يرجع لجوء بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة كداعش وأخواتها للعنف في عصر الانتفاضات العربية إلى سياق عنف الدولة وانغلاق الفضاء السياسي. ومع ذلك، فإن تنشيط بعض التفسيرات المتطرفة للنصوص الدينية، من خلال التعليم الشرعي وخطب الجمعة ووسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعية، قد أصبحت عاملا هام جدا لتسهيل وتفعيل أيديولوجيا العنف وتبرير الأفعال.
انني استخدم هنا كلمتي "تفعيل" و "تبرير" لأن التفسير المتطرف ليس بالضرورة السبب الحاسم (مثل دور سياق العنف السياسي والاقتصادي للدولة الاستبدادية) ولأنه لايحمل معنى ذو ماهية (essence) لأي دين أو أيديولوجيا. فالمعجم الإسلامي (Islamic glossary) حسب تعبير فرانسوا بورغا Burgat 2014)) هو عامل مُعَبئْ ولكن معانيه في تغير مستمر.
سأقوم في هذا الحيز بعمل تحليل مضمون لمقرر/مساق "السياسة الشرعية" في قسم الشريعة في جامعة مرموقة وطنية خليجية. ولأنني في أوج البحث الميداني لمشروع دراسة "القطيعة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية" فسأتكتم حاليا على اسم الجامعة ومؤلف المقرر، ريثما انتهي من بحثي.
يبدأ المؤلف بالإفصاح عن معنى السياسة الشرعية في اللغة والاصطلاح بالقول أنها تمثل : "الجمع بين السياسة والشرع ناتج عن كمال الشريعة وشمولها لكل ما يحتاج اليه الانسان في الدنيا والآخرة.. فكل من ادعى حكمة تخالف ما في كتاب الله أو يضاده وينافيه ويدافعه، فهو جهل محض وعيب لاحكمة معه"[1]. لذلك فالسياسة الشرعية، حسب المؤلف كمفهوم وممارسة، تربط بين السياسة وهي القيام على الأمر بما يصلحه وبين الشرعية وهي تطبيق أحكام الشرع فيما ورد من نص، ومراعاة مطلق المصلحة فيما لا نص فيه.
وكما نرى فإن هذا التعريف يعطي الفوقية الكلية للنص، بدون ذكر أي نص: القران الكريم والأحاديث الصحيحة فقط؟ أم أكثر من ذلك؟ وهل النص دائما له تفسير واحد؟. لاحقا يستدرك المؤلف هذا الخلل عبر تعريف مصادر السياسة الشرعية بوصفها تتجاوز القرآن الكريم والحديث والسيرة النبوية، لتشمل إجماع الأمة - سيما الصحابة والخلفاء، الاجتهاد (وطرقه: القياس والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع...).
ومن الواضح من السيرة الذاتية للأستاذ المؤلف أنه يحمل دكتوراه من جامعة سعودية اشتهرت بتبنيها للفكر السلفي-الوهابي. فالمخطوطة هي من وحي هذه المدرسة، وتعبر عن فكر سائد لدى سلفي الخليج العربي والعالم العربي بشكل عام، أكثر ما تعبر عن فكر إسلامي سائد. فالكتاب يختلف كثيرا في اللهجة والأحكام الفقهية عن الكتب المثيلة لدى جامعة الأزهر، لكن الخلاف ليس كبيرا عن مثيله المدرس في جامعة دمشق على الأقل قبل 2011 (سأقوم بعمل المقارنة في مقالة لاحقة).
يبالغ المؤلف في لهجة التكفير وتواطئ كل من يعارض أفكاره مع الغرب (ان كان استعماريا أو "نصرانيا"). فكتاب علي عبد الرزاق "الإسلام وأصول الحكم" (1925) الذي برأي مؤلف كتاب المقرر قد ألغى مفهوم الدولة الإسلامية وبالتالي فعبد الرزاق معارض "للثوابت الإسلامية ومطابقته أهداف الاستعمار الإنجليزي آنذاك، ويكفي أن نعرف أن والد المؤلف كان نائبا لرئيس حزب الأمة، ربيب الاستعمار الإنجليزي". وكذلك ينتقد بشكل لاذع كتابات المفكر الإسلامي المصري خالد محمد خالد (1920-1996)م التي دارت كتبه حول انسانية الرسول محمد والإسلام والحرية.
ويقسم المقرر نظم الحكم في العالم الى ثلاثة: أولا، نظم الحكم الغربية أو النظام الديمقراطي حيث تمثل "الحرية المطلقة أهم مقوماته. وقد خدع بها الكثيرون ممن يجهلون قواعد النظام السياسي الإسلامي وتميزه عن النظم السياسية الأرضية الهابطة!". ثانيا، نظام الحكم الشرقي القائم على الفلسفة الماركسية، وأخيرا، الأنظمة الديكتاتورية المنتشرة في دول العالم الثالث. هذا التوصيف السلبي لهذه الأنظمة هو الذي سيسمح بانتصار مؤلف المقرر لفردانية النظام المنقذ الوحيد للبشرية ألا وهو نظام الحكم الإسلامي، على الرغم من اعتراف المؤلف أنه صالح ل"دار الإسلام" فقط.
كما يستخدم المقرر بعض الأدبيات الإسلامية المعاصرة وخاصة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولكتاب أزهريين. ولكن مجمل استشهاداته تأتي من كتب أساسية قديمة مثل كتابات الامام بو الحسن الماوردي (450 ه)، أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء (380ه)، عبد الملك بن عبدالله الجويني (478ه)، محمد بن الوليد الملكي المعروف بالطرطوش (520 ه)، ابن تيمية (728ه)، ابن قيم الجوزي -تلميذ ابن تيمية- (751 ه)، أب القاسم المالقي (784ه)، ابن خلدون (808ه)، أبي عبد الله محمد بم الأزرق الأندلسي (896ه) وأخيرا إبراهيم بن يحيى خليفة (973ه). وكذلك بعض كتب التاريخ القديمة ك"البداية والنهاية" لابن كثير وتاريخ الوزراء مثل كتاب "الوزراء والكتاب" لأبي عبدالله الجهشياري.
أركان الدولة الإسلامية
يستفيض مقرر "السياسة الشرعية" بأركان الدولة الإسلامية معرفا إياها بأربعة عناصر. الركن الأول هو الحكم بما أنزل الله. هنا يكفر المؤلف المسلم الذي لايحكم بغير ما أنزل الله مميزا بين حالتين، الأولى - "أن يحكم بغير ما أنزل الله مستحلا له أو جاهدا أو مكذبا أو مستهزئا أو مبدلا لحكم الله، أو معتقدا أن حكم غير الله تعالى مساويا لحكم الله تعالى أو أفضل منه. فهذا كفر أكبر يخرج من الملة". أما الحالة الثانية -فهم يمثلون -برأيه- أولئك الذي فعلو ذلك "تساهلا أو جهلا أو خطأ أو لامر صادر من حكامه أو تبعا لهواه أو لدنيا أو رشوة. فهذا كفر أصغر غير مخرج من الملة".
أما الركن الثاني يتمثل في (أولو الأمر). وبحسب مصادر مختلفة يعتمد عليها المؤلف يتشكل هذا الفريق من "الفقهاء والعلماء الذين يعلمون الناس دينهم، الأمراء والولاة، أبو بكر وعمر، المهاجرين والانصار، عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء".
ويستطرد الكاتب هنا بمفهوم الخلافة والإمامة ويركز على البيعة (8 صفحات توصيف لها) كطريقة لتولي الخلافة. ويذكر لنا شروط الإمامة بأن يكون حرا (أي ليس عبد) ومسلما وذكرا، ويصلح للتكليف (أي أنه بالغ)، ومعروف عنه العدالة (أي الاستقامة). ومن ثم يذكر اتفاق علماء أهل السنة والجماعة انه في حال الاختيار لايجوز تعدد الأئمة في الزمان الواحد والبلد الواحد سواء اتسعت رقعة الدولة الإسلامية أم لا. كما هناك تفصيل وتركيز شديد من قبل المؤلف على مسألة "الطاعة لولاة الأمر والمسئولين، ليست في حال دون حال، بل دائما أبدا، في العسر اليسر، وفي الرضى والسخط، وفيما تكرهه النفوس ويشق عليها، وغير ذلك". ولعل هذا الرأي هو ما يفسر برأينا تلك السرعة في اصدار الفتاوى التي أفصح عنها بعض مفتي دول الخليج العربي حيال تحريم المظاهرات والخروج على الحاكم المسلم.
ويوصف المؤلف العلاقة بين ولي الأمر والشعب على أنها "علاقة حاكم بمحكوم، لها طبيعتها الخاصة والتي تحكمها الأدلة الشرعية، فالإمامة والائتمام تكليف شرعي للأمة، بمعنى أن الله أمرها أن تتخذ وضعا سياسيا يكون فيه واحدا منها أميرا مطاعا والبقية مطيعون له". ويذكر المؤلف أن هناك توصيف خاطئ لبعض المعاصرين في وصف العلاقة على أنها عقد وكالة أو نيابة عن الأمة. ويستحضر مثلا في أن العلماء المسلمين قد اجمعوا على أن التغلب والقهر هو أحد طرق انعقاد الإمامة المعتبرة شرعا مع أنها من طرف واحد، وليس عقدا من جانبين.
أما الركن الثالث للدولة الإسلامية فهو الرعية (الشعب). والمؤلف من مسلمين، ومستأمنين (طالبي الأمان من غير المسلمين) المقيممين إقامة موقتة، وأهل الذمة (أو أهل العقد). وعقد الذمة في الاصطلاح: "التزام الإمام بالإقرار لبعض الكفار بالإقامة الدائمة في دار الإسلام، على أن يبذلوا الجزية ويلتزموا أحكام الملة". وأخيرا اعتبر الدار (الإقليم) هو الركن الرابع، مميزا بين دار الإسلام ودار الكفر (بنوعيها: دار حرب ودار العهد)، بدون أي ذكر كيف يمكن أن يطبق هذه التصنيفات في عصر الدولة الوطنية والمواطنة، خاصة أن المؤلف يعيش في بلد (يعتبر حسب تصنيفه جزء من دار الإسلام) ندر أن استقبل لاجئين سوريين في محنتهم الرهيبة خلال السنوات الخمس الماضية.
قواعد النظام السياسي في الإسلام
يناقش المؤلف بشكل أساسي قاعدتين من قواعد النظام السياسي في الإسلام. الأولى هي الشورى. وقد استفاض فيما إذا كانت نتيجة الشورى معلمة أم ملزمة، مبينا كيف اختلف العلماء حول هذه النقطة. ورغم أنه حاول التقليل في كتابه من اظهار التباينات بين الفقهاء في أمور كثيرة، لكنه فصل في هذا الموضوع رغم ذلك، وهذه نقطة تحسب لصالح المؤلف نظرا لأهميتها. ورغم أنه لايبدي رأيه في هذا الموضوع فهو يعترف بإلزامية الشورى من قبل "بعض العلماء المتقدمين، وأكثرية الباحثين في النظام السياسي الإسلامي في العصر الحديث" (مستشهدا بكتاب الشورى وأثرها على الديمقراطية (الأنصاري 1998)). ولعل الرأي الأخير قد يوحي لنا لوهلة وكأن المؤلف يعتبر مفهوم الشورى شبيه بمفهوم الديمقراطية (طبعا هو قد كفرها في بداية كتابه وسيفصل المبررات في الفصل الأخير)، لكن عندما يفصل بشروط أهل الشورى نرى أن الهوة تكبر كثيرا بينها وبين مفهوم الديمقراطية. فشرط أهل الشورى هو أن يكون مسلما. ويتم اختيار أهل الشورى من بين من هم "يعرفون بالشهرة بين الناس..، وإما بتعيين الحاكم لهم أعضاء في مجلس الشورى".
أما القاعدة الثانية فهي العدل. وهناك توصيفات لمفاهيم متعلقة بالعدل وخاصة مفهوم الحرية، حيث يفصل في مجالات الحرية من فكرية، سياسية، اقتصادية واجتماعية. ومن القضايا الذي يتناولها هو الارتداد عن الإسلام والذي بنظره يعتبر "بمثابة الخيانة العظمى التي تعاقب عليها الدول بالإعدام". مع ذلك نجد افكارا مغمغة للمؤلف حول حدود الحرية الفكرية حيث "لايمنع الإسلام أتباعه من الحرية الفكرية مادام ذلك لايخالف نصوص الشرع".
مفاهيم معاصرة في ضوء الإسلام
وفي فصل "مفاهيم معاصرة في ضوء الإسلام" يشن المؤلف هجوم بلا هوادة ضد "المفاهيم والمصطلحات ] التي[ لم تنشأ في ظل النظام السياسي الإسلامي ولا في البيئة العربية والإسلامية؛ بل ظهرت في ظل الأنظمة السياسية التي كانت سائدة في الغرب النصراني المتأثر بتراثه الروماني الإغريقي القديم" (وهنا نرى كيف تلتقي سرديات بعض الإسلاميين من أمثال هذا المؤلف مع سرديات اليسار مابعد الكولونيالي الرافض لما هو غربي في العلوم الاجتماعية. انظر الى حنفي 2016). وفي هذا الإطار يربط المؤلف مفهوم العلمانية بالإلحاد وطغيان الكنيسة والصراع بين الكنيسة والعلم والثورة الفرنسية ذات الشعارات "الخادعة" المتمثلة ب"الحرية، المساواة والإخاء". كما يشير الى أن العلمانية تتعارض تماما مع الإسلام "فهي في صورتيها الملحدة وغير الملحدة وبمرحلتيها الجزئية والشاملة مخالفة لدين الإسلام جملة وتفصيلا. ولاغرابة في ذلك فإنها نبتة غريبة لم تظهر في بلاد الإسلام ولا بين أهله". ورغم أنني لست هنا في موضوع الدفاع عن العلمانية أو إدانتها (وخاصة عندما تكون مفرطة في نكائيتها وانخراطها في غول العولمة) ولكن على القارئ الانتباه الى حدية وتشنج هذا الخطاب وتكفير أولئك الذين ربما وجدوا ببعض مظاهر العلمانية مخرجا لمأزق الدولة الاستبدادية العربية أو الإسلامية. فمن منظور سوسيولوجي، نعثر على تعميمات مفرطة في مثل هذه السردية. فتركيا تحكم بالعلمانية ومن قبل حزب سياسي إسلامي، كما أن ما نَظَّرتْ له الكثير من الأحزاب السياسية الإسلامية عن الدولة المدنية ليس الا تبني لبعض مفاهيم وأشكال فصل الدين عن الدولة لبناء دولة المواطنة لكل ساكنيها من مسلمين وغيرهم.
وفي طريقه للهجوم العنيف على العلمانية يوجه سهامه على الليبرالية التي يعرِّفُها على أنها "الحرية المطلقة في شتى الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، بحيث لايخضع لغير سلطة القانون". وبتعريفه هذا نجد أن هناك تناقضا في هذا التعريف فهي حرية "مطلقة" من ناحية، ولكن محددة ب"سلطة القانون". وطبعا يعتبر أن كل ليبرالية هي علمانية.
ويستمر المؤلف في تكفير مفاهيم مثل الديمقراطية وانتخاب المرأة ("لأن هذا المنصب من الولايات الكبرى") وغير المسلم في مجالس الشورى. كما أن الحديث عن الانتخابات يفسح للمؤلف المجال للاستمرار بأحكامه المطلقة ضد مايمكن اعتباره انه صرعة "غربية نصرانية" مثل إقامة الأحزاب الدينية أو السياسية أو التعددية الحزبية. هنا يرفض المؤلف كذلك أدبيات الفكر الإسلامي والمجامع الفقهية التي بينت مواقف جد متباينة حول هذا الموضوع، ليكتب بشكل قاطع أن الأحزاب هي "مخالفة لشريعة الله، التي حثت على الاجتماع وجمع الكلمة على التوحيد والسنة، ونهت عن الاختلاف والفرقة". هذه الحجة المسطحة لدرجة العدمية، مبنية على فتاوى الشيخين عبد العزيز ابن باز وناصر الدين الألباني.
وطبعا لايمكن قَسِم ظهر الليبرالية والفكر الاجتماعي الغربي بدون المرور على حقوق الانسان "الغربي" ذات الأصول البشرية مقارنة مع حقوق الانسان في الإسلام ذات المنشأ الرباني، واعتباره (نعني المؤلف) أن هناك اختلاف جوهري بينهما. فبينما "يرى المسلم أن حقوق الإنسان منحة ربانية ومنة إلهية وهبها الله.. في المفهوم الغربي.. هي حقوق طبيعية مستمدة من فكرة الحق الطبيعي ونظرية العقد الاجتماعي". كما أنه بشكل حتمي تعد مفاهيم حقوق الإنسان وفقا للمؤلف، ليست أكثر من شعارات في الغرب، ولا يتوقف المؤلف عند هذا الحد، بل يستمر في غزواته الفكرية ليتوجها بغارة على المفاهيم الغربية لتحرير المرأة بلغة تكفيرية. وينهي قصفه بهجوم عنيف على العولمة التي نشرت الثقافة الغربية. مع أن المؤلف لا يلاحظ مثلا أن أهم معالم العولمة في المنطقة العربية أخذت تتمثل في انتشار الفكر السلفي في كافة اصقاعها بواسطة القنوات الفضائية، أكثر حتى من انتشار الفكر الغربي.
إذا نحن أمام مأزق فكري عميق في مناهج بعض كليات الشريعة حيث لم تعد تطلع لا على الفكر الإنساني ولا على التراث الإسلامي المتعدد والمتسامح من علماء وفقهاء من أمثال الشاطبي والغزالي وابن رشد، ولا على الأدبيات المعاصرة الإسلامية لفكر الواقع. هناك إشكال حقيقي كيف بني كتاب السياسة الشرعية على ابستمولوجيا مأزومة ضد الآخر بدلا من التعامل معه كجزء من المجتمع وجزء من الإنسانية. (سنتناول الأسس الإبستمولوجية لمثل هذا الخطاب مقارنة مع خطابات فقه الواقع في مقالة أخرى)
تنظير واعي أو غير واعي لداعش
لعل دراستي عن خطباء الجوامع في لبنان قد بينت أن الأغلبية الساحقة منهم هم من خريجي كليات الشريعة الجامعية، واعتقد أن ذلك ينطبق على كثير من الدول العربية. لذا فإن مثل السردية هذه "للسياسة الشرعية" ماهي الا تنظير واعي أو غير واعي لما تقوم به "الدولة الإسلامية" (داعش). ففكر واستراتيجية تنظيم القاعدة وداعش لم ينظر له فقط من قبل كتابي الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج (1980) و إدارة التوحش لأبي بكر ناجي، وانما عشرات الكتب التي تدرس في كليات الشريعة العربية. هنا ينبغي أن لاننسى أن الخليفة أبو بكر البغدادي قد تكون "علميا" في جامعة بغداد، حيث حصل على الدكتوراه بالشريعة هناك، قبل أن يتم اعتقاله وتعذيبه من قبل الحكومة الطائفية العراقية والانتداب الأمريكي آنذاك. وها هو يترجم لنا ما تعلمه: فقد تمت مبايعته من قبل أهل "الحل والعقد" بدلا من انتخابه، ليشيد الدولة التي لا تؤمن بأي تعددية وتكفر من يخالفها. أنها الدولة الذكورية التي لامكان للمرأة فيها داخل المجال العام، بالرغم من ارغامها على لبس النقاب. ولا دور لأهل "الذمة" في الحكم. وهكذا دواليك.
وبرأينا ما هو مثل مقرر "السياسة الشرعية" هذا لا يعد إلا تلقينا للشباب الخليجي على حفظ أحكام فقهية لم تجد تطبيقها إلا في المدن "الفاضلة" (الموصل والرقة..). هذه المدن هي مختبرات لتطبيق فكر تلقيني "قمعي" معادي للتعددية انتشر في سرديات السياسة الشرعية بالطعم السلفي وسرديات خطاب الفكر الديكتاتوري القومي لحزب البعث العراقي والسوري. أن زواج المتعة بين هذه السرديات في أجواء البراميل الهابطة يوميا على رؤوس المدنيين (خاصة في سوريا) هو الذي أسس لإمكانيات وجود داعش، وتصبح بذلك المساعدات اللوجستيكية لبعض مخابرات دول المنطقة التي دعمت هذا التنظيم ما هو إلا عوامل ثانوية لانتشاره وتمدده. لقد انقلب السحر على الساحر، وداعش ليست إلا حصادٌ هشيمٌ لزرعٍ مشؤوم، ونحن من زرع، ويدانا التي تحصد وتحترق.
المراجع
Burgat, François. 2014. “La Crise Syrienne Au Prisme de La Variable Religieuse (2011-2014) (1/4).” Tunivers. http://www.tunivers.com/2014/09/12488/.
الأنصاري, عبد الحميد إسماعيل. 1998. الشورى وأثرها في الديمقراطية: دراسة مقارنة. دمشق: دار الفكر العربي. http://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=egb21131-5021156&search=books.
حنفي, ساري. 2016. “أزمة اليسار ما بعد-الكولونيالي: نحو مقاربة ما بعد-استبدادية.” Al-Jumhuriya الجمهورية, July 15. http://aljumhuriya.net/35345.
[1] في هذه المقالة كل ما هو بين مزدوجتين عبارة عن استشهادات حرفية من مقرر "السياسة الشرعية" الذي نحن بصدد تحليل مضمونه.
أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأمريكية في بيروت، ورئيس تحرير "مجلة اضافات" للعلوم الاجتماعية. لديه عدد كبير من الكتب والأبحاث من أهمها : " بروز النخبة الفلسطينية المعولمة"، " البحث العربي ومجتمع المعرفة:رؤية نقدية جديدة" بالاشتراك مع ريفاس أرفانيتس. كما اشرف على اعداد وتحرير عدد من الكتب منها :" عبور الحدود وتبدل الحواجز: سوسيولوجيا العودة الفلسطينية"، " مستقبل العلوم الاجتماعية في الوطن العربي".
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.