السيد بييريه باحث بلجيكي يعمل محاضراً في جامعة إدينبره (اسكتلندة) منذ عام 2011. حصل على الدكتوراه من معهد العلوم السياسية في باريس ومن الجامعة الكاثوليكية في لوفين، بلجيكا. للكاتب عدة مقالات في العلاقة بين الدين والسياسة في سوريا والعربية السعودية. ويهتم حالياً بالجماعات السلفية المقاتلة في سوريا. يعتمد كتابه الذي بين أيدينا على بحث الدكتوراه الذي قام به في سوريا، وهو عمل يجمع بين المنهجية الأنثروبولوجية الميدانية والبحث التاريخي النصي. إنه لمن المفيد والمثير حقاً أن نرى بحثاً أكاديمياً يضع الإختلافات الفكرية بين فئة علماء الدين جانباً ليركز على النواحي العملية من الحياة العامة لهذه الفئة المجتمعية. من الجدير بالذكر أن النسخة الإنكليزية للكتاب ظهرت بعد بداية الثورة السورية مما أتاح للكاتب فرضة تحديث المقدمة وإضافة فصل أخير عن دور علماء الدين السنيين، موضوع الكتاب، في السنة الأولى من الثورة السورية.
تقتصر الدراسات الغربية الأكثر شهرة وتداولاً عن سوريا على مواضيع محدودة، ينصبّ جلها في مجال سياسة الدولة، حيث تعالج مواضيع مثل الصراع الإقليمي في فترة الخمسينات، أو صعود البعث إلى الحكم، أو السياسة السورية الخارجية، أو نظام حكم حافظ الأسد. وتندرج تحت هذا النمط كتب مثل كتاب باتريك سيل (Patrick Seale) الشهير، الصراع على سوريا (1987)، و الأسد: الصراع على الشرق الأوسط (1990)؛ وكتاب ريموند هينبوش (Raymond Hinnebusch)، الحكم السلطوي وبناء الدولة في سوريا البعثية (1990)؛ وكتاب نيكولاس فان دام (Nikolaos van Dam)، الصراع على السلطة في سوريا (1996)؛ وكتاب فولكر بيرتس (Volker Perthes) المميز، الإقتصاد السياسي في سوريا تحت الأسد (1997). لا يندرج كتاب الاستاذ بييريه ضمن هذا النمط، إلا أنه اعتمد عليه لاستحضار السياق التاريخي السياسي العام للدراسة.
هناك نمط آخر من الدراسات الغربية عن سوريا معاصر للنمط الأول يبحث في الجذور الفكرية والإجتماعية لسوريا الحديثة منذ نهاية العهد العثماني وخلال عهد الإنتداب. وقد اعتمد الكاتب على هذا النمط لرسم السياق التاريخي الإجتماعي لدراسته، باعتبار أن جذور موضوع بحثه يبدأ في تلك الفترة التاريخية المفصلية. وتندرج تحت هذا النمط كتب مثل كتاب ديفيد كومينز (David Commins)، الإصلاح الإسلامي: السياسة والتغيير الإجتماعي في سوريا في نهاية العهد العثماني (1990)؛ وكتاب جيمس جيلفين (James Gelvin) المجدد، ولاءات مشتتة: القومية والسياسة الشعبية في سوريا عند إنتهاء الإمبراطورية (1998)؛ وكتاب إليزابيث تومسون (Elizabeth Thompson)، مواطنون كولونياليون: الحقوق الجمهورية، الإمتيازات الأبوية، والجندر في سوريا ولبنان الفرنسيتين (2000).
الكتب السابقة الذكر تعتمد البحث النصي الذي يعتمد على الأرشيفات الرسمية، والمذكرات الشخصية، والكتب العربية المؤلفة في سوريا قبل سبعينات القرن الماضي. لكن كتابنا ينتمي إلى نمط من الدراسات الغربية عن سوريا بدأ بالظهور منذ بداية العقد الأول من الألفية الثالثة مختلف عما سبقه. وهو نمط سوسيولوجي وأنثروبولوجي يعتمد بشكل أساسي على البحث الميداني (مقابلات وملاحظة مباشرة). لقد أصبحت هذه الدراسات ممكنة بفعل الإنفتاح الجزئي على العالم الخارجي خلال تلك الفترة الزمنية. وتندرج تحت هذا النمط كتب مثل كتاب ليسا ودين (Lisa Wedeen)، غوامض الهيمنة (1999)؛ وكتاب ستيفن هايدمان (Steven Heydemann)، السلطوية في سوريا (1999)؛ ودراسات أخرى بدأنا نراها حديثاً في المؤتمرات المختصة.
رغم اختلاف موضوع البحث، إلا أنه يمكن اعتبار الكتاب الذي بين أيدينا تكملة منطقية لجهدين كبيرين الجهد الأول قام به إسحاق وايزمن (Itzchak Weismann) في مقالاته وكتبه، وأهمها كتابه بدايات الحداثة: الصوفية والسلفية والعروبة في دمشق في نهاية العهد العثماني (2001)، والذي يبحث في تاريخ الفكر الإسلامي الإصلاحي في سوريا منذ نهاية العهد العثماني. والجهد الثاني قام به يوهانس رايسنر (Johannes Reissner) في كتابه الحركات الإسلامية في سوريا (1980، ترجم 2005)، والذي يبحث في تاريخ الإسلام السياسي في سوريا ممثلاً بجماعة الإخوان المسلمين. يتحدث الكتاب الأول عن فكر أقلية فكرية، ونعني السلفية الشامية، كان لها أثر بعيد في الفكر الإسلامي بشكل عام في سوريا. بينما يتحدث الكتاب الثاني عن فكر ونشاطات فئة سياسية، أي جكاعة الإخوان المسلمين، مثلت شريحة واسعة من الطبقة الوسطى الناشئة في سوريا. أما كتابنا فيتحدث عما أغفله هذا الكتابان، ونعني تاريخ فئة شيوخ الصوفية التقليدية وتلامذتهم الذين عارضوا السلفية الإصلاحية وسايروا الإسلام السياسي دون أن يندمجوا به. ولا تزال هذه الفئة تمثل الجزء الأكبر من الإسلام السني السوري إلى اليوم فكرياً واجتماعياً. لقد أغفلت الدراسات الغربية هذه الفئة لمصلحة دراسة الإسلام السياسي باعتباره الأكثر تحدياً للغرب والأكثر ظهوراً بين التيارات السياسية العربية المعاصرة. لكن إهمال التدين الشعبي الذي تقوده فئة المشايخ هذه جعل هذه الدراسات نخبوية عاجزة عن شرح التحولات الجذرية في المشهد الإجتماعي والسياسي والفكري لأي بلد عربي إسلامي. ومن الأوائل الذين لفتوا الأنظار إلى هذا البعد الهام هو الباحث محمد قاسم زمان (Muhammad Qasim Zaman) في كتابه العلماء في الإسلام المعاصر: سدنة التغيير (2002)، والذي يمكن اعتباره مصدر الإطار النظري الذي يعتمده بييريه في كتابه.
يتألف الكتاب من ستة فصول بالإضافة إلى مقدمة وتوطئة (أو فصل تمهيدي) وخلاصة. يعرض الكتاب مادته بتسلسل زمني للأحداث، حيث يعالج في كل فصل فترة تاريخية محددة. ويشذ عن هذا المنهج الزمني مقدمة الكتاب وتوطئته اللتان يعرض فيهما الكاتب منهجيته وأهدافه والمحاور النظرية الأساسية التي تدور حولها نظريته. وينتهي الكتاب بقائمة طويلة ومتكاملة ومثيرة للإعجاب من المراجع موزعة على ثلاثة أجزاء، المراجع باللغات الأوروبية، المراجع باللغة العربية وتتضمن كتباً ومقالات والعديد من صفحات إنترنت، ومقابلات مع شخصيات بارزة تمتد على مدى ثلاث سنوات بين 2005 و2008.
يركز بييريه على فئة إجتماعية شديدة الفاعلية في المجتمع السوري، تعي نفسها كفئة إجتماعية متميزة. إنها فئة تعي نقاط قوتها ونقاط ضعفها؛ مما مكنها من المحافظة على وجودها وعلى مكانتها الإجتماعية لعقود عديدة في عصر تعددت فيه قوى التغيير السياسية والإجتماعية، وتنوعت وسائله، وتكاثرت ضحاياه. إنها فئة المشايخ التقليدية التي كانت ولا تزال عماد التدين السوري الشعبي والرسمي أيضاً. لا يركز الكتاب على أفكار هذه الفئة وإنما على فعلها الإجتماعي وتفاعلها مع الفئات الأخرى ومع الدولة، وهذا ما يعطي الكتاب أهمية موضوعه وجدة فكرته. لهذه الفئة تاريخ طويل يتداخل بكثافة مع تاريخ سوريا الحديث كمجتمع وكدولة. لقد ساندت هذه الفئة سياسات السلطان عبد الحميد الثاني وجيشت لها الدعم الشعبي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين؛ كما عادت الفكر الإصلاحي السلفي المنادي بالإجتهاد والذي كان من أعلامه المحليين طاهر الجزائري وجمال الدين القاسمي وعبد الرزاق البيطار ورشيد رضا.
لكنها انتقلت قبيل مجيء الإنتداب الفرنسي وأثناءه إلى معسكر المعارضة الشعبية. وذلك في حين تولت النخب السياسة-الإقتصادية العلمانية مهمة دعم الحكم الفيصلي ومن ثم الحوار مع سلطات الإنتداب من أجل الوصول إلى الإستقلال بطرق سياسية سلمية، خاصة بعد فشل الثورة السورية الكبرى.
يحاول الكاتب في المقدمة تعريف الفئة الإجتماعية موضوع بحثه. ويسمي الكاتب هذه الفئة بالعلماء أو المشايخ (يخلط الكاتب بين المسميين)، لكنه ينبه إلى أنها تتعدى حدود الأشخاص الذين تلقوا تعليماً شرعياً إختصاصياً، "فالمشيخة هوية إجتماعية تكون بالممارسة" (ص 11). ما يميز الشيخ عن أي مؤمن عادي، حسب الكاتب، ليس درجات في المعرفة الدينية وإنما درجات في النوع، نوع المعرفة ونوع الشخص. إن ما يميز الشيخ عن المؤمن العادي هو خليط من"الإعداد الفكري، والتوجه المهني ... وإحساس بأنه إستمرار لتراث إسلامي عريق" (ص10). المنتمون إلى هذه الفئة قد يختصون بالتدريس الشرعي في المدارس أو الجامعات، أوقد يهتمون بالكتابة والفتوى، أو قد يعقدون حلقات الدرس في المساجد أو وسائل الإعلام، أو قد ينخرطون في الحوار الفكري والأيديولوجي الذي عادة ما ميّز فئة المثقفين الذي ظهروا مع الحداثة الغربية. يتتبع الكاتب هذه الفئة الإجتماعية في علاقتها المضطربة مع الدولة وتأثير إحداهما في الآخرى من جهة المأسسة والتحكم، و من جهة التعاون أو التضاد، وكذلك من جهة إعادة إنتاج الذات. ويعتقد الكاتب أنه رغم محاولات البعث إختزال العلماء-المشايخ وتحجيم قاعدتهم المادية في مؤسسة الأوقاف، ورغم العداء بين مجموعة من العلماء-المشايخ والدولة في الفترة الستينات والسبعينات، إلا أن علاقة تعاون وتعاضد قامت بين الدولة ومجموعة أخرى من العلماء-المشايخ استطاعت من خلالها هذه المجموعة إعطاء شرعية للنظام القائم وبناء أدوات مكنتها من إعادة إنتاج نفسها ومن توسيع شعبيتها ودورها الإجتماعي وحتى السياسي. شملت هذه الأدوات حلقات التدريس في المساجد والمعاهد الشرعية والبيوت، وشبكات إجتماعية-إقتصادية قوية، خاصة مع فئة التجار، واستخدام ذكي وواسع للتكنولوجيا الحديثة من كاسيتات وكمبيوتر وأقراص مدمجة ووسائل إعلام. ويعتقد الكاتب أن التعليم الحديث ذا الطابع التقني العلماني شكل أكبر خطر على إستمرارية فئة العلماء-المشايخ (أي إعادة إنتاج أجيال جديدة من العلماء-المشايخ ومن مريديهم)؛ لكن ثلاثة أجيال على الأقل من العلماء-المشايخ يشملهما هذا الكتاب استطاعت تغيير تعريف العالم-الشيخ وأعادت خريجي كليات الهندسة والطب والجامعات العلمانية إلى صفوف المريدين باستخدام الأدوات سابقة الذكر.
يقدم الكاتب في التوطئة نظرية مميزة لتاريخ علاقة العلماء-المشايخ بالدولة في سوريا الحديثة؛ لكنها باعتقادنا لا تزال بحاجة إلى مزيد من البحث والنقاش والدعم بالدلائل الأرشيفية والإحصائية. تقول هذه النظرية بأن الدولة السورية الحديثة حاولت مأسسة فئة العلماء على الطريقة المصرية (أي الأزهر والمجلس الأعلى للإفتاء) والطريقة السعودية (لجنة كبار العلماء) من خلال إنشاء وظيفة المفتي العام الذي يتبع له المفتون في المحافظات (1947)؛ ومن خلال وضع الدولة يدها على ملكية كل المساجد وإنشاء مديرية الأوقاف والمجالس الشرعية (1949)؛ ومن ثم إنشاء وزارة الأوقاف (1961)، مما سمح للدولة بأن تتحكم بتعريف المشيخة وبقاعدتها المادية، أي الأوقاف. يعتقد الكاتب بأن هذه المحاولة انتهت مع صعود البعث إلى السلطة عام 1963 لأن البعث لم ير في العلماء-المشايخ أكثر من خطر أمني يجب الحد من تفاقمه. ويعتقد الكاتب أن إقالة أبو اليسر عابدين وتعيين أحمد كفتارو مكانه كمفتي عام سنة 1963 أعلنت نهاية محاولة المأسسة هذه، فلا الدولة جعلت العلماء والمشايخ والقائمين على المساجد موظفين عندها، ولا هي سمحت للعلماء-المشايخ ببناء هرمية علمية-مهنية تسمح بتعريف المشيخة وتحديد مراتبها واحتكار المعرفة الدينية. إن البعث بإهماله لمسيرة مأسسة العلماء- المشايخ أدى، حسب الكاتب، إلى تذرر هذه الفئة وإنقسامها إلى عشرات من المجموعات المشيخية المتنافسة والمختلفة في قربها من مركز النظام الحاكم. نعتقد أن أساس هذه النظرية يكمن في اهتمام الباحثين الغربيين حين دراستهم للمجتمعات المسلمة بنشوء المؤسسات الدينية المركزية والرسمية على غرار الكنيسة الكاثوليكية أو الأنجليكانية أو الأرثوذكسية أو الكنائس الرسمية في دول شمال أوروبا. في الحقيقة فإن تاريخ الكنائس المسيحية قد لا يكون القاعدة وإنما الإستثناء؛ إذ ليس من الضروري أن تسير الأديان في اتجاه المأسسة أوالإرتباط بالدولة. كما إنه ليس من الضروري وجود مؤسسة دينية منحازة للدولة أو تحت تبعية الدولة لمنع نشوء جماعات دينية-سياسية متطرفة. ونعتقد بأن المشيخة المحلية، أو الجماعات المشيخية، في سوريا ظاهرة إجتماعية قديمة، لم تستطع الدولة العثمانية امتصاصها ولا الدول التي تعاقبت بعدها على حكم سوريا.
بعد التنظير لظاهرة المشيخة في سوريا يبدأ الكاتب تتبع المسيرة التاريخية لهذه الفئة الإجتماعية في فصول الكتاب المختلفة. الفصل الأول يعتني بما يسميه الكاتب بالآباء المؤسسين، ويغطي هذا الفصل الفترة الزمنية بين عامي 1920 و1979. في هذا الفصل يقترح الكاتب نظرية أخرى متميزة لابد أيضاً من دراستها بتفصيل أكبر. وتقول هذه النظرية بأن المشهد الديني كان خاضعاً لسيطرة عائلات الأعيان في نهاية العهد العثماني. لكن هذه العائلات بدأت ترسل أبناءها إلى المدارس التقنية العلمانية بدل المدارس الدينية مثل الأزهر من أجل الإستفادة من الإصلاحات العثمانية وإعادة إنتاج موقعها الإجتماعي-الإقتصادي من خلال المؤسسات الحديثة في الدولة العثمانية بعد التنظيمات. هذا الإنزياح الذي حققه الأعيان من كونهم نخبة دينية إلى نخبة بيروقراطية أدى إلى ابتعادهم عن الطبقات الشعبية التقليدية التي كانت لا تزال تعيش في الأحياء القديمة (داخل الأسوار). كما أدى هذا الإنزياح إلى فراغ قيادي ملأته فئة من مشايخ الأحياء الذي كانوا ينتمون إلى هذه الطبقات الشعبية التقليدية (صناع، تجار صغار، مهاجرين من القرى، ومهاجرين من خارج سوريا). وقد كان لمشايخ المهاجرين، حسب الكاتب، موقع هام في ملء الفراغ القيادي، ويذكر منهم: طاهر الجزائري، وبدر الدين الحسني، ومكي الكتاني (كلهم من أصول مغاربية)؛ خاصة بدر الدين الحسني (1850-1935) الذي تحول لاحقاً إلى شبه أسطورة يتسابق العلماء للإنتماء إليها. بالإضافة إلى هؤلاء يلقي الكاتب الضوء على فئة أخرى من مشايخ المهاجرين وهي فئة "مشايخ الميدان في دمشق"، ذلك الحي خارج سور المدينة العتيقة الذي تلقى هجرات واسعة من حوران في القرن التاسع عشر وأنجب لاحقاً الجمعية الغراء والشيخ حسن حبنكة وجماعته.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه النظرية تعتمد على نظرية ألبير حوارني (Albert Hourani) (في مقالته الشهيرة " الإصلاحات العثمانية وسياسة الأعيان") ومن بعده فيليب خوري (Philip Khoury) (في كتابه أعيان المدينة والقومية العربية: السياسة في دمشق 1860-1920) حول نشوء طبقة أعيان المدينة من بيروقراطيي الدولة العثمانية وملاكي الأراضي. وهذه النظرية لا تزال تهيمن على دراسة تاريخ سوريا الحديث في الغرب وأحياناً على دراسة الثورة السورية الراهنة. وتستند هذه النظرية إلى فرضية وجود عصبيات قائمة على المحسوبية والزبائنية تنتج سلاسل من الزعماء السياسيين والدينيين والعشائرين الذين يحطمون أية محاولة لإنشاء مؤسسات لا تعترف إلا بالمواطن الفرد.
لكن أثناء فترة الإنتداب الفرنسي، حسب الكاتب، ظهر جيل جديد من تلامذة المشايخ الغرباء (مشايخ المهاجرين) اهتم بإنشاء الجمعيات والمدارس الدينية وخاض معارك ضد المؤسسة التعليمية الفرنسية (الخاصة التبشيرية والعامة المتحدثة بالفرنسية) وضد النخبة السياسية العلمانية متهماً الطرفين بإهمال اللغة العربية وإبعاد الشعب عن تراثه الإسلامي. ويتحدث الكاتب هنا عن عدة شخصيات هامة مثل علي الدقر وهاشم الخطيب وكامل القصاب وراغب الطباخ، الذين أسسوا الجمعية الغراء والتوجيه الإسلامي والمدرسة الخسروية. ومن رحم هذا الجيل ظهر جيل الخمسينات والستينات الذي اهتم بإنشاء المدارس والمعاهد الشرعية مثل حسن حبنكة وأحمد كفتارو وعبد الكريم الرفاعي في دمشق، ومحمد النبهان وعبد الله سراج الدين في حلب.
ويعتقد الكاتب أن هذا الجيل هو صاحب ثورة التعليم الديني الحديث في سوريا الذي استطاع وضع منهاج تعليمي مرن يمكن تلقينه على أقساط وبدرجات متفاوتة ولفئات مختلفة من التلاميذ (خاصة تلاميذ المدارس والجامعات العلمانية) وعلى منابر متعددة مثل المسجد والمعهد الشرعي. وهو الجيل الذي أنشأ أيضاً جماعات مشيخية متنافسة مثل جماعة زيد و"مشايخ الميدان" (حبنكة) في دمشق، وجماعة أبي ذر والكلتاوية في حلب.
أما الفصل الثاني فيعتني بوصف المشهد المشيخي أثناء وبعد المعمعة الكبرى في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات؛ ويغطي الفصل الفترة الزمنية بين عامي 1979 و2007. ويرى الكاتب أنه رغم اعتماد النظام على بعض العلماء-المشايخ للتواصل والتفاوض مع الطليعة المقاتلة التي ثارت عليه، إلا أنه لم يثق بهم وانتهى بالضغط عليهم وإبعادهم خارج البلاد إما قسراً وإما طواعية. في هذه الأثناء، وتحت ضغط القبضة الأمنية للنظام وارتيابه القديم بفئة المشايخ، تفتت الجماعات (خاصة جماعة حبنكة وجماعة زيد في دمشق وجماعة أبي ذر في حلب) وأغلقت المساجد وبعض المدارس الشرعية. لكن النظام، حسب الكاتب، لم يغتنم الفرصة لفرض هرمية دينية مؤسساتية وإنما زاد معاشات موظفي وزارة الأوقاف وقرّب مجموعة أخرى من المشايخ (وجماعاتهم) الذين عارضوا منهج العنف والخروج على الحاكم وأبدوا استعداداً للتعامل معه من أجل تهدئة الأوضاع. وقد ركز الكاتب هنا على شخصيات مثل أحمد كفتارو وصالح الفرفور في دمشق، وبعض تلامذة محمد النبهان في حلب، وسعيد رمضان البوطي كموجه للفكر الديني في سوريا.
ويرى الكاتب أن البوطي، كمفكر وكاتب وأستاذ في كلية الشريعة، أضفى شرعية على الوضع القائم وأسس لتوجه فكري ديني لا يتعامل بالسياسة ويعادي التيارات الحركية وخاصة السلفية. أما العلماء-المشايخ الآخرين الذين اصطفاهم النظام فقد أسسوا معاهد شرعية تطورت خلال التسعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة إلى مجمعات تعليمية ضخمة (وشبكات إجتماعية ودينية أيضاً) مثل الفتح وأبو النور في دمشق، والكلتاوية في حلب. ويزعم الكاتب أن الوضع في دمشق في نهاية القرن التاسع عشر والذي شهد صعود مشايخ الميدان من مهاجري حوران قد تكرر في حلب في نهاية القرن العشرين مع صعود مشايخ حي باب النيرب من تلامذة محمد النبهان ذوي الأصول الريفية العشائرية. ويذكر الكاتب هنا شخصيات مثل محمد الشامي وابنه صهيب وأديب حسون وابنه أحمد بدر الدين.
ويتابع الكاتب في الفصل الثاني المسيرة إلى منتصف التسعينات حين سمح النظام، بواساطات من المشايخ المقربين منه، بعودة عدد من المشايخ المهجرين أو المهاجرين إلى سوريا، مثل هشام البرهاني وعبد الفتاح أبو غدة وآخرين أقل انخراطاً في العمل السياسي مثل أبناء عبد الكريم الرفاعي مؤسس جماعة زيد. أما تلامذة حسن حبنكة وجماعة أبي ذر فلم تُعط لهم فرص مماثلة. ويرى الكاتب أن عهد بشار الأسد شهد تحولاً آخر. إذ بعد أن شرعن البوطي توريث السلطة من الأب إلى الإبن، واجه الأسد الإبن تحديات مختلفة دفعته باتجاه جماعات مشيخية وشخصيات دينية كانت قد أصبحت هامشية في التسعينات ليحققوا توازناً مع الجماعات التي ظهرت في عهد الأب وليواجهوا مع الإبن تحديات مثل الإنفتاح وتبعات هجمات أيلول والغزو الأمريكي للعراق ومقتل الحريري وإخراج القوات السورية من لبنان. ويذكر الكاتب في هذا السياق عودة جماعة زيد تحت قيادة الأبناء أسامة وسارية الرفاعي، وعودة بعض تلامذة حسن حبنكة مثل عبد القادر حبنكة ومصطفى البغا،
وصعود نجم داعية الراديو والتلفزيون راتب النابلسي، وصعود مفكرين جدد مثل وهبة الزحيلي ومحمد عكام وأبو الهدى الحسيني، بالإضافة إلى عودة بعض الأسماء القديمة إلى حلب مثل عبد الله سراج الدين وأبو الفتح البيانوني. ورغم أن هذه الجماعات الجديدة تضخمت بشكل لم يتوقعه النظام ومارست ضغوطاً عليه، إلا أنه مارس معها لعبته القديمة في استغلال صراعاتها الداخلية وضرب هذه بتلك واتهام بعض شخصياتها بالفساد الإداري ومن ثم وضع يد الدولة على مقدراتها المالية.
إن التعريف الذي وضعه الكاتب للفئة الإجتماعية موضوع اهتمامه مكنه من مقاربة هذا الموضوع مقاربة سوسيولوجية أخرجته من متاهات الفقه والأيديولوجيا. لكن هذا التعريف أدخل في البحث شريحة عريضة من المهتمين بالشأن العام من منظور ديني بحيث صار من الصعب على الكتاب أن يضم بين دفتيه (الكتاب أقل من 300 صفحة) المئات من الأسماء والأحداث والظواهر المرتبطة بهذه الفئة. فبعد الوقفة التنظيرية السريعة واللمحة التاريخية الأسرع وجد الكاتب لزاماً عليه دراسة جميع الجوانب السوسيولوجية للفئة موضوع البحث. ففي الفصل الثالث يحلل الكاتب الجانب الفكري لهذه الفئة من حيث الأيديولوجيا التي سوقت لها والتي سمتها هي نفسها "بالوسطية" أو "لا صوفية تشطح ولا سلفية تنطح". وهنا يستخدم الكاتب التعريف السوسيولوجي للتدين دون أن يعتمد على أية أبحاث ميدانية في هذا الموضع بسبب عدم توفرها، مما اضطره لتمرير الكثير من الفرضيات والملاحظات على أنها حقائق تم إثباتها. وفي الفصل الرابع يحلل الجانب الإقتصادي فيتحدث عن علاقة فئة العلماء-المشايخ بفئة التجار، وهي علاقة تقليدية، وكذلك علاقتها بفئة البرجوازية الجديدة، بالإضافة إلى الأيديولوجيا الإقتصادية الناتجة عن هذه العلاقات وضرورة تبريرها. وفي الفصل الخامس يتطرق الكاتب إلى الجانب السياسي لهذه الفئة منذ الخمسينات مروراً بأحداث السبعينات وإرهاصات التسعينات وأخيراً محاولة العودة إلى مسرح السياسة في عهد بشار الأسد. وينهي الكاتب بحثه بفصل سادس يجمع فيه كل النتائج التي توصل إليها ليحلل دور فئة العلماء-المشايخ في الثورة السورية.
يمكن للقارئ العارف أن يتابع شلال الأسماء والأحداث والأفكار في هذا الكتاب، وأن يوافق أو يعارض الكاتب في فرضياته ونتائجه. لكن القارئ غير المطلع على المشهد الديني والسياسي في سوريا سيضيع بسهولة في هذا الكتاب الجامع الموسوعي. كان يمكن أن نزعم بأن هذه الموسوعية نقطة ضعف في الكتاب، لكن اعتراضنا على أية نقطة من النقاط العديدة التي تطرق إليها الكاتب يحتاج إلى مقالة مطولة أو بحث ميداني. ولذلك نقترح أن نعتبر هذا الكتاب المميز مشروعاً بحثياً طويل الأمد؛ إنه قائمة طويلة بالمواضيع الملحة التي تجب دراستها في تاريخ سوريا الحديث. ويُسحب للكاتب أنه لم يتركنا مع أسئلة دون أجوبة وإنما مع مقولات وفرضيات جريئة يمكن أن نتعارك معها في حوار فكري لابد أنه سيُغني فهمنا لم يحدث في سوريا الآن ولما حدث في سوريا خلال القرنين الماضيين.