نظام الأسد مفتياً: العلماء والسلطة والتغيير في سوريا (2012-2011)

04 أيار 2017
 
تقدم الثورة السورية مثالاً نموذجيًّا على تعقيدات العلاقة بين "الدين والسلطة والعلماء وقضايا التغيير" [1]، وما يعطيها أهمية أكبر هو طبيعة "النظام السوري" الذي يقدّم نفسه على أنه نظام بعثي علماني، وتنتمي فيه النخبة الحاكمة إلى الطائفة "العلوية" والتي تقع في التصور اللاهوتي (السني والشيعي على السواء) خارج دائرة "الإسلام" كمعتقد.

تحدث عن "مؤامرة" قد يكون وراءها اليمين الأمريكي المتطرف واليهود بهدف إسقاط النظام الممانِع، وقال: إن هؤلاء المتظاهرين "ينتعلون المساجد" لأهداف وغاياتت شريرة وليسوا من المتدينين أصلاً. كلام "البوطي" هذا يأتي بعد أحداث "درعا" التي شكّلت الانطلاقة الأولى للثورة السورية، وفيها قام النظام السوري بقلع أظافر مجموعة من الأطفال وقَتْلهم؛ لأنهم كتبوا على أحد الجدران شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"


انطلقت الثورة السورية في شهر فبراير 2011م من المساجد فخرجت المظاهرات عقِب صلاة الجمعة التي وفّرت فرصة ثمينة للتجمهر غير المُكْلف في ظل نظام قمعيّ يحظر أي نشاط سياسي أو جماهيري لا يخضع لرقابة وإذن أمنيّ. اقتران فعل التظاهر بصلاة الجمعة جعل الدين في قلب "الثورة"؛ إذ وظّف شعيرة دينية يصعب التعاطي معها بالمنع في بادئ الأمر. أصدر النظام توجيهاته عبر "وزارة الأوقاف" وبعض القيادات الدينية بحثّ الناس على الهدوء وعدم استخدام المساجد للتظاهر، وخصص التلفزيون السوري الرسمي "حلقة خاصة" للعالم المشهور "محمد سعيد رمضان البوطي" [2] لإدانة التظاهر وتهدئة الجماهير. روّج التلفزيون الرسمي للقاء بكثافة عبر شريط كان يظهر بشكل متكرر على الشاشة كُتب فيه "ترقبوا كلمة العلامة د. محمد سعيد رمضان البوطي". ظهر "البوطي" في تلك الليلة (مساء الخميس 24-3-2011) قبيل مظاهرات الجمعة التي أخذت تزداد كثافة وقوة، فتحدث عن "أياد خارجية" تعبث بشأن البلد، وقام بتحقير المتظاهرين وتجهيلهم متسائلاً: "من أنتم؟!"، كما تحدث عن "مؤامرة" قد يكون وراءها اليمين الأمريكي المتطرف واليهود بهدف إسقاط النظام الممانِع، وقال: إن هؤلاء المتظاهرين "ينتعلون المساجد" لأهداف وغايات شريرة وليسوا من المتدينين أصلاً. كلام "البوطي" هذا يأتي بعد أحداث "درعا" التي شكّلت الانطلاقة الأولى للثورة السورية، وفيها قام النظام السوري بقلع أظافر مجموعة من الأطفال وقَتْلهم؛ لأنهم كتبوا على أحد الجدران شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، لكن "البوطي" لا يأتي على ذكر شيء من ذلك السياق كما لا يرى أي أسباب داخلية لهذا، بل يقصر الأمر كله على وجود مؤامرة خارجية.
 
وفي اليوم اللاحق (25-3-2011) ظهر "القرضاوي" من الدوحة لينتقد موقف "البوطي" والنظام السوري عبر خطبة "الجمعة"، ورأى أن "قطار الثورة" تأخر في الوصول إلى سوريا. انتقد "القرضاوي" الخطوات التي اتبعتها السلطة كما انتقد قسوة قوات الأمن وتعاملها مع المتظاهرين السلميين، ووجّه نقدًا شديدًا لرأس النظام حين قال: إن "بشار الأسد أسير حاشيته وأسير طائفته"، في أول إشارة إلى انتماء الرئيس السوري للطائفة العلوية، وهي إشارة تُعتبر من المحرمات في العرف السياسي السوري.

شكّلت تلك "الحلقة الخاصة" للبوطي وهذه "الخطبة" للقرضاوي بداية سجال ثنائيّ بين الرجلين سيتكرر في أكثر من مناسبة، اختلط فيه الديني بالسياسي كما اختلط الواقع السياسي الحالي بالإرث التاريخي للعلاقة بين الإخوان المسلمين والنظام البعثي. شنّ النظام السوري هجومًا حادًّا على شخص "القرضاوي" عبر وسائل مختلفة رسمية وغير رسمية، فقد شكّلت تلك الإشارة المبهمة إلى "طائفة" الرئيس اختراقًا للمحظور السوريّ الذي استمر لعقود، كما أن تأييد "القرضاوي" – وهو أهم مرجعية دينية في العالم السنّي - للتظاهر والتغيير في سوريا شكّل ضربة موجِعة للنظام أفسدت عليه خططه "الداخلية" في التهدئة عبر الخطاب الديني السوري "الرسمي"، ولذلك لجأ النظام السوري إلى وسائل مختلفة للنيل من "القرضاوي"، منها: بثُّ تقارير تلفزيونية هجائية له، وإفساحُ المجال لشخصيات دينية متعددة للرد عليه - البوطي أبرزها – وعبر وزارة الأوقاف السورية التي أصدرت بيانًا باسم "كبار علماء سوريا" - وهو تعبير غريب على الوسط السوريّ - للرد عليه وعلى "تدخله في الشأن السوري"، بل إن النظام السوري طلب من "حركة حماس" نفسها إصدار بيان في "الرد على القرضاوي" ولكن الحركة رفضت ذلك [3].

تكرر ظهور "البوطي" في أكثر من مناسبة للرد بوضوح على "القرضاوي" عبر التلفزيون الرسمي وفي درسه العام في المسجد، انتقد تدخله في الشأن السوري وطريقته في النقد داعيًا إياه إلى "تحكيم ضوابط الشرع" والبعد عن "النعرات الحزبية" – يشير لانتمائه إلى الإخوان المسلمين-، ولكن "القرضاوي" عاد فتحدث عن سوريا مجددًا في الخطب اللاحقة. ففي (1-4-2011) كرر انتقاداته للنظام السوري وإدانته لإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وطالب بضرورة إلغاء قانون الطوارئ، وسَخِر من تهديدات النظام السوري له بالمحاكمة بتهمة "النيل من هيبة الدولة" قائلاً: إن "دولة تنال منها كلمة هي أوهن من بيت العنكبوت"، وفي (9-4-2011) ردّ على "علماء السلطة في سوريا" ووجه انتقادات شديدة لهم وخصَّ بالذكر منهم "البوطي"؛ داعيًا له إلى الاحتكام إلى "الشرع" وأحكامه. وفي (23-4-2011) ردّ القرضاوي على البيان الذي أصدره وزير الأوقاف ضده (صدر باسم "كبار علماء سوريا") ووجه انتقادًا لاذعًا للوزير الذي ادّعى أن "القرضاوي" أقحم نفسه في الشأن السوريّ، مخاطبًا إياه بالقول: خولني التدخل في الشأن السوري شخص اسمه محمد بن عبد الله رسول الله، وكتاب اسمه القرآن.

يتجاوز "البوطي" السجال مع "القرضاوي" فيعود للكلام عن "الأحداث" في الأسبوع الأخير من شهر أبريل 2011 [4] من خلال "حلقة خاصة" من حلقات برنامجه التلفزيوني "دراسات قرآنية"، والتي تأتي بعد وعود من الرئيس السوري بالإصلاح، وبما أن الوعود لم تُجْدِ خصص التلفزيون السوري الرسمي هذه الحلقة للبوطي – وهي لا تمت إلى "دراسات قرآنية" بصلة [5] - ليقوم بتهدئة المتظاهرين، فيُدين التظاهر ويرى أن الحلّ يكون عبر سلاح واحد هو "سلاح الاستيقاظ في الأسحار والالتجاء إلى الله بالدعاء"، وبهذا فإن الحقوق ستتحقق؛ لكن بشرط الجلوس في البيوت، وبهذا يحمي الناسُ أنفسَهم من طلقات الرصاص التي قد تأتي من هنا أو هناك، في إشارة إلى إطلاق النظام السوري الرصاص على المتظاهرين السلميين في بداية الثورة. يختم البوطي دعوته للناس إلى الجلوس في البيوت بأنه "رجاءٌ خاص، لا بل أمر الله".

شكّلت "المؤسسة الدينية الرسمية" في سوريا أحد أهم أدوات النظام لصياغة "فتاوى" و"خطابات" مطابقة تمامًا لخطاب النظام السياسي الرسمي تجاه الثورة ومؤيديها، وقد استمر هذا الدور بأشكال مختلفة وعبر شخصيات متعددة، ولكن الدور الرئيسي كان "للبوطي" و"أحمد حسون" مفتي الجمهورية و"وزارة الأوقاف السورية" التي كانت تصدر بيانات باسم "علماء سوريا" تارة، وباسم "رابطة علماء بلاد الشام" تارة أخرى للرد على "القرضاوي" أو على "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" وللدفاع عن النظام السوري. ولا يمكن فهم أداء تلك المؤسسة وأطرافها إلا بناءً على إيقاع الأحداث وتقديرات النظام السوري نفسه للوقائع ومسار الأحداث، ويبدو هذا بوضوح من خلال ثلاثة أمور:

أولها ما هو معروف في بنية النظام وسياسته في إدارة الشأن الديني منذ الثمانينيات.

وثانيها تلك الإشارة الصريحة التي صرّح بها "كريّم راجح" شيخ قراء الشام في خطبة الجمعة (بتاريخ 1-4-2011) حين قال بوضوح شديد الدلالة: "نحن لسنا بحاجة لكل ما يأتينا من الأوقاف لضبط الناس. المنبر لا يُستشار بشيء أبدًا إلا إذا وقعت أزمات، بل المطلوب منه أن يُطفئ الأزمات!"، في انتقاد شديد اللهجة لسياسة النظام الآتية عبر توجيهات "وزير الأوقاف".

وثالثها – وهو الأهم – أنه حين لم تقع الاستجابة (الكاملة) لتوجيهات النظام وسياسته في إدارة الشأن الديني وخاصة خطبة الجمعة، اضطر رئيس الدولة نفسه إلى الاجتماع بالعلماء والمشايخ في رمضان بتاريخ (25-8-2011) وألقى فيهم خطابًا صريحًا انتقد فيه أداء المشايخ على المنابر أثناء "الأزمة"، وقال "بشار الأسد": إن المنبر أحد الجوانب التي أضرت بالمشكلة، "فالمنبر ملك للمسجد وليس ملكًا للشيخ، على المنبر هناك أصول" ينبغي أن تُراعى، وإن الحديث على المنبر حين يؤدي إلى تفاقم المشكلة "يصبح هذا الشيخ شريكًا في الدماء؛ لأنه يعرف مسبقًا أن كلامه سيؤدي إلى سفك الدماء حتى لو كان يقول كلامًا صحيحا". يشير "الأسد" هنا إلى المظاهرات التي تخرج من المسجد والتي يطلق عليها رجال الأمن الرصاص، فالشيخ شريك في القتل؛ لأنه متسبّب في التحريض على التظاهر وفق "فقه" رئيس الجمهورية. وفي إشارة شديدة الدلالة يقول "الأسد": "من لقاءاتنا مع عدد من الشيوخ نناقشهم فيقولون: إنهم مقتنعون. فنقول لأحدهم: لماذا لا تخرج وتقول هذا الكلام؟ واحدة من القضايا: تحريم التظاهر. فيقول: لأنه - بما معناه - لا يريد أن يخسر شعبيته، يعني هو وضع نفسه أمام مبادئ الدين". ومبادئ الدين هنا هي تلك التي يقررها رئيس الجمهورية نفسه الذي يناقش هؤلاء "الشيوخ" فيقتنعون ثم لا يبلّغون.

يأتي هذا الخطاب من رئيس الجمهورية (وإلى جانبه البوطي والمفتي حسّون ووزير الأوقاف) إلى الشيوخ (وفيهم عامة رجال الدين في سوريا بمختلف مذاهبهم) ليكشف عن سياسة النظام السوري في صياغة الفتوى والخطاب الديني أثناء الثورة، فرئيس الدولة هنا يمارس دور "المفتي" والواعظ حين يملي على المشايخ ما يجب أن يقولوه وما لا يجب وما هي "الأصول" التي يجب أن يلتزموا بها على "المنبر"، بل إنه يقرر "مبادئ الدين" التي يخالفها هؤلاء الشيوخ الذين يرفضون تحريم التظاهر الذي أقنعهم به ورفضوا إعلانه على الناس.

يعكس خطاب "الأسد" أيضًا نوعًا من الاستياء لعدم استجابة كلّ الشيوخ لفتاوى الرئيس وتقديراته لصحيح مبادئ الدين، ومن هنا فإن مشروع الإصلاح المزعوم الذي يبشر به "بشار الأسد" يشمل "رجال الدين" و"رجال الأمن" معًا، يقول في الخطاب نفسه: "كما أن هناك عنصر أمن بحاجة إلى إصلاح، هناك رجل دين بحاجة إلى إصلاح"، وهذا الإصلاح لكليهما يصيّرهما خادمَين لرؤية الرئيس ومنفّذَين لأوامره المطابقة لمبادئ الدين. وعليه فإن من يجسد هذا الإصلاح الديني المبشَّر به هم أركان المؤسسة الدينية الرسمية الممثَّلة بالمفتي والبوطي ووزير الأوقاف، فقد ألح الطرفان الأخيران على تكرار هذه الرؤية التي يطرحها "بشار" في أكثر من مناسبة وفي أكثر من صيغة (خطبة، بيان، توجيه، فتوى، ...)، وتارة باسم "البوطي" – كشخصية تحظى باحترام وتأثير وسلطة علمية – وتارة باسم "كبار علماء سوريا" التعبير الذي اخترعه "وزير الأوقاف" أثناء الثورة للرد على القرضاوي و"الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، وتارة باسم "رابطة علماء بلاد الشام" التي شكلتها وزارة الأوقاف وعهدت برئاستها إلى "البوطي" نفسه ويحتفي موقع الوزارة ووسائل الإعلام الرسمية بنشر بياناتها وتصريحاتها.

إنه من المثير للتأمل ذلك التطابق التام بين كلام الرئيس في خطابه للمشايخ وفتاوى وخطاب "البوطي" منذ بداية الثورة، فكلاهما يحتكم إلى منطق واحد، تأمّل فتوى "البوطي" التي يقول فيها: "ثبت بما لا يقبل الشك أن الخروج إلى المسيرات واستثارة الآخرين بالهتافات المختلفة: ذريعةٌ إلى فتنة لا مجال للتحرز منها، وكثيراً ما تتمثل هذه الفتنة بقتل أو تعذيب أو سَجن لأناس لم يكونوا معرضين لشيء من ذلك لولا هذه المسيرات، وقد أوضحت لك في سؤال سابق حكم الذرائع الموصلة إلى جرائم ومحرمات، وبينت دليل حرمتها وسخط الله على الذين لا يبالون بحكم الله فيها. فلماذا تسألني عن حكم أخذ النقود لفض المسيرات، ولا تسألني عن حكم المسيرات ذاتها؟!. المهم أن نعلم ويعلم كل مسلم أن سد الذرائع إلى الفتن والمحرمات واجب شرعي خطير بنص صريح من القرآن" [6]. فحديث الرئيس عن الشيخ الشريك في الدماء؛ لأنه يتحدث على المنبر عن المشاكل فيفاقمها وإن كان يقول كلامًا صحيحًا، وحديثه عن مخالفةِ بعض الشيوخ لمبادئ الدين حين لا يصرحون بتحريم المظاهرات التي تؤدي إلى سفك الدماء: يقابله حديث "البوطي" عن "سد الذرائع" وسخط الله على من لا يبالون بـ "حكم الله" في المظاهرات، ولكنّ كلاًّ من "بشار الأسد" و"البوطي" لا يحدثانِنا مطلقًا عن وضع وحكم مَن يطلق النار على المتظاهرين وهو الفاعل الرئيسي في الحدث!
قامت الفضائية السورية بتحريف مقطع فيديو "لسارية الرفاعي" أحد مشايخ "جماعة زيد" في دمشق، وقوّلته فيه أن المظاهرات حرام، مما اضطره إلى نفي ذلك وتكذيب الفيديو من خلال درسه العام في المسجد، وأعادت جماعته نشر الفيديو الكامل عبر الإنترنت لتبين التحريف المقصود الذي قامت به الفضائية السورية.
ومما يشير بوضوح إلى أن إيقاع الفتوى كان متوافقًا مع تقديرات النظام السياسية، أن شهر أغسطس من سنة 2011 شهد كثافة في تحريم التظاهر عبر منابر مختلفة، بشكل متزامن مع تصاعد وتيرة التظاهر وانتشار آليات الجيش العسكرية في أنحاء البلاد، وتصاعد حدة الانتقاد الدولي لذلك مع اضطرار النظام لمنع إقامة صلاة الجمعة في بعض المناطق في "حماة" مثلاً، ففي (1-8-2011) أقام "البوطي" ووزير الأوقاف ندوة في جامعة دمشق، تحدث فيها الوزير عن تحريم المظاهرات شرعًا، ثم تحدث "البوطي" مؤيِّدًا كلام الوزير، وقال: إن "الخروج إلى الشوارع محرَّم، وهذا جليٌّ بدهيٌّ؛ لأنه ذريعة إلى الفساد"، وإن "الله يحذرنا من الإصلاح من خلال التخريب". وفي (5-8-2011) قامت الفضائية السورية بتحريف مقطع فيديو "لسارية الرفاعي" أحد مشايخ "جماعة زيد" في دمشق، وقوّلته فيه أن المظاهرات حرام، مما اضطره إلى نفي ذلك وتكذيب الفيديو من خلال درسه العام في المسجد، وأعادت جماعته نشر الفيديو الكامل عبر الإنترنت لتبين التحريف المقصود الذي قامت به الفضائية السورية. وفي (25-8-2011) تحدث الرئيس في خطابه للمشايخ عن ضرورة تحريم المظاهرات وأن المنبر ساهم في تفاقم المشكلة.

لم يقتصر الخطاب الديني على الشخصيات السابقة فقط، فقد شغلت شخصيات وفاعلون آخرون جزءًا مهمًّا من الخطاب الديني في الثورة السورية، من أمثال "كريّم راجح" شيخ القراء الذي مثلت مواقفه نقدًا صريحًا للنظام وسياساته، فقد خطب بتاريخ (1-4-2011) عن "الحرية" وتحدث عن مطالب مُحقة للمتظاهرين، وعن ضرورة إجراء إصلاحات جوهرية كتبييض السجون ومحو الماضي الأسود للنظام، موجّهًا كلامه بوضوح إلى النظام ورئيسه بأنه "ناصحٌ" لهم. لم تكن "جماعة زيد" [7] بعيدة عن المشهد، فـقد خطب "أسامة الرفاعي" بتاريخ (25-3-2011) عن "النصيحة" لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وتحدث عن شرعية مطالب المتظاهرين، وأن الحرية حق، وعن ضرورة إطلاق سراح مساجين الرأي ومحاربة الفساد، وإلغاء قانون الطوارئ، ثم خطب بتاريخ (1-4-2011) موضحًا أن كلامه في الجمعة السابقة لا يعني أنه يحرض على المظاهرات، أو على الخروج على الدولة، وإنما كان يتحدث عن "مفاتيح التهدئة"، ونصح الشباب بألا يتبعوا كل ناعق، كما تحدث عن "فتنة عمياء"، ونصح بعدم التظاهر، وسار على الخط نفسه في خطبه اللاحقة: "حرية التعبير" وأن الرئيس أمر بإعطاء حرية التعبير للناس، ثم "حجة الوداع" وحرمة الدماء، وصولاً إلى خطبة (10-6-2011) التي تحدث فيها عن إزهاق الأرواح وأن من أسباب الخلل: 1- الانصراف عن الله، 2- المعالجات القاسية لقوى الأمن، وحذر بوضوح من التدخل الأجنبي فيما لو تفاقمت الأزمة.

وفي حين تتسم خطب "أسامة" بالحذر والحنكة في نقد النظام دون القطيعة معه أو الوصول إلى حد المواجهة، اضطربت مواقف وخطب أخيه "سارية الرفاعي" الذي كانت له اتصالات متكررة برجال الأمن وصرّح بها في أكثر من مناسبة، فموقفه من الثورة اتسم بالتردد والاضطراب، ففي (1-4-2011) خرج في لقاء تلفزيوني عبر قناة "الدنيا" الناطقة بلسان النظام، وتحدث عن "هجمة" على سوريا، ومع أنه نفى أن تكون المظاهرات مدعومة خارجيًّا قال: إن العدو يستغلها ولذلك يجب أن نلتزم البيوت، ولكنه أقر بشرعية مطالب المتظاهرين. كرر "سارية" الرؤية نفسها في خطبة الجمعة بتاريخ (15-4-2011) حين قال: إنه "ينبغي علينا ألا نفسح المجال لشياطين الإنس والجن ليعكروا صفو أبناء أمتنا"، وبارك قرار الرئيس "تعيين حكومة جديدة قريبة من الشعب"، بل إن فكرة اختلاف سوريا عن تونس ومصر واستغلال العدو للمظاهرات تتكرر في أكثر من مناسبة من كلامه لاحقًا كما في خطبة (29-4-2011)، كما تتكرر إشادته بالمراسيم الرئاسية الصادرة ومسيرة الإصلاح التي بدأت ولم تتوقف كما في خطبة (27-5-2011) التي يقول فيها: "إن الاستمرار في التظاهر يعني المزيد من الدماء والعنف"، وإن "المعارضة والمؤامرات الخارجية تريد أن يزيد التظاهر"، ويوجه خطابه للشباب بالقول: "هل تريدون يا شباب أن يدخل عدوكم مرة ثانية إلى بلدكم؟"، وهذه الرؤية فيما يبدو هي نتاج قناعات تولدت لديه نتيجة اتصالاته مع بعض رجال الأمن الذي كانوا يقومون بمناقشات مع بعض الشيوخ لإقناعهم بها، وهو ما أشار إليه "بشار الأسد" في خطابه السابق.

شهد خطاب "أسامة" و"سارية" - وهما ابنا مؤسس "جماعة زيد" – تصاعدًا بحسب تصاعد سطوة النظام، ولكنه لم يصل إلى حد المواجهة والدعوة إلى التظاهر أو تأييده، بل إن خطاب "سارية" كان متراجعًا جدًّا بالمقارنة مع خطاب "أسامة"، فقد ظل "سارية" يتحدث عن "الحرية المقيدة" (17-6-2011)، ومع أنه صعّد نقده للممارسات الأمنية القاسية ضد المتظاهرين لاحقًا لكنه لم يؤيد التظاهر، ففي خطبة (12-8-2011) يخاطب رجال الأمن قائلاً: "اتقوا الله في هؤلاء الذين أساؤوا لكم بالتظاهر، ولكنهم ليسوا عصابات مسلحة".

أما الشيخ الثالث البارز في الجماعة وهو "نعيم العرقسوسي"، فقد بقي شديد التحفظ والحذر في نقده للنظام وتعليقه على الثورة، وحافظ على سياسة مسك العصا من المنتصف التي اشتهرت بها الجماعة نفسها، ومن اللافت هذا التوافق بين موضوعات ومضمون خطبه مع خطب "أسامة"، فقد تحدث أيضًا عن "الدين النصيحة" (25-3-2011) وعن ضرورة معالجة الاحتقانات بالرفق، وأن الناس سُروا بصدور قرارات الرئيس، وفي (1-4-2011) تحدث عن "نعمة الأمان" وأن "المطالبة بالحقوق أمر مشروع؛ شريطة ألا يجر إلى إزهاق الأرواح وسفك الدماء"، وفي (8-4-2011) تحدث عن "حرية التعبير" وأنها من أسباب الاستقرار وصِمَام أمان، وأن القرارات التي أصدرها الرئيس "تدل على أن عملية الإصلاح قد بدأت".

لم تخرج خطابات شيوخ "الجماعة" عن رؤية النظام الرسمية للثورة والتظاهر والمؤامرات، بل ولعملية الإصلاح. فمع أنها وجهت بعض الانتقادات - على اختلاف النبرة بين أسامة وسارية ونعيم – إلا أنها لم تصل قط إلى دعم التظاهر أو تأييد الثورة صراحة أو الوقوف في مواجهة مع النظام، فقد ظلت معترفة بشرعيته وولايته وتوليه لمسؤولية الإصلاح ووفق رؤيته هو، ولكنها كانت تطالبه دومًا بتنفيذ ما أصدرَه وبالمعالجة الرفيقة للأزمة وأَخْذ الناس بالحب وتفويت الفرص على المؤامرات. وهذا إن دلّ فإنما يدل على اكتفاء "الجماعة" بالدور التقليدي لها وهو ممارسة العمل الدعوي، والبعد عن العمل السياسي الذي لا تحسنه أيضًا حتى إن أرادتْه، كما يدل على أن لقاءات بعض قياداتها مع بعض رموز النظام أفلحت في كبح جماح أي رغبة لها في تحريك الشارع أو قيادته، كما أنها قَنَعت بإجراء بعض الإصلاحات والتحسينات فقط مقابل حثّ الناس على عدم التظاهر، وهو ما تشير إليه خطب قياداتها المتكررة، وهو ما يتوافق مع فكر الجماعة نفسها وعملها لسنوات طويلة، وليس أدلُّ على توافقها هذا مع العمل ضمن جهاز الدولة وتحت قيادتها من البيان الذي صدر باسم "علماء الشام" بتاريخ (1-8-2011) بعد مقتل المئات على يد النظام، فالبيان الذي وقعه "كريّم راجح" و"أسامة وسارية الرفاعي" وآخرون يكتفي بشجب واستنكار ما يسميه "استخدام العنف المُفرط"، ويحمّل من يسميها "القيادة السورية" المسؤولية الكاملة، ويؤكد "ضرورة تطبيق ما صدر من مراسيم وقوانين وقرارات" [8].
 
الهوامش:
[1] وهي قضية سبق لي مناقشتها في مقال خاص في صحيفة "الحياة" اللندنية بتاريخ 21-1-2012.
[2] البوطي هو أحد كبار علماء سوريا، لا يشغل منصبًا رسميًّا في الدولة ولكنه عُرف بتأييده للنظام السوري منذ الثمانينيات، ويظهر دومًا إلى جوار الرئيس في المناسبات الدينية، ويدعو له كما كان يدعو لأبيه بصيغة تمزج بين القدَريّ/الجبريّ والصوفيّ: "اللهم وفّق عبدك هذا الذي ملّكتَه زِمام أمورنا ...".
[3] حصلتُ على هذه المعلومة من مصدر مباشر ورفيع المستوى في حركة حماس أوضح لي تفاصيل تلك الواقعة.
[4] تم تأريخ هذا التسجيل المصور بتاريخ 24-4-2011، ويبدو لي أن تاريخه يرجع ليوم الأربعاء 20-4-2011.
[5] برنامج "دراسات قرآنية" خصصه الرئيس "حافظ الأسد" للبوطي منذ مطلع التسعينيات عبر شاشة التلفزيون السوري الرسمي، ففي حلقة منه سنة 1995م يخصصها "البوطي" للحديث عن "قانون العفو" الذي أصدره "الأسد" الأب، ويقول فيه بوضوح: "إن هذا البرنامج أرسته يد السيد الرئيس"، وإن "من حق السيد الرئيس على هذا المنبر ومن حق شعبنا العربي السوري أيضًا على برنامج دراسات قرآنية أن نعلق وأن نتحدث عن مشاعر الفرحة بقانون العفو".
[6] نُشرت هذه الفتوى على الموقع الرسمي للبوطي، المسمى "نسيم الشام"، برقم (13994)، بتاريخ 14-6-2011.
[7] جماعة دينية دعوية أسسها عبد الكريم الرفاعي (1901-1973م)، ثم تولى قيادتها ابنه أسامة الرفاعي، تعرضت لضربة أمنية قاسية في أحداث الثمانينيات اضطرت قياداتها إلى الخروج من سوريا إلى السعودية، وعاد شيخ الجماعة أسامة الرفاعي في سياق رغبة الأسد الأب في تسهيل انتقال السلطة لابنه بشار عبر تهدئة الاحتقان السني وتوسيع قاعدة تحالف النظام الديني أبعد من الحلفاء التقليديين (البوطي والمفتي كفتارو)، وفي سنة 2002 قام بشار الأسد بالصلاة في مسجد الجماعة "مسجد عبد الكريم الرفاعي" والجلوس إلى "أسامة" في خطوة ذات دلالة شكلت نوعًا من التصالح بينها وبين النظام.
[8] تنبغي الإشارة هنا إلى أن ما سُمي "رابطة علماء الشام" التي أُنشئت في سبتمبر 2012 وتضم مشايخ الجماعة قد أصدرت بيانها الأول لاحقًا وتضمن إسقاط شرعية الرئيس بشار الأسد، ولكن هذا البيان لا يمثل الجماعة؛ لأنها لم تكن هي مَن صاغه بل أبدى شيوخها اعتراضهم عليه أيضًا في واقعة كنتُ شاهدًا عليها، ولذلك لم ألتفت إليه هنا.
معتز الخطيب

أستاذ مساعد في "مركز التشريع الإسلامي والأخلاق"- جامعة حمد بن خليفة.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.