الإسلاميّون والثورات العربيّة: تجاربُ متعددةٌ ودروسٌ مريرةٌ – الجزء الثاني

28 أيلول/سبتمبر 2023
 
تقديم

من جميل الأقدار أن يتمكن موقع (معهد العالم للدراسات) من نشر هذه المادة، على جزئين، في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً من عملية نشر مواد مشروع مراجعات الثورة السورية. فالمادة هي مقدمةُ كتابٍ هام لم يُنشر بعد، والذي ستنشره "الدار الأهلية للنشر والتوزيع" في عمّان، وسيظهر في المكتبات خلال الأسابيع أو الأشهر القليلة القادمة بعنوان: "الإسلاميون والثورات العربية: قراءاتٌ نقدية من الداخل والخارج".

وقد تكرَّمَ المُحرران، الدكتور خالد الحروب والدكتور عبد الله باعبود" بإعطاء الإذن للمعهد بنشره على سبيل المساهمة في هذا الملف. وما نأملهُ أن يكون نشر المقدمة تعريفاً مُتقدِّماً بكتابٍ يتناول تجربة الإسلاميين في الثورات العربية بشكلٍ يشمل مصر وتونس والمغرب واليمن وعُمان وليبيا والأردن والكويت، والبحرين وسوريا والسودان.

يٍقدِّمُ الكتاب جملة تحليلات غنية تتناول واقع الإسلاميين وتحولاتهم الفكرية والتنظيمية خلال الثورات وبعدها، وتُوفرُ تنظيماً مفيداً للأفكار وتكاملاً مطلوباً لها من خلال بحث الظاهرة على أربعة مستويات:1) مستوى الحركة الإسلامية ذاتها لجهة البحث في أولوياتها وممارساتها خلال الثورة ومآلات تلك الأولويات والمآلات في حقبة ما بعد الثورات، و2) المستوى الوطني والمحلي بحثاً عن درجة مساهمة الإسلاميين في ترسيخ القناعات الشعبية بمطالب الثورات مثل الحرية والعدالة والتنمية أو تراجع تلك المطالب على حساب أهداف أيديولوجية، و3) المستوى الإقليمي الذي يفكك طبيعة ودرجة تأثير مشاركة الإسلاميين في المشهد الإقليمي وما يمكن أن يكون قد نتج عنه فيما يتعلق بروز أدوار بعض الدول وما تلا ذلك من تغييراتٍ في التحالفات، وأخيرا 4) يأتي البعد المستقبلي الذي يركز على قضايا من أهمها: كيف تأثر مستقبل الإسلاميين بوصفهم حركات أيديولوجية تبعًا لمشاركاتهم في الثورات العربية؟

وإذ ينحاز الكتاب إلى مصطلح "الثورات العربية" فإنه يُنبِّهُ كيف "أن مصطلح 'الربيع العربي' الذي صُكّ في الإعلام الغربي، ويراه البعض استشراقياً أيضاً، ينقل قسراً حراك الثورات العربية إلى مسار 'الدمقرطة الافتراضي' الذي تقوده شعاراتياً الولايات المتحدة الأميركية، وهو نقلٌ يَحرمُ أبناء هذه الثورات ومن ماتوا لأجلها من مُلكيتهم الحصرية لها".

وفي الجملة، يبدو نشرُ هذه المقدمة، فضلاً عن كونه تقديماً لكتابٍ يستحق الانتظار والقراءة، مدخلاً لتنظيم عمليات التحليل لظاهرةٍ رئيسةٍ لعبت دوراً مؤثراً في الثورة السورية تتمثل في جماعات الإسلاميين السوريين على تنوعها، سعياً لمزيدٍ من الفهم لتلك الظاهرة المُعقّدة التي أثّرَت في مجريات الثورة وتأثرت بها، وبشكلٍ قد يكون مصيرياً في الاتجاهين. ونحن، في معهد العالم للدراسات، إذ نُعيد التعبير عن الشكر للمُحرِّرَين، فإننا ننظر إلى مثل هذه المبادرة المتميزة على أنها خروجٌ شُجاعٌ ومدروس على تقاليد (الملكيّة المُطلقة للُأفكار)، حيث يبدو في عقلية (تجارة الأفكار) من المحرمات السماح لمثل هذه المقدمة بالظهور للعلن قبل صدورها في الكتاب صاحب العلاقة. وهو ما يُعتبر مفرق طريق في عمليات التنوير الثقافي يحفظ للباحثين حقوقهم الطبيعية بحرفنةٍ واعتدال، دون أن يصل إلى مرحلة الحرص المذعور عليها، ولو كان في ذلك حرمان المتابعين من فرصةٍ ربما يكون فيها كثيرُ إضافة لمعرفتهم، وتحديداً في موضوعٍ حساس، الأصلُ أن الجميع يبحثون عن المصلحة العامة في كل ما يتعلق به من قريبٍ أو بعيد.



وفي سياق تعددية التجارب والنتائج التي قاربتها فصول الكتاب، يمكن رصد بعض الملاحظات الإجمالية ذات العلاقة المباشرة بمشاركة الإسلاميين في الثورات العربية ومآلات ما بعدها:

أولًا: انتقل الإسلاميون في الثورات العربية، وبسرعة قياسية مربكة، من الهوامش التي اعتادوا الاشتغال فيها، سواء أكانوا معارضين معترفًا بهم قانونيًا أم مطاردين، إلى قلب المشهد السياسي في معظم البلدان العربية. ووجدوا أنفسهم بشكل متسارع في مركز حركة إدارة الدولة: في البرلمان أو الحكومات، وصولًا إلى الحكم في بعض الحالات، أو المشاركة الفعالة فيه، أو تهديد النظام القائم بشكل جدي، وفي معظم الحالات حققوا حضورًا قويًا في أي انتخابات نُظمت. حتى في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وسيطرة القوى المضادة للثورة بشكل شبه كامل، فإن غياب الإسلاميين عن المشهد كان غياب "الغائب الحاضر"، والأخطر، أو تغييبه، ويؤشر على توتر الأنظمة من جهة، وعلى استمرارية ما تراه تهديدًا إسلاميًا لسيطرتها على الحكم.



فالإسلاميون في المرحلة الراهنة في العديد من البلدان العربية التي حظرتهم قانونيًا، ولاحقت قياداتهم وعناصرهم، يمثلون، بحسب المثل الإنجليزي الشهير، "الفيل المسكوت عن وجوده في الغرفة" The elephant in the room؛ حيث يحس الجميع به، ويسمعون أنفاسه، ويراقبون حركاته، لكنهم ينكرون وجوده. بيد أن هذا الفيل لم يحسن التحرك عندما أتاحت له الظروف الفرصة المواتية، وكانت حركته (وما تزال) مرتبكة وحادة، كما كشف الانتقال السريع للإسلاميين من مربع المعارضة إلى مربع السلطة أو قريبًا منها. فقد ظهر أن الفيل الإسلامي يتحرك بلا تخطيط، فيدوس حول الآخرين أو القضايا أو الأولويات، ويفتقر إلى تقدير المساحات المُتاحة، وتختلط عليه الأمور، وكل ذلك أكد الغياب الفاضح عند الإسلاميين في معرفة شؤون إدارة الحكومات والدولة وتعقيدها؛ الأمر الذي يشير إليه معظم فصول الكتاب، وتفصل فيه.

ثانيًا: بشكل مجمل، تُؤكد فصول الكتاب على نحو غير مباشر أن تجارب الانتفاضات العربية لم تؤثر جوهريًا في التقسيم التقليدي للإسلاميين: الإخوان المسلمون ومدرستهم، والسلفيون وتياراتهم، وتنظيمات العنف الدموي، مثل القاعدة وداعش، ومجموعاتها، إضافة إلى المؤسسات الدينية الرسمية وشبه الرسمية والجماعات التقليدية غير المسيسة (مثل الصوفيين، وجماعة القبيسيات في سورية). بيد أن هذا التوزيع التقليدي لا يعني وجود حدود فاصلة وصارمة تفصل بين هذه المجاميع؛ إذ دائمًا ما كانت تبهت هذه الحدود خلال الأزمات الحادة؛ حيث تشهد التنظيمات المعتدلة هجرة من قبل بعض أفرادها الساخطين باتجاه التنظيمات الأكثر تطرفًا وعنفًا، كما يشرح بإسهاب وعمق كل من محمد عفان وهبة رؤوف في المقاربة حول تطرف شرائح وقيادات من الإخوان المسلمين في مصر بعد انقلاب 2013 وسقوط حكم الإخوان.

أما خلال الانعطافات السياسية الجذرية التي تفتح آفاقًا سياسية سلمية، فإن التنظيمات المتطرفة ذاتها تشهد هجرة من قبل بعض أفرادها باتجاه الاعتدال وممارسة العمل السلمي[1]. هذه الهجرة في الاتجاهين رصدتها فصول الكتاب في التجارب المختلفة من سورية وليبيا، إلى اليمن والمغرب، إضافة إلى مصر.

ثالثًا: عدم رضا قواعد الإسلاميين ونخبهم الشابة عن القيادات، تقريبًا في كل الحالات. وهنا يمكن القول إن الانتفاضات العربية تسببت في حدوث انتفاضات مناظرة داخل الحركات والأحزاب الإسلامية ذاتها، جوهرها السخط على القيادات التقليدية والممسكة بزمام القيادة منذ فترات طويلة. ويكاد كل المساهمين في الكتاب يتفقون على هذا الأمر، وكل منهم تعرض له في التجربة الخاصة بالبلد المعني، ويمكن القول إن هناك إضافات نوعية في هذا المجال قدمها عاتق جار الله عن اليمن وأسامة كعبار عن ليبيا وصلاح الدين الجورشي عن تونس ومحمد أبو رمان عن الأردن، إضافة إلى خريطة الانقسامات الإخوانية المُدهشة التي قدمها كل من محمد عفان وهبة رؤوف عزت عن مصر.

بمعنى ما، اكتشف الإسلاميون أن الفعالية ودور الشباب والانفتاح على الآخرين وضرورة التغيير شروط داخلية كما هي مطالب على مستوى وطني. وكما واجهت قوى الثورة خلال الانتفاضات وبعدها ما وصف بـ "الدولة العميقة"، فقد واجهت الشرائح الشبابية والتغييرية في التيارات الإسلامية ما يمكن وصفه بـ "الحزب العميق" الرافض للتغيير داخل تلك التيارات، بما في ذلك التداول السلمي على قيادة الحركات الإسلامية.

وقد تطورت حالات الانتفاض الداخلي على القيادات التقليدية، في العديد من الحركات الإسلامية خلال وبعد مشاركتها في الثورات العربية، إلى حدوث انقسامات طولية وعرضية حادة، وانفلات شرائح عريضة من السيطرة التقليدية للأحزاب. شملت هذه الانشقاقات الإسلاميين في مصر والأردن وتونس والمغرب وليبيا واليمن وسورية، وتمثلت على شكل أحزاب أو جماعات إسلامية صغيرة، أو خارجة من الحزب الأم، أو على شكل قيادات وأفراد تركوا أحزابهم مجموعات أم فرادى.

وهكذا انعكست ديناميات الانتفاضات العربية على الحراك التنظيمي داخل الحركات الإسلامية، مطالبة بالإصلاح الداخلي والدمقرطة، خاصة أن معظمها يندرج في سياق حكم الرجل، أو الرمز الواحد. وجد بعض الحركات الإسلامية الرئيسة نفسه في تناقض صارخ، بين ما تطالب به في الساحة الوطنية من تعددية وشفافية ومحاسبة، ووضعها التنظيمي الداخلي الذي يفتقد إلى هذه المبادئ والممارسات. النهضة في تونس مثلًا طالبت بنظام برلماني في البلاد تفاديًا لاستبداد قد يقود إليه بشكل غير مباشر أي نظام رئاسي. وفي المقابل، رفض راشد الغنوشي كل المطالبات بدمقرطة صناعة القرار داخل النهضة واتباع نظام "برلماني"، وتمسك بوجهة نظر هي أقرب إلى النظام الرئاسي في داخل حزبه، كما يشرح الجورشي في فصله عن التجربة التونسية.



رابعًا: فكريًا وأيديولوجيًا، تشير فصول الكتاب إلى عمق التغيير الأيديولوجي والسياسي داخل الكتلة الإخوانية الأهم في الإسلاميين، مثل: مصر، والمغرب، والأردن، وتونس، واليمن، وكذلك داخل الكتلة السلفية، وخاصة في مصر. ويرسم كل من سعيد الهاشمي وباقر النجار صورة لحالات مرتبكة ومتداخلة أيديولوجيًا وفكريًا في حالات عُمان والبحرين والكويت؛ حيث تتبلور الكتل التقليدية بشكل أكثر وضوحًا على حساب التشكيلات الحزبية. وشملت المسائل الأكثر نقاشًا التي أشارت إليها فصول الكتاب التوتر الدائم بين التطلعات والشعارات الأممية العابرة للحدود، والمطالب والأجندات المحلية الملحة على هذه الحركات، أو إشكالية الأممي مقابل الوطني.

في معظم الحالات، ضمن مدارس التيار المعتدل، ثمة تقدم واضح للأجندة الوطنية على حساب الأيديولوجيا الأممية، وحسمت "خصوصيات" كل تجربة الجدل الداخلي، وأزاحت جانبًا الأفكار الفضفاضة غير العملية، مثل الوحدة الإسلامية العابرة للحدود، أو الالتزام التنظيمي مع أي إطار خارجي، أو "الحركة الأم" من دون اعتبار للأولويات المحلية. وترتب على ذلك انخراط الإسلاميين بعمق (في مصر وتونس والأردن واليمن مثلًا) في طرح برامج على نحو تفصيلي في مجالات الاقتصاد والبطالة والعدالة الاجتماعية ومعالجة دين الميزانية، وسوى ذلك مما كان غائبًا عن اهتماماتهم المباشرة.

وقد تخطى التوتر الكامن في تقابلية أممي-وطني التنظيمات الإسلامية المعتدلة، واشتغل حتى في أوساط الجماعات المتطرفة كما يفصل عبد الرحمن الحاج في تحليله للحالة السورية؛ إذ انتهى الأمر إلى "غلبة الوطني على الأيديولوجي، فقد اصطدم الجهاديون السوريون بنظرائهم القادمين من الخارج، ورأى الأولون أن التنظيمات الجهادية (الأجنبية) لها برنامج لا يمت بصلة لسورية الوطن".

والجدل الآخر الذي برز، أو ربما على وجه أدق، تضاعف بروزه داخل أوساط الإسلاميين، أو بعض دوائرهم على الأقل، مسألة ترسيم الحدود بين ما هو دين وما هو سياسة، وإشكالية وتوتر تسييس الدين أو تديين السياسة. وهنا، يقدم سعيد الهاشمي في تحليله للحالة العُمانية إضافة نوعية تفكك حالة الدين والسياسة في سياق تقليدي تاريخي تأثر بالحركية الإسلامية الإخوانية والسلفية والإباضية. وفي السياق الإجمالي الذي أخضع الحركات الإسلامية لمعطيات وإكراهات الواقع كان هشام جعفر قد تحدث عما أسماه "تطبيع هذه الحركات مع الواقع السياسي العربي بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات سلبية وإيجابية، بما يمكن معه القول بانتهاء الاستثنائية الإسلامية التي حاول أن يصمها تابعوها ومعارضوها على حد سواء"[2].

ساهمت هذه الإشكاليات وما نجم عنها من توترات في تعميق الشكوك والانفصال بين قيادات "الحزب العميق"، التي أشير إليها أعلاه، والشرائح القيادية الشبابية والوسطى؛ حيث حامت النقاشات الداخلية حول الأولوية الملحة داخل تقابليات مُحيرة: أولوية التنظيم أم الوطن، أولوية المحلي أم الأممي، أولوية الدين أم السياسة، أولوية الآليات السلمية أم العنف، وهكذا.

خامسًا: شهدت تجارب الثورات العربية المختلفة شراسة لافتة من قبل معارضي الإسلاميين في داخل البلدان المعنية ضد حضورهم المتصاعد والمؤثر في المشهد السياسي، حتى لو تحقق ذلك على رافعة الشرعية الانتخابية. استوى في تلك الشراسة الأنظمة الحاكمة، وهو متوقع، والأحزاب غير الإسلامية (الليبرالية، والعلمانية، واليسارية، أو أحزاب الدولة العميقة) المتنافسة مع الإسلاميين أو المعادية لهم، وذلك مع شراسة قوى إقليمية ودولية عديدة.

لا يعني هذا أن الإسلاميين كانوا أقل شراسة في تعاملهم مع خصومهم في السياق الوطني؛ الأمر محط النقد العميق والتحليل التفصيلي في هذا الكتاب. فقد فشل الإسلاميون في كل حالة كانوا فيها القوة الرئيسة في البلاد في بناء تحالفات وجسور قائمة على قدر متماسك من الثقة مع الأطياف الأخرى في المعارضة. في التجربة المصرية، الأكبر وربما الأهم، "مثلت رئاسة مرسي القصيرة والمضطربة المشكلة عينها؛ أي العجز عن الانفتاح وبناء التحالفات، أو السير ببرنامج يجعل بناء التحالفات أمرًا غير ضروري[3]".

وتكرر الفشل في كل من تونس واليمن وليبيا والمغرب وغيرها. وفي الوقت الذي التقى ذلك الفشل مع شراسة خصوم الإسلاميين وعدم تجاوبهم، فمن المهم والموضوعية الإشارة تحديدًا إلى مسألة "شراسة الخصوم"؛ لأن هذا الجانب لم يحظ بالنقاش الذي يستحقه، سواء في ورشة العمل البحثية، أو في فصول الكتاب التي ركزت على تحليل ممارسة وفكر الإسلاميين ونقدهم. وعمومًا أنتجت الشراسة المتبادلة بين الإسلاميين وخصومهم في مربع المعارضة للأنظمة الاستبدادية القائمة أنماطًا من التدمير الذاتي داخل الثورات؛ الأمر الذي ساهم في تعظيم مكاسب الأنظمة الحاكمة ضد الانتفاضات، وأفشل الوصول إلى صيغ وطنية توافقية في حالات ما بعد إسقاط النظام.

بعيدًا عن دلالات غياب النضج السياسي والاستنزاف الداخلي عند الأطراف التي انخرطت في الثورات العربية، فإن الإسلاميين تحديدًا، موضوع هذا الكتاب، مطلوب منهم، وكما أشارت نقاشات الورشة البحثية، تفكيك جذور الصور التخويفية والمخيفة عنهم وحولهم في كثير من الأحيان، التي توفر عتادًا لخصومهم. وقد أشارت هبة رؤوف عزت في تلك النقاشات إلى الحاجة "إلى تبديد الكثير من الخرافات التي تتخيلها الحركات الإسلامية عن نفسها، والخرافات التي تتخيلها المجتمعات العربية حول الحركات الإسلامية"[4]. في المقابل، مطلوب من خصوم الإسلاميين مراجعة خيارات كثيرة، أهمها مسألة الانحياز إلى الأنظمة الدكتاتورية مع قمعها، وتفضيلها على أنظمة إسلامية مُنتخبة ديمقراطيًا، وتأثير ذلك في المسارات المستقبلية للمجتمعات وتوافقاتها الوطنية المأمولة.



سادسًا: كشفت الثورات العربية مستوىً آخر من الشراسة على مستوى إقليمي ودولي وإسرائيلي، أولًا ضد مشروع الدمقرطة العربية وتوسيع المشاركة السياسية؛ لأن ذلك يهدد الأنظمة القائمة الموالية للغرب، وثانيًا ضد الإسلاميين خاصة. إقليميًا، سرعان ما تشكل محور "الثورة المضادة" الذي قادته بعض دول الخليج (الإمارات، والسعودية، والبحرين) ومصر بعد الإطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي، الذي كان هدفه المركزي وما زال إفشال أي مشروع تحول نحو الديمقراطية من مصر في المشرق إلى تونس في المغرب، خشية انتشار "عدوى" المطالبة بالدمقرطة في هذه البلدان.[5]
وإذ كان من الصعوبة، إن لم يكن الاستحالة، إعلان الحرب صراحة على أي تحول ديمقراطي، فإن الذريعة الأسهل امتطاءً والأكثر تسويقًا كانت استهداف الإسلاميين وتصنيفهم "جماعات إرهابية"، بمن فيهم من فاز في الانتخابات في هذا البلد أو ذاك. وبحسب هذه المقاربة، أصبح الإسلاميون بكليتهم، معتدلون أو متشددون، إرهابيين مطاردين وخارج القانون، وهم الذين كانوا إلى وقت قريب بتلاوينهم المختلفة ولعقود طويلة الحلفاء التقليديين للكثير من الأنظمة الخليجية في حروبها الأيديولوجية ضد مشروعات القومية العربية أو الأفكار اليسارية والماركسية، أو حتى ضد جماعات التطرف الجهادي الدموية[6].

وفي هذا السياق، دعم محور "الثورة المضادة" بالمال والدبلوماسية قوى "الدولة العميقة" في مصر وليبيا وتونس، وطبعًا ساند البحرين بالدعم العسكري، ووقف بالمرصاد لأي نجاح ولو نسبي لأي مسار دمقرطة مُحتمل أنتجته الثورات العربية.

على مستوى دولي، وعلى الرغم من التعاطف الشعبي والإعلامي في الغرب مع الثورات العربية، فإن المواقف الرسمية في واشنطن والعواصم الأوروبية (وكذلك في بكين وموسكو) ظلت حذرة وتخشى أي بديل للأنظمة التي اعتاد الغرب على التعامل معها بسهولة، وعرفها عن قرب. فقد اتسمت مواقف الغرب بالحذر والتردد البراغماتي الذي تأرجح إزاء نتائج التحول الديمقراطي تبعًا لكل حالة، وتلمس إمكانية الميلان بحذر مع ميزان القوى، ولم يكن ثمة مبدئية واضحة منحازة إلى الخيار الديمقراطي يمكن الاعتماد عليها. وقد آل ذلك الموقف في أهم بلدان الثورات العربية، مصر، إلى تأييد الوضع القائم الجديد الذي تمثل في سيطرة الجيش على الحكم، ثم تولي عبد الفتاح السيسي رئاسة الدولة في حزيران (يونيو) 2014[7].

لقد سقطت الحكومات الأميركية والأوروبية سقوطًا ذريعًا في اختبار صدقية شعارات نشر الدمقرطة التي كانت تروجها في الحالة المصرية. والسبب في ذلك أن الإسلاميين، وهم الطرف الممقوت عمليًا بشكل معلن أو مسكوت عنه، هم الذين وصلوا إلى الحكم من خلال عملية انتخابية حرة ونزيهة. في معظم الحالات، وقفت غالبية عواصم الغرب في منطقة وسطى، فمن ناحية عبرت عن قبول حذر لما أسفرت عنه العملية الديمقراطية؛ أي صعود الإسلاميين إلى الحكم، لكنها في الوقت ذاته أبقت على خطاب التشكيك في نواياهم، وطالبتهم بتوضيح مواقفهم من العديد من المسائل.

ويمكن القول إن المواقف الغربية كانت خليطًا من ثلاثة عناصر: الأول، القبول الرسمي بنتائج الانتخابات، والثاني، الضغط السياسي على الإسلاميين لتبني سياسات معينة وإخضاعهم لاختبارات متلاحقة، والثالث عنصر "نراقب عن كثب، ثم نعدل السياسة وفق نتائج الاختبار". على ذلك آل الموقف في دوائر القرار في أميركا وأوروبا إلى قبول علني، لكن حذر، لنجاحات الإسلاميين الانتخابية، مع انحياز سري داعم لخصومهم، وقد فُسّر ذلك الموقف من خصوم الإسلاميين على أنه مؤامرة أميركية وغربية تهدف إلى إيصال جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم وتمكينها فيه[8].

إلى جانب الموقف الأميركي والأوروبي هذا، لم تكن مسألة وصول الإسلاميين إلى الحكم بالفكرة المُستساغة والمقبولة في دوائر القرار في عواصم الدول الكبرى الأخرى، مثل موسكو وبكين. فروسيا كانت صريحة بالتعبير عن مخاوفها من الثورات العربية، وتبنت موقفًا ثابتًا ضدها، ولم يميز الخطاب الرسمي الروسي بين إسلاميين معتدلين وآخرين متشددين، فكلهم سواء في نظر موسكو التي خشيت من أية امتدادات للإسلاموية، سواء داخل روسيا أو في جوارها الآسيوي. وقد تأكد هذا الموقف بصورة أقوى عندما هبّت روسيا لنجدة نظام الأسد في سورية بعد الثورة الشعبية التي قامت ضد النظام في آذار (مارس) 2011[9]. أما الصين فلم يكن موقفها مغايرًا لروسيا من حيث رفضها وامتعاضها من الثورات العربية وشعاراتها المطالبة بالديمقراطية والحرية، فقد تخوفت بكين هي الأخرى من أن تنتقل عدوى هذه الشعارات الداعية إلى الديمقراطية والرافضة للدكتاتورية إلى مقاطعاتها الشاسعة. وكان القلق الصيني متركزًا على احتمالات قيام ثورة شبابية في الصين تقلد ما حدث في الثورات العربية عن طريق الإعلام والتغطية الفورية التي كان يقدمها لما يحدث في الساحات والميادين العربية المنتفضة، وبما يكسر من قيود الإعلام التقليدي والرقابة[10]. باختصار، تراوح الموقف العالمي بين الشك الحذر والعداء الصريح للثورات العربية وانتصارات الإسلاميين الديمقراطية التي كانت إحدى نتائجه الأبرز.

على المستوى الإسرائيلي، راقبت إسرائيل عن قرب وبتوتر النجاحات الأولى للثورات العربية في إسقاط نظام مبارك ونظام زين العابدين بن علي، وموقع الإسلاميين فيها، وخشيت على بقية الأنظمة المعتدلة الاستبدادية التي تحسن إسرائيل التعامل والاعتماد عليها[11]. من وجهة نظر استراتيجية إسرائيلية، يؤدي الاستبداد العربي دور الحليف الموضوعي في حماية إسرائيل؛ حيث كان "التوافق الضمني والاتفاقات المكتوبة مع الدكتاتوريين العرب أساسًا دائمًا للمصلحة القومية الإسرائيلية"، وينطبق ذلك على بعض الأنظمة التي يعلو صوتها ضد إسرائيل وتستخدم فلسطين مسوغًا للحفاظ على شرعيتها السياسية الداخلية مثل سورية ... "وبالنسبة إلى نظام الأسد فقد اعتبرته إسرائيل مُفضلًا على غيره كونه الشيطان الذي تعرفه، وهو المصطلح الذي استخدمه شارون في العام 2005 ليقنع جورج دبليو بوش بعدم تغيير النظام في سورية"[12].

الاستبداد بوصفه آلية وبنية هو الذي يحول دون ترجمة الإرادة الشعبية في البلدان العربية إلى سياسة خارجية، بما في ذلك إزاء إسرائيل، وخاصة فيما يتعلق بتوقيع معاهدات سلام أو اتفاقات تطبيع، وهذا ما قاله إيهود باراك حين كان وزير خارجية في الحكومة الإسرائيلية حين حذر من "الموقف غير المسؤول للرأي العام" في البلدان العربية[13]. وهكذا، فإن أي تحول ديمقراطي حقيقي في أي دولة عربية ويؤدي إلى تجسيد إرادة الشعب في صناعة القرار يُعدّ خطرًا مُحتملًا.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الأدبيات القريبة من الدوائر الإسرائيلية، وعلى الرغم من عناوينها الموحية إلى الرصانة الأكاديمية، فإنها قاربت موضوع الإسلاميين والثورات العربية من منظور الإرهاب والعداء للسامية، وتأثيرات تلك الثورات بإسلامييها وغيرهم في إسرائيل والغرب في المقام الأول[14]. هذا فضلًا عن سيل لا ينقطع من كتابات مؤلفين عنصريين، خاصة في أوساط اليمين الأميركي – الصهيوني، جوهرها التحريض على كل من لا ينخرط في الخضوع للسياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة وله علاقة بالإسلام والمسلمين والفلسطينيين واتهام الجميع بالإرهاب، وهؤلاء لا يستحقون الانخراط في نقاش جدي معهم أو الإشارة إلى كتاباتهم والجدل معها.

سابعًا: طرحت النقاشات الموسعة في هذا المشروع، وكذا معظم فصول الكتاب، مسألة استثنائية فيما يخص معيارية تقييم أداء الإسلاميين السياسي (والعنفي أيضًا) وهي: إذا كانت الحركات الإسلامية تركز في اختلافها عن غيرها من الأحزاب (الدنيوية) على تبنيها مجموعة من القيم الدينية المتعالية، فألا يسوغ ذلك محاكمة وتقييم هذه الحركات تبعًا لتلك القيم وبطريقة ومقاربة تختلف عن تلك المتبعة في محاكمة وتقييم الأحزاب الأخرى؟ أليس من المعقول الفكري والسياسي تقييم الحركات الإسلامية بحسب منظومات القيم والمعيارية التي تتسق مع المقولات الأخلاقوية والمبادئ المثالية التي تحفل بها أدبيات الإسلاميين، مثل الصدق والوفاء والتضحية وإنكار الذات (الفردية والجماعية) لصالح المجموع العام، والزهد، والتواضع وسوى ذلك؟ هل يُقبل من الإسلاميين ممارسات سياسية غارقة في الواقعية السياسية، ويمكن توقعها من قبل أحزاب غير إسلامية، مثل: المناورات الخداعية، والانتهازية، وتقديم المصلحة الحزبية، وربما الكذب، وسوى ذلك مما هو معروف في حلبة الصراع السياسي بين الأطراف المختلفة؟ وأين تتموضع القيم الدينية المُتعالية والرافضة لكثير من تلك الممارسات عندما تصطدم بوقائع السياسة الضاغطة وأولوياتها، وتوحشها شبه الدائم؟ وإذا احتج الإسلاميون على هذا المنظور التقييمي كونه ينطوي على ازدواجية في التقييم، وأن ما يُطبق عليهم معايير لا تقيس الأداء فقط، بل تقيس القيم والأخلاق، وأن هذا لا يُطبق على غيرهم، عندها ربما يصح الرد بأن غيرهم من الأحزاب لا يستخدمون الدين وقيمه ومبادئه، ولا يدعون أنه جزء من برنامجهم الاجتماعي والسياسي، لذلك تختلف معايير التقييم.



ثامنًا: في القراءات المُتعددة لدور الإسلاميين في الثورات العربية ومصائرهم التي قدمتها أدبيات عديدة، ثمة شبه توافق على أن الفشل كان المعلم الأبرز لتلك التجارب[15]. للوهلة الأولى والثانية يتبدى سيناريو الفشل قد وقع بالفعل، ومعه انتهت حقبة الثورات وأغلق ملفها. بيد أن التأمل الأعمق في سيرورة هذه الثورات على الرغم من مآلاتها الانسدادية التي وصلت إليها؛ يطرح أسئلة مهمة حول "معايير" تقييم الثورات عامة، والثورات العربية قيد النقاش خاصة. هل تنجح الثورة فقط عندما تتمكن من إسقاط نظام الحكم الذي ثارت عليه وتستبدله بنظام أفضل؟ أم أن ثمة معايير أخرى غير مباشرة علينا النظر فيها؟ هل نجحت أم فشلت الثورة الفرنسية في إسقاط الملكية والاستبداد مع أن الاثنين عادا على ظهر ثورات مضادة أنهت سيطرة الثورة على الحكم؟ ألا تعدّ تلك الثورة، مع عدم نجاحها الحاسم في مرحلتها الأولى، نقطة انعطاف أساسية في التاريخ الأوروبي الحديث، بسبب ما تبنته من قيم الحرية والجمهورية والمساواة، سواء في فرنسا، وفي القارة الأوروبية بأكملها؟ ربما كان التقدير الظرفي خلال مرحلة الثورة يشير إلى فشلها في السيطرة على الحكم، لكن لا يُجادل أحد في نجاحها في إرساء شعارات سياسية واجتماعية جديدة: حرية، وأخوة، ومساواة. لقد وضعت حجر الأساس لنظام سياسي واجتماعي وثقافي في الفضاء الأوروبي. إذًا، قد تفشل الثورة في إسقاط النظام القديم واستبداله بنظام جديد دفعة واحدة، بيد أنها قد تنجح، ولو جزئيًا، في فرض أجندة سياسية أو قيمية جديدة تظل تتطور مع الزمن وتشق طرقًا وبدائل مختلفة.

على ذلك، وعند النظر إلى حالة الثورات العربية، ومشاركة الإسلاميين فيها، هل يمكننا القول إن الثورات قادت إلى استنفار كل القوى السياسية، بما فيها الأنظمة الحاكمة نفسها، في اتجاه القضايا والأسباب العميقة التي قادت إلى الثورات، مثل: غياب العدالة الاجتماعية، وغياب الحرية والكرامة (الفردية والوطنية)، وغياب المشاركة السياسية الفعالة، وفشل الاقتصاد، والفساد، والارتهان للخارج، وسوى ذلك؟ هل يمكن الزعم أن مضاعفة الأنظمة الحاكمة الاهتمام بهذه المسائل، أو ببعضها، حفاظًا على استقرارها واستقرار النخبة الحاكمة، يُعدّ نجاحًا غير مباشر وجزئيًا لتلك الثورات؟ وهل يمكن اعتبار زيادة تحسّب الأنظمة الحاكمة إزاء انتهاكات حقوق المواطنين وعدم استسهال احتقارهم نجاحًا جزئيًا آخر، إذا كان هذا هو الوضع الذي اتجهت إليه بعض البلدان؟

لكن، كيف نطبق هذه المعايير في البلدان التي قُمعت فيها الثورات بضراوة، وسيطرت قوى الثورة المُضادة وفاقمت من سياساتها القمعية والاضطهادية؟ هل بالإمكان الجدل في هذه الحالات أن الثورات فشلت حقًا، سواء على نحو مباشر في هدف إسقاط النظام، وفشلت أيضًا على نحو غير مباشر في تعديل سياساته الاستبدادية على المدى الطويل؟ مرة أخرى، الجواب السريع الذي نقرأه على السطح يشير إلى هذا الفشل المُزدوج، لكن نظرة أبعد مدى ربما تقودنا إلى ملامح صورة مختلفة. مثلًا، ألا تعني مضاعفة سياسات الاستبداد، وتعظيم أدوات القمع والمراقبة اللصيقة، وعدم التسامح مع أي اختلاف سياسي؛ أن النظام المعني صار يستشعر وجود وعي جديد في البلد، وفي المنطقة العربية عمومًا، حول المطالب التي طرحتها الثورات العربية: الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية؟ وبناء عليه يمكن الزعم أن الثورات العربية بذرت بذور هذا الوعي الجديد والعريض الذي وصل إلى البنى التحتية للمجتمعات العربية وصار كامنًا فيها، حتى لو فشلت تعبيراته الثورية المباشرة في موجتها الأولى في العامين 2010 و2011.

هل كان الإسلاميون وحركاتهم جزءًا من سيرورة الوعي هذه عبر مشاركتهم في الثورات، وصارت تياراتهم نفسها، وأعضاؤهم ودوائر مؤيديهم، ميدانًا لوعي جديد قيد التشكل، تقع في قلبه مفاهيم الحرية والمشاركة السياسية، والتحالف مع الآخرين، والمساومات السياسية والتخلي عن الشعارات الفضفاضة؟ ربما يمكن القول إن النقاش الأعمق حول الثورات العربية عمومًا يجب أن يتحرر من أداة التقييم المباشرة المحصورة بثنائية نجاح - فشل المرتبطة آليًا بإسقاط هذا النظام أو ذاته.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أطروحة جيمي ألينسون في كتابه عن الثورة المضادة The Age of Counter-Revolution (2022)، التي تتمحور حول اعتبار الثورات العربية مرحلة أسست لحقبة جديدة، وأنها "سيرورة مفتوحة (مع أنها) حوصرت بين انعتاقين اجتماعي وسياسي، عبر فشلها في إنتاج شكل مُمأسس وراسخ؛ الأمر الذي تركها عرضة للثورة المُضادة"[16].

أسئلة مفتوحة

بالعودة إلى الإسلاميين أنفسهم وتجاربهم في الثورات العربية، ثمة العديد من الأسئلة القديمة المفتوحة لا تزال تواجههم طيلة عقود، ثم عادت إلى الظهور بقوة وتجدد طرحها في سياق مشاركتهم في تلك الثورات، على نحو أكثر إلحاحًا. من هذه الأسئلة مثلًا جدل أولوية العمل التنظيمي الداخلي، أم الاستغراق الخارجي في تقديم الخدمات للناس توسيعًا للشعبية والأنصار، لكن على حساب إبداع رؤى تنظيرية وفكرية وإنتاج أفكار مستقبلية؛ حيث يُتهمون هنا بقصور التنظير وفقر الأفكار. وفي الحالات، ربما القليلة جدًا، وخاصة في أوساط التنظيمات الجهادية؛ حيث تبرز أولوية التنظير والأيديولوجيا وصوغ التصورات الطوباوية، فإنهم ينزلقون في مسارب بعيدة عن الواقع المعيش لمجتمعاتهم.

في العديد من مساهمات الكتاب، هناك نقد للإسلاميين إزاء قصورهم في إنتاج الأفكار، واستغراقهم في العمل اليومي والتنظيمي والتنافسي مع خصومهم (السودان، وتونس، واليمن، وليبيا، والمغرب كأمثلة غير حصرية). ثمة سؤال مفتوح أيضًا حول إيجاد التوازن بين المبادئ المعلنة والمُتبناة والسياسة الواقعية وإكراهاتها، كما تُرى من داخل أوساط الإسلاميين، أو بين التشدد - التطرف والاعتدال كما تُرى الأمور من خارج دوائرهم. هنا وخلال عمليات الشد والجذب للوصول إلى نقطة التوازن، تلك ثمة إشكالية مزدوجة، ففي حال رجحت كفة المتشددين عبر ادعاء الدفاع عن المبادئ والالتزام بها، فإن الإسلاميين يُتَّهمون من قبل كثيرين بالتطرف والجمود، وفي حال اتجهوا نحو البراغماتية اتُهموا بالانتهازية من خصومهم والتفريط بالمبادئ من قواعدهم. ولقد لخص محمد أبو رمان جانبًا من هذه الإشكالية حين أشار في النقاشات المفتوحة في الورشة إلى أنه: "إذا تشددت الحركات الإسلامية معضلة، وإذا اعتدلت معضلة. إذا تمسكت بالشعار الإسلامي معضلة، وإذا تنازلت عنه معضلة"[17].

فجّر سؤال الحرية هو الآخر تحديات صعبة أمام الإسلاميين، ووضع عجز أحزابهم وعدم امتلاكها البديل تحت الشمس، بعيدًا عن الشعار الفضفاض "الإسلام هو الحل"، فقد امتلك الإسلاميون فجأة الحرية كي يطرحوا ويطبقوا تفاصيل هذا الشعار، وكيف سيحل مشكلات بلدانهم وشعوبهم. خلال عقود ماضية، كان هذا الشعار هو الدرع الأيديولوجي والسياسي للإسلاميين والآلية الأكثر نفاذًا واختراقًا للشرائح الشعبية، فهو شعار بسيط وقصير وتفهمه وتتوق إليه مجتمعات يؤدي الدين والتدين فيها دورًا كبيرًا. لكن قبيل وخلال الثورات العربية، وخاصة في الحالات التي وصل فيها الإسلاميون إلى الحكم مغالبة أو مشاركة، انكشفت طوباوية الشعار أمام ضغوطات الأسئلة التي تريد المجتمعات إجابات ومعالجات ملحة لها، مثل: الاقتصاد المتردي، والبطالة المرتفعة، والفساد المستشري، والإرادة الوطنية المُنتهكة وأوجه الخراب الأخرى.

وأزاح سؤال الحرية ستار المظلومية التاريخية الذي تدثرت به جماعات الإسلام السياسي حقبًا طويلة من الزمن؛ حيث حُرِمَ الإسلاميون من العمل السياسي العلني. في بعض الحالات، انتقل الإسلاميون من موقع الضحية والمظلومية إلى موقع الحاكم، وإلى موقع الحاكم الجلاد في بعض الحالات مثل السودان. لم يقدم الإسلاميون في أي حالة من حالات المشاركة التي انخرطوا فيها حالة متميزة ولافتة، فضلًا عن أن تكون باهرة، بديلًا من الحالات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية بفشلها الأكبر ونجاحاتها الأصغر.

الهوامش

[1] حول الهجرة المتبادلة بين معسكري التطرف والاعتدال تبعًا للسياق الظرفي، انظر خالد الحروب في قراءته لهذه الهجرة داخل تنظيمات الإخوان المسلمين وإجمالها في فكرة أو آلية "الحدود الهشة والسياق" في:
Khaled Hroub, ‘The Muslim Brotherhood and Violence: Porous Boundaries and Context,’ in: Peter Sluglett and Victor Kattan, Violent Radical Movements in the Arab World: The Ideology and Politics of Non-State Actors (London: I. B. Tauris, 2019), pp. 25-46.
[2] جعفر، المرجع نفسه.
[3] عبد الوهاب الأفندي، "الإخوان: إعادة تقييم الإخوان المسلمين وتحدي الدمقرطة، الدين في زمن مضطرب"، ورقة مقدمة في ندوة "مستقبل الإسلام السياسي في الوطن العربي"، بيروت، 30/11/2013.
[4] هبة رؤوف عزت، مداخلة في النقاش خلال الورشة البحثية "الإسلاميون بعد الثورات العربية"، 28/1/2023.
[5] ربما أشمل وأعمق ما كتب حول الثورة المضادة للانتفاضات العربية هو كتاب جيمي ألينسون:
Jamie Allinson, The Age of Counter-Revolution: States and Revolutions in the Middle East (Cambridge: Cambridge University Press, 2022).
[6] حول الإسلام السياسي في دول الخليج قبيل الثورات العربية، انظر:
Abdullah Baabood, ‘Islamism in the Gulf region,’ in: Khaled Hroub (ed.), Political Islam: Context versus Ideology (London: Saqi Books, 2010), pp. 127-160.
 وحول مواقف الدول الخليجية للثورة المصرية تحديدًا، انظر:
Abdullah Baabood, ‘Positions of Gulf Countries Toward the Crisis in Egypt, Al-Jazeera Studies Center,’ 5/9/2013: Link
[7] انظر، تفاصيل الموقف الأميركي، والرئيس الأميركي باراك أوباما، التي انحازت تدريجيًا لانقلاب الجيش على الرئيس المنتخب محمد مرسي كما يرويها الباحث الأميركي شادي حامد في:
Shadi Hamid (interview with Amy Goodman), ‘How Obama Greenlighted Egyptian Coup 10 Years Ago, Killing the Arab Spring,’ truthout, 7/7/2023: Link
[8] اتهم كثيرون الولايات المتحدة بأنها كانت في "حلف" مع الإخوان المسلمين، ومنهم المفكر المصري سمير أمين الذي قال إن ذلك الحلف خلال الثورة المصرية ضم أميركا والقوى الرجعية في مصر والإخوان المسلمين والرجعية العربية (التي تقودها السعودية) وهو حلف تدعمه إسرائيل، انظر:
Samir Amin, interview by Hassane Zerrouky, Bula, 19/9/2011: Link
[9] للمزيد عن موقف روسيا من الربيع الثورات العربية، انظر:
Maxim A. Suchkov, ‘Russia and the Arab Spring: Changing Narratives and Implications for Regional Policies,’ Research Paper, Arab Center for Research and Policy Studies, December 2015: Link
[10] James Fallows, ‘Arab Spring, Chinese Winter,’ The Atlantic, September 2011: Link
[11] مثالًا على ذلك، كانت وما زالت نظرة إسرائيل واستراتيجيتها نحو مصر، ما بعد اتفاقية سلام كامب ديفيد 1979، تؤيد وتدعم وجود دكتاتور سلطوي لا يأبه بالإرادة الشعبية، وكانت إسرائيل ترى في حسني مبارك "كنزًا استراتيجيًا" لإسرائيل كما صرح بعض قادتها، وهي نفس الرؤية والوصف الذي يستخدمه قادة إسرائيل إزاء نظام عبد الفتاح السياسي، انظر تفصيلات ذلك في:
Iyad Walid, ‘Has Al-Sisi become Israel’s “strategic treasure”? Middle East Observer, 1/12/2016: Link
[12] Lazar Berman, ‘How Israel kept the Arab Spring from becoming the winter of its discontent,’ Times of Israel, 16/4/2021: Link
[13] كما وردت تحذيراته في مقال في الغارديان البريطانية:
Barak warned of what he called ‘irresponsible popular opinion,’ in Aluf Benn, ‘Blind to Revolution’, The Guardian, 23/3/2011: Link
[14] انظر على سبيل المثال، بعض هذه المقاربات عن الموضوع في الكتاب جماعي التأليف والمدعوم من قبل ثلاثة مراكز بحث إسرائيلية:
Leonid Grinin, Andrey Korotayev and Arno Taush, Islamism, Arab Spring, and the Future of Democracy: World System and World Values Perspectives (New York: Springer, 2019).
[15] التليدي، مرجع سابق، يخلص إلى ثلاثة سيناريوهات تواجه الإسلاميين في البلدان التي شاركوا فيها بالثورات: الأول "إنجاز تحول ديمقراطي حقيقي"، والثاني "إنجاز تحول ديمقراطي وسيط يمثل المنزلة بين المنزلتين"، والثالث "سيناريو الفشل في تحقيق الانتقال الديمقراطي". وقد اعتبر آنذاك؛ أي بعد عام من الثورات، أن "المؤشرات التي تجري على الأرض تستبعد السيناريو الثالث، لكن لا تقصيه تمامًا"، وعلى الرغم من ذكره أن هذا السيناريو قد يحدث جراء عجز الحركة الإسلامية عن إدارة المرحلة، و"تصبح مُدانة شعبيًا بفعل عجزها عن تدبير السياسة اليومية ومخنوقة سياسيًا بفعل تحالفات واصطفافات يمكن أن تنشأ بين الفاعل السياسي الممثل للثورة المضادة، وبين بقية الفاعلين السياسيين أو بينه وبين الفاعل الدولي والإقليمي"، ص 237-39.
[16] Jamie Allinson, The Age of Counter-Revolution, p. 16.
[17] محمد أبو رمان، مداخلة في النقاش خلال الورشة البحثية "الإسلاميون بعد الثورات العربية"، 28/1/2023.

"الآراء الواردة في المواد المنشورة في موقع معهد العالم للدراسات تُعبِّرُ عن رأي أصحابها، ولا تُعبِّرُ بالضرورة عن آراء المعهد والقائمين عليه"
خالد الحروب وعبد الله باعبود

خالد الحروب: أستاذ الدراسات الشرق اوسطية والإعلام العربي في جامعة نورث ويسترن- قطر، زميل سابق في كلية الدراسات الآسيوية والشرق أوسطية في جامعة كامبردج؛ وفيها حاضر في تاريخ وسياسة الشرق الأوسط المعاصر، وأسس وأدار مشروع كامبردج للإعلام العربي بين 2003 و2012. نشر العديد من الكتب والدراسات في الشؤون الفلسطينية والعربية والدولية بالعربية والانجليزية، منها:
Hamas: Political Thought and Practice (2000); Political Islam: Context versus Ideology (2010); Religious Broadcasting in the Middle East (2012).
وأصدرَ بالعربية «المثقف القلق ضد مثقف اليقين» (2018) و«النقد الناعم للصهيونية في كتاب روحي الخالدي السيونيزم» (2021)، بالإضافة الى اصدارات ابداعية منها "وشم المدن" 2009 و"حبر الشمس" 2018، وديواني شعر. أنهى الدكتوراة في العلاقات الدولية من جامعة كامبردج.

عبدالله باعبود: يشغل حاليا كرسي قطر لدراسات العالم الإسلامي، وأستاذ زائر في كلية البحوث الدولية والتعليم في جامعة واسيدا، في طوكيو، وفي نفس الوقت باحث غير مقيم في مركز كارنيغي في الشرق الأوسط - مالكوم كير، في بيروت. شغل سابقاً منصب مدير برنامج دراسات الخليج في جامعة قطر، وأسس وأدار أيضاً مركز أبحاث الخليج في جامعة كامبردج. مكث سنتين في سنغافورة أستاذا زائراً في معهد الشرق الأوسط التابع لجامعة سنغافورة الوطنية. تُركز أبحاث باعبود وكتاباته على دراسة منطقة الخليج في حقول السياسة والاقتصاد والتنمية الاجتماعية، وعلاقات دول الخليج الخارجية. حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة كامبردج في العلاقات الدولية، ويحمل أيضا الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة كنت في بريطانيا.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.