليه عديد دراسات ومقالات تطرقت لموضوع الاستقطاب "الجهادي"، حيث أكد عبد الله، أن التنظيم راهن بشكل كبير على الاستقطاب الرقمي، بما في ذلك استقطاب الشباب الأوروبي المسلم، ومما صدر عن المعاملة الداعشية أيضاً، نقرأ تورط القيادات في بيع نساء وشابات يزيديات، تحت شعار "العبودية"، ويحفل الفصل ببعض الأرقام ذات الصلة بهذا الملف الحقوقي المؤرق، من قبيل أن عددهن ناهز 3144 أسيرة، وأن ثمن "بيعهن" كان يتراوح بين 800 و900 دولار. (ص 180).
فرقة موسيقية روسية تعزف على مسرح تدمر
جاءت خاتمة الكتاب بلغة درامية وتغلب عليها نزعة تشاؤمية صريحة، من هول ما عاينته وخلُصت إليها المؤلفة، مُنتقدة بسخرية لاذعة، الدعاية والدعاية المضادة بين بث تنظيم "داعش" مشهد إعدام الجنود في مسرح تدمر الروماني، وبث قوات التحالف حفل موسيقى كلاسيكية لإحدى أشهر الفرق الكلاسيكية الروسية، والتي صاحبتها إشادة رسمية صادرة عن أعلى سلطة سياسية في روسيا: فلاديمير بوتين دون سواه (ص 199)، حيث توقفت المؤلفة ملياً عند الدور الروسي المفصلي في التحولات التي طالت الأوضاع في سوريا، سواء تعلق الأمر بالوضع في تدمر، أو الوضع في سوريا ككل.
الهوامش:
1- Leila Minano, Le sacrifice de Palmyre : Une enquête inédite au cœur de l'horreur syrienne, Grasset, Paris, octobre 2016, 224 pages.
2- Bruno Frappat, Palmyre deux fois violée, La croix, Paris, 22/12/2016, in: Link
3- هذا هو المعمول به بشكل عام في مثل هذه التحقيقات الصحفية، حيث يستأذن المحقق من المستجوَب، بخصوص ذكر الأسماء، وحتى لو أفصح المستجوَب عن غياب أي إحراج في حال ذكر إسمه، يملك الصحفي سلطة تقديرية تخول له الحسم في موضوع ذكر الأسماء الحقيقية أو ذكر أسماء مستعارة، من باب عدم إثارة أي مشاكل لاحقة للمستجوَب، وبالنسبة لهذا العمل، فقد أكدت ليلى مينيانو أنها رفضت بث شهادة عشرات من الشباب السوري، بحكم إقامته في سوريا، ورغبة منها في عدم التسبب لهم في مشاكل لاحقة في حال نشر الشهادات. (ص 64)].
4- تصريح مؤرخ في 14 أذار/ مايو 2015.
5- موضوع إخلاء السجناء، أكدته شهادات سجناء سابقين، كما روتها المؤلفة بالتفصيل والوقائع في الفصل السابع من الكتاب. (ص 137).
6- Isabelle Mandraud (avec Gilles Paris), Fabius et les islamistes d’Al-Qaïda “qui font du bon boulot sur le terrain”, in : Link
تحميل المادة بصيغة PDF:
- الرابط (878 تنزيلات)
منتصر حمادة
باحث في الشأن الديني. منسق تقرير "حالة الدين والتدين في المغرب"، الصادر عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث. الرباط؛
رئيس تحرير مجلة "أفكار"؛
عناوين بعض الإصدارات: "في نقد تنظيم القاعدة: مساهمة في دحض أطروحات الحركات الإسلامية الجهادية"، 2010؛ "زمن الصراع على الإسلام"، 2011؛ "الوهابية في المغرب"، 2012؛ "في نقد العقل السلفي: السلفية الوهابية في المغرب نموذجاً"، 2014.
مواد أخرى لـ منتصر حمادة
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.