تتسم الكثير من القراءات السياسية للانتفاضات العربية بفكر تبسيطي للصراعات، وربما من أبلغ ما كتب من مساهمات هي للباحث السوسيولوجي المرحوم عبد القادر زغل الذي بينُ في عملية نقد ذاتي كيف أنه وكثير من زملائه السوسيولوجيين التوانسة قد فشلوا في فهم ظاهرة الثورة التونسية، عازيا ذلك الى أزمة "الباردايغم" (المنوال) المؤسِّس لعلم الاجتماع التونسي (زغل 2014).
وهو الباردايغم الذي شجع متبعيه إلى استنتاج أعمال الأطراف الاجتماعية الفاعلة وتفاعلاتها انطلاقاً من المعطيات البنيوية في الحياة اليومية ولاسيّما المعطيات الاجتماعية والاقتصادية، مع أن البنيوية تحمل في طياتها الحتمية، وهذا ما يرفضه عبد القادر زغل الناضج في نقده لعبد القادر زغل الشاب.
في هذا المقال أحاول فهم الانتفاضه السورية باستخدام أدوات نقدية للخطاب السائد حول طبيعة الصراع في سوريا، و خاصة ذاك الخطاب الذي يركز على البعد الطائفي لهذا الصراع.
تطييف الصراع في سوريا
"ملة الكفر واحدة" ،"العلويين فرق ضالة"، " كل المجموعات الإسلامية عنيفة ومصدر فكرها سيد قطب" ، "لا يمكن أن تكون مع فلسطين بدون أن تكون مع ايران"، "السعودية منذ آل سعود والعرب يتآمرون على الأمة"، "واقعنا يفسره واقعة سقيفة بني ساعدة" (هكذا صرح مؤخراً أدونيس) ...
هذه المقولات التي تدعي اهتمامها بالتاريخ هي ليست بشيء الا أنها لا تاريخية مبنية على ثنائيات الخير والشر، وتنظر إلى التاريخ وكأنه ثابت ويوجه المجتمع في تغيراته( هذا إذا كان هؤلاء يؤمنون بالتغيير). من خلال هذا الفهم، نجد أن الامور تصبح سهلة عندما نفسر صراعاً ما على انه طائفي أو إثني : حيث نبدأ بتشكيل مجموعات معرفة تبسيطياً بانتمائها إلى دين او طائفة أو قومية، ونفسر تداول الصراع على انه معركة وجود: إما "نحن" أو "هم".
لقد نبهنا عالم الاجتماع الأمريكي روجرز بروبيكر (Rogers Brubaker) في كتابه "الإثنية بدون مجموعات" (Ethnicity without groups) ( 2002) أن إضفاء الماهية على الصراعات من خلال خلق مجموعات إثنية ليس إلا وهما يمنعنا من فهم آليات تشكل الصراعات وتغيراتها من خلال تحالفات تتجاوز المجموعة.
كما يبين لنا بروبيكر كيف أصبح مفهوم الهوية مفهوما مركزيا بِدْأً من كتاب إريك إيركسون "أزمة الهوية". ورغم أن إيركسون قد طبقه على الأفراد، لكنه مع الوقت أصبح محل نقاش للمجموعات، التي أخذت معناً صلبً لدى المدرسة الماهياتية (essentialism) ومعناً ناعماً لدى المدارس البنائية (constructionism).
وبالنسبة لبروبيكر لايمكن فهم المجموعة دون معرفة كيف يتم التصنيف وفهم الذات والمكان الاجتماعي والقواسم المشتركة والترابط داخلها. كما يبين من ناحية أخرى، خطر عدم الأخذ بعين الاعتبار هذه المفاهيم من خلال تقديمه تحليلا في الفصل الثاني من الكتاب للدراسات الاختزالية لقبيلة النوير (Nuer) التي تعيش في أواسط شرقي إفريقيا. حيث نجد أن هذه الدراسات قد أهملت تعقيدات التزاوج والتهجين الثقافي لتخلق تصنيف هوياتي صلب للنوير ككل، وهو ما منع من الاعتراف بهويات متعددة لهم. هذه التحاليل الإختزالية للهويات الإثنية تتناقض مع النهج الذي ينظر إلى كيفية عمل الإثنية لا من خلال النظر في ماهيتها، ولكن في ديناميكية إعادة رسم حدودها (نحن-هم) التي تتغير بشكل مستمر- بطيء أو سريع، متدرج أو درامي- ورصد هذه التغيرات؛ فعوضاً عن التركيز على التحولات الكبرى طويلة الأمد التي شكلت الإثنية، ينبغي النظر الى الأحداث والتحولات التي تجري في الفترات القصيرة والتي تؤثر على تشكل أو تصلب أو تهجين المجموعات الإثنية.
على ضوء هذا الكتاب، كيف يمكن فهم ما يحصل الآن في سوريا؟
بدأت الثورة السورية في شهر آذار 2011 باعتبارها انتفاضة سلمية قامت بها جموع غفيرة مطالبين بمطالب جد كلاسيكية لأي انتفاضة، تضع المطلب الديموقراطي كمطلب حياتي أساسي لتنظيم العلاقة بين الدولة والفرد والمجتمع وكذلك مطلب العدالة الاجتماعية، بعد هيمنة نظام حاكم جملكي (أي جمهوري-ملكي بحد تعبير سعد الدين ابراهيم) حيث ورث بشار الأسد عن أبيه الجمهورية وحكما بالحديد والنار والاستخدام الممنهج للتعذيب لنصف قرن بمساعدة حفنة من أبناء العائلة والمستفيدين من طبقة الأغنياء الجدد التي تشكلت. كما يوصفها ياسر نديم السعيد ( 2012) بإبداع: " كان لدى حافظ الأسد مشروع كبير كديكتاتور كرس في سورية عبادة الشخصية على الطريقة الأوربية الشرقية والكورية الشمالية ومارس سياسة خارجية ماكرة تظهر سورية كقوة رئيسية في المنطقة، ولكن سياسته الداخلية قضت على المجتمع المدني قبل أن تقضي على السياسة ، كما أشاعت الفساد وحولت الدولة السورية إلى دولة فاشلة يحكمها نظام أمني لعله “النجاح” الوحيد له حتى الآن على الأقل".
وقدتم بسرعة تطييف الثورة من قبل النظام، عندما قام مثلا بحملة دعائية ونشر بوسترات في كل أنحاء سوريا، مدنها وريفها، مكتوب عليها "لا للطائفية"،
وهو ما كان يعني أن النظام الحاكم يرى في معارضيه "مجموعة سنية" تريد أن تطيح بالنظام. كما حدث استخدام واسع لكلمة "سلفي" وذكر تخويفات من فكرة الحرب الأهلية. وبعد القمع الدموي للمظاهرات السلمية، تعسكرت الانتفاضة السورية. وبتعسكرها دخل البعد الإقليمي ليلعب دورا رائدافي دعم طرفي الصراع. وأصبح الكثيرون من الطرفين (المعارضة والموالاة) يتحدثون عن الصراع بوعي أو بدون وعي على أنه "حرب أهلية" أو "حرب طائفية"، أي أنه حرب بين مجموعتين كل واحدة لها حدود صلبة مربوطة بالإنتماء الطائفي. وبدأت تتحدث كل مجموعة على انه لا يمكن التعايش مع المجموعة الأخرى. وبالتالي تم إنكار البعد السياسي في الانتفاضة. وفيما يلي بعض مظاهر هذا الإنكار.
حيث بدأت كثير من وسائط الاعلام تستخدم صفة طائفة الشخص قبل ذكر اسمه، فمثلا بتنا نسمع مقولات مثل "العلوي بشار الأسد" أو "الدرزي فلان" أو الميليشية الشيعية حزب الله، "الهلال الشيعي"، وذلك كمحاولة لطمس معالم طبيعة الصراع في سوريا والذي هو بالأساس بين دكتاتورية متحالفة مع طبقات اجتماعية تتجاوز حدود أي طائفة، وبين انتفاضة شعبية لها مطالب شرعية حسب الأعراف العالمية المرتبطة بالديموقراطية وحقوق الانسان. ولقد كتبت الباحثة اللبنانية ريما ماجد (Majed 2013) مقالة بديعة بينت من خلالها كيف يجري تأطير الصراعات العربية حالياً بوصفها تمثل صراعا سنيا – شيعيا ، في حين أن الإطار هو اختزالي ويغشي أعيننا عن الطبيعة الحقيقية للصراع السياسي في المنطقة. كما كثر الحديث في هذه الأيام في وسائط الإعلام والميدا الاجتماعية في المغرب العربي عن نشاط إيراني مكثف لتشيع السكان هناك، بينما هو بالنسبة لي "تشييع" سياسي أكثر منه ديني. وربما ماسماه صادق جلال العظم "العلوية السياسية" في سوريا (أي استحواذ علويون على أغلب المناصب الحساسة منذ نصف قرن) هي محاولة للخروج من التفكير بالعلويين كطائفة الى التفكير بهم كأفراد ارتبطوا بمشروع السلطة الفاسدة والمستبدة.
من جانب اخر، نجد أن حزب الله يقاتل مع النظام السوري ليس لأنه حزب "شيعي" يتحالف "طبيعياً" مع "العلويين"، بل لأن موضوع الديموقراطية ليس على أجندة حزب الله. فهو حزب تتدافع فيه ثلاثة أجندات: أجندة لبنانية داخلية، أجندة فلسطينية وأجندة جيوسياسية ايرانية.
وتدخل هذه الأجندات بعض الأحيان بتناقضات كبيرة كالدعوة الى تحرير القدس ولكن بدون الدفاع عن اللاجئين الفلسطينيين ومنعهم في لبنان عن أبسط حقوقهم الأساسية كحق العمل. وتتغير أهمية كل أجندة حسب الظروف السياسية والاجتماعية، وحتى لو استخدم حزب الله شعارات مثل "لن تسبى زينب مرتين" أو "الحرب ضد التكفيريين" فهذا ليس إلا خطاب بروبوغاندا دينية لتعبئة جموع تحركها المشاعر الدينية والتي سنطلق عليهم لاحقا "المجموعة الشيعية". وعلى الرغم من وجود هيئات سياسية معبرة عن جموع عبرت بوضوح عن مطالبها السياسية وبموضوع الديموقراطية (الإتلاف الوطني السوري، هيئة التنسيق السورية، الخ) إلا أن حزب الله لا يريد أن يرى في جموع السوريين المحاربين للنظام إلا داعش والتكفيريين، وهذا اختزال أيضاً مربوط بالبروبوغاندا والايديولوجيا لدرجة أنه لا يرى الواقع السوسيولوجي.
وإن كان النظام وحلفاءه قد بادروا في تطييف الانتفاضة السورية، فمع كل أسف وقع بعض أطياف المعارضة في هذا الفخ من خلال الانتقال من استخدام خطاب ديني (وهنا إسلام سني) كأداة للتعبئة الى خطاب يحمل معاني اقصائية للآخر، لابل ومتطرفة مقارنة بالخطاب الإخواني المصري وحركة النهضة في تونس. وحتى لو كانت دول الخليج الملكية وغير الديموقراطية ذات الأجندة الطائفية والاقليمية قد هيمنت على المنطقة، فهذا لا يعني أن تحالف المعارضة السورية مع هذه الدول هو تبني لأجندة طائفية، بمقدار ما هو تقاطع مصالح بين المعارضة وهذه الدولة في لحظات معينة. وهذا ما نجده في الفعل السياسي للأحزاب، وهو له طبيعة لا تختلف عن طبيعة تحالف إيران حالياً مع أمريكا والحلفاء لدحر داعش.
في هذا السياق، يمكن الاشادة بتحليل عزمي بشارة للوضع اليمني على قناة الجزيرة في 8أيار 2015، حيث حذر في هذه المقابلة من قراءة إثنية طائفية للصراع على اليمن، مؤكدا بدلا من ذلك على أن ما يحصل مربوط بمصالح إقليمية للطرفين، حيث يحاول طرفي الصراع الاستفادة من تناقضات مشروعات هيمنة اقليمية: المشروع الخليجي والمشروع الايراني. مع ذلك يبقى هذا الرأي رغم جديته اختزالي ولا نتفق معه كثيرا، كون الصراع لا يمكن اختزاله من خلال معادلة مشروع عربي في مواجهة مشروع فارسي.
وجاءت داعش بمشروع اسلام أصولي يسحق كل من لا يبايعها لخلط الأوراق أكثر. ولكن لا يمكن فهم تكفيرية داعش خارج العنف الاستثنائي الذي يمارسه النظام السوري ضد الشعب السوري وخارج العنف والمشروع الطائفي لنظام المالكي في العراق. واذا كان استنهاض وتفعيل ابن تيمية يؤمن لداعش غطاءً قدسيا، فإن من صنع داعش هي البراميل المتفجرة وآلة عنف النظام السوري اللذان تسببا بمقتل أكثر من 350,000 سوري وتهجير 9 ملايين من بيوتهم حتى الآن.
ولعل ما أريد قوله هنا ، ًهو أنه حتى الآن لا يوجد في سوريا "مجموعات طائفية" متبلورة تخوض "حرب أهلية"، وإنما مشاريع سياسية عنيفة متناقضة وأهمها بالنسبة للغالبية السورية مشروع يتمثل في مطلب الديموقراطية والعدالة الاجتماعية. كما أن كل التشكلات والمظاهر الطائفية ليست إلا شيء حديث (صنعتها الحرب حسب التحليل العميق لياسين الحاج صالح ( 2015) ويجب أن تقرأ كذلك، وإلا فإننا بصدد خلق هويات متناحرة لن تؤدي في المنطقة إلا إلى دمار وخسارة لكل الأطراف.
تغيير باردايغم السياسة
إذا اعدنا صقل وترميم وإزاحة الغبار عن المشروع الديموقراطي، فربما نبدأ بإعادة الاعتبار للبعد السياسي بعد أن تم إنكاره، والتفكير بحلول سياسية تنهي دوامة العنف المدمر في سوريا، أو بتعبير خلدون النبواني ( 2014) نحن بحاجة الى تغيير باردايغم السياسة.
حلول ربما تكون صعبة في المرحلة الانتقالية بعدما تشكلت مجموعات انصقلت في الأحداث الأخيرة طائفياً وشكلت إثنيات مؤقتة. وباعتبار ان الديموقراطية بوصفها حكم الأغلبية لن تكون صالحة الا اذا تصالحت الأغلبية مع الإثنيات المتشكلة حديثاً وطمأنتها بأنها لن تهدد ولن تُقصى سياسياً في سوريا الجديدة. من هنا يبدو النظام السياسي المبني على المواطنة والتعددية الثقافية (Multiculturalism) هو الأصلح لسوريا، حيث يتم الاعتراف بالاختلاف الطائفي والاثنيات القومية كالأكراد (ولو أنهم مجموعات حديثة) وضرورة أن يكون لهم حق الاختلاف مع الأكثرية، وأن يكون لهم كوتة في الهيئات التشريعية والتنفيذية.[1] كما أنه علينا أن ندرك أن النداء الطائفي لن يتوقف بدون التعامل مع بعض المصالح الإقليمية لجهات مثل ايران، تركيا، حزب الله، السعودية والتي يفرض على المشروع السياسي القادم طمأنة الجميع أن سوريا الجديدة لن تكون مشروعاً ضد أي من هذه الأطراف، وأن سوريا الشعب لن تكون إلا كما كانت سابقاً مساندة لأي مشروع مقاومة ضد المشروع الكولونيالي الإسرائيلي، وانها ستكّون نظاماً يسود فيه العدالة الاجتماعية.
هذا هو أيضا مشروع عبد القادر زغل بدعوته للعودة الى المجتمع التعددي والمتسامح وإيجاد ترجمة سياسية للمخيال التحديثي في المجتمع.. هذه صيرورة طويلة ولكنها ممكنة.
المراجع:
Brubaker, Roger. 2002. “Ethnicity without Groups.” European Journal of Sociology 43 (2): 163–89.
Majed, Rima. 2013. “Did Arab Uprisings Deepen the Sunni-Shia Divide?” Aljazeera English.
أبو رمان, محمد. 2013. السلفيون و الربيع العربي : سؤال الدين و الديمقراطية في السياسة العربية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
الحاج صالح, ياسين. 2015. “من الثورة إلى الحرب: الأرياف السورية تحمل السلاح.” Al-Jumhuriya | الجُمهوريّة.
النبواني, خلدون. 2014. “الثورة السورية وتغيير باراديم السياسة.” Al-Jumhuriya | الجُمهوريّة. April 21.
زغل, عبد القادر. 2014. “شهادة: الثورة التونسية وأزمة ‘الباردايغم’ المؤسِّس لعلم الاجتماع التونسي.” In مستقبل العلوم الاجتماعية في الوطن العربي. تحرير ساري حنفي, نورية بن غربيط-رمعون, and مصطفى مجاهدي, 75–88. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
ياسر نديم السعيد. 2012. “مقاربة ثنائية (سنّي-علوي) في الثورة السورية: كيف وصلنا إلى المجازر الحالية؟.” Al-Jumhuriya | الجُمهوريّة. June 15.
[1] أنظر الى محمد أبو رمان (2013) في دراسته الوافية لثلاثة مستويات رئيسة للديمقراطية: المؤسسية، الدستورية، والقيم والفلسفة الثاوية وراء الممارسة الديمقراطية. فهو يبين أن الديمقراطية الليبرالية يجمع ما بين الضمانات المؤسسية لديمقراطية (مثل: الحرية في الانضمام إلى المنظمات والجمعيات، الحرية في التعبير، والحق في التصويت والترشح، وفي التنافس على الدعم والأصوات، وحق الحصول على المعلومة، والانتخابات العادلة والحرة)، و"الضمانات الدستورية" لحماية الحقوق الأساسية، والحريات، ولضمان قواعد الحكومة المنتخبة، ضمن إطار الدستور، بالإضافة إلى القيم الديمقراطية التي قامت على احترام الحريات الفردية وحقوق الأقليات.
SaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSave
SaveSaveSaveSaveSaveSave