مدن بلاد الشام المستباحة

11 آب/أغسطس 2017
 
في عام 1920م استسلمت مدن بلاد الشام للجيوش الفرنسية بدون مقاومة تقريباً، فمعركة ميسلون التي قادها يوسف العظمة قبل احتلال غورو لدمشق كانت تقريباً رمزية، وأخذت طابع حروب الجيوش النظامية؛ كما وقعت خارج حدود مدينة دمشق.
وقد حدث ذات الأمر في كل من حلب وحمص وحماة، إذ احتل الفرنسيون هذه المدن دون أن يطلقوا أية طلقة. وكان هذا الأمر مثار استغراب الثائر الريفي يوسف السعدون قائد ثورة قصير انطاكية " يعجب السعدون في مذكراته، ص19، من سهولة استسلام المدن للجيوش الفرنسية، فيقول: "وأن الإنسان لعجيب من أحوال المدن السورية وأخص منها المدن الكبرى مثل دمشق وحلب فقد احتلتها الجيوش الفرنسية بكل سهولة ودون أن يصاب لها جندي واحد بأذى ". ويبدي السعدون أسفه لأن مدينة – حلب – لم تبد أية مقاومة " رغم أنه كان موجوداً فيها جيش منظم ومدرب، وكذلك أهل المدينة كانت كلها مسلحة من مخلفات الجيش العثماني. ومع هذا لم يصادف العدو أي مقاومة " (1).

فالمدن الداخلية – مراكز النشاط الوطني –لم تشكل أي تحد جدي للفرنسيين في الأعوام الأول للاحتلال، بل كان الريف مركز المقاومة المنظمة في كل من جبل العلويين بقيادة صالح العلي والأقضية الشمالية والغربية من ولاية حلب في كل من الريف الغربي وقصير انطاكية وجبل الزاوية بقيادة كل من ابراهيم هنانو ويوسف السعدون ومصطفى الحاج حسن. وقبل ذلك في ريف دير الزور بقيادة رمضان شلاش.

إن التساؤل الاستنكاري من قبل السعدون، حول أسباب عدم مقاومة مدن بلاد الشام، ما زال سؤالاً راهناًَ يستدعي التوقف عنده.

يُعرف ابن خلدون المدينة على أنها مركز "الحضارة"، أي مركز الإنتاج المادي والفكري. فالحضارة ابنة المدينة ويبرز هذا أكثر ما يبرز في بلاد الشام لأن بلاد الشام تتمركز حول المدن مقارنةً بمصر التي كانت تتمركز حول القرية. " منطقتنا كانت فعلاً من أكثر مناطق العالم تمدناً عبر التاريخ، لا سيما القريب منه، ففي العام 1800 كان الشرق الأدنى أكثر تمدناً من مصر وكل شمال افريقيا، ومن فرنسا ومن الولايات المتحدة وكان أكثر من 20% من سكان سوريا مثلاً يسكنون في مدن تضم أكثر من 10 آلاف نسمة. " (2)

 مع ذلك، فقد كانت مدن بلاد الشام محاطةً بالبدو، وكلمة البدو حسب التعبير الخلدوني تعني كل نمط قاس من الحياة سواء كان في الجبل أو في السهل أم في السهوب. وعادة ً ما يخلق نمط الحياة القاسي (الصراع لأجل البقاء) تكافلاً وتضامناً بين أفراد المجموعة لأجل استمرار الحياة وهو ما يعبر عنه باسم العصبية، والعصبية هي الشيء الذي تفقده المدينة في سياق تحضرها. فإنتاج الحضارة يستوجب نمطاً مرفهاً نسبياً من الحياة يحرر الانسان من الصراع لأجل البقاء مُنشأ العصبية.

وقد عرفت مدن بلاد الشام عبر تاريخها الألفي تنظيمات أطرت سكانها مهنياً ودينياً وهذا أمر معروف، لكن الأمر شبه المجهول هو أن هذه المدن قد أبدعت تنظيمات عسكرية أيضاً. أُطلق على هذه التنظيمات التي لم تخلو منها مدينة من مدن الشام، خاصة المدينتين الرئيسيتين حلب ودمشق، اسم " الأحداث".

 لعبت هذه التنظيمات دوراً أساسياً، سياسياً وعسكرياً، طيلة قرون. فبعد انتقال عاصمة الخلافة إلى بغداد إثر سقوط حكم الأمويين اهتز الأمن والأمان في الشام، فتعرضت مدنه لمخاطر متعددة " ولما وجد أهالي هذه المدن أن العباسيين ليس بمكنتهم درء هذه المخاطر، قام بعضهم بإنشاء بعض التنظيمات الدفاعية ". ومثال ذلك أن جيشاً عباسياً مقدراً بعشرة آلاف مقاتل أخفق في صد حملة قرمطية على حلب 289 هـ 901 ميلادي. وقد حاصر القرامطة حلب " ولما رأى الحلبيون إخفاق الجيش العباسي ووقوعهم تحت الحصار كونوا قوةً محليةً لم تتول فقط الدفاع عن المدينة. إنما قامت بهجوم مفاجئ على القرامطة نتج عنه هزيمتهم وفك الحصار عن حلب." (3)

وربما ما ساعد على نشوء التنظيمات العسكرية وترسخ الروح العسكرية في المدن في ذلك الوقت، أن أغلبها قد تحول إلى مدن ثغور في وجه البيزنطيين. في هذا السياق ينقل المؤرخ السوري سهيل زكار عن كتاب اسمه "سير الثغور" كتبه أبو عمرو الطرسوسي وصفاً للحياة داخل طرسوس إحدى هذه المدن الثغور " لقد كان غلمان طرسوس يدفعون قبل بلوغهم الحلم إلى بعض الشيوخ الأساتذة الثقاة من أهل المدينة، فيقوم هؤلاء بتصنيف الغلمان إلى فئات ثم يأخذون في تدريبهم على الشؤون العسكرية، ويستمر ذلك حتى يبلغ هؤلاء الغلمان سن الرجولة حيث يلتحق آنذاك كل فتى منهم بسرية من سرايا الجهاد والدفاع عن الثغر". ولا شك أن أغلب مدن بلاد الشام فعلت مثل طرسوس. اذ شكلت كل مدينة تنظيمات عسكرية شعبية لأغراض الدفاع. كما أن الاضطراب السياسي مع التبدل السريع في الدول ترك كثيراً من العسكريين المحترفين بلا عمل مع قيام كل دولة جديدة، فكان أن التحق بعضهم بهذه التنظيمات، فطوروها، وطعموها بخبرتهم العسكرية. ووفقاً -لزكار - فإن ذروة نشاط هذه المنظمات كانت خلال الفترة الممتدة بين القرن العاشر الميلادي (أواخر القرن الخامس الهجري) والقرن الحادي عشر الميلادي.

وقد ساعد ضعف الحكام على قبولهم بوجود هذه التنظيمات، لا بل إنهم تحالفوا معها أحياناً. حتى أن الفاطميين في ذروة قوتهم سلموا بوجودها. فبعد فشلهم باقتحام دمشق إثر حصار طويل بسبب مقاومة "قسام" رئيس أحداث دمشق، والذي رفض تسليم دمشق للفاطميين رغم موافقة أشراف وأثرياء دمشق على التسليم. وقد بقي يقاتل حتى توصل لاتفاق يقضي بتسليم شكلي للمدينة، يتضمن القبول بوال فاطمي مع بقاء السيطرة العملية للأحداث وقسام على مدينة دمشق. واستمر الأمر كذلك " حتى سنة /997م – 387هـ/ زمن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، عندما ثار أحداث دمشق على واليهم الفاطمي وطردوه من مدينتهم " وفي صور ثار قائد الأحداث " العلاقة الملاح " وطرد الفاطميين وحكم المدينة، لكن الفاطميين قضوا عليه بقوة برية وبحرية كبيرة. وعاود الفاطميون الذين حكموا جنوب بلاد الشام الهجوم المرة تلو المرة على أحداث دمشق حتى تمكنوا منهم أخيراً بالحيلة ولم تقم لهم قائمة بعدها. ونفس الأمر فعله السلاجقة في وقت متأخر في حلب مع أحداث حلب. فالأحداث تمت تصفيتهم في كل من جنوب وشمال بلاد الشام. في دمشق على يد أوتوقراطية دينية لا تسمح بوجود أي تشكيل أو تنظيم بجوار الإمام. وفي حلب على يد أوتوقراطية عسكرية لا تسمح أيضاً بوجود أي تعدد بجانب الحاكم. ويؤيد زكار هذه الرواية عبر الإشارة الى أنه " عندما جاء الصليبيون إلى الشام وجدوه خالياً من جميع القوى والتنظيمات الشعبية المحلية واستطاعوا انتزاع أجزاء كثيرة منه ومن مدنه دون كبير عناء " (3). نجد في كلام الدكتور زكار هذا إجابة على تساؤل يوسف السعدون وعلى كل من يسأل هذا السؤال ولا بد أن كثر يسألونه.

كما أن تأثير غياب "الأحداث " على مدن بلاد الشام لم يقتصر على الناحية العسكرية فحسب، وإنما امتد ذلك التأثير إلى العمران والحضور الاقتصادي والاجتماعي، اذ كان الأحداث يقومون بوظائف الشرطة البلدية، ويسهرون على الأمن، ويراقبون النظافة والنظام العام في المدينة.

 هنا يمكّننا القضاء على تنظيمات الأحداث في بلاد الشام، من الإجابة على إحدى مشاكل تاريخ هذا البلد الاجتماعية والعمرانية. فلو نظرنا إلى مدن بلاد الشام وخطط البناء الفوضوي بها ثم تطور عمران هذه المدن، وقارنا تطور الحياة الاجتماعية في المدينة الشامية بإحدى مدن أوربا لتبينت لدينا فوارق عديدة. وحين نبحث عن السبب، نجد أن المدينة الأوربية عرفت منذ زمن التنظيمات البلدية، وأن هذه التنظيمات التي رافقت تطور المدينة في أوروبا وأشرفت عليه كانت معدومة حتى أواخر القرن الماضي في بلاد الشام. ولذلك فان القضاء على الأحداث وإزالتهم من مدن بلاد الشام قد حرم هذه المدن من هيئة اجتماعية لكان – ربما لو كتب لها الحياة والاستمرار – وضع المجتمع والمدينة في بلاد الشام مخالف لما عليه الآن بشكل كبير. (3)

منذ ذلك التاريخ ومدن بلاد الشام في طور المقاومة السلبية، فهي تُراقب بصمت تبدل الدول والعصبيات حولها، وفي داخلها. كما تعيش أحياناً فصولاً داميةً من صراع هذه العصبيات. تبدو مستسلمة لا حول لها ولا قوة. يجرفها التيار السائد. لكنها مع ذلك بقيت تقاوم بطريقة خفية مراهنة على التاريخ. فما إن تطأ عصبية ما أرضها حاكمة متحكمة حتى تبدأ ذاكرة المدينة الحضرية بهضم هذه العصبية، وبعد حين تزول العصبية وتبقى المدينة. يطلق نجاة قصاب حسن على هذا الأمر في كتابه" حديث دمشقي" وصف المعجزة، معجزة قدرتها على هضم الغزاة والوافدين إليها، والحفاظ على طابعها العربي. اذ " ليست معجزة دمشق في برداها ولا في غوطتها بقدر ما هي في شيء آخر، قدرتها على هضم الأعداء الذين يتسلطون عليها لفترة من الزمن، والبقاء رغماً منهم".

أحد أسواق مدينة حلب في بدايات القرن العشرين

عند العودة إلى كتاب ابن طولون الصالحي المسمى ( أعلام الورى بمن ولي نائباً عن الأتراك بدمشق الشام الكبرى) نلحظ مثلاً أن أول من ملك دمشق من ملوك الترك بعد الأيوبيين هو الملك قطز الذي حكمها بعد أن هزم هولاكو في عين جالوت ، و قد توفي عام 658 هجرية ، و بعدها تولى دمشق عدد من الحكام نذكر منهم:قطز ، سنجر الحلبي ،طيبرس الوزيري ،أقوش النجيبي ، ايدمر الظاهري ، سنقر الأشقر ، حسام الدين لاجين ، سنجر الشجاعي ، ايبك الحموي ،عرلو العادلي ، أقوش الأفرم ، قرا سنقر كراي ، أقوش الأشرفي ، تنكز ، الطنبغا ، قطاولبغا ، ايدغمش ،طقز دمر ، يلبغا ، أرغون شاه ايتمش ،أرغون الكاملي ، أمير علي،منجك ، اسمندر ،بيدمر ، طشتمر ،اشقتمر ، الطنبغا الجوباني ، طرنطاي ،بزلار ،جردمر ، يلبغا الناصري ،يطا ، سودون الدوادار ،تغري بردي ،اقبغا ، شيخ الخاصكي ، نوروز ،بيغوت ، قاتباي ،الطنبغا العثماني ، اقباي الدوادار ، تنبك مين ،جقمق الدوادار ، تنبك البجاسي ، سودون الدوادار ،قصروه الظاهري ، اينال الجكمي ، آقبغا التمرازي ، جلبان المؤيدي ،قابناي ،جانم الجركسي ،تنم المحتسب ، برساي ، البجاسي ،يردبك الظاهري ،آزبك ، برقوق ، جاني بك فلقسيس ، قانصوه اليحياوي ، قجماس ، اينال الفقيه ، ...الخ .

ومع كل هؤلاء الذين لا نعرف كيف تلفظ أسمائهم – و لو كان بعضهم بنى في دمشق و خدمها و قدمها – و مع أن بين الحكام رجلاً اسمه لولو الأرمني و آخر كان زبالاً في المدينة ،فقد بقيت ذاكرة المدينة الحضرية العربية في دمشق حية ، بل ناشطة و أقول شرسة ، و من دمشق هذه انبعثت الحركة العربية من جديد.

نعم معجزة لكن المعجزة الأكبر ستحدث يوم تنهض مدن بلاد الشام بعد أن تكون قد تمثلت كل ما هضمته خلال قرون. لتمتلك زمام أمرها، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فتستعيد مكانتها من جديد عبر اللاعبين المحليين كمركز مديني وثقافي في المنطقة.

المراجع:

1- مذكرات يوسف السعدون (وهي غير منشورة لكن محتواها منتشر في كثير من الدراسات المنشورة)
2- غسان سلامة – المجتمع والدولة في المشرق العربي – مركز دراسات الوحدة العربية
3- موسوعة الحروب الصليبية – الجزء الأول – د سهيل زكار
ورد الشامي

كاتب من سوريا.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.