الثورة السورية واستئناف السؤال الكلامي

27 تموز/يوليو 2016
 
"ثم حدث رأي المجبرة من معاوية لما استولى على الأمر ورآهم لا يأتمرون بأمره فجعل لا يمكنه حجة عليهم، وأوهم أن المنكر لفعله قد ظلمه، فقال -أي معاوية-: لو لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر، ما تركني وإياه. ولو كره الله تعالى ما نحن فـيه لغيَّره".

السياق التاريخي وانبثاق السؤال الكلامي:
مع الانتقال السياسي من البيت الهاشمي إلى بيت بني عبد شمس[1] تفجرت أسئلةٌ كبرى في تاريخ الإسلام المبكر، كان أولُها سؤال القَدَ،ر والذي انبثق منه سؤالٌ آخر يدور حول موقع مرتكب الكبيرة في الإسلام.[2] انبنى على السؤال الثاني فرق كلامية رئيسية هي المرجئة والجبرية اللتان اعتبرتا مرتكب الكبيرة مؤمناً، والخوارج الذين رأوا تكفير مرتكب الكبيرة مخلداً في النار، ومذهبٌ ثالث - تبناه الحسن البصري وأتباعه القلائل- رأى أن مرتكب الكبيرة منافق، ومذهبٌ اعتزل الجميع واعتبر مرتكب الكبيرة فاسقاً.[3] وبالتالي فإن منزلة "مرتكب الكبيرة" قبل انبثاق الاعتزال كانت تدور بين مذهبين رئيسيين: الإيمان والكفر. وبينهما صوتٌ خافت هو النفاق. وهذه المصطلحات الثلاثة "الإيمان" و"الكفر" و"النفاق" مصطلحات تنتمي إلى الحيز الديني وتتعلق بمآل العقاب والثواب الأخروي بشكل أساسي. ويبدو أن هذا الاختلاف قبل الانشقاق الاعتزالي اختلافٌ متوقع في سياق الفهم العام للنصوص الدينية وطبيعة مفهوم "الكبيرة" المتداولة في تلك النصوص.
ويبدو بشكل قاطع من خلال النصوص الكلامية المبكرة أن سؤال "مرتكب الكبيرة" ارتبط بشكل وثيق بمفهوم القَدَر الذي حذرَ النبيُ من الخوض فيه ونعت "القدرية" بأنهم مجوس هذه الأمة.[4] وفي هذا الارتباط الوثيق بين القدر وارتكاب الكبيرة يبدو أن مفهوم الحرية أو الاختيار أو الإرادة البشرية منعدم لدى الجبرية، في حين أنه مفهومٌ أساسي لدى الخوارج والمعتزلة وأتباع الحسن البصري. أهمية الانشقاق الاعتزالي أنه تجاوز المفهوم الشائع لـ "الكبيرة" إلى حيزٍ دنيوي يبدو أنه مقصود في النقاشات الاعتزالية الأولى، فقد تكرر في كتاباتهم المبكرة ربط مفهوم الفسق بالظلم بشكلٍ عام وبظلم الحاكم بشكل خاص.[5] وبصورةٍ أكثر دقة، نجد في كتابات المعتزلة المبكرة بعض النصوص التي تتكلم عن ربط الفسق بالظلم الأموي[6] وتشير إلى المفهوم الجبري الذي اعتقده البيت الأموي ومن معه من جبرية الأمة، وخاصة مؤمنو وشيوخ بلاد الشام.[7] يورد القاضي عبد الجبار في كتابه "فضل الاعتزال" نصاً يوضح هذا التوظيف الجبري لانتقال السلطة السياسية للبيت الأموي:
"ثم حدث رأي المجبرة من معاوية لما استولى على الأمر ورآهم لا يأتمرون بأمره
فجعل لا يمكنه حجة عليهم، وأوهم أن المنكر لفعله قد ظلمه، فقال -أي معاوية-: لو
لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر، ما تركني وإياه. ولو كره الله تعالى ما نحن فـيه لغيَّره".[8]
 
هذا المفهوم الجبري إذن يقوم على أن إرادة الخليفة هي مظهر إرادة الله، وأن الظلم الواقع هو إرادةٌ إلهية.
 
 
وفي هذا السياق يمكن فهم الأسباب التي دعت الجبرية -لاسيما المنتشرة في بلاد الشام آنذاك- إلى الاعتقاد بإيمان مرتكب الكبيرة وإرجاء أمره إلى الله، وأن ارتكاب الكبيرة لا يستوجب النار،[9] وفهْم الخوارج الذين ابتدأ التكفير عندهم من لحظة التحكيم بغير شرع الله،[10] وفهْم مذهب الحسن البصري الذي أراد عدم الخوض في التكفير الصريح وإن كان مؤدى قوله هو استحقاق مرتكب الكبيرة النار وهو ما يبدو جلياً في رسالته الشهيرة[11] إلى الخليفة عبد الملك بن مروان.[12]
على رغم أن المذاهب الثلاثة (الخوارج والحسنيون – نسبة إلى الحسن البصري- والمعتزلة)[13] ومن ورائهم الشيعة ذهبوا إلى استحقاق مرتكب الكبيرة النار إلا أن الاستثناء الاعتزالي في هذه المسألة هو توسيعٌ للحيز الكلامي ليشمل مفهوم الظلم السياسي الذي صدر من بني أمية وفقاً لتاريخ المخالفين (الشيعة والمعتزلة والخوارج والحسنيين).[14] وبالتالي هو خوضٌ في سؤال كبير يتعلق بالقدر والصدمة التاريخية التي قلبت البيت الهاشمي وغيرت الخريطة الجغرافية للسلطة السياسية من الحجاز والعراق إلى بلاد الشام.[15] وهي صدمةٌ ولَّدت مفهوم البداء لدى الشيعة المبكرة، فتحوُّلُ السلطةِ من بيت النبي إلى بيت بني عبد شمس الأمويين اعتُبِر تحولاً في الإرادة الإلهية التي بدا لها تغيير مسار التاريخ، ومن هنا جمع الشيعة سمتين عقديتين متناقضتين حسب الظاهر هما الجبرية[16] والبداء،[17] وبالتالي انشقوا عن المعتزلة الذين رأوا أحداث التاريخ نتاجاً للإرادة الإنسانية. الاعتقاد المعتزلي بالإرادة الإنسانية ومسؤولية الإنسان عن أفعاله وأن الظلم الحاصل في الأرض كسبٌ إنسانيٌ خالص ولَّدَ لديهم مبادئ عُرفت بالمبادئ الخمسة وهي: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،[18] ولذلك لقبوا أنفسهم بأهل العدل والتوحيد أو أهل الحق أو أهل السنة والجماعة[19] أو المعتزلة.
هذه الخريطة الكلامية ربما تعكس الخريطة السياسية والجغرافية في عهد الإسلام المبكر، فيبدو أن الخيار الكلامي الجبري أو الإرجائي لأهل الشام كان خياراً سياسياً توافق مع سلطة بني أمية الجبرية وجغرافياً من حيث التموقع في الحيز الشامي خصوصاً. وفي النهاية فإن هذا الخيار وجَدَ في النصوص الإسلامية ما يؤيدهُ، شأنه في ذلك شأن الخيارات الكلامية الأخرى الشيعية أو الاعتزالية أو الخوارجية أو الحسنية التي عكست أيضاً موقعها الخلافي مع السلطة السياسية الناشئة الصادمة وموقعها الجغرافي من حيث وقوعها خارج تخوم بلاد الشام.[20] وهنا تُفهمُ الاستثناءات على أنها حالة تمرد كما حصل مع غيلان بن مسلم في مقاومته للسلطة الأموية في بلاد الشام.[21]
وفي المجمل فإن السؤال الكلامي الأول في الزمن الإسلامي المبكر يمكن ترميزه بأنه كان سؤال الحرية أو سؤال الإرادة الإنسانية، وكلاهما استُحضرا في نقاشات القَدَر المبكرة.[22] باستحضار هذا السؤال يمكن فهم المسائل الكلامية اللاحقة على أنها أسئلةٌ متعلقة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بسؤال الحرية هذا. فمسألة الصفات والتشبيه والتجسيم والتنزيه على سبيل المثال كانت نقاشاً في صورة الإنسان ومدى إمكانية المظهرية التي يحملها جسده وصفاته كصورةٍ عن ذات الله وصفاته.[23] في هذا السياق يمكن فهم التدقيق الصارم الذي سلكه الاعتزال بخصوص التنزيه وعدم رؤية الله، هذا التدقيق نابعٌ من فصلٍ ضروري يتعلق بفهمنا للإرادة الإنسانية وفاعليتها ومسؤوليتها تجاه كل المفاسد. أما رمزية مسألة الصفات وصورة الله فيمكن فهمها عبر نصوص إلهية ممتدة تجسدت في كتابات العهد القديم وخاصة في سفر التكوين والخروج، فيها نجد الله حاضراً ومرئياً وعلى صورة الإنسان، وفيها تبدو الإرادة الإنسانية منعدمةً صارخة دائماً تستنجد معونة الله ضد المفاسد الأرضية، وربما تسبق صرخة الإنسان بغية تصحيح الخطأ الأرضي.[24] في هذه النصوص نجد الله حاضراً في كل مأزقٍ إنساني، وإن كان هذا الحضور تمظهر عبر سلمٍ تنازلي من التغيرات في صورة الله، الأمر الذي دفع ببعض باحثي الأدبيات الكتابية إلى الخوض في مسألة تاريخ الله وتحوله من الشباب والقوة والغضب إلى الكهولة والحكمة والاعتزال والسلام وربما الحياد.[25]

رمزية السؤال الكلامي:
في كتابات المتكلمين الأولى، لا تقتصر المسائل الكلامية على ما اعتاد عليه المتأخرون في كتاباتهم من حيث التعريفات والتدقيقات اللغوية والمنطقية المدرسية، بل يتم الخوض في هذه المسائل بسياقاتها التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.[26] وربما تنبع أهمية المحتوى الذي تحمله هذه الكتابات المبكرة من القيم الأخلاقية والخوض في التعليل الأخلاقي. هنا يبدو علم الكلام نصاً غنياً يتعالق فيه الفضاءان الديني والدنيوي، وبالتالي يتم فهم طبيعة السلطات العلمية والدينية والدنيوية. في هذه النصوص يُلاحظ بشكلٍ متكرر طبيعة الخائضين في السؤال الكلامي وأثر الجمهور المتلقي للأجوبة الكلامية، وبالتالي يمكن فهم طبيعة المتكلم ودور العامة وأثر التقليد وطبيعة التأويل والمناهج التأويلية المستخدمة. في الوقت المعاصر، يحتل المجال الكلامي أو الثيولوجي موقعاً علمياً أساسياً في الجامعات الغربية يُعبِرُ من خلاله عن الرؤية الدينية تجاه القضايا الكونية والبيئية والتاريخية والفلسفية والعلمية والطبية والفلكية والاجتماعية. في هذا الحقل تُطرح العديد من الأسئلة المهمة التي تتعلق بمفهوم الإرادة الإنسانية وقضية القدر والحرية، وتمدد وتقلص تدخلات الله الأرضية عبر التاريخ، والمقاصد الكبرى الناتجة عن عدم التدخل، وفكرة الخلاص البشري، وفكرة النبوة ومقاصدها، وفهم السلطة الدينية والدنيوية وطبيعة العلمانية.
الخوض في السؤال الكلامي في سياق المآزق الإنسانية الكبرى يمكن اعتباره استئنافةً جديدة في فهم التعالقات المتنافرة أو المتوافقة كالعلاقة بين الأرضي والسماوي أو العلاقة بين الديني والدنيوي أو العلاقة بين السلطات جميعها أو العلاقة بين الغيب والشهادة. في هذه المآزق الكبرى يميل العقل الديني عموماً إلى التفسير النشوري أو القيامي Apocalyptic كأساس لفهم التصدعات والصدمات الهائلة التي تحدث للإنسان.[27] وقد تم استحضار هذا التفسير القيامي وقامت قيامة الإنسان غير مرة في تاريخ الإنسان الديني،[28] ولكن الإنسان – ونحن ننظر من مسافة تسمح لنا بذلك- بقي ولم تقم قيامته، وإنما قامت أسئلته الكلامية وارتفعت وبقيت شاهداً على لحظات مفصلية في تاريخ كل أمةٍ وكل شعب. وهنا، يمكن فهم هذا الاستحضار القيامي للنصوص الدينية وتمثلاتها الدنيوية على أنه علامة على استئنافةٍ جديدة في تاريخ الشعوب، وأن المآزق الإنسانية، بالتالي، هي استئنافةٌ جديدة في سؤال الحرية الكلامي.

النظائر التاريخية:
بالسياقات التاريخية الأخرى التي شهدت أسئلةً كلامية كبرى يمكن الاقتراب من طبيعة الثورة السورية وكيف دشنت الاستئنافةُ الجديدة للسؤال الكلامي في السياق العربي والإسلامي. تمت الإشارة آنفاً إلى كتابات العهد القديم ولاسيما سفريْ التكوين والخروج، وبشكلٍ خاص تحرر بني إسرائيل من سلطة القبط المصريين. في هذين السفرين يلحظ القارئ علاقة دقيقة من الأسباب والمسببات التاريخية التي أدت إلى إحاطةٍ بشرية بمدى قدرة الإنسان الأرضي. فيبدو أن اختيار أرض كنعان أرضاً موعودة لبني إسرائيل لم يكن بالخيار السهل الذي يمكن الحفاظ عليه من قبل بني إسرائيل، فتمت مجموعة من التدخلات الإلهية - يمكن اعتبارها محناً قاسية-  لتعريف الإنسان بمقدرته ومدى تحقق إرادته. بدءاً بحوادث الولادات العجيبة التي صاحبت زوجات يعقوب، وانتهاء بميلاد النبي يوسف وما صاحبها فيما بعد من محبةٍ أبوية خاصةٍ له وحسدٍ أخوي أودى به إلى العبودية لفرعون مصر، ومن ثم عبر أسباب تفصيلية أخرى جعلته عزيز مصر، ومجاعةٍ أدت لمجيء إخوته وأبيه واختيار مصر سكناً لبني إسرائيل، ومن ثم عبودية بني إسرائيل لأقباط مصر. هنا بدأ المأزق الإنساني الكبير في تواريخ تلك الأزمنة القديمة التي ولَّدَت مجموعةً من الأسئلة الكلامية المتعلقة بحرية الإنسان وإرادة الله. وفقاً لسفر الخروج فإن بني إسرائيل – ومع معرفتهم بوعد الله لهم- آثروا العبودية على التحرر،[29] بل إن موسى نفسه تردد أو رفض أمر الله له بالذهاب إلى فرعون وأمره بالمقولة الشهيرة "دع شعبي يذهب أو يمضي".
سفر الخروج يخبرنا عن تفاصيل دقيقة حول تعلق الإنسان بالعبودية وعدم رغبته بالتحرر.[30] ففي كل مأزقٍ إنساني كان يمر به بنو إسرائيل توجهوا باللوم إلى موسى وتوبيخه على أنه السبب في إخراجهم من أرض مصر، حيث كانوا يأكلون فيها اللحم ويشربون الماء، إلى أرض صحراء يباب وشتات ولجوء. في ذلك المأزق انبثقت ثلاث مجموعات: مجموعة أظهرت رغبة العودة إلى أرض مصر والاستسلام للجبرية والشوق إلى نعيم العبودية، ومجموعة رمادية لم ترغب بالعودة ولا باستمرار المسير إلى أرض كنعان، وإنما البقاء في التيه والشتات. ومجموعة ثالثة لم ترض العودة ولا التيه بل عزمت على دخول أرض كنعان ومقاتلة من فيها، معلنةً أنه لا خيار إلا المسير رغم الصعوبات والمحن. وكان الخيار الثالث هو خيار الأقلية.
في ستينيات القرن الماضي وفي خطابٍ شهير في معبدٍ يهودي في منطقة هوليوود، بولاية كاليفورنيا الأمريكية، اقتبس مارتن لوثر كينغ من سفر الخروج هذه الخيارات الثلاثة، وقارن بها أوضاع العبودية السوداء في أمريكا، واعتبر أن هذه الخيارات خيارات إنسانية وليست خيارات مقتصرة على العبيد السود،[31] فالإنسانية أمام المآزق الكبرى أمام خيارات ثلاثة: إما أن تنسحب إلى نفسها وترضى بالتنازل عن حريتها وإرادتها، وإما أن تبقى على حالتها الثابتة الرمادية، وإما أن تمتلك الشجاعة لتغير الوضع القائم.

مارتن لوثر كينغ
مارتن لوثر كينغ
بالنسبة لكينغ فإن خيار الحالة الثابتة هو أخطر الخيارات وهو أعقدها وهو يمثل دائماً الأكثرية، وبهذا الخيار تفشل الإنسانية في صنع التغيير، وهو خيارٌ جبري يخضع لإرادةٍ خارجية ميتافيزيقية أو مجتمعية أو سياسية أو اقتصادية. بهذا الخيار يموت العدل وينتشر الظلم. في سفر التثنية يبدو أن الخيار الثالث لم يكن واضحاً لبني إسرائيل، فبعد إقامتهم الطويلة في أرض سيناء يتوجه الله بالخطاب إلى موسى: إلى متى ستبقى هكذا في أرض سيناء، أكمل المسير.[32] بعبارةٍ أخرى، فإن الإرادة الإلهية كانت تحضُّ موسى وأتباعه على عدم السماح بالاستنكاف عن الهدف أو الرضى بعدم تحقيق الهدف.
بقراءة دقيقة لسفري الخروج والتكوين يبدو أن سؤال الحرية كان سؤالاً مفروضاً على بني إسرائيل، لم تكن الحرية خياراً بقدر ما كانت أمراً جبرياً. فسلسلة الأسباب تنبئنا بوضوح أن بني إسرائيل دُفعوا دفعاً إلى أرض الميعاد.[33] هذا التصور الجبري يبدو أنه الأساس الذي من خلاله – وللمفارقة- صُورت الأفلام الهوليودية – قريباً من المكان نفسه الذي ألقى مارتن لوثر كينغ خطابه- سؤال الحرية لدى العبيد السود في أمريكا. ففي فيلمٍ شهير بعنوان "جانغو الحر"[34] يدور السيناريو على أن السود بطبيعتهم البيولوجية يُحبون العبودية،[35] وأنهم غيرُ تواقين للحرية، وأنهم يفضلون الخيار الأول الذي فضلته إحدى مجموعات بني إسرائيل، وأنهم لا ينتفضون ولا يثورون إلا إذا سمح لهم السيد بالثورة والتمرد.
هذا التصور الهوليودي يخالف فلسفة روح الحرية لدى السود في التاريخ الأمريكي،[36] ففي خطابٍ شهير، يميز مالكوم إكس[37] بين نوعين من العبيد أو نوعين من الزنوج السود: زنوج البيت House Negro وزنوج الحقل Field Negro. زنوج البيت هم هؤلاء الذين يفضلون الخيار الأول خيار نعيم العبودية، خيار التنعم بخدمة السيد واضطهاد زنوج الحقل، الخيار الذي لا يُعبر عن طائفية العبد أو عرقه أو طبيعته البيولوجية أو مستواه الاجتماعي أو الاقتصادي وإنما عن فلسفته حول الحرية والإرادة الإنسانية. زنجي البيت يمرض إذا مرض السيد، بل إنه إذا شاب السيد أي شائبة يصيبهُ هو الوهنُ والوجل والقلق. يتقرب إلى السيد بتعذيب زنجي الحقل، ويستخدم كل تراثه وأدبياته ونصوصه في خدمة السيد وإذلال زنجي الحقل. أما زنجي الحقل فهو حر لأن خياره كان الخيار الثالث خيار إكمال المسير وعدم الاستنكاف عن الأهداف غير المحققة. زنجي الحقل ثائر ولا يقبل الحاضنة التي توقفه عن المسير، متمرد لا يأسره السادة الآخرون، واعٍ بحقيقة الإرادة الإنسانية وسؤال الحرية. في مأزق العبودية الأمريكية تولَّدت أسئلةٌ كلامية أساسية حول الإرادة الإنسانية ومسؤوليتها تجاه المفاسد والمظالم ومفهوم الحرية والتدخلات الإلهية. وأصبحت هذه الأسئلة الكلامية مجالاً يُدرَّسُ في كليات اللاهوت تحت عناوين ثيولوجيا التحرر الأسود أو الثيولوجيا السوداء.[38]
في مأزقٍ حديث آخر، ولَّدت حوادث الهولوكوست على يد النازية أسئلةً كلامية وتاريخية كبيرة في السياق اليهودي، تدور هذه الأسئلة حول المقصد الإلهي في هذه الإبادة البشرية، خاصةً لشعبٍ آمن بميعاد الخلاص والاصطفاء الإلهي، وترتب على ذلك أسئلة فرعية مثل: ما هو المغزى الذي من أجله تحدث المصائب والحوادث الكارثية للأخيار والناس الطيبين؟[39] وما هو الأساس الأخلاقي والفلسفي والنفسي والديني للشر والإجرام – على رغم وصفه بالتفاهة وفقاً لـ حنا أرندت-[40] والذي حدا بالنازيين لاقتراف جريمتهم هذه؟ وبمرور الزمن، وبعد نزوحٍ جماعي لليهود من أرض الشتات السفاردية والإشكنازية إلى أرض الميعاد، تولد لدى اللاهوتيين اليهود فحوى وجواب لتلك الأسئلة الكلامية. وهو جوابٌ شبيه بما حدث لبني إسرائيل منذ قدوم يوسف إلى أرض مصر ومن ثم عبودية بني إسرائيل للأقباط وفي النهاية وصولهم إلى أرض الميعاد، أرض العسل واللبن مرة ثانية. كان الجواب هو أرض الميعاد وتحقق الوعد الإلهي. يبدو أن المآزق الكبرى في تاريخ بني إسرائيل ارتبطت بشكلٍ وثيق بالأسئلة الكلامية وبالتفسير القيامي المتعلق بالزمن الأخير. وهو تفسيرٌ تميل إليه – كما أشرت سابقاً- الرؤى الدينية بشكلٍ عام، وبشكلٍ خاص المذاهب أو الفرق النشورية كالشيعة في سياق الإسلام وشهود يهوه في سياق المسيحية.

سياق المحنة السورية:
في المحنة السورية هناك ملامح عديدة تتقاطع في بعض تفاصيلها مع ما ورد آنفاً. فهي أرض بلاد الشام، الأرض التي عرفت الأسئلة الكلامية الإسلامية الأولى، الأرض التي شهدت تشظي الفرق الكلامية نتيجة الجبرية الأموية. المفارقة أن الجبرية الحديثة هي جبرية البيت الهاشمي، والمناوئون لها هم مجموعات شتى لكن يجمعها الخيار الثالث وهو خيار إكمال المسير. إنه خيار الأقلية من كل طائفة. فهو خيار الأقلية الدرزية والأقلية المسيحية والأقلية من العلوية وكذلك الأقلية السنية. أما أكثرياتهم فهي بين الخيار الأول خيار التنعم بالعبودية، والخيار الثاني الخيار الرمادي، أو خيار الوضع الحالي. هنا، الثورة السورية هي خيارُ زنجي الحقل الذي تمرد على سيده ومن تبعه من زنوج البيت. زنجي الحقل الذي حركَ الراهن وسبَّبَ الانزياحات في المفاهيم الطائفية والدينية والجغرافية والأخلاقية والديمغرافية. بخيار زنجي الحقل هذا، تبدلت الولاءات،، وانبثقت خارطةٌ جديدة للمنطقة وانبثق معها أسئلةٌ كلاميةٌ كبرى قديمة وجديدة تتعلق بفهم أسباب الشر والحرية الإنسانية والتساؤل عن عدم تدخل الله، ومفهوم الغيب والشهادة، ومصدر الظلم، ومقاصد الله في هذا الألم اللامتناهي، وحقيقة القيم الكونية، وفكرة حقوق الإنسان العالمية. وعن هذه الأسئلة الكبرى، تولدت مجموعةٌ هائلة من القضايا التفصيلية المتعلقة بفهمنا للسلطة في الإسلام وتاريخه، وسلطة العامة وسلطة التقليد، وماهية الجماعات الدينية وأسباب تحولاتها، ومفهوم الكرامة الإنسانية، ومفهوم الفتنة والخروج على الحاكم وتأويلاتهما المتعددة، ومفهوم الشريعة وسرمديتها وتحولاتها، والمنحى التأويلي الجديد.
ربما يكون التعقيد المقصود أو غير المقصود الذي أدخل المحنة السورية في دوامة من التأويلات والسرديات المختلفة هو بروز ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية أو "داعش".[41]
 
 
وهي الظاهرة التي شغلت الجميع محلياً وإقليماً وعالمياً. وأدخلت المحنة السورية في دائرة من التفسيرات والأفعال العدمية، والتي أدت إلى استحضار تفسيرات تاريخية وقيامية مثيرة من حيث تعلقها بأرض النبوءات (أرض بلاد الشام). وكما أشرت آنفاً، فإن هذا الاستحضار القيامي لتفسير المآزق الإنسانية إشارةٌ أساسية لاستئنافةٍ جديدة في الفكر الإنساني عموماً. ومع ذلك، ربما تكون الثورة السورية الحدثَ الأول في التاريخ الديني التوحيدي، فأحداث الهولوكوست التي أنتجت دولة إسرائيل الجديدة بعد تيه استمر تقريباً ألفيتين (2000 سنة بعد هدم الهيكل الثاني على يد روما) وولدت نقاشاً كلامياً – سبقت الإشارة إليه- في السياق اليهودي أدت إلى حدثٍ إقليمي ذي دلالة بخصوص الحيز الجغرافي (بلاد الشام). خاصة أن هذا الحدث يتعلق بالفكرة المهدوية في السياق الإسلامي أو المسيانية في السياق المسيحي أو اليهودي، وهي فكرةٌ أساسية بخصوص ولادة تنظيم الدولة، الولادة التي تعتمد بشكل جوهري على الفكرة المهدوية في السياق الإسلامي في شقه الشيعي.
في المحنة السورية، ليس من المبالغة القول أن الإنسانية بأجمعها أمام محنةٍ أخلاقية ومأزقٍ قيمي كبيرين. هذه المحنة تقدم لكل متابعيها العالميين مشاهدة أفظع الجرائم بشكلٍ حيٍ ومباشر وبفارق دقائق معدودة عن ارتكاب الجريمة. في هذه المحنة التي شهدت أكبر موجة لجوءٍ جماعي سبب تغيراً في بعض الخرائط الديمغرافية والحدود الدولية، يمكن القول إنها أدت بأغلب المثقفين العالميين إلى الخوض في مناقشة الأسئلة الأخلاقية والكلامية، وأسهمت بإبراز صيغ جديدة لمذاهب قديمة.   

السُلطة والنشأة الجديدة:
ربما تكون إحدى المزايا الأساسية للثورات العربية أنها ليست ثورات النخبة. ويمكن القول إن هذه الثورات وما حملته من أحداث كبرى حولت العامة بقوة التجربة إلى نخبة، وحولت النخبة بقوة العقل إلى عامة. وأصبح الميدان أو الشارع هو مركز السلطة. في الثورة السورية لم يكن هناك موسى ليقول "دع شعبي يمضي". الشعب نفسه مضى دون دفعٍ ميتافيزيقي، ودون حدوث معجزات. كان خروجهُ نفسه معجزةً حقيقية. كان خروجه خياراً لزنجي الحقل في تمرده على زنجي البيت وسيده. هذا الخروج غير المتوقع أحدث خريطةً جديدة في جميع السلطات الدينية والسياسية. والمتتبع للتيارات الإسلامية بشكلٍ خاص يلحظ حضوراً متكرراً لمفهوم "الجماعة الجديدة"[42]، المفهوم الذي يمكن تطبيقه تقريباً على أغلب التيارات والمذاهب الإسلامية، كالتقليدية الجديدة، والصوفية الجديدة، والاعتزالية الجديدة، والخوارجية الجديدة، والجبرية الجديدة، وربما السلفية المنهجية[43] الجديدة. أحدث انخراطُ العامة في التغيير السياسي تصدعات مهمة في بينة الجماعات الدينية. فبنية التقليد – على سبيل المثال- تقوم على سلطة العالم التقليدي المتخصص في العلوم الإسلامية والذي به –أي بالعالِم المتخصِّص- تُفَسَّر جميع نصوص "الأمة" أو عموم "المسلمين" الواردة في النصوص الدينية. فالنص القائل "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن" لا يُفسَّرُ بما أجمع عليه العامة بل بما أجمع عليه وما ارتآه أولو الأمر (العلماء). وهنا يصبح أي تمرد على هذا المفهوم يصب في إحداث الفتنة المنهيِّ عنها وفق الفهم التقليدي.
في جانبٍ آخر. انخراط العامة في التغيير السياسي والمجتمعي سهَّلَ بشكلٍ واضح ارتفاع فكرة "السلفية" في العالم العربي وفي سوريا بشكل خاص.[44] فالسلفية – باختلاف خطاباتها- من حيث تركيبتها تتكون من سِمَتين: "التمرد على المركز"، ويُقصد به الجسم التقليدي القائم على العادات والتقاليد الدينية والاجتماعية في أي مجتمع ويراد به بشكل خاص جسم المذاهب الأربعة. و"الرجوع إلى الأصل" ،أي إلى النص التأسيسي – هنا القرآن والمدونة السنية الصحيحة- وفهومه في القرون الثلاثة الأولى. يمكن القول إن هاتين السِمَتين أعطتا ثقة كبيرةً للعامي مقابل سلطة الفقيه التقليدي، فصار بإمكان العامي أن يستدل وأن يطالب بالدليل، وفي حال عدم حضور الدليل صار بإمكانه التمرد على المركز (جسم الجماعات الدينية التقليدية الرسمية وغير الرسمية)، خاصةً أن المركز كان منذ فترة وجيزة –أي قبل الثورات وفق ذاكرة العامي القصيرة- متحالفاً مع السلطة ومتعايشاً معها وفق منظومةٍ تقليدية متماسكة.

استئناف السؤال الكلامي:
ربما يكون أعمق شعار انطلق خلال الثورة السورية هو "يا الله ما لنا غيرك يا الله". وهو شعار زنجي الحقل بخصوص الثورة السورية. شعار مجموعة الخيار الثالث التي أرادت إكمال المسير، ورفضت بالتالي الاستنكاف عن الأهداف غير المحققة. شعار الثائر الذي تمرد نتيجة فلسفته تجاه الحرية ومفهوم الإرادة الإنسانية وصورة العدل الإلهي ومجانبته للظلم، ومقاومته لكل أشكال جماعات الوضع الثابت. وهو شعارٌ يحمل عدة مضامين، منها عدم الثقة بالإنسان الكوني أو بالمنظومة القيمية للإنسان العالمي، ومنها فداحةُ الشر والجريمة لدرجة أنه لا يمكن التعايش معها أو منعها إلا بتدخلٍ إلهيٍ مباشر عبر الانخراط في عملية التغيير، ومنها رفض الحاضنة التي تحول دون تحقيق مآلات التغيير، ومنها أن الشعار يحمل مضموناً متمايزاً عن ثورات وتغيرات الحداثة في العالم الغربي، كونه لا زال يستمد بشكلٍ واضح المعونة من الله في عملية التغيير، وإن كان في حقيقة الأمر تمردَ على السلطة التقليدية الدينية في العالم العربي.
 
 
قد يبدو الشعار في المجمل شعاراً جبرياً من حيث الظاهر، اعتزالياً من حيث الباطن. جبريٌ لأنه من حيث الظاهر يُصور الأمر على أن الناس مدفوعون نحو الحرية دفعاً وأنهم في جبريتهم هذه غير راغبين بالحرية شأنهم في ذلك شأن مجموعة الخيار الأول التي حلت في أرض التيه ووجدت نفسها مدفوعة إلى أرض الميعاد وهي في الحقيقة راغبة في العودة إلى نعيم العبودية، وهم بهذا الجبر لا يملكون إلا أن يقولوا "ما لنا غير الله". ولكن في الباطن يبدو أن الشعار –ب ما ينطوي عليه من مفاهيم الحرية والكرامة والعدالة- يحمل مضموناً اعتزالياً من حيث إنه استئنافٌ للسؤال الكلامي الأول المتعلق بقضية القَدَر، وأن الفساد سببهُ الإنسان، وأن على الإنسان وحدهُ مسؤولية التغيير، وأن عليه أن يمضي وإن لم يكن هناك موسى، ولكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى المعونة الإلهية الحقيقية، ويعلن التمرد على منظومة القيم العالمية ومنظومة حقوق الإنسان المزيفة.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذا الشعار هو إعلانُ تمرد على الأنماط التقليدية، فهو تمردٌ على الجبرية التقليدية كونه مصحوباً بالفاعلية الإنسانية في التغيير وإيمانها بتحقيق الهدف الإنساني الأرضي، وتمردٌ على الإرجاء كونه ينطلق من المحاسبة الدنيوية على المظالم الإنسانية وعدم إرجائها مع إيمانٍ مصحوبٍ بالعدالة الإلهية، وتمردٌ على الاعتزالية التقليدية التي تقوم على احتكار النخبة للسؤال الكلامي[45]، في حين أن الثورة السورية، والثورات عموماً، هي حركة المجموع أو حركة العامة في اللحظة الأولى، والنخبةُ تابعة. وهو تمردٌ على الصوفية التقليدية أو الطرقية التي تقوم على التوجيه من الأعلى إلى الأسفل، والأمر نفسه يصدق على المؤسسات التقليدية الدينية والجماعات المذهبية التقليدية عموماً. وهو تمردٌ على الخوارجية التقليدية كونه جوهرياً ومن حيث البداية، لا ينطلق من صيغة الخروج على الحاكم التقليدية القائمة على الكفر والإيمان.[46] وهو تمردٌ على السلفية التقليدية أو العلمية القائمة على مقولة "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم".[47]
في كتابه Under Crescent and Cross: the Jews in the Middle Ages يؤكد مارك كوهِن أن عموم الناس –الذين يعيشون في فترات التحولات- يجهلون غالباً أو لا يدركون عملية التغيير، فقط المؤرخون من يؤسسون لفهم بنى هذه الأحداث ببصيرةٍ تاريخية.[48] ماتأملهُ هذه المقالة الموجزة، في النهاية، أن تؤسس لفهم بُنى التغيير التاريخي واستئناف السؤال الكلامي في مطلع قيام الألفية الثالثة.

المراجع:

[1] انظر بعض النصوص الحديثية التي أوردها الكعبي البلخي في كتابه "قبول الأخبار ومعرفة الرجال" 1/225-226 والتي تظهر بعض النبوءات المتعلقة بهذه الصدمة التاريخية وطبيعة العلاقة والتوتر بين البيت الهاشمي وبيت بني عبد شمس.
[2] في علاقة نشأة بعض الفرق الكلامية وخاصة المعتزلة بمسألة القدر ومسألة مرتكب الكبيرة، انظر مقدمة محقق "الانتصار" للخياط ص 49-50.
[3] أشار أبو الحسين الخياط المعتزلي إلى فرق دلالي وتأويلي بين مفهومي الفسق والنفاق، ولماذا ذهب أهل الاعتزال إلى وصف مرتكب الكبيرة بالفسق والانشقاق عن مجلس الحسن البصري الذي ذهب إلى مفهوم النفاق. انظر "الانتصار" ص 166.
[4] أدى هذا الحديث دوراً إشكالياً كبيراً خلال القرنين الأول والثاني الهجريين. النظرة النقدية التي تنطلق من الرؤية السياسية في تاريخ الأحداث التاريخية تنتقد هذا الحديث لما لعبه من دورٍ أساسي في ادعاءات السلطة وتهميش المخالف في القرون المؤسسة، لكن هذا الحديث بالإضافة إلى وروده في المدونة السنية التقليدية المعترف عليها والرسمية فإنه ورد بشكل واضح ومعترف به في النصوص المضادة وخاصة نصوص المعتزلة المبكرة التي اتهمت بالقدرية بدءاً من القرن الثاني الهجري بعدما كانت التهمة موجهة إلى الجبرية في القرن الهجري الأول. انظر "التحريش" ص 99 و"فضل الاعتزال" للقاضي عبد الجبار 146، 166-167، 200، 335، 341، 344-345.
[5] كما يمكن أن يفهم في تحليل مقدمة محقق كتاب "الانتصار" ص 51-52. يذهب المستشرق "نيبرج" محقق كتاب "الانتصار" إلى أن المعتزلة هم مؤسسو علم اللاهوت في السياق الإسلامي. هذه الأسبقية الاعتزالية في تأسيس علم اللاهوت ربما تعود إلى هذا السؤال الكلامي الأول المتعلق بمفهوم "القدر" وسؤال الحرية.
[6] على سبيل المثال انظر النصوص التي أوردها ضرار بن عمرو في كتابه "التحريش" ص 81-88 والخياط في "الانتصار" ص 98، 139 والقاضي عبد الجبار في "فضل الاعتزال" ص 160. ويورد الكعبي البلخي نصوصاً حديثية تلعن رجالات بني أمية وتطعن بهم. انظر "قبول الأخبار ومعرفة الرجال" 1/222-229 وبشكل غير مباشر يمكن فهم النصوص التي أوردها الكعبي البلخي في كتابه "قبول الأخبار ومعرفة الرجال" 1/93، 2/159 والتي تنعت أصحاب الحديث بالفساق، وأن كل محدثي الشام جند لبني مروان.  أصحاب الحديث –وفق هذه الروايات- هم هؤلاء الذين أسهموا في بناء المعتقد الأموي ومخالفة المعتقد الاعتزالي في مسائل العدل والصفات.
[7] انظر "التحريش" ص 75-76 "وقبول الأخبار ومعرفة الرجال" للكعبي 1/238 و"فضل الاعتزال" للقاضي عبد الجبار ص 143، 162-163، 334.
[8] ص 143 تتكثف رمزيات هذا المفهوم الجبري الأموي في تضاده مع مفهوم العدل الاعتزالي من خلال سيرة غيلان بن مسلم وتمرده على البيت الأموي، خاصة بعدما أمر هشام بن عبد الملك بقطع يد ورجل غيلان. في أحداث هذه السيرة يقول له هشام بعد القطع: كيف ترى ما صنع ربك بك؟ فيجيب غيلان: لعن الله من فعل بي هذا. انظر "فضل الاعتزال" ص 229-233.
[9] وردت عدة صفات إشكالية للمرجئة في الكتابات الكلامية المضادة مثل "يهود أهل القبلة" و"مناصرو إبليس" انظر "التحريش" ص 79.
[10] بهذا الخصوص، انظر "التحريش" لضرار بن عمر ص 47، 53، 57-58 و"الانتصار" ص 140 يشير الخياط إلى أن الصدر الأول من الإسلام الذي يشمل خلافة أبي بكر وعمر وست سنين من خلافة عثمان سلم من تكفير الخوارج وطعنهم.
[11] انظر "فضل الاعتزال" ص 215-223.
[12] إلا أنه يبدو أن الحسن البصري توقف عن القول في مسألة القدر بعد تخويفه بالسلطان كما يورد الكعبي في "قبول الأخبار ومعرفة الرجال" 2/386: قال أيوب -أي السختياني-: ما أعياني الحسن في شيء ما أعياني في القدر حتى خوفته بالسلطان. وانظر "فضل الاعتزال" ص 228-229.
[13] في التشابه بينهم بخصوص هذه المسألة الكلامية انظر مقدمة محقق كتاب "الانتصار" ص 51.
[14] انظر موقف المعتزلة من البيت الأموي في "الانتصار" ص 139، 161 وما بعدها، و"قبول الأخبار ومعرفة الرجال" 1/222-231 و"فضل المعتزلة" ص 142، 167، 169، 170-175، 181 في هذا المسعى الاعتزالي الشقاقي لم يكن من السهل للمعتزلة الأوائل أن يؤسسوا لهذا المفهوم وارتباطه بالظلم الأموي دون جهد تأويلي وكلامي لا لبس فيه يربط مفهوم الظلم بالفسق قرآنياً وبالتالي يؤسس لاعتقاد أن القول بالمنزلة بين المنزلتين هو مما يعلم من الدين بالضرورة. بل يذهب أحد شيوخ الاعتزال -وهوأبو عبد الله بن عمر الصيمري- إلى أن الدار التي يغلب عليها الجبر هي دار كفر. انظر "الانتصار" ص 167 و"فضل الاعتزال" ص 309-311. ويذهب الكعبي البلخي أبعد من ذلك فيرى أن قضية العدل وكذلك التوحيد وفقاً للفهم الاعتزالي هما قضيتان كونيتان أزليتان وليس للأخبار الدينية دور فيهما إلا بتأكيدهما، وأن أي خبر يخالفهما لا بد من رده إن كان آحاداً أو تأويله إن كان متواتراً. انظر "قبول الأخبار ومعرفة الرجال" 1/17 و"فضل الاعتزال" ص 151. ولأجل ذلك تم أيضاً رفض مرويات بعض الرواة -كأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقيس بن أبي حازم، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سيرين، وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، والزهري، وابن عون- لصلتهم بالبيت الأموي. انظر "قبول الأخبار ومعرفة الرجال" 1/183-185، 194، 196-197، 209، 214، 255-257، 269، 360. 2/159 وفي المقابل تم قبول مجموعة من الأحاديث الضعيفة وأحياناً الموضوعة وفقاً للمدونة السنية الرسمية نظراً لأنها توافق الاعتقاد الاعتزالي في مسألة العدل وغيرها من المسائل الاعتزالية. انظر "فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة" للقاضي عبد الجبار ص 145-146، 195.
[15] يذهب ضرار بن عمرو بعيداً فيُدرج -بلغة متقاطعة مع كتابات اعتزالية أخرى مبكرة ألمحت إلى ارتباط مفهوم الفسق بالظلم الأموي- بشكل غير صريح اللواطين والزناة والفجار من شراب الخمر وخراب الأرض مع الأمويين والمرجئة وأنه يعتقد وفقاً لذلك كفرهم بالله وأنه يذهب إلى الإيمان بوعد الله ووعيده. انظر "التحريش" ص68-70، 130.
[16] عن هذه الجبرية الشيعية المتوافقة من حيث الاعتقاد والمضادة من حيث التفاصيل مع الجبر الشامي انظر مقدمة محقق "الانتصار" ص53 وانظر كلام الخياط نفسه صاحب كتاب "الانتصار" ص 6. هذه الصدمة التاريخية التي ولدت الاعتقاد الجبري لدى الشيعة قادتهم في الوقت نفسه إلى الانخراط في تكفير الأمة بما فيهم الصحابة عدا أولئك الذي ناصروا علياً. انظر "الانتصار" ص 138-139 143، 159، 156، 160.
[17] عن البداء والاعتقاد الشيعي، انظر "الانتصار" ص 127-130.
[18] في نشأة هذه المبادئ والنظريات المضادة انظر مقدمة محقق كتاب "الانتصار ص52 وما بعدها.
[19] انظر مناقشة القاضي عبد الجبار في "فضل الاعتزال" لمفهوم السنة والجماعة ص 185.
[20] بالإضافة إلى هذا المنطلق السياسي في تحليل السؤال الكلامي الأول، فإن المسألة بالنسبة لأبي الحسين الخياط تبدو مسألة كلامية بامتياز، حيث يقول: أهل التوحيد رجلان عدلي ومجبر لا ثالث. انظر "الانتصار" ص 24.
[21] انظر "فضل الاعتزال" ص 229-233.
[22] يبدو هذا جلياً في كتابات القاضي عبد الجبار في "فضل الاعتزال" ص 142.
[23] بهذا، يمكن فهم ربط أبي الحسين الخياط بين الاعتقاد الجبري الذي ذهب إليه البيت الأموي واختلاق حديث "خلق الله آدم على صورته". انظر "الانتصار" ص 144-146 "وفضل الاعتزال" ص 151. في نقد هذا الحديث وسياقه السياسي يمكن مراجعة ما كتبه المستشرق ج. جونبول في The Encyclopedia of Canonical Ḥadith، بريل، ليدن 2007 ص 33.
[24] انظر على سبيل المثال سفر الخروج، الأصحاح الثاني حيث نجد الإشارة إلى صراخ بني إسرائيل وطلبهم المعونة من الله.
[25] انظر مثلاً حضور صورة الله بين العهدين القديم والجديد في هاتين المقالتين:
[26] من أهم المصادر التي تتناول هذه السياقات ما كتبه القاضي عبد الجبار في كتابه "فضل الاعتزال" وكذلك مقالات الإسلاميين" للبلخي.
[27] اقرأ على سبيل المثال الأحاديث المؤيدة والمضادة لابتعاث المهدي كعلامة من علامات الساعة في كتاب "التحريش" ص 120-123.
[28] راجع على سبيل المثال ما كتبه الشيخ محيي الدين بن عربي في فصل وزراء المهدي في كتابه "الفتوحات المكية" (الجزء الثالث، ص 319 وما بعدها) وكيف استحضر النصوص النشورية المتعلقة بابتعاث المهدي في سبيل تحليل المأزق الإسلامي الذي تمثل بانتشار الفساد والجور وفساد الأمة الإسلامية في القرن الخامس الهجري.
[29] انظر على سبيل المثال ملامة بني إسرائيل لموسى في سفر الخروج، الأصحاح الرابع عشر: "هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر قائلين: كُفَّ عنا فنخدم المصريين، لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية".
[30] انظر الأصحاح الرابع عشر إلى الأصحاح السابع عشر من سفر الخروج.
 [32]التثنية 1: 7.
[33] انظر على سبيل المثال سفر الخروج، الأصحاح السابع عشر كيف يتذمر بنو إسرائيل من عدم وجود الماء في أرض سيناء وقولهم لموسى لماذا أصعدتنا من مصر؟ لكي تميتنا وأولادنا ومواشينا بالعطش. وكيف صرخ موسى إلى الرب قائلاً: "ماذا أفعل بهذا الشعب؟ بعد قليل يرجمونني!
 [35] انظر مقالة Volney Gay المعنونة بـ "العبودية في الأفلام الأمريكية: جانغو الحر" http://www.huffingtonpost.com/volney-gay/slavery-in-recent-america_b_9493276.html
[38] انظر على سبيل المثال كتاب جيمس كون "الثيولوجيا السوداء والتحرر: James H. Cone, A Black Theology and Liberation.
 [39] انظر على سبيل المثال كتاب: When Bad Things Happened to Good People" by Harold S. Kushner".
[40] في كتابها: Eichmann in Jerusalem: A Report on the Banality of Evil .
[41] عن ظاهرة داعش وسردياتها المتشعبة انظر مقالة عصام عيدو "داعش: انفجار السرديات: أرض الثورة بين أبديتين سياسية وميتافيزيقية" http://www.jadaliyya.com/pages/index/19171/%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4_%D8%A7%D9%86%D9%81%D8%AC%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D8%AA
[42] عن التحولات في بنية الجماعات الدينية في الثورة السورية بشكل خاص، انظر "الجماعات الدينية وعلماء الشريعة خلال الثورة السورية" عصام عيدو:  http://www.joshualandis.com/blog/religious-groups-scholars-islam-syrian-revolution-isam-eido/
[43] وصف السلفية بالمنهجية يعزى إلى العمل الذي قام بجمعه "عمرو عبد المنعم سليم" لفتاوى ناصر الدين الألباني المسماة بـ "الفتاوى المنهجية".
[44] وهو ما أشرت إليه في بحث موسع عنوانه "ارتفاع السلفية السورية من الإنكار إلى الاعتراف" سينشر قريباً عن كتاب مشترك في جامعة سانت أندروس.
[45] عن السؤال الكلامي والمقدرة التأويلية للعامة انظر "فضل الاعتزال" ص 152 وعن مفهوم الكثرة والجماعة والنخبة والدور السياسي انظر "فضل الاعتزال" ص 186-188، 334 و"شرح العيون" للحاكم الجشمي ص 393.
[46] وهو مبدأ يتشارك فيه الشيعةُ مع الخوارج، وهم في ذلك ضد فرقة "الجلسية" أو "الصمتية". انظر "التحريش" ص 60-61.
[47] وهو شعار ينسب إلى حسن الهضيبي، انظر اقتباس ناصر الدين الألباني للشعار وتوظيفه في تأسيس مفهوم السلفية في كتاب "الفتاوى المنهجية" جمع وترتيب عمر عبد المنعم سليم ص 19-22.
 [48]ص199، وانظر ترجمته العربية "بين الهلال والصليب وضع اليهود في القرون الوسطى" ص 450.
SaveSaveSaveSaveSaveSaveSave
عصام عيدو

أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في قسم الدراسات الدينية، في جامعة فندربلت، وأستاذ زائر سابق في كلية اللاهوت في جامعة شيكاغو. ومحاضر سابق في كلية الشريعة في جامعة دمشق. وهو زميل وعضو في عدد من المراكز الأكاديمية منها مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروس، والأكاديمية الأمريكية للأديان، ومجتمع المستشرقين الأمريكان، وسبق أن كان زميلاً في صندوق العلماء الدولي في نيويورك، ومعهد نيوباور كوليجيوم في جامعة شيكاغو، ومعهد الدراسات العابرة للأقاليم في برلين. صدر له "نشأة علم المصطلح والحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين" و"منهج قبول الأخبار عند المحدثين" له عدد من الأبحاث والمقالات باللغة العربية والانكليزية.

مواد أخرى لـ عصام عيدو

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.