لا يمكن أن نعثر في وقتنا المعاصر على ظاهرة اجتماعية أكثر تعقيداً من ظاهرة الهجرة /اللجوء. فقد باتت كفيلةً اليوم بتجييش مشاعر الوطنية والعنصرية وكره الأجانب، كما أصبح موضوع المهاجرين واللاجئين الموضوع الأكثر حساسية وأهميةً في الجولات الانتخابية في العالم الغربي والعربي.
وطبعا يتجاوز هذا الموضوع مسألة العنصرية، كون رهاناته في إحدى جوانبها ذات بعد اقتصادي. اذ لطالما استغل المهاجرون قوة عملهم بأجور زهيدة واستخدموا كطريقة لإضعاف منافسة القوة العاملة المحلية. كما أن للهجرة رهانات ثقافية تتعلق بسياسات الدول المستَقبِلة تجاه التعددية الثقافية، وكيف سيقبل المهاجرون/اللاجئون الاندماج الإيجابي ويمارسون التعايش والتعارف في هذه المجتمعات، بحيث يحافظون على ثقافتهم ويأخذوا من الثقافات الأخرى بعمليةٍ خلاقة كتب عنها الكثير من باحثي الهجرة وسُّموها بالهجينية Hybridity))، والتطبع والاندماجintegration) ) وهذا يختلف كثيرا عن الانصهارAssimilation) ) أي تخلي المهاجر عن ثقافته الأصلية، وغالبا تحت ضغط الهيمنة الثقافية للمجتمع المستَقْبِل.
سأتناول في هذه المقالة كيف تعاملت الفتاوى ودور الإفتاء مع موضوعة الهجرة: شروطها، وطريقة عيش المهاجر في المجتمع المستَقبِل. وسنرى أن لفقه الهجرة أو فقه المهجر والموضوعات المجاورة له من فقه الأقليات وفقه التعارف مدارس ومشارب مختلفة سنعرضها هنا.
يشير سامي الذيب أبوساحلية (Abu-Sahlieh, 1996ء) أن الهجرة قد ميزت المجتمع المسلم منذ التاريخ الإسلامي المبكر. فقد أرسل النبي محمد (صلعم) بعض أتباعه من سكان مكة المكرمة إلى الحبشة لحمايتهم من الاضطهاد، وهو نفسه وأتباعه هاجروا من مكة المكرمة في شهر سبتمبر 622 إلى يثرب، مدينة والدته، وقد دشن ذلك الحدث بداية العصر الإسلامي، التقويم الهجري. وقد نظر التراث الإسلامي للهجرة والتنقل باعتبارها فعاليات اجتماعية أساسية وليست استثناءً. وهو أمر ما تزال ترصده اليوم العديد من الدراسات الأنثروبولوجية. فمثلا توصلت الباحثة الأنثروبولوجية ليزا مالكي Malkki, 1992)) إلى أن مناطق عدة في العالم اليوم كأفريقيا، لا يزال التنقل والترحال بداخلها، وليس البقاء ضمن حدود الدولة الوطنية، هو ما يعد القاعدة الأولى والأهم لفهم علاقة مجتمعات تلك المناطق بالمكان . وقد استمر هذا التقليد بعد عهد النبي محمد (صلعم)، بما في ذلك الحق في اللجوء. إذ كتب المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون في عام 1952 حول أهمية الحق في اللجوء عند المسلمين، مفضله عن ذاك الذي عند المسيحيين Oyer 2013: 89)). جاءت هذه الحساسية لدى ماسينيون من حقيقة أنه وجد ملجأ عند عائلة بدوية في الصحراء العراقية وأنه شعر بالضيافة بينما كان مجرد أجنبي.
على ضوء هذا التاريخ الغني في سياق ماقبل الدولة الوطنية، يطرح تساؤل اليوم حول كيفية فهم السلطات الدينية الإفتائية في أيامنا لهذا التاريخ، وكيف حوّلته إلى مواعظ ترشد المسلمين حيال شروط الهجرة والإقامة في بلدان المهجر؟
لقد تطورت تقنيات الإنترنت والاتصالات، فأصبحت الفتاوى عبر الإنترنت أداة مهمة إلى حد كبير في طرح الإجابات المتعلقة بمواضيع مختلفة في الفقه الإسلامي. وقد تمثلت خصوصية الفتاوى على الإنترنت في كونها أصحبت تتيح للناس اختيار علمائهم المفضلين لهم بغض النظر عن حدود دولتهم الوطنية وعيون الرقابة الدولاتية. لذلك، سأعتمد هنا على قراءتي لخمسة عشر موقعاً للفتاوى، بالإضافة إلى دار الإفتاء المصرية التي لديها قرص مغنطيسي بالفتاوى الصادرة منذ عام 1930. وتنتقل هذه الفتاوى عبر الأثير الافتراضي من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية، حيث تتابع النقاشات بين مستخدمي هذه الفتاوى وتستخدم خارج سياق وسائل الفتوى. وقد لاحظنا الاستخدام المكثف لهذه "الفتاوى الإنترنيتية" من خلال المقابلات التي أجريتها مع العديد من المسلمين، وخاصة في لبنان وفرنسا، بما في ذلك اللاجئين السوريين القاطنين هناك. وتختلف طبيعة هذه المواقع: فبعضها تتبع لمؤسسات فتاوى وطنية رسمية (مصر، قطر، المملكة العربية السعودية) وأخرى هي عابرة للحدود الوطنية (المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، فقه أمريكا الشمالية - The Fiqh of North America,- دار الإسلام - Islam House -، وطريق الإسلام - Islam Way. هناك أيضا بعض الشيوخ ذوي الشهرة والذين يفتون من خلال مواقع مستقلة (الإسلام اليوم - Islam Today-، جمعية المشرعين المسلمين في أمريكا - Assembly of Muslim Jurists in America -، درب السلف، وما إلى ذلك)، وثمة مواقع شخصية لبعض العلماء (الشيوخ) مثل راتب النابلسي، محمد صالح، ابن عثيمين، صالح الفوزان، الخ.
وقد آثرنا بعد الاطلاع على المواقع السابقة تحليل 83 فتوى من الفتاوى المتعلقة بالهجرة (بعض هذه الفتاوى باللغة العربية أو الإنجليزية والبعض الآخر بلغات متعددة)، وذلك لاستكشاف كيف ينظر المفتون إليها وكيفية التعامل مع تبعاتها.
تحث بعض الآيات الكريمة كل مسلم يعيش في بلد لا يمكنه داخلها ممارسة الشعائر الدينية بتركها والانضمام إلى المجتمع المسلم، إلا إذا كان غير قادرٍ على الهجرة. ولعل الغرض من هذه الدعوة للهجرة كانت قد جاءت من باب حماية المسلمين الأوائل من الاضطهاد، وتقوية المجتمع الجديد. ويرى بعض الشيوخ مثل الشيخ راتب النابلسي في سياق تفسيره للآية القرآنية (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (3100. الى أن " قانون الهجرة " وفقاً لهذه الآية قيَّدَ من الهجرة بحسب تفسيره في سبيل الله، "لأن الهجرة قد تكون في سبيل الدنيا، أو في سبيل الشيطان، فإن كانت من أجل الأموال كي تنفق في المباحات فهي في سبيل الدنيا، وإن كانت من أجل المعاصي والآثام فهي في سبيل الشيطان، فالانتقال يكون عبادة من أرقى العبادات".
ولقد ميزت فتاوى كثيرة بين ثلاث حالات من استعداد المسلم للهجرة أو الإقامة في الغرب أو ما يسميه بعضهم الدول غير الإسلامية:
الأولى - إذا كان المهاجر لديه "سبب وجيه" للبقاء في الغرب ويمكنه "ممارسة الشعائر الدينية علنا" والحفاظ على الإيمان والتدين، لا مانع من بقائه هناك، رغم تفضيلهم الهجرة إلى بلد مسلم.
الثانية - إذا كانت الهجرة من أجل حمل رسالة الإسلام (القيام بالدعوة) ومساعدة الجالية المسلمة، فيصبح البقاء مستحباً.
الثالثة - إذا كان المهاجر لا يستطيع ممارسة الشعائر الدينية ويخشى فتنة على نفسه، فيجب ترك البلاد والهجرة إلى واحد من الدول الإسلامية، إلا إذا كان غير قادر على الرحيل لأسباب صحية أو مالية.
في الحالة الأولى، حدد "السبب الوجيه" في معظم الفتاوى إما لهجرة من أجل العمل أو لطلب العلم أو الحصول على العلاج الطبي. فيما يتعلق "بممارسة الشعائر الدينية علنا"، قلة من الفتاوى قد حددت ما معنى ذلك. على سبيل المثال، وضح الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي المملكة العربية السعودية، "ممارسة الشعائر الدينية علنا" بكونها لا تشير فقط إلى الصلاة وقضايا ثانوية للدين وتجنب فعل محظور مثل الربا أو الزنا وما إلى ذلك، وإنما أيضا الممارسة تعني صراحة التوحيد والبراءة من طرق المشركين، مثل الشرك بالله في العبادة وغيرها من أنواع الكفر والضلال" (الفتوى رقم 1/77). ويمكن للمرء هنا أن يلاحظ استخدام مفردات مثل المشركين والكفر. كما يفصل إسلام-ويب في فتواه حول حكم الهجرة إلى بلاد غير المسلمين (12-2-2001): "لا تجوز الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد غير المسلمين لمن لا يستطيع أن يقيم شعائر الدين، ولا يأمن على نفسه الوقوع في الفتنة، وذلك لما يترتب على السكنى بين ظهراني الكافرين من محاذير جسيمة ومخاطر عظيمة. منها أنه سيجعل على نفسه سبيلاً للكافرين... ومنها أنه بمساكنته لهم واختلاطه معهم قد يتأثر في عقيدته فيواليهم محبة وإعجاباً بهم، لما يرى مما عندهم من زهرة الحياة الدنيا وزينتها مما لا يزن عند الله جناح بعوضة. ومنها أنه قد يخف عنده الشعور بالكراهية لما هم عليه من كفر بالله تعالى ومنكرات وانحلال فالنفس تألف ما اعتادته".
وتتصل مسألة الهجرة بقضية المواطَنة. ثمة فتاوى تتعلق بحكم الحصول على جنسية دولة غربية أو غير مسلمة في مواقع اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (السعودية) و"جمعية المسلمون المشرعون الأمريكية" وموقع "طريق الإسلام". فبينما حرمت الأولى الحصول على الجنسية، أجازتها المؤسستان الثانيتان فقط في ظل الظروف الملحة. والحجة أن الحصول على الجنسية قد يسمح للمسلم أن يؤيد الأقوال والأفعال التي تتعارض مع العقيدة الإسلامية، وإعطاء الولاء للكافرين. كما تقوم الكثير من الفتاوى بالتفريق الصارخ بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالسفر والهجرة وجعل تحرك المرأة شبه مستحيل بدون مرافقة محرمٍ معها. وتتوالى الأسئلة الموجهة للمفتين من قبيل: "تقدير الضرورة المبيحة لسفر المرأة"، "لا تسافر المرأة بغير إذن زوجها ولو كانت مع ذي محرم إلا لضرورة"، "حكم سفر المرأة وحدها للدراسة"، و"حكم سفر المرأة بالطائرة دون محرم". وتتوالى الأجوبة التي تتراوح من التحريم إلى جعل خيارات تنقّل المرأة شبه مستحيلة.
بالإضافة إلى موضوعة المواطنة، هناك مفاهيم هامة تحكم أحكام الهجرة في الإسلام متعلقة بوضع الدول المضيفة (سواء كانت تلك التي يقيم فيها المهاجرون حاليا أو على استعداد للهجرة إليها) وعلاقتهم مع المسلمين أو الدول الإسلامية. ففي فتوى لـ"إسلام-ويب" (التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر) توضح أن الأراضي هي نوعان: "دار الإسلام ودار الحرب ... دار الإسلام هي: الدار التي تجري فيها الأحكام الإسلامية، وتحكم بسلطان المسلمين، وتكون المنعة والقوة فيها للمسلمين. ودار الحرب هي: الدار التي تجري فيها أحكام الكفر، أو تعلوها أحكام الكفر، ولا يكون فيها السلطان والمنعة بيد المسلمين. قال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: تعتبر الدار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها، وإن كان جُلُّ أهلها من الكفار. وتعتبر الدار دار كفر لظهور أحكام الكفر فيها، وإن كان جل أهلها من المسلمين.. إذا عرفت هذا استطعت التمييز بين دولة وأخرى من حيث كونها دار إسلام، أو دار حرب". وليس من الغرابة أن التقسيم الجغرافي للعالم حسب هذه المفاهيم يبني صورةً للآخر في مخيال المؤمنين لدرجة أن يسأل أحدهم "إسلام-ويب" السؤال التالي: "أنا حاليًّا في بلد من بلدان الكفر لغرض الدراسة ـ إن شاء الله ـ لمدة سنة، فهل يجوز التنقل في بلاد الكفر مع زوجتي لغرض التنزه، والزيارة؟ وشكرًا". يقدم موقع الإسلام-ويب نفسه على أنه يتبنى "الوسطية بين نبذ المذاهب والخروج عليها، وبين الجمود على التقليد والتعصب المذهبي المذموم" وأنه يبذل الوسع في مراعاته "لسلامة الاستدلال ومقاصد الشرع، وملابسات الواقع وتغير الحال،" ويختم ذلك كله "بذكر الرأي الذي يترجح.. بما لا يخرج عن أقوال الأئمة المعتبرين"، ولكن وجدت أن بعض الفتاوى إشكالية، كمثل تلك التي تدافع عن قيام طالبان بتهديم تماثيل الحضارات البائدة.
وإذا كانت الثورة المعرفية التي حصلت في العالم العربي قد ومضت إشراقاتها مع انطلاقة الانتفاضات العربية في 2011، فإن التحول المعرفي لدى مؤسسات الإسلامية المتواجدة في المهجر قد حصل قبل ذلك بسنوات عدة. فمنذ الدورة السادسة عشر للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في 2006، قدم عبدالستار أبو غدة تقريراً بعنوان مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي ( 2006)، وقدم المحدث عبد الله الجديع مع بداية القرن الواحد والعشرين دراسة في غاية الأهمية بعنوان تقسيم المعمورة في الفقه الإسلامي ( 2008) وكذلك طه جابر العلواني ( 2004).
وبما أن أزمة اللاجئين السوريين مستمرة، وأصبحت مشكلة كبيرة في كثير من دول العالم، أصدر الشيخ محمد توفيق رمضان فتوى في 12/09/2014 بأن الهجرة من الدول العربية التي تعيش اضطرابات ومشاكل أمنية مثل سوريا والعراق وليبيا إلى دولة أوروبية غير جائزة، "لاسيما أنهم لا يوافقون على ذلك، ولزوم بلاد الإسلام واجب والبعد عن الفتنة مطلوب، وبوسع المرء أن يذهب إلى بلد مسلم ريثما تصلح الأحوال"، ويستمر مشايخ آخرون موالين للنظام السوري (موقع نسيم الشام) بتبني هذا الرأي. تبدأ الفتوى بالتذكير بالقواعد العامة للهجرة، كما في الفتاوى الأخرى، ومن ثم تتناول بمزيد من التفصيل قضية اللاجئين السوريين. ويتم سرد عدد من النقاط السلبية بشأن الهجرة إلى الغرب: أولا، تهديد حياة المهاجرين حيث أن ظروف الهجرة غير الشرعية غير آمنة. ثانيا، توليد نقص في الموارد البشرية في سوريا. أخيراً، أن سوريا تحتاج لشبابها لبنائها. ولذا تصبح الهجرة محرمة إلا للضرورات القصوى. وقام بعض المفتين من المعارضة بنفس النتيجة مضيفين إلى النقطتين السلبيتين الأولى والثانية نقطة ثالثة تتمثل في الخوف من تقلص عدد السنة في سوريا، والتي سوف تساعد النظام السوري لتحقيق خطته الديموغرافية في التطهير الإثني (الطائفي). ومن أجل الحصول على جنسية الدول غير الإسلامية، كان لدى بعض هذه الفتاوى موقف سلبي باستخدام نفس الحجج المذكورة أعلاه.
سوري وزوجته ينظران الى بيتهما المدمر في أحد أحياء مدينة حلب
وعلى النقيض من هذه الفتاوى، قام رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي، باستخدام الاجتهاد حول سؤال بخصوص "حضانة الأطفال واليافعين اللاجئين في أوروبا الذين وصلوا عن طريق البحر إلى أوروبا بدون والديهم. وأن لدى العائلات المسلمة المستقبلة أبناء مما يسمح استقبالهم حصول حالات خلوة"، فكان جوابه على النحو التالي: "[إذا] لجأ السوريون لبلاد غير المسلمين، كما نرى الكثيرين اليوم في أوربة، فعلى الجالية المسلمة هناك أن تقوم بواجب أخوة الدين، وأن يضموا أبناء المسلمين وبناتهم إلى أبنائهم وبناتهم، ويحفظوهم كما يحفظون ذريتهم، ليحفظوا عليهم دينهم وحياتهم وأعراضهم. ولا ينبغي أن تحول خشية المفسدة المحتملة دون ضم المسلمين في هذه البلاد لإخوانهم من اللاجئين السوريين، فإن في تركهم هلاكًا لهم، أو تضييعًا لدينهم وأعراضهم". وقد تبنى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هذه الفتوى.
تعتبر مثل هذه الفتوى مثالاً جيداً لفقه الواقع، ذلك المفهوم العزيز على القرضاوي منذ أمد طويل. وقد بدأت بعض المؤسسات الفقهية بتبنيه في بعض فتاويها. فعلى سبيل المثال قدم مجمع الفقه الإسلامي الدولي مساهمة هامة في فقه الأقليات، مشيرا إلى أن غير المسلمين هم مواطنون لهم نفس الحقوق والواجبات التي للمسلمين وأنهم يتمتعون بقوانين خاصة للأحوال الشخصية الخاصة بهم. وكذلك يمكن ذكر فتوى أخرى مختلفة عن الفتاوى الكلاسيكية جاءت من دار الإفتاء المصرية والتي هي على علاقة وثيقة مع الأزهر. ففي فتوى للشيخ علي جمعة حول الهجرة، يقف جمعة بحزم ضد التفسير المتطرف لابن تيمية عن شعب ماردين، حيث طلب ابن تيمية من سكان هذه المدينة الهجرة كون حاكمها غير مسلم. ومع ذلك، فإننا سوف نرى مع المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أنه سوف يحدث نقلة نوعية في الإفتاء ويتبنى منوال (باراديغم) جديد مما يستحق تخصيص فقرة له.
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
هناك منوال جديد للفقه من قبل مؤسسات مثل المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث. وأصدر المجلس الأول بيانين هامين: واحد بعنوان أن تكون مسلما مؤمنا وأمريكيا مخلصا (2011)، والآخر حول العلاقة بين المسلم وغير المسلم. لقد أسس هذان البيانان فقه جديدة للأقليات وأعطيا نموذجا جديدا لكيف يمكن أن يكون الإنسان مسلماً ومواطناً في المجتمعات غير الإسلامية. بالطبع هناك بيانات أتت من مؤسسات في المنطقة مثل إعلان مؤتمر مراكش حول حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة (يناير 2016)، والذي نظمها منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (أبو ظبي). وسيقتصر تركيزنا هنا على مساهمة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
اذ تم التأكيد في البيان الختامي للدورة العادية الـ 25 لهذا المجلس المنعقدة بمدينة إستانبول في تركيا في الفترة من 6-10 تشرين الأول (أكتوبر) 2015 تحت عنوان: "فقه العيش المشترك في أوروبا، تأصيلًا وتنزيلًا" على التعايش والاندماج الإيجابي وتسليط الضوء على واجباتهم تجاه الأشقاء اللاجئين السوريين من حيث رعاية أسرهن وأطفالهن. ويرى المجلس أن متطلبات العيش المشترك تقوم على عشرة مبادئ يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1 - التسليم بوحدة الأصل الإنساني، فلقد خلق الله عز وجل الناس جميعاً من أصل واحد. ويقتضي التسليمُ بوحدة الأصل الإقرارَ بمساواة الناس جميعاً في الاعتبار الإنساني والكرامة.
2 -احترام الكرامة الإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان.
3 - التعامل بالعدل والإحسان والخلق القويم والبعد عن الظلم والجور، والتزام ما يؤلف بين فئات المجتمع المختلفة.
4 - الوفاء بالعهود والمواثيق، لأن هذا يبعث على الثقة والاطمئنان بين جميع الأطراف ويدعو إلى استقرار الحياة وحفظ الحقوق.
5 - التعاون الإيجابي لتحقيق المواطنة السليمة، ودرء المخاطر عن المجتمع، والحفاظ على البيئة، لما في هذا من الدلالة الواضحة على الحرص على التعايش والأخذ بالأسباب التي تعين على ذلك.
6 - القول بالتعددية وحرية الاعتقاد والعبادة، وهو من باب الإقرار بالحق في الاختلاف الذي يتيح للأطراف المتعددة العيش بأمن وأمان فيما يرتضونه لحياتهم.
7 - اعتماد الحوار في التواصل وحل المشكلات، وهذا هو الأسلوب الأمثل الذي يهيئ الأذهان للالتقاء على الحق.
8 - العمل على كل ما يؤدي إلى التصالح وتحقيق السلم الاجتماعي، وحسن التواصل والتراحم والرفق المتبادل، ونبذ التشدد والعنف؛ لما يعود به من الخير وتحقيق الغايات والمقاصد الاجتماعية.
9 - احترام المقدسات وعدم الاعتداء والاستهزاء أو المساس بها.
10 - رفض كل ما يؤدي إلى العنف أو التطرف أو الإرهاب قولاً أو سلوكاً، ويجب أن يجرَّم حسب النظم والقوانين، فإن الله قد حرم قتل الأنفس والظلم والبغي بغير الحق.
ويضيف البيان قرارا مؤكداً على عدم التفريق بين المسلمين وغيرهم في المواساة: "من أسس العيش المشترك عدم التفريق بين المسلم وغير المسلم في المواساة والدعم أثناء الكوارث الطبيعية أو مساعدة اللاجئين وإغاثتهم، فالتفريق بين المسلم وغير المسلم في هذه الصور يخالف الأصول التي دلت عليها نصوص القرآن." (نفس المصدر).
نرى من هذا البيان أن هناك مصطلحات جديدة (مواطنة، مساوة، تعددية، حرية الاعتقاد، حقوق الإنسان، تواصل، عدل، الخ) تستخدم في هذا البيان ومفهوماً جديداً للعلاقة بين المهاجرين والمجتمعات المضيفة سوف تناقش في الفقرة المقبلة.
ثلاثة مدارس للإفتاء
تبين الأمثلة المختلفة من الفتاوى المذكورة أعلاه بأنه يمكننا التمييز بين ثلاث مدارس من الفتاوى:
المدرسة الأولى من الفتاوى هي التي أسميها المدرسة النصية. حيث يؤطر المُفتون من هذه المدرسة الجغرافيا في انقسام المعمورة لدار الإسلام ودار الكفر أو دار الحرب ودار السلم. وتدعو هذه المدرسة إلى واجب المسلمين بالانتقال نحو الدول حيث يستطيعون ممارسة الشعائر والواجبات الدينية. غالبا ما تتجاهل هذه الفتاوى الدوافع الاقتصادية وراء الهجرة والنظر في هجرة المسلمين إلى أوروبا وأمريكا، ويحثوهم بعدم الهجرة إلا في الحالات الماسة. ويدعو هؤلاء العلماء الى علاقة حذرة للغاية مع الغالبية غير المسلمة وأحيانا ضد المفهوم الأساسي للاندماج على النحو الذي حددته دراسات الهجرة. تتسم هذه المدرسة باللاتاريخية، أي لاوزن للتاريخ وسياقه.
المدرسة الثانية من الفتاوى هي المدرسة الواقعية الحذرة سياسيا. إنها حريصة على تهيئة ظروف جيدة للمهاجرين في المجتمعات المضيفة، وخصوصا في البلدان ذات الأغلبية غير المسلمة، ولكن يشعر المرء أن هناك العديد من القضايا الغير محكي عنها، فلا فتاوى مثلا عن نظام الكفيل في دول الخليج، ولا عن ضرورة استقبال اللاجئين السوريين، وما إلى ذلك، باستثناء تصريحات نادرة (للشيخين سلمان العودة ويوسف القرضاوي). ويركز بعض المُفتين ضمن هذه المدرسة على الخصوصية الثقافية للمسلمين، وأن هناك سياسة (غير شرعية)، يحب تركها للدولة لأخذ القرار بدون تدخل المؤسسة الدينية. ويميز بعض المفتين مثل الشيخ عبد الوهاب الطريري (المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم) بين السياسة العامة والقانون المقدس، بحجة أن العديد من التشريعات السعودية (مثل قيادة المرأة للسيارة) هي ببساطة لاعلاقة للدين بها، والدولة هي الوحيدة التي تقرر بخصوصها، آخذة بعين الاعتبار ما هو أخف الضررين وسد الذرائع. ومع ذلك، فهو لا ينتقد السلطات السعودية على اعتبار النساء مواطنين من الدرجة الثانية. وغالبا ما يعتمد مفتون ضمن هذه المدرسة على الجهد الفردي في عملية الإفتاء وليس جهد مؤسساتي جماعي.
المدرسة الثالثة من الفتاوى هي المدرسة الإنسانية. وتعتبر فتاوى وقرارات مؤسسات مثل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والمجلس الفقهي لأمريكا الشمالية وأحيانا بعض فتاوى الأزهر ضمن هذه المدرسة. مع هذه المجالس، يمكن ملاحظة النقلة النوعية، والانتقال من تقسيم المعمورة بين دور إسلام وكفر وأمان وحرب الى الحديث عن العيش المشترك، والاعتراف بتعقيدات أن يعيش المسلمون في الدول التي تحكمها سيادة القانون، حيث يمكن أن تدخل بعض القوانين في تناقض مع تفسيرات معينة للفقه الإسلامي. يدعو المجلس إلى ضرورة أن يتجاوز الطرفان الأيديولوجيات الأخلاقية والدينية المتشددة وأن يمد كل واحد يده للآخر. وينادي بالمسؤولية المزدوجة: سماح الأغلبية بالتنوع واستيعاب الاختلافات الثقافية، وتحلي الأقلية بالإبداع في التعامل مع التناقضات بين القوانين الوطنية والمعتقدات الدينية. وباستحضار مفهوم الاندماج الإيجابي يصر المجلس الأوربي وقبله طارق رمضان Ramadan 2005)) على ضرورة تحويل الرأسمال الإثني المسلم الى رأسمال اجتماعي. فأن تكون مهاجراً (أو مواطناً من أصلِ خارج الدولة الوطنية)، يمكن النظر لك من قبل المجتمع المستقبل على أنك إضافة نوعية للثقافة المحلية ومساهمة بنيوية للحياة الاقتصادية، أو العكس أن تتحول لكبش فداء لكل مشاكل المجتمع بربط إثنيتك بالإجرام وتعميق البطالة، الخ. وكما يذكرنا بيير بورديو Bourdieu 1998))، هناك عوامل تحدد سعر صرف تحويل الرأسمال الإثني إلى اجتماعي، منها عامل دور الدولة في مساعدة المهاجر على الاندماج ومنع التحريض العنصري أو العكس، أو عامل دور المهاجر في تكيفه مع الحياة الجديدة وقيمها الإيجابية من أجل ضمان الأسس البنيوية والثقافية للعيش المشترك. وهكذا يدعو رمضان (Ramadan 2009)) من سماهم بـ"مسلمي الغرب" (Western Muslims) أن يساهموا بشكل إيجابي في تطوير وتنمية مجتمعاتهم لتكون أفضل، بدلا من التفكير في ازدواجية "نحن" و"هم". وهذا ما يسميه بمقاربة ما بعد الاندماجPost-integration) )، ولقد وجدت بين العديد من المشايخ الأوروبيين المسلمين مثل هذا النوع من الدعوة. (انظر على سبيل المثال الشيخ مرشد معشوق الخزنوي 2016).
المفكر السويسري طارق رمضان
نحن على أعتاب فقه جديد تؤسسه هذه المدرسة سماه جميل حمداوي (2013) فقه التعارف، لكونه يبين علاقة المسلم بالآخر الأجنبي على مستوى المعاملات والعبادات والتفاعل الأخلاقي. ويتطلب أن يكون تعاملا إنسانيا إيجابيا، قائما على التفاهم والتسامح والتعارف والتعايش والصداقة والمودة والمحبة مصداقا لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
أنهي هذه المقالة بإثارة بعض التساؤلات: إلى أي مدى أثرت فتاوى المدارس الثلاثة على المسلمين في جميع أنحاء العالم، وخاصة في وقت أزمة اللاجئين السوريين؟ كم هو عدد المسلمين الذين يعتمدون حقا على الفتاوى المتعلقة بقضايا مثل الهجرة لتنميط سلوكهم اليومي وقراراتهم، خاصة عندما أصبح بعض المفتين وتحديداً من المدرسة النصية مجرد ناقلين لفتاوى صدرت بالقرن الرابع الهجري بدون عملية تنزيل على الواقع؟ لماذا لم يستمع الكثير من اللاجئين السوريين المتدينين للهجة التحريمية أو على الأقل التأنيبية للمفتين السوريين حول شروط الهجرة الى الدول ذات الغالبية غير المسلمة؟ وهل دفع الوضع الرهيب السوري لتدشين لحظة فك السحر بحيث وعى هؤلاء أهمية البعد الإنساني، حيث استقبلهم الألمان والسويديون وامتنعت (إلا ما ندر) دول الخليج عن ذلك؟ وهل أصبح واضحا أن تقسيم المعمورة إلى دور إسلام وكفر، والذي كان تقسيما مأثوراً دل عليه الواقع التاريخي لزمان التشريع، لم يعد له معنى، في ظل العلاقات الدولية المعاصرة التي تقوم على صفة مغايرة للصفة التي كانت عليها في عصر الدولة الإسلامية الواحدة، حين كان التقنين للعلاقات الخارجية بين الدول قائماً على الحرب إلا في حالات استثنائية (الجديع 2008)؟
المراجع
Abu-Sahlieh, Sami Aldeeb. 1996. “The Islamic Conception of Migration.” The International Migration Review, 37–57.
Bourdieu, Pierre. 1998. Practical Reason. Cambridge: Polity.
Malkki, Liisa. 1992. “National Geographic: The Rooting of Peoples and the Territorialization of National Identity among Scholars and Refugees.” Cultural Anthropology 7 (1): 24–44.
Oyer, Gordon. 2013. “Louis Massignon and the Seeds of Thomas Merton’s ’Monastic Protest.” The Merton Annual, no. 26: 84–96.
Ramadan, Tariq. 2005. Western Muslims and the Future of Islam. 1 edition. Oxford; New York: Oxford University Press.
———. 2009. What I Believe. 1 edition. New York: Oxford University Press.
أبو غدة, عبدالستار. 2006. “مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي.” اسطنبول: المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث. انظر الرابط.
الجديع, عبد الله بن يوسف. 2008. تقسيم المعمورة في الفقه الإسلامي. مؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع.
الخزنوي, مرشد معشوق. 2016. “القرآن لا يحارب أوروبا بل يحميها، فهل انتم منتهون يا مسلمون !” Www.Kurdic.no.. انظر الرابط.
العلواني, طه جابر. 2004. مدخل إلى فقه الأقليات. إيرلندا: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.
حمداوي, جميل. 2013. “فقه الأقليات أو فقه التعارف؟.” شبكة الألوكة. انظر الرابط.