وقد تكرَّمَ المُحرران، الدكتور خالد الحروب والدكتور عبد الله باعبود" بإعطاء الإذن للمعهد بنشره على سبيل المساهمة في هذا الملف. وما نأملهُ أن يكون نشر المقدمة تعريفاً مُتقدِّماً بكتابٍ يتناول تجربة الإسلاميين في الثورات العربية بشكلٍ يشمل مصر وتونس والمغرب واليمن وعُمان وليبيا والأردن والكويت، والبحرين وسوريا والسودان.
يٍقدِّمُ الكتاب جملة تحليلات غنية تتناول واقع الإسلاميين وتحولاتهم الفكرية والتنظيمية خلال الثورات وبعدها، وتُوفرُ تنظيماً مفيداً للأفكار وتكاملاً مطلوباً لها من خلال بحث الظاهرة على أربعة مستويات:1) مستوى الحركة الإسلامية ذاتها لجهة البحث في أولوياتها وممارساتها خلال الثورة ومآلات تلك الأولويات والمآلات في حقبة ما بعد الثورات، و2) المستوى الوطني والمحلي بحثاً عن درجة مساهمة الإسلاميين في ترسيخ القناعات الشعبية بمطالب الثورات مثل الحرية والعدالة والتنمية أو تراجع تلك المطالب على حساب أهداف أيديولوجية، و3) المستوى الإقليمي الذي يفكك طبيعة ودرجة تأثير مشاركة الإسلاميين في المشهد الإقليمي وما يمكن أن يكون قد نتج عنه فيما يتعلق بروز أدوار بعض الدول وما تلا ذلك من تغييراتٍ في التحالفات، وأخيرا 4) يأتي البعد المستقبلي الذي يركز على قضايا من أهمها: كيف تأثر مستقبل الإسلاميين بوصفهم حركات أيديولوجية تبعًا لمشاركاتهم في الثورات العربية؟
وإذ ينحاز الكتاب إلى مصطلح "الثورات العربية" فإنه يُنبِّهُ كيف "أن مصطلح 'الربيع العربي' الذي صُكّ في الإعلام الغربي، ويراه البعض استشراقياً أيضاً، ينقل قسراً حراك الثورات العربية إلى مسار 'الدمقرطة الافتراضي' الذي تقوده شعاراتياً الولايات المتحدة الأميركية، وهو نقلٌ يَحرمُ أبناء هذه الثورات ومن ماتوا لأجلها من مُلكيتهم الحصرية لها".
وفي الجملة، يبدو نشرُ هذه المقدمة، فضلاً عن كونه تقديماً لكتابٍ يستحق الانتظار والقراءة، مدخلاً لتنظيم عمليات التحليل لظاهرةٍ رئيسةٍ لعبت دوراً مؤثراً في الثورة السورية تتمثل في جماعات الإسلاميين السوريين على تنوعها، سعياً لمزيدٍ من الفهم لتلك الظاهرة المُعقّدة التي أثّرَت في مجريات الثورة وتأثرت بها، وبشكلٍ قد يكون مصيرياً في الاتجاهين. ونحن، في معهد العالم للدراسات، إذ نُعيد التعبير عن الشكر للمُحرِّرَين، فإننا ننظر إلى مثل هذه المبادرة المتميزة على أنها خروجٌ شُجاعٌ ومدروس على تقاليد (الملكيّة المُطلقة للُأفكار)، حيث يبدو في عقلية (تجارة الأفكار) من المحرمات السماح لمثل هذه المقدمة بالظهور للعلن قبل صدورها في الكتاب صاحب العلاقة. وهو ما يُعتبر مفرق طريق في عمليات التنوير الثقافي يحفظ للباحثين حقوقهم الطبيعية بحرفنةٍ واعتدال، دون أن يصل إلى مرحلة الحرص المذعور عليها، ولو كان في ذلك حرمان المتابعين من فرصةٍ ربما يكون فيها كثيرُ إضافة لمعرفتهم، وتحديداً في موضوعٍ حساس، الأصلُ أن الجميع يبحثون عن المصلحة العامة في كل ما يتعلق به من قريبٍ أو بعيد.
شارك الإسلاميون بمختلف تياراتهم، "المعتدلة" و"المتطرفة"، في الثورات التي شهدتها البلدان العربية في العامين 2010 و2011، وقد كُتب عن تلك المشاركة أكاديميًّا (وإعلاميًّا) على نحو كثيف من زوايا مختلفة وبأقدار متفاوتة من العمق والشمولية، في وقت مُبكر ولاحق
[i].
قدّم بعض تلك الكتابات مقولات مهمة لا تزال فعّالة، وبعضها الآخر تسّرع في طرح استنتاجات تبدّى لاحقًا أنها كانت وليدة سخونة اللحظة. بعد مرور أكثر من اثني عشر عامًا على تلك الانتفاضات، تتكشف الصورة الداخلية في البلدان العربية، وكذا في الإقليم، على نحو أوضح، وتتوفر مساحة إضافية للتحليل وإعادة النظر في تقييم تجربة مشاركة الإسلاميين فيها، على تنوعهم.
وثمة مسوغات ثلاثة، إجمالًا، تبرر العودة ثانية إلى هذا الموضوع، وتكرار التأمل فيه، والمساهمة في إنضاج فهمه، وسد الفجوات التي وسمت أدبيات نقاشاته المبكرة، لا سيما أن فورة التحليلات الرغائبية التي رافقت تلك الثورات أصبحت وراء ظهورنا.
المسوغ الأول هو المنظور الزمني؛ حيث يزداد انزياح الحدث الساخن، الثورات هنا، بعيدًا من زمن التحليل وإعادة التأمل بتأنٍ. وهنا، تحاول فصول هذا الكتاب مُقاربة الموضوع من زوايا وجوانب جديدة، ساهم مرور الوقت في انكشاف ما هو جديد منها، أو انجلاء الغموض عن بعضها، بما يوفر إمكانية تقديم مقاربات جديدة، أو تناول معالجات سابقة بشكل مختلف يتيح إضافة معرفية ما في هذا الجانب أو ذاك. لا شك أن التأريخ لأي حدث سياسي يظل جهدًا مفتوحًا يسمح بمقاربات إضافية، وتشتغل المسافة الزمنية الفاصلة بين الحدث ذاته والتأريخ له في تعميق التحليل، والاطلاع على معلومات جديدة، إضافة إلى المعرفة الأشمل بالحدث وحوله وموضعته في سياقات تاريخية أعرض.
أما المسوغ الثاني الذي يأمل هذا الكتاب أن يُقدم من خلاله إضافة جدية إلى الأدبيات الموجودة حول الموضوع، فيأتي من طبيعة الباحثين أنفسهم وعلاقتهم به. فالمساهمون هنا باحثون من البلدان العربية ذاتها قيد الدراسة، شهدوا الانتفاضات العربية، وتابعوا دور الإسلاميين فيها عن كثب، كتابة وبحثًا وانخراطًا، وبعضهم كان قريبًا من الحركات الإسلامية نفسها. ويشجعنا هذا القرب من الموضوع، والاطلاع اللصيق عليه وعلى أدوار الفاعلين فيه، على احتضان فكرة مفهومية وأساسية كانت وراء هذا المشروع البحثي، وهي ضرورة تقديم معرفة أولية ومحلية في هذا الموضوع.
وبناء عليه، يمكن القول إن المعرفة التي يقدمها المساهمون في الكتاب أقرب إلى رؤية الحدث من الداخل، ومن أسفل إلى أعلى ‘bottom-up’ and ‘from within’، اعتمادًا على مصادرها الأصلية، وليست مُسقطة على الموضوع من أعلى (فضلًا عن القراءات الاستشراقية). وعبر تقديم هذه المعرفة المحلية، يأمل التحليل تفادي الوقوع في أسر أية مفاهيم معرفية كولونيالية مُسبقة، بل الالتزام بعكس ذلك تمامًا، وانتهاج مقاربة تفكك تلك المفاهيم وتنفك منها. وبكلمة مختصرة، تقديم مقاربة مُتحررة ما أمكن من وطأة المقولات الكولونيالية البحثية والأكاديمية .A decolonized knowledge approach
وأما المسوغ الثالث فهو شمولية الحالات والتعمق فيها. ففي الأدبيات الراهنة هناك تركيز على تجربتي تونس ومصر، وهو تركيز مبرر ومفهوم طبعًا؛ نظرًا إلى ريادة التجربتين وأسبقيتهما وطبيعتهما السلمية إجمالًا. وفي حالة مصر؛ نظرًا إلى مركزيتها ودورها في المنطقة، واهتمام الغرب وإسرائيل بأي تطور جذري يحدث فيها. في المقابل، ثمة عدم توازن في قراءة بقية التجارب؛ حيث تتدرج درجات الاهتمام وتتفاوت في تحليل ونقاش تجارب الإسلاميين في سورية، واليمن، والبحرين والكويت، وعُمان، وليبيا، والمغرب، والأردن.
تقدّم فصول هذا الكتاب أوسع مقاربة لهذه التجارب من ناحية شمولية الحالات الدراسية. فإضافة إلى حالتي تونس، ومصر، التي أفرد لها فصلان: واحد عن تجربة الإخوان المسلمين، وآخر عن تجربة السلفيين، يقدم الكتاب مقاربات ثرية حول: المغرب، واليمن، وليبيا، والبحرين والكويت، وعُمان، والأردن، وسورية. وإلى جانب ذلك، هناك إضافة بالغة الأهمية تتمثل في دراسة حالة الإسلاميين في السودان والانتفاض عليهم، وسقوط نظامهم بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في نيسان (أبريل) 2019. وفي حالة السودان، فصّل خالد التيجاني نور، بثراء لافت، تفكك وضع الإسلاميين عندما يكونون في الجانب الآخر، جانب الحكم والسيطرة عليه، وتكون الثورة الشعبية ضدهم.
في التحليل والنقاش، حاول المشروع والأبحاث المُقدمة فيه، اقتراح عدد من الأسئلة وإشكاليات البحث على المشاركين بوصفه دليلًا إرشاديًا عامًا يُجمل النقاشات حول المنعكسات الكبرى المرتبطة بتجارب الإسلاميين، ويخلق نوعًا من الوحدة العضوية بين المقاربات. ولم يُحشر كل من النقاش والتحليل في إطار هذه الأسئلة على نحو آلي، فقد كان مُدركًا عند محرري الكتاب والمساهمين فيه أهمية عدم الوقوع في أسر أية أسئلة مُسبقة بشكل قسري، بل إبقاء أفق التحليل مفتوحًا، يتم فيه التعبير عن خصوصيات كل تجربة. وقد تضمنت الأسئلة الإرشادية أربع إشكاليات عريضة تناولت مستويات متعددة على النحو الآتي:
أولًا: مستوى الحركات الإسلامية ذاتها
كان السؤال المركزي هنا حول أثر الثورات العربية في العامين 2010 و2011 وما تلاها في الإسلاميين أنفسهم وأحزابهم وأيديولوجياتهم. ما الأمدية التي وصل إليها التغيير وأنجزتها المراجعات في طرائق تفكيرهم وممارستهم للسياسة، وما الذي تغيّر في برامجهم السياسية ومقارباتهم الفكرية في ضوء مشاركتهم في الثورات، سواء من ناحية الجديد المتغير، أو درجة التغيير في القديم؟ هل نجحوا أم فشلوا في تلك التجارب، وما معايير النجاح والفشل؟ ما السجالات الفكرية والتنظيرية التي تبلورت في ضوء تلك المشاركة، والأفكار النظرية والممارسات العملية التي صعدت إلى السطح أو تنحت ويمكن ربطها بتجربة المشاركة في تلك الانتفاضات أو بالموقف منها؟ ماذا كانت أولويات الإسلاميين في المشاركة في تلك الثورات، وأين تموضعت مطالب، مثل: العدالة الاجتماعية، والمشاركة السياسية، والدمقرطة، والحرية، والتحرر من السيطرة الغربية، وكذلك الأسلمة، في أجندات تشكيلاتهم المختلفة، وكيف تبلورت في حقبة ما بعد الثورات، وكيف وأين هي الآن؟
ثانيًا: المستوى الوطني والمحلي
هنا، حام السؤال المركزي حول كيفية تأثير مشاركة الإسلاميين في انتفاضات الربيع العربي في المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي في بلدانهم؟ هل ساهمت مشاركات الإسلاميين في ترسيخ القناعات الشعبية والعامة بالمطالب التي حملتها تلك الانتفاضات، مثل الحرية والديمقراطية والعدالة والمطالب الاقتصادية، أم تراجعت؟ ما العلاقات الجديدة للإسلاميين مع الأطراف السياسية المختلفة: الأحزاب وتشكيلات المجتمع المدني من ناحية، والأنظمة الحاكمة، سواء التي استمرت أو تلك التي تغيرت من ناحية أخرى؟ وكيف انعكس نمط العلاقات (الجديدة أو المتواصلة) على الأجندة الوطنية في كل بلد؟ هل تعمقت أنماط الدولة العميقة وأشكالها في بعض الحالات وتوفرت مسوغات جديدة لأنظمة الحكم السلطوية القائمة، أم انكشفت هذه الأنماط، وضعفت، وتبلورت مسارات مُستقبلية لتأسيس جديد أكثر انفتاحًا سياسيًا؟
ثالثًا: المستوى الإقليمي
كيف أثرت مشاركة الإسلاميين في الثورات العربية في المشهد الإقليمي في المنطقة، وعظّمت أو همّشت أدوار بعض الدول، أو قادت إلى بروز تحالفات جديدة، واختفاء أخرى؟ وكيف وفّر حضور الإسلاميين القوي مسوغات لتدخل قوى إقليمية ودولية، وساهم في تبدل شكل المشهد العام؟ وأين يتموضع الإسلاميون بتشكيلاتهم المختلفة في هذا المشهد بعد مرور تلك الأعوام، وإلى أين يسير ويسيرون فيه ومعه؟
رابعًا: المستقبل
كيف تأثر مستقبل الإسلاميين بوصفهم حركات أيديولوجية تبعًا لمشاركاتهم في الثورات العربية؟ وإلى أين تسير هذه الحركات في البلدان التي شهدت مشاركتهم في الانتفاضات، وفي المنطقة عمومًا؟ هل رسمت تلك الثورات والمشاركات فيها مسارات مستقبلية مُتقاربة يمكن تحديد معالمها العامة، أم أن لكل حالة مسارها المنفصل ضعيف الارتباط والتأثر بمسارات غيرها من وراء الحدود، ومرتبط عضويًا بسياقه المحلي والوطني؟
هذه الإشكاليات ليست جديدة تمامًا؛ إذ فرض بعضها ذاته على أجندة المقاربات البحثية، وتعرضت له الأدبيات السابقة، بينما تجاوز بعضها الآخر ما عالجته تلك الأدبيات وأضاف جديدًا، سواء كليًا أم جزئيًا أم من ناحية عمق المقاربة. وهي؛ أي الإشكاليات المذكورة أعلاه، تُجمل عمليًا الأسئلة التي تناولها معظم المُقاربات المهمة والرصينة التي ناقشت تجربة الإسلاميين في الثورات العربية وانخرطت في تحليلها.
على سبيل المثال، تناول أحد المشروعات المهمة التي بحثت في الموضوع ذاته، وصدر على شكل كتاب بتحرير محمد عفان، مقاربات عالجت أربعة موضوعات، وهي: تغير بنية الحركات الإسلامية، والتحول الاستراتيجي والأيديولوجي، وتقييم تجربة الإسلاميين في الحكم (موضوعيًا)، وتقييم الإسلاميين الذاتي لتجربتهم والمراجعة الأيديولوجية
[ii]. وفي السياق العريض ذاته، يدور كتاب بلال التليدي "الإسلاميون والربيع العربي"، حول ثلاثة محاور، وهي: "مواقف الإسلاميين والربيع العربي"، و"تفسير محددات صعود الإسلاميين والتحديات الذي يطرحها، والجواب الذي قدمته الحركات الإسلامية عن هذه التحديات"، و"سيناريوهات ما بعد صعود الإسلاميين"
[iii].
"ثورات عربية" أم "ربيع عربي"
قبل التوجه إلى موضوع الكتاب وفصوله، ربما وجب التوقف بعض الشيء عند المصطلح واللغة المُستخدمَيْن في نقاش الثورات العربية (أو الربيع العربي) والسجالات حولها. صحيح أن محررَي المشروع ومنظمَيه لم يفرضا لغة اصطلاحية معينة على المساهمين وأبحاثهم، وتُرك لكل منهم حرية تناول المصطلح الذي يراه مناسبًا واستخدامه، بيد أن ذلك لا يعني عدم الانحياز مفهوميًا ومعرفيًا لوصف مُحدد. فاللغة وحقولها الدلالية، أولًا وأخيرًا، تشكل سلطة معرفية، وهي في سياق السياسة والتاريخ والأفكار والأيديولوجيات؛ أي ما تحوم حوله موضوعات هذا الكتاب، ليست مُحايدة. وفي هذه الفضاءات تعمل اللغة على تخليق خطابات مُتصارعة، وتكوين أجندات مُتباينة، وتظلُ تحمل سلطة مُستبطنة، نسبية أو شبه مطلقة، وثيقة الصلة بزمنها ومكانها، وأحيانًا منفلتة منهما
[iv].
من هنا
ينحاز محررا الكتاب، وبالتأكيد أغلب، إن لم يكن كل المساهمين فيه، إلى وصف "الثورات العربية" وليس "الربيع العربي"؛ لأننا نعتقد أن الوصف الأول أكثر دقة وأصلانية من الآخر. ما وقع في البلدان العربية منذ أواخر العام 2010 والعام الذي تلاه في تونس، ومصر، ثم في ليبيا، واليمن، وسورية، والبحرين، وعُمان، والمغرب، والأردن، انتفاضات حقيقية، تنوعت درجة عمقها وجذريتها، بيد أن أسبابها عميقة وبنيوية وممتدة لعقود، ومنطلقاتها محلية وإقليمية، وشارك فيها ملايين الناس، وسقط فيها آلاف الضحايا. وفي المُجمل نتفق مع ما يقوله هشام جعفر، أحد ناشطي إسلاميي الثورة المصرية، واعتقل سنوات عدة بين 2015
و2018، إن الانتفاضات العربية هي "بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة. ويستند هذا العقد إلى 3 مقومات: الحرية/ الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية/ التوزيع العادل للثروة، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية"
[v]. وهذه المقومات جمعيًا، وخاصة أخيرها "تحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية"، هي نتاج سيرورة تاريخية ذاتية بحتة، مضغوطة بالسيطرة الغربية، وتريد الثورة عليها، وليست باحثة عن الانضواء تحت تلك السيطرة أو مشروعاتها الأيديولوجية.
مقابل السيرورة المُتولدة محليًا وما تُنتجه من خطاب ولغة، ينطوي مصطلح "الربيع العربي" على إيحاءات ودلالات وتشبيهات مستوردة من التجربة الأوروبية في القرن العشرين، كونها المِثال المُستبطن. فهذا الوصف، "الربيع العربي،" لم يولد من التجربة العربية ذاتها، وافتقر إلى الأصلانية المعرفية، إضافة إلى ما ينقله من حمولات سياسية وأيديولوجية لها علاقة بمناخ الحرب الباردة والأجندة الغربية الليبرالية التي كانت تُدرج الثورات (خاصة في كتلة بلدان أوروبا الشرقية) في سياق صراعها مع الاتحاد السوفياتي آنذاك.
تتشابه، بالطبع، الانتفاضات العربية مع كثير من الثورات في العالم، راهنًا وماضيًا، بيد أنها تتسم في ذات الوقت بخصوصيات تميزها، إن في الزمن الذي قامت فيه، أو في الدوافع، أو دور القوى الخارجية والمآلات التي انتهت إليها. والأهم من ذلك كله في كونها ذاتية الدافعية، ولم تكن امتدادًا أو استجابة، مثلًا، لأية مشروعات دمقرطة أميركية أو غربية؛ لأن مثل هذه المشروعات افتقدت أصلًا إلى الجدية في المنطقة، ولم تتجاوز الشعارات الخاوية، فالموقف الأميركي والغربي بقي في جوهره مؤيدًا لـ "الوضع القائم" ودكتاتورياته المسيطرة وقواه المضادة للثورة، واستمر كذلك إلى يومنا هذا.
وهكذا،
فإن مصطلح "الربيع العربي" الذي صُكّ في الإعلام الغربي، ويراه البعض استشراقيًا أيضًا[vi]، ينقل قسرًا حراك الثورات العربية إلى مسار "الدمقرطة الافتراضي" الذي تقوده شعاراتيًا الولايات المتحدة الأميركية، وهو نقل يحرم أبناء هذه الثورات ومن ماتوا لأجلها من ملكيتهم الحصرية لها. وقد فكك الأكاديمي إبراهيم أبو شريف، أستاذ الإعلام في جامعة نورثويسترن، مفردة "الربيع" الغربية وجذورها، وما تحمله من دلالات أسقطت على الحالة العربية، واستنتج أن وصف "الربيع العربي" لا يعكس بالضرورة سيرورة مطالب جماهير الثورات العربية وطموحاتها
[vii]. ويقتبس أبو شريف عن رامي خوري، الكاتب والباحث في العلاقات العربية والدولية، إدانة مُبكرة لمصطلح "الربيع العربي" يقول فيها: "هذا المصطلح لم يُستخدم من قبل النساء والرجال الشجعان الذين خرجوا إلى الشوارع وتظاهروا وماتوا خلال الشهور السبعة الماضية. وفي كل مرة أقابل فيها تونسيًا، مصريًا، ليبيًا، سوريًا، بحرينيًا، أو يمنيًا، أسألهم كيف يصفون فعلهم السياسي. وجوابهم المتفق عليه تقريبًا هو "ثورة"، وعندما يصنفون الحراك الجماعي لما يحدث عبر المنطقة العربية فإنهم يستخدمون وصف "ثورات""
[viii].
اندفاع الشعار وتحوّط الممارسة: تنوع التجارب
يدل الواقع الذي أثبتته مشاركات الإسلاميين، بتياراتهم المختلفة، في الثورات العربية، على تنوع التجارب، وارتباط كل منها بسياقه المحلي. فقد تعدد طيف الانخراط فيها من الكامل، إلى التردد، إلى الإحجام. وتنوعت المطالب في علو سقفها، من تلك القصوى المنادية بإسقاط النظام (والدولة أحيانًا)، إلى المطالبة بإصلاحه. وتباينت أدواتها وآلياتها من الالتزام بسلمية الثورة والانتفاض، إلى استخدام العنف المسلح المفرط. وأخيرًا، سياسيًا، من سياسات المغالبة والاستئثار من قبل الأطراف الرئيسة إلى المشاركة والتحالف، وهكذا.
وعلى الرغم من أن تنوع طيف الإسلاميين وبرامجهم وآلياتهم لم يعد يحتاج إلى دليل، فإن خطابات دمجهم في بوتقة واحدة، واعتبارهم مجموعة واحدة، ما تزال سائدة في أوساط غربية عديدة؛ حيث لا تفريق مثلًا بين تنظيمات الإخوان المسلمين التي تبنت السلمية في المشاركة في الانتفاضات وتنظيمات الجهاديين الدموية مثل القاعدة وداعش. يجادل الخطاب المعادي للإسلاميين أن الاختلافات بين تنظيماتهم تظل سطحية، بينما الجوهر واحد
[ix]. ويبدو أن ملف هذا النقاش سيظل مفتوحًا، وتقدم تجارب الإسلاميين في الثورات العربية أحدث فصول هذا النقاش.
واقعيًا وتاريخيًا، وكما ترصد فصول الكتاب، تنوعت ردة فعل قوى الإسلاميين في البلدان العربية إزاء الثورات، كما تعددت كيفيات التعامل معها، سواء لجهة الانخراط الفوري والمباشر أو التأني والتردد، أو لجهة طبيعة الأهداف والمطالب التي انخرطت فيها هذه القوى. ففي فورة تتابع الثورات سواء العربية، أو في التاريخ القريب في أوروبا الشرقية، ثمة اندفاعات فورية وعاطفية تدفع الحركات السياسية نحو تقليد الثورة التي تحدث في البلد المجاور ونسخها. وإذا أخذنا بالاعتبار الانطباع السائد حول فعالية الحماسة الديني وما يُقال عن غلبة العواطف على العقل عند كثير من الإسلاميين، فإن الاستنتاج يقودنا (مع استحضار الأجواء الملتهبة للثورات العربية وفورانها) إلى توقع انخراط فوري وشامل وعاطفي في أي انتفاضة تحدث في البلدان العربية استنساخًا لغيرها. ويرى أرماندو سلفاتور، عالم الاجتماع الذي كتب بغزارة عن أوضاع العالم الإسلامي والعربي، "إن التقليد (في مثل هذه السياقات) قد يدوس العقلانية في دفعه لما هو راديكالي"
[x]. بيد أن ما شهدته الثورات العربية من جهة مشاركات الإسلاميين فيها لا يندرج تمامًا تحت وصف التقليد اللاعقلاني، كما تفيد كل تجربة من التجارب على حدة. إن "تقليد" هذه الثورة أو تلك، أو مشاركة هذه الحركة الإسلامية أو تلك في الثورة من قبل بقية الحركات الإسلامية، تباين في الدرجة وفي المطالب والآليات، بل انتفى كليًا في بعض الحالات.
وعوضًا عن التقليد، كان السياق المحلي العامل الأكثر حسمًا في كل تجربة من التجارب. والمؤشرات التي حللتها فصول الكتاب تؤكد أن دروس الثورات العربية التي تقاربت في مراراتها، عززت في الوقت ذاته أطروحة تنوع تجارب الإسلاميين وحركاتهم ومقارباتهم. فمن ناحية الشعار والمطالب، تبنى إسلاميو مصر وتونس واليمن وليبيا والبحرين وسورية شعار "إسقاط النظام" انسجامًا مع المطلب والشعار الشعبي الذي ساد. أما في المغرب والأردن وعُمان (والكويت إلى درجة أقل) فكان الشعار أقل راديكالية، وطالب بـ "إصلاح النظام".
أما من ناحية المشاركة فنرى أن سرعة الالتحاق بالثورة وعمق الانخراط فيها تباين، وإن كان التردد الأولي والتلكؤ الطويل في بعض الحالات بدا وكأنه قاسم الاستجابة الأوضح. يشير أسامة كعبار في حالة ليبيا، وعبد العلي حامي الدين في حالة المغرب، إلى تردد الإسلاميين الكبير في النزول إلى الشارع في المرحلة الأولى للانتفاضتين الليبية والمغربية. في ليبيا، بحسب كعبار، كان الإسلاميون قبيل الثورة مباشرة على تواصل مع سيف الدين القذافي حول مشروعه "ليبيا الغد"؛ حيث "شارك بعض الشخصيات البارزة من الجماعة في اجتماعات النظام الساعية إلى وضع استراتيجية لاحتواء وإجهاض الثورة في الأيام الأولى لها". وفي المغرب، بحسب حامي الدين، التزم الإسلاميون بسياسة "الإصلاح في ظل الاستقرار"، وخشيت قياداتهم من النتائج غير المحسوبة التي قد يذهب إليها المغرب بسبب الثورة.
وأما في جانب استجابة السلفيين، فقد تبدّى التباين بشكل أكثر اتساعًا؛ حيث تأخرت كثيرًا مشاركة التيارات السلفية التي كانت ملتزمة بـ "عدم الدخول في السياسة" في سنوات من قبل الثورات، وخاصة في مصر، كما يوضح تحليل خليل العناني المُعلم في فصله عن تجربة السلفيين المصريين. في بلدان الملكيات العربية (الخليج تحديدًا)، أحجم السلفيون عن المشاركة في الثورات، واعتبروها، فتنة ومالوا إلى التحوّط الشديد منها؛ ما قادهم إلى دعم الأنظمة والوضع القائم بالمعنى السياسي الحديث. وارتبك وضعهم على نحو كبير في البحرين خاصة، كما يشرح باقر النجار في تحليله الحالة هناك، بسبب غلبة البعد الطائفي الشيعي على الثورة. وعلى الضد من ذلك، برزت استجابات السلفيين الجهاديين مثل القاعدة وداعش؛ حيث تبنت منذ البداية استخدام العنف في الحالات والظروف التي أتاحت ذلك، وخاصة في سورية وليبيا واليمن.
الهوامش:
[i] من ضمن الأدبيات المبكرة التي تناولت هذا الموضوع بالعربية، انظر:
بلال التليدي، الإسلاميون والربيع العربي: الصعود، التحديات، تدبير الحكم - تونس، مصر، المغرب، اليمن (الرياض: مركز إنماء للبحوث والدراسات، 2012)، وهذا الكتاب ربما كان القراءة النقدية الشاملة الأولى في الموضوع؛
نواف القديمي، الإسلاميون وربيع الثورات – المُمارسة المُنتجة للأفكار (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012).
وفي سنوات لاحقة صدر عمل جماعي حرره عبد الله محمد الطائي، الإسلاميون بعد عقد على الربيع العربي (عمان: معهد السياسة والمجتمع ومؤسسة فريدريش إيبرت، 2021).
ومن الأدبيات باللغة الإنجليزية المبكرة كتاب
John Bradley, After the Arab Spring: How Islamists Hijacked the Middle East Revolts (Palgrave Macmillan, 2012).
وجادل الكاتب فيه أن الإسلاميين اختطفوا الثورات العربية وحرفوها عن أهدافها، وأنهم على نحو أو آخر تحالفوا مع الإدارة الأميركية والرجعية العربية وحتى مع إسرائيل لإجهاض الثورات وتقدميتها.
ومنذ سنوات عدة، صدر كتاب مهم كان خلاصة مشروع بحثي معمق حول الإسلاميين والثورات العربية:
Mohammad Affan (ed.), Transformation of Political Islam in a Changing Regional Order (Istanbul: AL-Sharq Forum, 2019).
وهناك أيضًا كتاب مهم حرره خليل العناني، تضمن عددًا من الحالات الدراسية (مصر وتونس واليمن والأردن والكويت والمغرب)
Khalil al-Anani (ed.), Islamism and Revolution Across the Middle East: Transformations of Ideology and Strategy After the Arab Spring (London: I. B. Tauris, 2021).
[ii] Mohammad Affan, Transformation of Political Islam, pp. 2-13.
[iv] ثمة حقل معرفي ضخم يتناول دور اللغة في تشكيل الواقع وعلاقتها التكوينية بالخطاب والأيديولوجيا والسياسة،
انظر كتابات اللغوي البريطاني نورمان فيركلاف حول تحليل الخطاب السياسي، وخاصة كتابه الكلاسيكي
Norman Fairclough, Language and Power (London: Routledge, 2015).
[v] هشام جعفر، "الإسلاميون وأزمة السلطة بعد عقد من الربيع العربي"، الجزيرة نت، 19/6/2021: الرابط.
[vi] Brecht De Smet, Gramsci on Tahrir: Revolution and Counter-Revolution in Egypt (London: Pluto Press, 2016), p. 2.
[vii] Ibrahim Abusharif, ‘Parsing “Arab Spring,”’ Occasional Paper Series, Northwestern University/Qatar, February 2014.
[viii] Quoted in Abusharif, Ibid., Rami Khouri, “Drop the Orientalist Term ‘Arab Spring,’” Daily Star, 17/8/8 2011.
[ix] هناك كوم من الأدبيات التي تندرج تحت هذا التصنيف، انظر مثالًا منها ما تكتبه ليان هرسي:
Ayyan Hirsi Ali, ‘How to Counter Political Islam: The Western focus on “terror” and “violent extremism” has failed,’ Hoover Institution, 22/3/2017: Link
[x] Armando Salvatore, ‘New Media, the “Arab Spring,” and the Metamorphosis of the Public Sphere: Beyond Western Assumptions on Collective Agency and Democratic Politics,’ Constellations, Vol. 20, No. 2, February 2013, pp. 2-17-28.
"الآراء الواردة في المواد المنشورة في موقع معهد العالم للدراسات تُعبِّرُ عن رأي أصحابها، ولا تُعبِّرُ بالضرورة عن آراء المعهد والقائمين عليه"