"الجندر" في المقاربة الـنِّسوية العربية المعاصرة: نقاط انطلاق وخطوط تطوّر

19 آب/أغسطس 2016
 
الظاهر أن استراتيجيا توسيع دراسات الجندر (Gendre Studies)، وحتى لا تنحصر في ثنائية الذكر/ الأنثى من منظور الجنس، أو في ثنائية الرجل/ المرأة من منظور الجندر، أو النوع الاجتماعي كما في منظور آخر، كان الهدف منها إحداث انقطاع جذري، وشمولي، في مجموع المقاربة الجندرية ذاتها وسواء على صعيد الطرح أو صعيد المنهج المعتمد.

وتجدر الملاحظة إلى أن منشأ "علاقات القوة"، في مفهوم الجندر، من المفاهيم الفرعية والإشكالية التي ستعزّزه وتوسّع من مجالات التعاطي التحليلي والتقويم الأكاديمي للمفهوم، وعلى نحوٍ ما، سيبرز ــ بوضوح ــ إلى حدود منتصف التسعينيات من القرن المنصرم. ليس غريباً أن يصير أكثر من مفهوم من هذه المفاهيم موضوع دراسات وأبحاث، وموضوع كتب مستقلة، مثل مفهوم الجنس والجسد والأنوثة والذكورة والعنف والهيمنة الذكورية والبطريركية والهوية الجندرية المعيارية والهوية الجندرية غير المعيارية (أو اللانمطية كما يترجمها البعض) (أو الهوية الجندرية على أساس "المثلية") والأمراض المنقولة جنسيا. كل ذلك لكي نتوقف عند هذا الحد، ونتلافى ــ تالياً ــ الإشارة إلى مفاهيم أخرى، بعضها مُرّكب، وبمجرد ذكره (واللبيب بالإشارة يفهم)، قد تنتفض مجموعات دينية تأويلية ترى في مجرد النطق بمثل هذه المفاهيم ما يدخل في باب الدعم لها، وما يدخل في باب البحث عن استراتيجيا لتداولها وإدخالها في أبنية الثقافة الإسلامية المعاصرة، وبخاصة عندما تصدر المساهمة ذاتها عن النساء، ولو من الأكاديميات والباحثات، مقارنةً مع الناشطات التي تحوم الشكوك حولهن قبل تحرّكاتهن.
 
ولا يبدو نشازاً أن يكون المفهوم موضع اختلاف، يبلغ حد الاعتراض، في أكثر من ثقافة من الثقافات القائمة بذاتها أو "الثقافات القومية"، وسواء على مستوى تفكيك "المستويات الخطابية" للمفهوم وكشف مقولاته النظرية ومستنداته التصوّرية، أو على مستوى نقله إلى اللغات الأخرى كاللغة العربية بـ"حمولتها الثقافية" أو بـ"إطارها المرجعي" تبعاً للمصطلح الجامع والأثير لدى المفكر الراحل محمد عابد الجابري. ثم إن العقود الأخيرة أكّدت صعود "الثقافة"، على سطح أحداث كثيرة، وسواء على صعيد الرجوع إلى التراث أو على صعيد فهم الثقافة ذاتها، وبما يدل على أشكال من الهويات العقدية المتصادمة والجغرافيات الثقافية المتباعدة.
 
في الجندر
 
ولذلك وجدنا، في الثقافة العربية المعاصرة، وفي دلالةٍ على أوّل مدخل لتلقي المفهوم في أفق توظيفه في مقاربة مأمولة، ومُحكمة وموسَّعة، أكثر من ترجمة للمصطلح، وبدءاً من الترجمة التي تحافظ على المقابل الإنجليزي ذاته "الجندر" (Gender) الذي نجد تداولاً ملحوظاً له، ثم من المتعاطيات للموضوع من النساء، كما هو الشأن بالنسبة لكل من شيرين شكري وأميمة أبو بكر في كتابهما (المبكِّر بمقياس التلقي والتقبّل للمفهوم في الثقافة العربية المعاصرة) "المرأة والجندر: إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين" (2002) الكاشف عن وجهة نظر حوارية حديثة وليبرالية في سياق "حوارات لعام المرأة بدمشق (دار الفكر) 2002"، وكما هو الشأن أيضا بالنسبة للباحثة الأكاديمية والمثقفة التونسية الجريئة رجاء بن سلامة في كتابها "بنيان الفحولة ــ أبحاث في المذكر والمؤنث" (2005) الذي اعتمدت فيه ــ وفي سياق مواجهة "الخصوم البدائيين" كما تنعتهم ــ ترجمة "الجندر"، ومن منظور اقترابي ثقافي يفيد من علم الاجتماع (بيير بورديو بخاصّة) والتحليل النفسي... إلخ، وكذلك الباحثة المغربية خلود السباعي في أطروحة الدكتوراه التي نشرتها في كتابها الموسوم بـ"الجسد الأنثوي وهوية الجندر" (2006) في المجتمع المغربي القروي، وعلى نحو يفيد على مستوى استكشاف "أنساق" مجتمعات عربية أخرى في تعاطيها للجسد، وقد تم تثمين الكتاب الأخير بالنظر لجانبه المعرفي أيضاً. ومهما كان، تبقى حقيقة أنه تم التعاطي مع موضوع الجسد من قبل باحثين كثيرين. إلا أن الموضوع لا يمكنه إلا أن يتجدّد في حال تجديد أدوات البحث ومقولات التحليل.
 
 
وكما نجد الباحثة التونسية أمال قرامي في "مغامراتها الأكاديمية"، (كما تمّ توصيفها)، والموسومة بـ"الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: دراسة جندرية" (2007) الذي سعت فيه إلى رصد مظاهر الاختلاف حسب دورات الحياة من طفولة وشباب واكتهال وشيخوخة. مؤكّدة على دور الثقافة في بناء هوية الفرد الجندرية في جميع هذه المراحل ودونما توقّف عند مرحلة من المراحل، وبما في ذلك عند مرحلة الشيخوخة ذاتها. وتنبع أهمية الكتاب من تركيزه على التأثير الطويل للبنيات الذهنية وعلى خطورة الارتباط المرضي ــ و"الدرامي" ــ بالتراث. ونجد الدكتورة الأردنية (مديرة مركز النوع الاجتماعي للاستشارات الاجتماعية والنسوية والتدريب [الجندري]) عصمت محمد حوسو في كتابها "الجندر: الأبعاد الاجتماعية والثقافية" (2009)، الدّال بعنوانه ــ التبسيطي والتعريفي ــ على أهمية التعاطي لموضوع المرأة من خارج الاعتبارات البيولوجية والتشريحية. ونجد الباحثة والناشطة اللبنانية عزة  شرارة بيضون في "الجندر... ماذا تقولين؟ الشائع والواقع في أحوال النساء" (2012) في دلالة على رزمة من المقولات التنميطية ــ والجارفة في الوقت ذاته ــ للمرأة، وعلى نحو ما يسهم السياق الاجتماعي والثقافي بدوره في انتشارها، وهي المقولات التي سعت الباحثة إلى تفكيكها وإعادة صياغتها من منظور نسوي/ جندري.
كما عرضت الباحثة اللبنانية إليزابيت سوزان كساب في أحد فصول كتابها الدسم "الفكر العربي المعاصر دراسة في النقد الثقافي المقارن" (2012)، الذي كرّسته لـ"المستوى النقدي"، بدلاً من "المستوى الإيديولوجي" في الفكر العربي المعاصر، لـ"جندرة النقد" من خلال عنوان "نوال السعدواي والنسويات". ونجد عالمة الآثار العراقية زينب البحراني في "نساء بابل: الجندر والتمثلات في بلاد ما بين النهرين" (2013) في دلالة على ما كانت تتمتع به المرأة في هذه المنطقة من حقوق قانونية كالزواج والإرث والحيازة... وحريات اجتماعية كالسفر والاستقلالية وحرية التصرّف والتقرير في شؤون حياتهن... وبما لا يقارن بما كانت تتمتّع به شقيقاتهن في العصور الإغريقية والرومانية القديمة، وكل ذلك أيضا في دلالة على أن القيود المفروضة على النساء ظهرت في وقت متأخر من العصور القديمة. وصولاً إلى كتاب "الجواري والغلمان في الثقافة الإسلامية" (2015) الذي حرصت فيه صاحبته الباحثة التونسية وفاء الدريسي، واعتماداً على مقاربة جندرية مرنة لعالم الجواري والغلمان، على الرجوع إلى الماضي من أجل تفكيك بنيانٍ ثقافي كان في أساس تحوّل ما هو طبيعي وبيولوجي إلى ما هو ثقافي، وكان في أساس جعل أمثال هؤلاء ــ وهم من أقليات وأعراق وإثنيات ــ يسهمون ــ وعلى نحو غير "مائِـل" ــ في الثقافة العربية. وكانت فاطمة المرنيسي، ومن قبل، قد تعاطت لموضوع "الحريم" (الوافد من ثقافات أخرى وفي عهد هارون الرشيد بخاصة)، ومن خارج التقيّد بالمقاربة الجندرية الظاهرة أو المقحمة، في كتابها "الحريم والغرب" (Le Harem et l'Occident) (2001) الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان "شهرزاد ترحل إلى الغرب" (2002).
 
الراحلة فاطمة المرنيسي

على أنه ليس المرأة بمفردها من انفردت بالمصطلح ترجمةً وتطبيقاً وتداولاً ــ واعتراضاً – إذ نجد المصطلح قد خضع لمنظور "الهوية الذكورية"، ومن مناظير تحليلية ومرجعيات إيديولوجية مختلفة. ولعلّ أوّل ما يمكن أن نقرأ له، هنا، هو الباحث الكردستاني العراقي مثنى أمين الكردستاني في كتابه (التمهيدي والتعريفي) "الجندر: المدلول، المنشأ، الأثر" (2005) الذي يعرض ــ وبشكل عام ــ لمنشأ المصطلح المرتبط بـ"الحركة الأنثوية" (Feminism) (كما يترجمها)، وعلى نحو ما أسهمت في تكريسه منظمات دولية (في مقدّمها هيئة الأمم المتحدة)، وفي سياق أشمل هو سياق العولمة الذي كان نصيب الفكر النسائي منها وافراً. وكل ذلك قبل أن يعرض صاحب الكتاب لانتقال المصطلح إلى العالم العربي "ممثَّلا" (كذا) في نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي. وهناك الباحث الأردني محمد بشير شريم في كتابه العلمي المتين "محدّدات البنية الأنثوية: الفوارق بين المرأة والرجل: مؤشرات إحصائية جندرية" (2008) الذي يعرض فيه، ومن خلال عيّنة بحثية من ذكور وإناث في مديريات التعليم بمدينة عمان، لمئات الفوارق التشريعية والسياسية والاقتصادية والديموغرافية والصحية والجنسية... بين الرجل والمرأة، ومن منظور يصل ما بين البحث التحليلي والتسجيل الإحصائي واعتماداً على مفاهيم مثل السلطة الذكورية والسلطة الأنثوية والنمو الاجتماعي... والجندر طبعاً. وهناك الكاتب المغربي عبد النور إدريس في كتابيه (التمهيدين والمتحمِّسين) "النقد الجندري: التمثلات السوسيولوجية للجسد الأنثوي في القصة النسائية" (2013) و"النقد الجندري: تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية" (2013)... إلخ.
 
في النوع الاجتماعي
 
وإذا كان مصطلح "الجندر" يحيل، وعلى نحو ما يمكن استخلاص ذلك من خلال ما أقدمنا على ذكره من عناوين، على مقاربةٍ مفاهيمية تبدأ من مفهوم الجندر ذاته، من حيث البحث في هويته ومضامينه وأبعاده الاجتماعية والثقافية، ومن حيث صلاته بأشكال الكتابة والتمثيل والتمثـل، وصولاً إلى صلاته بمفاهيم مركزية وإشكالية مثل الجسد والجنس والطبقة والعرق والمواطنية والفضاء العام... فإن مصطلح "النوع"، أو "النوع الاجتماعي" تعيينا، ومن خلال اصطلاحات موسّعة بعض الشيء مثل "دراسات النوع" و"مقاربات النوع" و"سياسات النوع"، تبدو ــ في اعتقادنا ــ مصطلحاً أقرب إلى "التبيئة" مقارنةً مع مفهوم الجندر. والمقصود، هنا، تبيئة المصطلح في فضاءات الثقافة العربية المعاصرة، وجعله أكثر التباساً وتشابكاً واستجابةً لمشكلات المجتمع ومشكلات الثقافة العربية ذاتها. وذلك اعتماداً على مقاربات "سياسات النوع الاجتماعي" المنبنية على آليات مؤسساتية تقوم على استراتيجيات وبرامج وتخطيطات، ووفق بيانات وإحصاءات ومعلومات، وعلى وجه الخصوص في أثناء التعاطي لموضوع "التنمية"، وفي المدار الذي يصلها بالمرأة من خلال مخطّط "النوع الاجتماعي والتنمية" (Gender and Development) كما نصّت عليه مواثيق هيئة الأمم المتحّدة. ومن قبل كانت الهيئة نفسها قد خصّصت عقد الستينيات لـ"التنمية"، وفيما بعد جعلت من العقد الممتد من العام 1975 إلى العام 1985 عقدا للمرأة.
 
ولعل هذا الاهتمام بالربط الحدّي بين النوع الاجتماعي ومشكلات المجتمعات، هو ما يبرّر، في اعتقادنا، أوّلاً، تحمّس مترجمي هيئة الأمم المتحدة لمصطلح "النوع الاجتماعي"، جنباً إلى جنب مع حقيقة اعتماده في تقارير منظمات دولية أخرى ومعاهد تخطيط ومراكز بحوث ودورات تدريب عربية. ولتنضم إلى الهيئات الأممية، وعلى مستوى الاستخدام نفسه، وفي سياق قضايا التنمية والمجتمع، الهيئات الإقليمية والمحلية. ولعل هذا ما يُبرّر، ثانياً، ارتباط المصطلح/ الترجمي بمشكلات الإعاقة والتوظيف والإدماج وتقسيم العمل، واسترتيجيات التنمية والصحة والتعليم وغيرها في بلدان محدّدة. هذه المشكلات والاستراتيجيات، وغيرها، ذات صبغة اجتماعية "عملية" علاوةً على كون أنها ذات طابع "ثقافي محلّي"، وكلّ ذلك يحتّم الأخذ بإجراءات البحث العيني والتدخّلي بدلاً من الاكتفاء بمقولات التنظير الأكاديمي والتحليل الفوقي. ولعل هذا كذلك، ثالثاً، وليس آخرا، ما يفسّر وجود كتابات (تأخذ بالتسمية ذاتها) سابقةً زمنياً على المقاربات التي تعتمد مصطلح "الجندر" في الثقافة العربية المعاصرة وتيارات الفكر العربي المعاصر بعامة.
 
وفي هذا الصدد ربما توجبّت الإحالة، ابتداءً، على كتاب "دليل الإيسيسكو لإدماج مفاهيم الصحة الإنجابية والنوع الاجتماعي في منهاج التربية الإسلامية" (2004) الذي كان من تنسيق منظمة الإسيسكو ذاتها. وبما أن العناوين، التي هي في شكل تقارير، عديدة. فإنه يمكننا أن نحيل على الباحثة الفلسطينية لميس معد أبو نحلة صاحبة أكثر من بحث حول التخطيط المبني على النوع في حال المجتمع الفلسطيني، وضمن هذه البحوث بحثها "التعليم والتدريب المهني والتقني في فلسطين من منظور التخطيط ودمج النوع الاجتماعي" (1996)، وأن نحيل على الدكتورة بشرى التيجي في "إدماج مقاربة النوع في الوظيفة العمومية" (بالمغرب) الذي صدر ضمن العدد الأول من سلسلة البحث الأكاديمي (2013)، وعلى نص التقرير أو الوثيقة (الصادمة) "ملامح النوع الاجتماعي في تونس (2014)" التي تمّ إعدادها في إطار تعاون الإتحاد الأوروبي مع حكومة الجمهورية التونسية من قبل  الخبيرة بثينة قريبع والخبيرة جورجيا ديباولي (والوثيقة، التي هي من 183 صفحة، متداولة في شبكة الاتصال الدولي). وقد جاء التقرير مباشرة بعد التقرير العالمي حول "الفجوة بين الجنسين" (Gender Gap Report Global) لسنتي 2012 و2013.
 
وكما نهجنا مع مصطلح الجندر فالمقاربة عبر النوع خضعت، بدورها، لمنظور "الهوية الذكورية" على نحو ما يمكن أن نقرأ للباحث السوسيولوجي الجزائري الزبير عروس في "الفقر بالجزائر: الظاهرة، والأسباب ودور جمعيات النوع الاجتماعي في مواجهته" (2002)، والباحث المغربي العربي وافي في "مقاربة النوع والتنمية" (2008)، وإن كان قد غلب عليه الطابع التنظيري والتجزيئي في البحث الثاني.

المقتنيات

في الجنوسة
 
حظي مصطلح (Gender) بترجمة أخرى، من خلال مصطلح "الجنوسة". وقيل بأن الترجمة الأخيرة تحمّست لها كاتبات ومثقفات "نسويات". وفي هذا السياق، يمكن أن نشير إلى هالة كمال (صاحبة الأبحاث حول النساء الأكاديميات المهاجرات) التي أقدمت، رفقه منى إبراهيم، على ترجمة الكتاب الأشهر للباحثة المصرية ليلى أحمد (Women and Gender in Islam ) (1992) تحت عنوان "المرأة والجنوسة في الإسلام: الجذور التاريخية للقضية الجدلية الحديثة" (1999).
 
كما أن الأكاديمية والمترجمة العراقية أمل الشرقي احتفظت بالمفردة نفسها في ترجمتها لكتاب "الإسلام والجنوسة والتغيّر الاجتماعي"  (تحرير: إيفون يزبك حداد وجون ل. سبوزيتو) (2003). وكما راعى رعد الحُجّاج مفردة "الجنوسة" في ترجمة كتاب حسين بستان النجفي الذي يحمل عنوان "الإسلام والجنوسة: التمييز بين الجنسين في المؤسسات الاجتماعية" (2012).
 
وقد يبدو جلياً، ومن خلال ما أقدمنا على ذكره من عناوين أخيرة، في سياق نوعٍ من المسح التقريبي الذي نسعى إليه، أننا لا نعنى بالترجمات، بقدر ما نعنى بتداول المصطلح ومع الإشارة إلى بعض سياقات التداول. ولذلك يهمنا أن نشير إلى الكتاب اللافت "خارج السرب ــ بحث في الحركة النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية" (2010) الذي اعتمد فيه صاحبه المفكر العربي فهمي جدعان ــ واعتماداً على "منهجية تحليلية" لا تخلو من "مرجعية إسلامية متفتّحة" ــ مفردة "الجنوسة" للبحث في "مرجعيات نسوية إسلامية" تسهم في صياغتها ــ وفي الغرب الأوروبي والأمريكي ــ باحثات وكاتبات مسلمات أغلبهن من أصول غير عربية. والكتاب مفيد سواء من خلال نهجه التحليلي الشيّق أو من خلال قبوله الانخراط في التعريف والنقد لكتابات أغلبها تعميمات وتحيّزّات وشتائم وإساءات للإسلام نتيجة قراءات متسرّعة وتجزيئية للنص القرآني.
 
وحتى لا نسقط في نظرة، تبدو وكأنها تصل ما بين العلة والمعلول، وإن في السياق الترجمي، فإنه لا بأس من أن نشير إلى ارتباط مفردة الجنوسة بمواضيع أخرى من غير موضوع الإسلام كما قد يستخلص من العناوين الثلاثة الأخيرة. ويكفي أن نشير، هنا، إلى ما فعلته الشاعرة والباحثة الأردنية زليخة أبو ريشة في كتابها الذي يعدّ الأوّل من نوعه في العربية بخصوص موضوعه، والمقصود كتابها: "اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنوسية" (1996) الذي سعت فيه إلى التأسيس ــ كما قيل في التعريف بالكتاب ــ لعلمٍ جديد في الثقافة العربية من منظور "النقد اللغوي النسوي أو الجندري". وغير بعيدٍ عن اللغة يمكن أن نحيل على عنوان المترجم والباحث المغربي (في قضايا اللغويات الاجتماعية والعلوم الإنسانية) عبد النور خراقي "علاقة اللغة بالجنوسة: مقاربة تداولية اجتماعية" (2012). ومن المفيد التذكير، هنا، أنه كثيراً ما تمّ ترسيخ الهيمنة الذكورية من خلال اللغة. وقد حصل ذلك في فضاءات البيت وفضاءات التعليم وفي الفضاءات العامة بصفة عامة. والنصوص والعبارات والمفردات، التي يتمّ بواسطتها، وفي أشكال من التواصل والتداول، توجيه الخطاب، ولغاية "الضبط الاجتماعي"، عبر "نحو ذكوري"، متناسلة وعديدة.
 
في الهوية الجنسية
 
وثمة ترجمات أخرى للجندر كتلك التي نحتها الناقد والمفكر المصري جابر عصفور تحت اصطلاح "الهوية الجنسية"، والتي وظفها في ترجمته لكتاب رامان سلدن "النظرية النقدية الأدبية" التي صدرت (أي الترجمة) العام 1991، وتحديداً في الفصل الأخير المكرَّس لـ"النقد النسائي"؛ أي في فترة لم نكن نسمع فيها شيئا يذكر عن الجندر في الفكر العربي ككل وبتياراته وبـ"ثابته ومتحوِّله" بالعنوان الجامع. وظل جابر عصفور يدافع عن الترجمة في مقالات كتبه اللاحقة "دفاعا عن المرأة" (2007) حتى وإن وظّف مصطلح "النوع" في التقديم المطوّل الذي خصّ به مقالات "النقد الأدبي والهوية الثقافية" (2009). وهناك ترجمة أخرى "التذكير والتأنيث"، غير أنها لا تبدو متداولة إلا في مقالات محدودة. وثمة من يجمع بين ترجمتين كما يظهر في عنوان عاطف الغمري في "النوع الاجتماعي (الجندر) ومبادرة تعليم الفتيات" (2003) وفي عنوان عبد النور إدريس "النقد الأدبي النسائي والنوع الاجتماعي "الجندر" (2011).
 
في التعدّدية الترجمية
 
يبدو جلياً، من خلال التعدّدية الترجمية، أن نقل مصطلح (الجندر) من الأصل الإنجليزي إلى اللغة العربية لا يخلو من مشاكل متعدّدة. والمسألة ذات صلة بسياقٍ معرفي وفكري أوسع يمكن تأطيره في إطار من موضوع "النظرية المهاجرة" أو "المرتحلة" أو "المسافرة" أو "النازحة" (Traveling Theory) تبعا لـ"صراع الترجمات". وهو الموضوع الذي كان إدوارد سعيد نفسه قد خصَّه بمقال شهير، حمل العنوان نفسه، ونشره أّوّل مرة العام 1982 وبعد ذلك ضمّه إلى مقالات "العالم والنص والناقد" الذي ظهر في العام نفسه. ولكي ترقى النظرية إلى مصاف النظرية المهاجرة لا بدّ من أن تخضع لدروس تجربة الثقافة المتقبِّلة للنظرية وبخاصّة من ناحية ما يسميه السوسيولوجي الفرنيسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) بـ"عمليات الانتقاء والتبيئة" و"نزع الطابع القومي عن النصوص".
 
ولذلك لا يمكن، في محصِّل الأمر، اختزال نقل المصطلح الإنجليزي في محاولات إيجاد مقابلات للمصطلح داخل اللغة العربية. فالمسألة ذات صلة بالفكر العربي ككل، وبسياقاته المختلفة تبعاً لاختلاف مرجعياته وتياراته. وبخاصة إذا ما شدّدنا على أن هذا الفكر لا يزال مؤطَّراً ضمن ثقافةٍ مغلوبة من جهة علاقاتها بالغرب ولا تملك إلا أن تقاوم على مستوى التثاقف والتناص والتفاعل مع "الآخر" (الأمريكي في الأغلب الأعم) الذي هو ــ هنا ــ مصدر "التصدير الخطابي" لمصطلح الجندر، وفي إطار من مركزية هذا الآخر في الفكر العالمي ككل.

ومع ذلك فإن المصطلح حرص على الدلالة على منظورٍ اقترابي لا يخلو من أهمية معرفية حتى وإن كان لا يزال في بدايات التشكّل والتأسّيس. ولا يخلو من متفاوت، تبعا لتفاوت مرجعيات الباحثات والباحثين، ولكن بهدف إثارة وتحليل قضايا متنوّعة ذات صلة بالتراث والإسلام والهوية والتنمية والأدب واللغة. وعلى نحو تَراوح فيه المصطلح ما بين التوظيف التحليلي والتوظيف البراني المحكوم بذلك النوع من "المد والجزر" الذي يحكم الموضة الأكاديمية. هذا بالإضافة إلى طغيان مرجعيات مذهبية على نحو يكشف عن أن استعمال المصطلح لا يعدو أن يكون مجرد أداة لخدمة المرجعيات المقحَمة. والمؤكد أن البحث في هذا التراوح، وفي هذا "التعامل الوسيلاتي"، ومن منظور "نقد النقد" بمقولاته النظرية ومرتكزاته التحليلية، يستلزم حيزاً تحليلياً أوسع من هذا الحيز الذي حرصنا فيه إلى أن نعرض ــ وبشكل جامع ــ للسياقات التي كانت في أساس ارتقاء الجندر من مجال الاصطلاح والمفهمة إلى مجال المقاربة في الثقافة العربية المعاصرة. وعلى الرغم من أن هذا الارتقاء لم يرقَ إلى خلق تيارٍ جندري بمرجعيات فكرية مختلفة، طالما أنه ظل قرين محاولات لباحثات ينحدرن من الجامعة في الأغلب الأعم، فإنه لم يسلم من نيران "الخطاب النقيض".
SaveSaveSaveSaveSaveSaveSave
يحيى بن الوليد

ناقد ثقافي وباحث أكاديمي ، وأستاذ التعليم العالي. حاصل على دبلوم الدراسات العليا (1998) والدكتوراه (2002) في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.من إصداراته: "التراث والقراءة ــ دراسة في الخطاب النقدي عند جابر عصفور" (القاهرة، 1999)، "الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب" (القاهرة، 2003)، "الوعي المحلق ــ إدوارد سعيد وحال العرب" (القاهرة، 2010)، "سلطان التراث وفتنة القراءة" (الأردن، 2010)، "صور المثقف" (الرباط، 2013)، "الدار البيضاء... الهوية والمعمار 1912 ــ 1960" (2016) (بالاشتراك مع الباحث المعماري رشيد الأندلسي)، ".

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.