محرّكات الأصولية الإسلامية

07 تشرين2/نوفمبر 2018
 
ترجمة: جهاد الحاج سالم

[نشر هذا النصّ بالفرنسيّة تحت عنوان « Les ressorts du fondamentalisme islamique »، في العدد 185 من مجلّة "جدل" (Le Débat) الصّادر في الفصل الثّالث من سنة 2016.]
 
ملاحظة:
 
هذا النصّ عبارة عن تفريغ لحلقة دراسيّة ساخنة مرتجلة تحت صدمة هجمات السّابع والتّاسع من يناير الماضي، مسعاها الاستجابة إلى تحدي استغلاق الفهم، وحدودها رهن هذا الهدف. فلا طموح لها سوى فتح منظور من البيّن أنه يقتضي الكثير من التدقيقات والمزيد من التطويرات.
 
إنّ الدّين بصدد التحوّل إلى أكثر شؤون العالم استغلاقاً علينا، نحن معشر الأوروبيّين في مستهلّ هذا القرن الواحد والعشرين.

وقد قدّمت لنا ردود الفعل على هجمات باريس في شهر يناير الفارط شهادة صارخة عن ذلك. فمن جهة أولى، رصدنا ردّة فعل غرائزيّة ورائجة بقوّة، فحواها انكار الدينيّ، فالأمر لا علاقة له بالدّين! كما يُستبعد أن يكون الدّيني المحرّك الحقيقي لأفعال من هذا القبيل، ولا بدّ من وجود بواعث أمتن وأقوى، إذ أنّ الدين لا يعدو في الأكثر مجرّد تعلّة، أي عقلنة سطحيّة قياساً بدوافع أخرى محدّدة لا يُمكن أن تكون إلاّ من طبيعة اجتماعيّة اقتصاديّة، مثل الفقر والتهميش والإقصاء، وباختصار "الفصل العنصري" كما اختزل الأمر رئيس الوزراء [الفرنسي] على نحو أخرق بقدر ما هو معبّر. ثمّ، من جهة أخرى، ردّة فعل أكثر تدبّراً في مسار العالم وإلماماً بشؤونه وإدراكاً للشأن الدّيني، لكنّها مفتقدة في نهاية المطاف إلى التبصّر المطلوب.

فقد اتخذ هذا الادراك شكل نقد ذاتي مفاده: لقد اعتقدنا سابقاً في انتصار التنوير الغربي، وكنّا مخطئين في ذلك. وها هو الإيمان يصحو في جلّ الأصقاع، إلى حدّ بات فيه الارتداد الأوروبي عن الاعتقاد استثناءً على وجه المعمورة. وها نحن نتلقّى صفعة "عودة الدّيني" الذي يكسر خيلاءنا نحن معشر الحداثيّين. بيد أنّ إدراك هذه الصّحوة لا يفسّر في حدّ ذاته التوجّه نحو الإرهاب، إذ أنّ الصّلات بين الإرهاب والحاجة المفترضة إلى الاعتقاد لا تبدو بديهيّة. ومن هنا إضافة متغيّر آخر إلى المعادلة، مثل التعصّب أو الاختلال العقلي أو اضطراب الشخصيّة أو البؤس الاجتماعي، وبذلك نعود إلى المربّع الأوّل. وسواء تعلّق الأمر بذريعة أو بانخراط صادق، فإنّنا نسيء في الحالتين فهم الظاهرة التي نحن بصددها.

ويُبيّن هذا الانكار، وهذه الحيرة، وهذا التخبّط، في الواقع إلى أيّ حدّ خرجنا من الدّين. فقد ابتعدنا عنه إلى حدّ أنّنا لم نعد ندرك معه ما يختزنه من قدرة على التعبئة، وأنّ ما بقي لنا من معرفة به لا يسمح بالانخراط في تعبيرات عنيفة مثل تلك التي تتهدّدنا. فمرجعيّاتنا العفويّة للدّين تحجب عنّا فهم ما كان يؤدّيه من دور في ماضينا، كما يحجب الدّور الذي مازال يؤدّيه في جزء واسع من مجتمعات العالم، وما تمثّله صحواته الرّاهنة. ولتجلية هذه الأمور، ينبغي الخروج من أسر المركزيّة الإثنيّة، والعودة إلى الطبيعة الأوليّة للظاهرة الدينيّة التي يمثّل التحرّر منها بالذّات، جوهر الحداثة الأوروبيّة.
 
الخروج من الدّين وعودات الدّيني

عبر تناولها من هذا المنظور، تكتسي الإحياءات الأصوليّة كالتي تُلهم جهاديّينا، دلالة أخرى. فهي تندرج في خطّ مسار الخروج من الدّين الذي علينا تذكّر كم كان عسيراً وصراعيّاً داخل تاريخنا، كما لم تكن نتاج "عودة الدّيني" التي جاءت لتكذّب تطوّرات "العلمنة" التي نعزوها عادةً إلى "التّحديث". إنّها نتاج عمليّات إعادة تعبئة متناقضة لأصل ديني من نفس نمط التعبئة التي شهدها تاريخنا كردود فعل على تمدّد مسار الخروج من الدين وتقدّمه، وهو خروج من الدّين انبثق في الغرب ليغدو اليوم كونيّاً بفضل العولمة، وكان لانتشاره ردود فعل مضادّة من قبل المجتمعات التي تكابده. ذلك أنّ العولمة وإن كانت تدفع بالمجتمعات في نفس المسار التاريخي، إلا أنّ هذا الدّفع يجري انطلاقاً من تواريخ مختلفة جذريّاً، وهو ما يقتضي التنبّه للمسألة، وتجنّب الركون إلى الراهنيّة التي تنزع إلى وضع جميع تلك التواريخ على نفس الصعيد.

ومن أجل فهم هذه الحركيّات باسم الله، لا مندوحة من التخلّي عن التصوّر المعتمد بقوّة بشأن الدّين في الثقافة الحاضرة. فبالنسبة إلى الإنسان الغربي المعاصر، يتمثّل الدّين في معتقدات ميتافيزيقيّة فرديّة، تقوم على الشعور وتتّصل بالمصير الإنساني خارج دائرة المحسوس، وهي معتقدات ترتبط أساساً، وليس ضرورةً، بسلوكيّات طقسيّة وتعبّديّة. غير أنّ ما يحدّه هذا التعريف لا يعدو الدّين كما صار في العالم الغربي منذ أقلّ من قرنين، بفعل القطيعة التي انبثقت عنها الحداثة. لذلك نرى فيه مغالطة فظيعة حول الماضي.

فقد كان شأن الدّين، على مستوى المغامرة البشريّة، شيئاً مختلفاً وأكبر من ذلك بكثير. لقد كان منهج وجود شامل للمجتمعات، أي طريقة تُعرّف نفسها بها وتنتظم من خلالها. كما كان نمط انتظام الجماعات البشريّة في موازاة الغيريّة المقدّسة. ومن ذلك حقّت تسميته نمط انتظام خاضع بأتمّ معنى العبارة، نظراً لاقترانه بتنزيل قانون الآخر الخارق للطبيعة في جميع مناحي الوجود المشترك. وقد وُجدت ألف طريقة وطريقة لتجسيد هذا الدفق من الاستعدادات العمليّة الذي يحدّد أساس الوجود الجمعي، وتأطيره ثقافيّاً. لكن هذا الخضوع إلى الأساس اللامرئي يُظهر في عمقه، وخلف وجوهه المتعدّدة، انتظاماً مذهلاً في سماته، وهي سمات علينا التذكير بها باقتضاب في هذا المقام، مع ما في ذلك من ابتسار.

مع الإيغال في التّبسيط، يمكن ردّ هذه السّمات بمجملها إلى أربعة استعدادات أساسيّة، مما يتيح حدّها في أربعة مفاهيم: التقليد، والهيمنة، والتراتبيّة، والتجسيد. ولا يغرّنك الألفة الزائفة التي توحي بها هذه المفاهيم الأربعة، إذ يجب أن نردّ إليها فعاليّتها الأصليّة قبل أن تذوب في حمّام الحداثة.
 
في المقام الأوّل، يتمثّل الانتظام الديني في طريقة تنظمّ بها المجتمعات نفسها في الزّمان في إطار الخضوع إلى الماضي، ولكن ليس أيّ ماضٍ، بل الماضي المؤسِّس، أي الانقياد إلى أصل الدَّيْن تجاه نماذج السّلف، أو باختصار الامتثال إلى التّقليد.

وفي المقام الثاني، يتمثّل الانتظام الخاضع في نمط من السّلطة يعكس التبعيّة تجاه أصل متعيّن في العالم الآخر، ويجسّم هذه الخارجانيّة القاهرة في هيئة تعالٍ مقدّس، وهو ما يبرّر الحديث عن هيمنة بأتمّ معنى الكلمة.

وفي المقام الثالث، يتحدّد الانتظام الخاضع بإقامة رابطة مخصوصة تصل كائنات متمايزة الطبيعة بعضها ببعض، من خلال إحكام الصّلة بين العالية منهم والسّفلى. وهو ما يمكننا تعيينه تحت مفهوم التّراتبيّة.

وختاماً، وفي المقام الرابع والأخير، يتحدّد الانتظام الخاضع عبر إقامة رابطة بين الأفراد ومجتمعهم على أساس خضوع الأجزاء الفرديّة إلى الكلّ الجمعي. وهو ما اقترح لويس دومون (Louis Dumont) تسميته الشموليّة. لكن يبدو لنا أنّ مفهوم التجسيد قد يكون أكثر دلالة عن العمق المحسوس لهذا التعيين الذي يضع الوجود الشخصي تحت عباءة الانتماء الجماعوي.
 
 
ومقابل ذلك، تمثّلت خصوصيّة التاريخ الأوروبّي منذ القرن السّادس عشر في القطع مع نمط الانتظام الخاضع هذا وتعويضه بنمط انتظام آخر يقلب جميع تمفصلاته نقطة نقطة. وهذا هو بعينه الخروج من الدّين، أي الخروج من الانتظام الدّيني للعالم البشري الاجتماعي. وقد سلك هذا الخروج مساراً وعراً بقدر ما هو مضطرب امتدّ على خمسة قرون، وتولّد عنه نمط انتظام للعيش المشترك يمكن أن نسمّيه بحقّ نمط انتظام ذاتي، لأنّه يقوم على تولّي البشر صنع قانون عالمهم. وبدل التجسيد الشمولي، طرح الفردانيّة، أي الأسبقيّة المنطقيّة للذرّة الفرديّة على الكلّ الجمعي. وطرح بدل الاعتماد التّراتبي المتبادل، التساوي الطبيعي بين كائنات يُفترض استقلالها عن بعضها منذ الأزل. وطرح بدل السلطة المهيمنة باسم خارجانيّة فوطبيعيّة، قيام السّلطة على تمثيل المجتمع. وأخيراً، استبدل الخضوع إلى نماذج الماضي، بالاختراع العملي للمستقبل. ويُمثّل اختراع المستقبل الذروة القصوى لإنتاج البشر عالمهم وقوانينه، من بعد خضوعهم للأسلاف والآلهة طيلة آلاف السنين.

وقد كان هذا المسار معركة حامية الوطيس في جميع مراحله، حيث واجه منذ بدايته محاولات هدفت إلى تعطيله وكبح جماحه في سبيل استعادة الشكل الديني المتآكل وإعادة بنائه. وقد دشّن لوثر أولى هذه المحاولات بإدانته زيغ كنيسة روما عن التقليد المقدّس ودعوته إلى استرجاع الأصول المسيحيّة النقيّة. وقد كانت تلك مبادرة يكتنفها التباس صارخ يختزل مجمل إشكاليّتنا، إذ سيكون للتهجّم على تراخي الكنيسة الرسميّة واطّراح وصايا الإيمان، أثر على المدى الطويل معاكس للمقصد المنشود. فقد أدّت الرغبة الصّارمة في إعادة تنصير مجتمع المؤمنين عمليّاً، إلى ارتخاء نفوذ الدّين المسيحي على حياة المجتمعات. ولم ينفكّ هذا الانزياح بين المشروع الواعي وآثاره الاجتماعيّة الفعليّة يتردّد في جميع المراحل كلّما أطلّ السعي المحموم إلى استعادة النظام الخاضع برأسه من جديد. وليست آخر اطلالاته عنّا ببعيدة، فقد ظهر إلى حدود منتصف القرن العشرين بلبوس الديانات العلمانيّة، تلك الديانات الجاهلة بطبيعتها الدينيّة وطموحها إلى إعادة بناء الشكل الديني في قلب الحداثة ذاتها. وقد تجسّد هذا الطموح المجنون في صورتين متعاديتين، صورة الشيوعيّة التي كانت تنشد الانتظام الذاتي من خلال الإخضاع، والنازيّة التي كانت تنشد الإخضاع من خلال الانتظام الذاتي.

والحقّ أنّه يجب استحضار هذه الإحياءات الماضويّة، أو المتلبّسة لبوس الماضويّة، التي طاف بها المسار الحديث، كي نتناول بعقل راجح الصحوات الأصوليّة التي تؤثّر اليوم في مجمل المعمورة وفي مجمل التقاليد الدينيّة. ذلك أنّه ينبغي التّشديد على أنّ الفوران الذي تعيشه المنطقة الإسلاميّة، وإن بلغت حدّته مبلغاً دراماتيكياً، إلاّ أنّه لا يمثّل ظاهرة معزولة. فلا يجب أن يعمينا ذلك عن الطّابع الكوني للاهتياج الدّيني الرّاهن الذي يزلزل العالم بأسره. فصحوات الدّيني الرّاهنة، بتفاوت درجات حدّتها، تعتمد نفس الإواليّة التي يشهد عليها تاريخنا بأكثر من شاهد، مع مراعاة الفروق التي تعود أساساً إلى مفعول الخروج من الدّين. فهي في أساسها ردّات فعل على اختراق الحداثة التلقائي، وردّات فعل لا تقلّ تناقضاً عن مثيلاتها في تاريخنا.

كما أنّها أيضاً، بطريقتها الخاصّة، تلاؤمات مع ما ترفضه ومع تحوّلات الدّين التي تدّعيها، والتي تبعد الدين عن النموذج المثالي الذي تدّعي الوصول إليه. إنّها لا تُعيد تنظيم العالم دينيّاً، بل تشارك في هدمه. ذلك أنّ الإيمان الفردي للفاعلين والهدف الذي يقصدونه شيء، وبنية الوجود الجمعي التي يساهمون فعليّاً في تكوينها من خلال أفعالهم شيء آخر، وهما في هذه الحالة، متنابذتان. أمّا الفردانيّة الدينيّة التي يدعو إليها الأصوليّون دون تدبّر، فهي أنجع ترياق لوأد النظام الذي يحلمون بتشييده. ومن النّافل التنويه إلى أنّ هذا القول لا ينفي الآثار الهدّامة النّاتجة عن ديناميّة التدمير الذاتي التي قد ينخرط فيها الأصوليّون. لذلك ينبغي التنبّه دائماً إلى محرّكات هذه الديناميّة في سبيل مواجهتها بالحدّ الأدنى من الذّكاء الاستراتيجي.

يبقى أن نضيف تدقيقاً آخر يساعدنا في إدراك ساحة هذه المواجهة في مجملها، ويساعدنا خصوصاً في إدراك جذور التصوّر المغلوط الذي يحدّ من قدرة مجتمعاتنا على التخلّص من الأديان. ذلك أنّ الخروج من الدّين لا يعني نهاية الأديان، بل يعني تغيّر موقعها ودورها. فهو يفكّ ارتباطها بالتكوين الجمعي، وينزع منها وظيفتها الأساسيّة بوصفها مفتاح الانتظام الاجتماعي. ولئن كان تجريد الأديان من وظيفتها الأساسيّة يتبدّى عموماً في حركة ارتداد صريح عن الانتماء والممارسة الدينيّة، إلا أنّه يترك المجال واسعاً لاستمرار الأديان ضمن انتظام ذاتيّ الانضباط، باسم حريّة الضمائر، في شكل أفكار ومشاعر دينيّة مفرغة من وظيفة احتواء الوجود الجمعي وتأطيره التي مارستها على الدّوام. لكنّ المستجدّ، في هذا الوضع عندنا نحن الأوروبيّين، هو أنّ تحييد الأديان الذي دام قرنين من الزمان كان خلالهما رهان معركة ضارية، قد بلغ اليوم منتهاه. ولعلّ خير دليل على ذلك هو تجذّره في ضمائر المؤمنين، لتنقضي هذه المعركة دون رجعة.

ويُمثّل هذا الصلح أحد أقوى الشواهد على اكتمال مسار الخروج من الدّين في أوروبّا، وهو أمر تتفرّد به هذه القّارة على وجه البسيطة. وهذا الاستثناء الأوروبيّ مرتبط أساساً بدرجة تحقّق مسار الخروج من الدّين. فقد بلغ هذا المسار شأواً في أوروبّا إلى درجة أنّه استولى على روح المسيحيّة فيها وشرع في تغييرها من الدّاخل، إلى حدّ دفع الكنيسة الكاثوليكيّة، وهي التي تشبّثت طويلاً بمبدأ السّلطة الكنسيّة في معارضة روح الحداثة، إلى الانخراط في الديمقراطيّة دون قيد أو شرط. ومن أوانه، صار الفصل بين المرجعيّة الميتافيزيقيّة والنظام السياسي قوام مفهومنا السّائد عن الدّين. وهذا ما أسهم في خلق مناخ غير معهود من التسامح يستوعب في رحابه جميع المقالات الدينيّة، رغم أنّ نشأته لا تعود إلاّ إلى بضعة عقود خلت. لقد انقضى الزمان الذي كانت فيه الهويّة التقدميّة تتحدّد عبر ضرب من الماديّة المناضلة، وفي قطيعة مع الروحانيّة المنبوذة، وحيثما كان ذلك، بتنا نشهد الترحيب الحارّ بتمظهرات الروحيّ ونزعاته.

إلا أنّ هذه النزعات المسالمة فوجئت خلال العقود الأخيرة بقدوم ديانات أخرى، وعلى رأسها الإسلام، لم يسبق أن تعرّضت في مجملها، إلاّ بدرجة محدودة، إلى ضغط مسار الخروج من الدّين، ولم يترسّخ فيها الانفصال مع المعيار الجمعيّ بأيّ شكل من الأشكال. فهي ديانات موجّهة، كما كان حال الأديان على الدّوام بأشكال مختلفة، إلى ترشيد المعيش المشترك وتأطيره، ممّا يجعل اندماجها في الإطار الفكري والأخلاقي الذي تفرضه الحداثة المنضبطة ذاتياً أمراً عسيراً. بذلك، يبدو أنّنا نخلط تحت مصطلح الدّين بين وقائع مختلفة. والحقّ أنّه لا فائدة من الإشاحة بوجوهنا عن مواجهة الحقيقة، فالالتقاء لا يمكن أن يكون إلاّ متوتّراً، خاصّة وأنّ إرادتنا الطيّبة تؤشّر عادةً على جهلنا بمحاورينا.
 
العولمة والتّغريب والدّين

إلا أنّ ما يحدث على أرضنا لا ينفصل عما يحدث في المجال الأصلي لهذه التقاليد الدينيّة غير الغربيّة. وفي هذا الشأن، تمثّل العولمة معطى جديداً في الوضعيّة التاريخيّة الحاليّة، نظراً لكونها تضفي على الخروج من الدّين بعداً كونياً.

وفي الواقع، ومن أجل إدراك العمق التاريخي الشّامل لهذه الظاهرة، لا يجب الوقوف عند العولمة الرّاهنة، بل العودة إلى العولمة الإمبرياليّة الأولى في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فقياساً بالموجة الأولى التي اتّسمت بالهيمنة الاستعماريّة الأوروبيّة، قد يصحّ تسمية الموجة الثانية التي نعيشها حاليّاً في ختام القرن العشرين ومستهلّ القرن الواحد والعشرين، بـ"العولمة التجاريّة". والجامع بين العولمتين، ومن الشجاعة تسمية الأشياء بمسمّياتها، هو سعيهما إلى تغريب العالم. ونعني بذلك سعيهما الكوني إلى نشر أنماط تفكير وأنماط نشاط تطوّرت في الأصل في الغرب، وخاصّة في المجال الاقتصادي، لكن دون أن تقتصر عليه. فوراء الحساب الاقتصادي ذي النمط الرأسمالي، يُوجد الفكر العلمي، وبشكل أوسع، العقلانيّة الغربيّة، كما تُوجد التقنية وعالم الصناعة مع استتباعاته التي تجاوزت كلّ مدى.

وبينما نشرت العولمة الأولى هذه المنتجات عبر القسر الاستعماري، ها هي العولمة الثانية تنشرها بطريقة أسرع وأعمق عبر اعتناقها من قبل الشعوب التي كانت بالأمس مُستعمرة أو واقعة تحت الهيمنة الغربيّة، بشكل أو بآخر. ويرتبط هذا الانقلاب في معادلة العولمة الثانية بطابعها السياسي المحتجب وراء بعدها الاقتصادي. حيث تعمل ديناميّتها على نزع الإمبرياليّة عن العالم وتعميم نموذج الدولة القوميّة، أي إبراز قدرة الشعوب في تقرير مصيرها، ومن ذلك تملّك أدوات الغرب من أجل منافسته. وبذلك، يتقدّم التّغريب الثقافي بنفس وتيرة تخفيف التأثير الغربي السياسي. إلاّ أنّ ديناميّة هذه الظاهرة لا تتوقف في حدود مساءلة السيطرة الغربيّة، بل تحمل في صلبها أيضاً مفاعيل داخليّة تتعلّق بضرورة التطابق بين الدّولة والأمّة. وهي مسألة ستصير مستقبلاً في غاية الأهميّة، إذ تستتر وراء العولمة التجاريّة، كما سنرى لاحقاً، عولمة أخرى ديمقراطيّة.

وفي جميع الأحوال، فإنّ التغريب يظلّ برّانيّاً بحكم طبيعته، سواء كان عن طريق القسر أو الاستيعاب. فهو يدفع تلك الشعوب إلى تقبّل عناصر أو أدوات أو عوامل قادمة من خارجها وفي شكلها النّاجز، في حين أنّها تطوّرت في الغرب بطريقة جوّانيّة وعلى امتداد مدّة طويلة من الزمن. وهذا التركّز الزمني هو أحد أبعاد الظاهرة، ولا ينبغي لنا تناسي ذلك. فالعولمة تعني إجبار الشعوب والأمم غير الغربيّة على أن تستوعب في بضع عقود، تحوّلاً عظيماً استغرق إنجازه في الغرب خمسة قرون، وهذا لعمري عدم تساوق مدهش قد يكون له مفعول مدمّر في بعض الحالات.

ذلك أنّ أنماط التفكير المتّصلة بالعقل العلمي، وأنماط النشاط والانتظام المتّصلة بالفضاء الصناعي والرأسمالي، حتى نقصر الحديث عليها، هي من منتجات الخروج من الدّين والتعبيرات النموذجيّة للانتظام ذاتيّ الانضباط. بل هي تجسّدها عينيّاً، وإن كانت لا تقول ذلك. فحين نستورد علم الميكانيكا الكمّي أو الرياضيّات الماليّة، فنحن لا نتلقى معها تنبيهاً مفاده: احذر الخروج من الدّين! إلاّ أنّ الأمر كذلك بالفعل. فحين نتقبّل هذه الأشياء والأدوات وأنماط التفكّر والفعل، فإنّنا نُصاب معها بعدوى روح الانتظام ذاتيّ الانضباط، وذلك على عكس الانطباع بإمكان نيلنا هذه دون تلك، فهذا صحيح في الظّاهر، لكنّه مستحيل في الواقع. وهو عين الوهم المؤسّس الذي يقوم عليه التّغريب، والفخّ الذي ينصبه لكلّ من يسعى إلى امتلاك أدوات القوّة الغربيّة مقابل نبذ الإطار الفكري والاجتماعي السياسي الذي نشأت ضمنه، فهما متلازمان.

وفي ذلك ضرب من النفاق غير المقصود من جانب الغرب، حيث يبيع غير ما يسوّق. فحين نشتري هذه التدابير أو طرق الاشتغال، أو نختلسها والأمر سيّان، ندخل رغماً عنّا الإطار الفكري والبنيوي لمسار الخروج من الدّين. فهو مستبطن في هذه الموضوعات، كما ينتشر من جهة أخرى من خلال انتظام المعمورة ضمن نموذج الدّول القوميّة. وبهذا، يغدو الخروج من الدّين مساراً كونيّاً، كما يغدو أيضاً أكثر إلحاحاً.

وهذا ما يعني وجود هوّة بين ما تختزنه هذه المجتمعات، من تاريخ وموروث ثقافي وديني مخصوص، وما يجب عليها استيعابه. وهي هوّة تفرض عليها بذل الكثير من جهد التكيّف، خاصّة وأنّ استيراد أنماط التفكير وأنماط الأنشطة خارجيّة المنشأ يترافق دوماً مع انجراف أنماط المعيش التقليديّة وتمزيقها وهدمها، ولو بدرجات متفاوتة، كما يؤدّي إلى التشكيك في العلاقات الاجتماعيّة التي مازالت تتحدّد على نطاق واسع وبدرجات متفاوتة من خلال الانتظام الخاضع.

وفي مواجهة هذا التحدّي، ينشأ الإنكار والرّفض وردّ الفعل والبحث عن بديل دفاعي. وتتمثّل النقطة المثيرة هنا في أنّ ردّة الفعل، تستبطن بشكل أو آخر ما تحاربه، لأنّها تجهد في السيطرة عليه. ذلك أنّ العولمة تستثير في النظام الخاضع صحوات كامنة فيه تمثّل في الواقع، ودون وعي ولا تدبير منها، استيعابات لدواليب انضباط ذاتيّ مُجبرة على الخضوع لها.  

وبذلك، فإنّ صحوات الدّيني الأصلاني، أي تطلّعاته إلى استعادة حقيقة الحياة الأصليّة التي تُمليها القاعدة المقدّسة، باعتبارها حقيقة ضائعة أو مهدّدة بالضياع، تعتمل في جميع التقاليد الروحيّة بدرجات ووجوه مختلفة. وهي اختلافات تعود إلى الجغرافيا المتمايزة لعدم الثبات الذي أحدثته عولمة الخروج من الدّين في مجتمعات ما يزال تأثير الانتظام الخاضع فاعلاً فيها، بما يفسّر تشبّثها به أو تطلّعها إلى استعادته.

وينبغي التنويه ضمن هذه الجغرافيا المتمايزة، إلى أنّ الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة الأوروبيّة يعتبران أكثر تقليدين روحيّين تنخفض فيهما حدّة هذه النزعة الارتكاسيّة إلى أدناها. وليس ذلك من باب الصدفة، ولا هو علامة على فضائل أصيلة فيهما، بقدر ما هو علامة على تجذّر مسار الخروج من الدّين في أوروبّا. فقد تلاشى الإطار الذي يمكن فيه الدعوة إلى استعادة سلطة الدّيني ضمن التّقليدين الكاثوليكي والبروتستانتي، إلى حدّ أنّ الفاعلين المنخرطين فيهما، مهما كانت شدّة حماسهم وإيمانهم وورعهم، لم يعد بمقدورهم التفكير في استحضاره مجدّداً.
 
 
 
الظرفيّة الشموليّة والظرفيّة الأصوليّة

هذا هو الإطار العامّ الذي ينبغي أن نعيّن ضمنه مثل هذه الظواهر الارتكاسيّة التي لا نعثر لها على مفهوم أقلّ سوءاً من مفهوم "الأصوليّة"، مؤشّرين بهذا المصطلح على المشروع السّاعي إلى إعادة الدّين إلى موقعه صلب الانتظام الجمعي([1]).

فقد نشأ مصطلح الأصوليّة ضمن فضاء هذه الصحوات الدينيّة، وتحديداً صحوة البروتستانتيّة الأمريكيّة في بداية القرن العشرين. لقد كان يشير حينها إلى وضع "أصول" الإيمان في الواجهة، أي أصوله التي لا سبيل إلى التساهل بشأنها، وعلى رأسها عصمة النصّ الإنجيلي أو لنقل، بمصطلحات كلاسيكيّة، الالتزام بحرفيّة الكتاب، من قبيل التشبّث بخلق الكون والإنسان في معارضة نظريّة التطوّر، والذي ما يزال رهاناً حيّاً في الأصوليّة البروتستانتيّة الأمريكيّة إلى هذا اليوم. تجاوزاً لهذا المعنى الأوّلي، توسّع مفهوم الأصوليّة منفصلاً عن أصحابه الأصليّين، وصار يؤشّر على كلّ مسعى لإرجاع الدّين إلى موقعه المحوري في انتظام الوجود الجمعي.

بعد تحديد إطارها، ينبغي علينا الآن الشّروع في وصف الظاهرة بدقّة. وفي البدء، يقتضي ذلك ادراكاً وافياً للظرفيّة التاريخيّة التي تندرج ضمنها. وفي نظرنا، تتطابق الظرفيّة الأصوليّة مع لحظة وتّشكل محدّدين لحالة التنافس التّامة بين الانتظام ذاتيّ الانضباط والانتظام الخاضع، حسب شكلين مختلفين. فمن جهة، نجد الحالة الغربيّة، إذا استثنينا في هذا الصدد الفروقات المهمّة بين أوروبا والولايات المتّحدة، وهي تتّسم بتجذّر الانتظام ذاتيّ الانضباط إلى حدّ أنّ الانتظام الخاضع لم يعد من الممكن تصوّره أصلاً من قبل الفاعلين في هذه المجتمعات.

ومن جهة أخرى، الحالة غير الغربيّة، لو جاز لنا استخدام مثل هذا المصطلح الفضفاض، حيث صار الانتظام الذاتي، بفضل العولمة، أفقاً اجباريّاً يفرض شروطه على مجتمعات ما زال يفعل فيها الانتظام الخاضع فعله بقوّة، فيما تخترقها الحداثة جارفة أُسّ هويّتها. ذلك أنّ الحداثة، إذا قاربناها من منظور آخر غير منظورنا المألوف، تطرح نفسها على المجتمعات التي لم تساهم في تطوير التاريخ الغربي من داخله، ولو تلقّت هزّاته من خارجه، كعرض يستحيل ردّه. فمهما بدت الحداثة غريبة في مبادئها وتعبيراتها، إلاّ أنّها تشي بوعود براّقة لم نر أيّ مجتمع يتمنّع عنها إلى حدّ اللحظة. فالحداثة تتلبّس وجه قدر محتوم يضع الهويّة الموروثة موضع مساءلة جذريّة، وهذا ما يكمن في أصل الموقف المتوتّر من الحداثة والأفراد الذين يمثّلونها.

وتتّخذ ظاهرة السلوك الإنجذابي- الطردي إزاء الحداثة، هيئات مختلفة ينبغي تعيين كلّ منها ضمن سياقه المخصوص. لكن ذلك لا يمنع وجود ظرفيّة شاملة وراء تعدّد الوجوه التي يكتسيها هذا المشكل العامّ. وقد سبق أن تناولنا، آنفاً، واحداً من عناصر هذه الظرفيّة في حديثنا عن العولمة الثانيّة. لكن حتى نلمّ بها بشكل وافٍ، من الأجدى أن نضعها موضع المقارنة مع الظرفيّة الشموليّة كما سعينا إلى بيانها في التاريخ الأوروبي([2]). ولا يعني ذلك البتّة الخلط بينهما، فهما شديدتا التباين في نظرنا، وتباينهما الشديد هو عين ما يدعو إلى المقارنة بينهما.

إنه تباين زمني في المقام الأوّل. فقد جاءت الظرفيّة الأصوليّة عقب انقضاء الظرفيّة الشموليّة، بل قُل أنّها نتاج تلاشي الظرفيّة الشموليّة، حيث يمكننا تأريخ بدايتها بدقّة مع حلول العام 1979. فقد شهدت هذه السنة ثلاث أحداث دامغة، تبيّن جيشان الحدث الأول في إبّانه، فيما تطلّب الحدثان الآخران بعض الوقت حتى يكشفا عن آثارهما. ومن البيّن أنّ الحدث الجيّاش كان الثورة الإسلاميّة في إيران، وهي ثورة أصوليّة خالصة، ومن المثير أنها بقيت الوحيدة من نوعها إلى حدّ السّاعة. لكن سنة 1979 شهدت حدثاً رئيسيّاً آخر، مرّ مرور الكرام دون أن يجذب الكثير من الانتباه، ألا وهو إعلان دنغ شياو بينغ (Deng Xiaoping) عن بداية الاصلاحات في الصّين. ويمكننا قراءة هذا الحدث بعديّاً بوصفه علامة على انقطاع ثقة الماركسيّة اللينينيّة الثوريّة بنفسها.

فقد كانت حركة دنغ شياو بينغ والمسؤولين الصينيّين الذين اتّبعوا نهجه إقراراً صارخاً بأنّ الماركسيّة اللينينيّة تفتقد، بلغة معجمها المخصوص، إلى وصفات تطوير القوى المنتجة، ولم يبق لها من خيار سوى البحث عن تلك الوصفات عند الرأسماليّة الملعونة. كذلك كانت سنة 1979 تاريخ التدخّل السوفياتي في أفغانستان، والذي أدّى إلى تحشيد مقاومة أمميّة ضدّه في العالم الإسلامي السنّي حوّلها مقاتلوها، رويداً رويداً، إلى حرب أخرى أكثر شموليّة باسم الإسلام. وهنا تكمن جذور جهاديّينا المعاصرين.

ولو أردنا اختزال الظرفيّة الشموليّة في ثلاث سمات كبرى، لقلنا إنّها ظرفيّة تتطابق مع لحظة مخصوصة في التاريخ الأوروبّي يمكن أن نرجعها عموماً إلى بداية القرن العشرين، حين كان يتلقّى الانضباط الخاضع، الذي ما زال يؤطّر ضمنيّاً الوجود الجمعي آنذاك، ضربات قاتلة من جميع الجهات، وخصوصاً من جهة الصراع الطبقي. وهذه هي اللحظة التي فقدت فيها محرّكات الانضباط الخاضع، بطمّ طميمها، ثباتها المحكم. وهي كذلك، من جهة أخرى، اللحظة التي حافظ فيها الانتظام الخاضع ومحرّكاته على ما يكفي من انغراس، في الأذهان كما في الاشتغال الجماعيّين، ليظلّ شكل الوجود الجمعي الوحيد المقبول به، وتكون الدعوة إلى تقويمه ذات مغزى. ومن هنا وُلدت نيّة الديانات العلمانيّة في إعادة بناء الشكل الدّيني بوسائل دنيويّة بعد أن بُتر عن كلّ روابطه بالدّين. وقد سلك هذا السعي مسلكين، مسلك أقصى اليسار الذي ينشد الانتظام الذاتي عن طريق الانتظام الخاضع، ومسلك أقصى اليمين الذي ينشد الانتظام الخاضع عن طريق الانتظام الذاتي.

وعلى غرار الظرفيّة الشموليّة، انبثقت الظرفيّة الأصوليّة من خلل في التحوّل الحداثي، نجم عن المرور من نمط وجود إلى آخر ضمن وضعيّات تاريخيّة وسياقات حضاريّة متباينة. ومن هذا المنظور، يمكن أن نتبيّن معين الوصل والفصل بين الظرفيّتين. فبينما يتشارك كلاهما في نفس التطلّع إلى الرجوع إلى النظام الخاضع، إلاّ أنّ الأنظمة الشموليّة تحمل هذا التطلّع دون وعي بطبيعته، وهي تجهل النزوع الدينيّ الذي يحرّكها إلى حدّ أنّها تشدّد حين تسعى إلى تقويم الانتظام الخاضع، عبر مسلك اليمين المتطرّف، على نفي كلّ صلة لها بالدّين.

ولذلك يصحّ وصفها بـ"الديانات المضادّة للديانات"، من جهة أنّها تضادد الديانات عن وعي لكن دون أن تعي هي نفسها طابعها الدّيني، بينما يكون الديني داخل الأصوليّات الانشغال المعلن والأساسي، وهذا ما يغيّر الأمر كلّياً. ففي حين يسعى الأصوليّون علانيّة إلى استعادة سلطة الدّيني بوسائل سياسيّة دنيويّة، تسعى الشموليّات إلى تشييد نظام دنيوي بوسائل لا تعي طابعها الديني. ويؤدي ذلك، قطعاً، إلى تشييد أنظمة استبداديّة في الحالتين. ويمكننا عمليّاً الاكتفاء بدمغها بالاستبداد، إلاّ أنّ هذا الوصف يمنعنا من التعمّق في فهم هذه الأنظمة الاستبداديّة، لأنّها تخضع إلى محرّكات متباينة جوهريّاً.

بُغية تجاوز هذه المقاربة الأوليّة، ينبغي تدقيق الروابط بين هاتين الظرفيّتين، المتّصلتين والمنفصلتين في آنٍ، حول نقطتين. فمن جهة أولى، تشترك الظرفيّة الشموليّة مع الظرفيّة الأصوليّة في اشتراط كليهما حصول مقدار واسع من التفكّك في البنى الدينيّة التقليديّة بمختلف مظاهرها، لكن ليس بنفس المقدار ولا بنفس المعيار. فسواء تعلّق الأمر بأسلوب السّلطة الأوتوقراطي أو العلاقات التراتبيّة أو تبجيل نماذج السّلف أو الانتماءات الجماعويّة على كلّ المستويات، فإنّ جميع المسالك الكلاسيكيّة التي تقوم عليها الوحدة الجمعيّة تنجرف بفعل المدّ العاتي لاستقلاليّة الأفراد وكلّ ما يترتّب عنه في مستوى انتظام المجتمع. وفي الحالة الغربيّة، يمكننا الحديث صراحة عن انحلال التعبيرات المباشرة لهذه المحرّكات الكلاسيكيّة انحلالاً جوّانياً بفعل جرف الحداثة لبقايا النّظام القديم، رغم أنّه يخلّف وراءه بعضاً من آثار الوحدة القديمة بما يكفي لمنع قيام أيّ مشروع ينشد مجتمعاً بديلاً عن المجتمع القائم.

أما في الحالة غير الغربيّة، فالأحرى الحديث عن خلخلة تترك قطاعات واسعة من النظام القديم على حالها، مع إفراغها من مشروعيّتها بما لا يترك لها من معنى يُبرّر التشبّث بها. وهي خلخلة ذات منشأ خارجي، من جهة أنّها ترتبط بشكل من أشكال الهيمنة المباشرة )في المجتمع الاستعماري( أو غير المباشرة. لكن لا ينبغي أن يدفعنا ذلك إلى تجاهل العلاقة المتناقضة التي تنشأ مع الحداثة القادمة من الخارج، بين الرغبة في امتلاكها ومقاومة فرضها القسري.

ففي الحالتين، وهذا عنصر مشترك بين التشكيلتين الأصوليّة والشموليّة، تغدو التقليدويّة البسيطة المتمثّلة في التشبّث بأطلال النظام القديم، مستحيلة، وذلك من فرط وهنه وغلبة النظام الجديد، فلا سبيل غير التجديد. ولا مندوحة من المضيّ قُدُماً في سبيل المستقبل بغية العثور على الشكل الأنسب من الوجود الجمعي، عبر قطيعة ثوريّة مع النظام القائم. وهي قطيعة تشكّل الوحدة الخاضعة رافعتها الأساسيّة، بطريقة واعية في الحالة الأصوليّة، وغير واعية في الحالة الشموليّة. وتترجم هذه القطيعة، في الحالة الشموليّة، عبر سعي جاهل بتطلّعه إلى إعادة تشكيل التكوين الديني بوسائل مقترضة من عالم الانتظام الذاتي، سواء مدفوعاً في ذلك، في حالة أقصى اليسار، بفكرة حمل الانتظام الذاتي إلى ذروة تحقّقه؛ أو مدفوعاً، في حالة أقصى اليمين، بفكرة القطع مع الانتظام الذاتي عبر العودة إلى أشكال هيمنة وإدماج قديمة وهرميّة لم يعد يُفهم جوهرها الدّيني. ولذلك، فإنّ الشموليّين من كلا الجهتين ليسوا سوى حداثيّين يجهلون أنّهم قُدامى رغماً عنهم، حتّى حين يدّعون الرجعيّة باسم الماضي.

وبالعكس، وفي الحالة الأصوليّة، يكون الإقرار بالسعي إلى استعادة الماضي باسم القانون الإلهي صارخاً؛ غير أنّ التباس الأصوليّة يكمن تحديداً في كونها تستعير من الحداثة بُعدها الشخصي وانغراسها في الوعي الفردي، وحتى شكل مشروعها السياسي. ذلك أنّ الأصولي هو ماضوي حاسم، يجهل إلى أيّ حدّ هو حداثي رغماً عنه. ويتعاظم جهله بذلك حين يجد نفسه تحت نير الاستعمار، ويدفعه طموحه التحرّري إلى نبذ حداثة متجسّدة في صورة المعتدي.

إذن، نجد أنفسنا إزاء نفس المصفوفة تقريباً رغم بعض الفويرقات المهمّة بينهما، حيث تتوفر كلا التشكيلتين الشموليّة والأصوليّة على ما يكفي من العناصر المتشابهة تفسّر تناغمهما الزمني. فقد تشاركتا نفس الطريق لبعض الزّمن. وعموماً، فقد برزت ارهاصات المشروع الأصولي مع مستهلّ القرن العشرين بالتزامن مع تراجعات المشروع الشمولي. أما في حالة الأصوليّة الإسلامويّة التي تشغلنا في المقام الأولّ، فقد تزامنت أولى تشكّلاتها مع بلوغ الظرفيّة الشموليّة ذروتها. حيث أرسى الباكستاني أبو الأعلى المودودي المبادئ الأساسيّة للأصوليّة الإسلامويّة خلال الثلاثينات، ضمن سياق الصراع من أجل فكّ الاستعمار عن الإمبراطوريّة الهنديّة وإنشاء دولة لا تكون "دولة مسلمين" فحسب بل "دولة إسلاميّة"، وهو أوّل من وضع هذا المفهوم على ما يبدو([3]).

فقد أتمّ المودودي العمليّة الحاسمة المتمثّلة في إحياء الإسلام عبر تسييسه، محوّلاً إيّاه إلى مشروع سياسي، وكان واعياً تمام الوعي بالفرق بين الرؤية الدينيّة التي يطرحها والفهم السّائد عن الدّين، وهو ما يظهر في قوله: "ليس الإسلام "ديناً" بالمعنى السّائد للكلمة. فهو نظام يشمل جميع مناحي الحياة". أمّا الشريعة، فهي قلب الإسلام وتشمل الانتظام الجمعي بأسره، وهي تحدّد في آنٍ "العلاقات العائليّة والشؤون الاجتماعيّة والاقتصاديّة وحقوق المواطنين وواجباتهم، والنظام الجزائي وقوانين الحرب والسّلم والعلاقات الدوليّة". وباختصار، تحددّ الشريعة نظاماً اجتماعياً "لا تعتريه شائبة ولا نقيصة". أمّا من المنظور السياسي، فيبشّر المودودي بـ"ديمقراطيّة إلهيّة" تُدين النّسخة الغربيّة من الديمقراطيّة التي تنقل حاكميّة الله إلى الشّعب، ولو أنّه يعترف بحقّ الشعب في اختيار حكّامه. وإجمالاً، ينظّر المودودي للجهاد ضمن منظور كوني جذري، يتعيّن أفقه في الخلافة المتصوّرة كدولة إسلاميّة عالميّة، حيث "يشمل الإسلام المعمورة بمجملها، ولا يقتصر على رقعة صغيرة منها فحسب". وستسلك هذه الأفكار طريقها إلى أصقاع العالم الإسلامي، إذ تلقّفها الإخوان المسلمون في مصر وعلماء الدّين الشيّعة في إيران، لتعرف تطويرات وتنويعات متعدّدة عند بعض المنظّرين مثل سيّد قطب أو الخميني.
 
 
وبالتوازي مع ذلك، سيبقى هذا المسلك مستتراً أو هامشياً، نظراً إلى العزلة الخانقة التي ضربتها الظرفيّة الشموليّة على ارهاصات الأصوليّة الجنينيّة. فمن جهة أولى، كانت المسألة الأساسيّة التي ملكت أرواح النّاس وشغلتها في العالم الإسلامي، كحال الشعوب الأخرى في العالم غير الغربي، هي الصّراع ضدّ الإمبرياليّة. فقد أعطيت الأولويّة آنذاك إلى حقّ الشعوب في تقرير مصيرها وتحرّر الأمم المضطهدة، بالموازاة مع سعيها إلى امتلاك وسائل الاستقلال عن الهيمنة الغربيّة عبر التحديث والتنمية. وتتوافق هذه التطلعات بحكم طبيعتها مع العرض الشمولي، والذي كان يروّج له المعسكر السوفياتي والحركة الشيوعيّة الأمميّة، اللذان صارا بحكم معاركهما ضدّ القوى الرأسماليّة والإمبرياليّة، حلفاء وداعمين لكلّ الصراعات ضدّ الاستعمار.

وقد مثّلت الثورة الصينيّة التي اندلعت عام 1949 حدثاً نموذجيّاً في هذا الشأن، إذ لم ترتبط الشيوعيّة فيها بالتحرّر فحسب، بل برزت أيضاً كسبيل لتحقيق التنمية الاقتصاديّة ولو بشكل فوقي، خصوصاً بفضل أدوات التخطيط. وفي هذا الصدد، قدّمت مخطّطات التصنيع السوفياتيّة الخمسينيّة نموذجاً جاهزاً للاستعمال، لا يتطلّب سوى تعديله على ضوء الظروف المحليّة. فهو يوفّر مباشرة مفاتيح الإقلاع دون أن يقتضي حتى الالتزام الدّقيق بمبادئ "الاشتراكيّة العلميّة". وقد كانت "الاشتراكيّة العربيّة"، التي دخلت اليوم غياهب النسيان بقدر ما كان لها من أثر في الماضي، فرعاً من هذا التوجّه العامّ.

وهنا، نلامس بُعداً أعمّ من أبعاد الظرفيّة الشموليّة، بل بُعداً حاسماً فيها: ألا وهو تجذّرها في ضرب من الإيمان الوثوقي بالتاريخ، وبالوعد الذي يحمله المستقبل. فقد كانت تلك حقبة المستقبل بحقّ، وكان تجاوز الحاضر، الذي مثّلت الثورة الاشتراكيّة أكثر وصفاته اكتمالاً، الأفق المهيمن والناظم للوعي الجمعي. وفي هذا الخضمّ، لم تجد ارهاصات الأصوليّة الجنينيّة المتبعثرة، ولأسباب بيّنة، الأرضيّة الملائمة لكي تتطوّر. والحقّ أنّ ما سيوفّر الظروف الملائمة لذلك، هو أزمة المستقبل التي شهدتها السّبعينات تزامناً مع مستهلّ العولمة الثانية. فقد أدّت هذه الأزمة إلى انطفاء الإيمان بالمستقبل وفقدان الثقة في تجسّده الخالص المتمثّل في الاقتصاد المخطّط، وانتهى الأمر إلى تقويض المنظور الثوري برمّته. وباختصار، فقد كانت تلك علامة على نهاية الظرفيّة الشموليّة وأفول الديانات الدنيويّة التي استثمرت في العنصر التاريخي ووعد المستقبل.

إنّ أزمة المستقبل التي تتبدّى عندنا في نزعة الراهنيّة، تتبدّى بوضوح في نزعة ماضويّة أصوليّة في بقيّة أنحاء العالم. وما نلاحظه من انطواء على الرّاهن في الفضاء الغربي، يعادله في فضاءات ثقافيّة أخرى استدعاء الماضي الدينيّ من جديد، بما أنّ الماضي في جزء وافر منه ليس سوى الدّين بما هو موروث، وبما هو نموذج مثالي للتقليد. وبذلك، يأخذ الماضي مكان المستقبل كمرجعيّة تنظّم الهويّة الجمعيّة، وهذا في السياق الذي خلقته العولمة الثانيّة التي تقوم على تملّك أدوات الحداثة الغربيّة بُغية تحصيل موقع على مسرح الأمم والإمساك بطرف اللّعبة في السّوق العالميّة. ولا يُمكن لهذا السعي أن يكتمل دون احداث اضطرابات في الهويّة لم تكن مطروحة في السّياق السابق الذي هيمن عليه ضرب من المستقبليّة الكونيّة أرادت طرح وصفات صالحة لكلّ مكان، بينما مثّلت الهويّة الموروثة من الماضي وجه الخصوصيّة التي يتوجّب تجاوزها آنذاك في سبيل مستقبل مشترك بين جميع البشر.

فالعولمة الثانيّة هي عولمة هوويّة، وهذه واحدة من سماتها الأساسيّة. وهي كذلك لأنّها تنسّب في آن كلّ الهويّات المكتسبة بمنظور التعدّد العالمي، وتجبر جميع الفاعلين القوميّين على إعادة تعريف أنفسهم في فرادتهم بمقتضى الانفتاح على الخارج. غير أنّ الهويّة الدينيّة، بالنسبة إلى غالبيّة المجتمعات الموجودة حاليّا على الأرض، هي أشدّ هذه الهويّات صلابة، وهي هويّة بصدد التمزّق نتيجة ما تتعرّض له من خلخلة قاهرة بفعل اختراقها من قبل أنماط التفكير والفعل الخاصّة بالحداثة ذاتيّة الانضباط.

هذه هي الظرفيّة التي يبدو لنا أنّها كانت مهد المشروع الأصولي والتي قد يكون فيها ازدهاره. فقد انبثق هذا المشروع من رفض الواقع المعاش بوصفه عدواناً خارجيّاً مدمّراً، وذلك ما يجعله، على سبيل التنويه لا غير، يقترض من العصر السّابق خطاب مناهضة الإمبرياليّة دون أدنى حرج. فهو يمثّل في الآن نفسه إرادة لانتزاع أدوات الحداثة من أجل الهيمنة عليها، وتأكيد نفسه مجدّداً من خلالها. وهو يمتلك الحداثة ذاتيّة الانتظام وينفيها في آن، عبر تجسيدها ضمن تكوين ديني شكلي يُفترض فيه القدرة على كبح إمكاناتها المدمّرة. وبعبارة أخرى، فإنّ المشروع الأصولي متناقض في جوهره بقدر تناقض المشروع الشمولي في زمانه. وذاك هو النّبع السّحيق الذي يرفد العنف السّاكن فيه.
 
الخصوصيّة المسلمة

تكاد تتردّد نفس هذه الخطاطة الأصوليّة في الفعل والتفكير بجميع المناطق الدينيّة على اختلافها. إلا أنّها تتخذ أشكالاً وتكثّفات مختلفة بشدّة حسب طبيعة التقاليد الروحيّة التي تتمظهر فيها، على نحو اختلاف البوذيّة والإسلام، وحسب السياقات السياسيّة والاجتماعيّة التي تمتد ضمنها. وبناءً عليه، يمكننا إقامة مقارنة منهجيّة تتناول كلّ حالة على حدة. غير أنّنا سنقصر الحديث عن الإسلام لأنّ اهتمامنا منصبّ عليه مباشرة، ولأنّ الجيشان الأصولي يتخّذ في صلبه حدّة لا نظير لها، إنّما دون الحطّ من أهميّة جيشانات أصوليّة أخرى لم تبلغ بعد حدّ فورانها الأقصى.

إذن، ما هي خصوصيّة العالم الإسلامي في هذه الظرفيّة التاريخيّة، بالنظر إلى انقسامه وشدّة اختلافه؟ يجب الحذر من المقاربات الشموليّة الخدّاعة باعتبار وجود العديد من الإسلامات. فالمشهد الإسلامي، من موريتانيا إلى إندونيسيا، ومن نيجيريا إلى آسيا الوسطى، أبعد ما يكون عن التجانس، إضافة إلى الانقسام الهائل بين السنّة والشيعة. إلا أنّه من الممكن، دون التغاضي عن تعدّد هذه السياقات، تعيين بعض الخصائص العامّة التي تبيّن فرادة وضعيّة الإسلام في مواجهة حداثة غربيّة ألقي به في خضمّها كغيره، وغدا عاجزاً عن التحرّر منها. فلئن كان بالإمكان أن نتحرّر من الإمبرياليّة الاستعماريّة، فإنّه يستحيل علينا التحرّر من الحداثة ذاتيّة الانضباط التي تفرض نفسها اليوم في كلّ الأصقاع. لكن ذلك لا يعني التكيّف معها.

من باب المفارقة أنّ أولى هذه السمات وأهمّها، دون شكّ، هي القرب من الديانات الغربيّة، أي انتماء الإسلام إلى ما يمكن أن نسمّيه الجذع التوحيدي المشترك. فمن منظور الكونفشيوسيّة، يبدو الغرب المسيحي في غاية الغرابة. أما من منظور الإسلام، فهو شديد القرب، ومألوف من الناحية الدينيّة. وهذا القرب، لا يُمثّل عامل تهدئة، بل هو على العكس من ذلك عامل توتّر. ذلك أنّ الإسلام هو آخر الديانات التوحيديّة، وهو يضع نفسه صراحة في تواصل مع اليهوديّة والمسيحيّة مدّعيّاً تجاوزهما باسم وحي فائق، حيث يرى في نفسه، حسب العبارة الشهيرة، "خَتْمُ النبوّة"، بمعنى أنّه ختم دورتها إلى الأبد. ولا شكّ في أنّ ذلك يُضفي توتّراً مخصوصاً على هذه العلاقة التي يعتبرها الإسلام علاقة وجود جوهري لا تخلو من انخرام: فاليهود والمسيحيّون يجهلون أنّ الإسلام يعرفهم، والحال أنّ الإسلام يعرف المسيحيّة واليهوديّة. وهذا لا يسهّل بالضرورة الحوار.

إلا أنّ هذا التعريف الذاتي، أو وعي الإسلام بذاته، يتعارض مع وضعيّة العالم الإسلامي في واقع اليوم، فهو موضوعيّاً تحت هيمنة من يدّعي التفوّق عليهم دينيّاً. فقد دخل العالم الإسلامي، كما هو معلوم، في ركود طويل عقب بداياته الديناميّة والمشرقة، لأسباب ما زالت إلى اليوم محلّ نقاش مفتوح، ممّا جعله في وضعيّة دونيّة إزاء من يسمّيهم "أهل الكتاب"، الذين تمكّنوا من فرض سلطتهم عليه حتى بعد انقضاء الهيمنة الاستعماريّة التي سلّطوها على بعض دياره. وبإضافة التجاور الجغرافي مع القرب الروحي، تغدو المقارنة قاهرة وموجعة. فهنا يكمن مصدر العذاب الهوويّ الذي يكابده الوعي الإسلامي وعجزه عن فهم صيرورته التاريخيّة، فكيف أمكن أن يحصل له ذلك؟ وهذا أيضاً مصدر عار واستياء لا ينبغي التغاضي عنه. والحقّ أنّه ينبغي قراءة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ضمن هذا السياق، إذ هو يمثّل تكثيفاً رمزيّاً لهذه الوضعيّة.

وإلى جانب هذه الخاصيّة الأولى، ينبغي إضافة خاصيّتين أخريين يبدو لنا أنّهما تقعان كذلك في صميم الواقعة الإسلاميّة كما تشكّلت تاريخيّاً. ذلك أنّ الديانات التوحيديّة كونيّة بحكم طبيعتها. فالإله الواحد إما أن يكون إله الجميع أو لا يكون. بل إنّ العهد اليهودي نفسه لا يمنع إله بني إسرائيل من أن يكون إله الأمم جميعاً. لكنّ هذه الكونيّة تتنزّل في تجسيدات شديدة الخصوصيّة بحسب التاريخ الذي تتعيّن فيه: حيث تُوجد كونيّة يهوديّة، وكونيّة مسيحيّة، وكونيّة إسلاميّة، تختلف كلّ منها جوهريّاً في طريقة فهمها البديهيّ للأخرى. فقد ارتبطت الكونيّة الإسلاميّة تاريخيّاً بنموذج الفتح الإمبراطوري مع ظاهرة التوسّع الإسلامي المذهلة في القرون الأولى. ولا تمثّل هذه الدعوة الاحترابيّة مجرّد واقعة عرضيّة، فقد كرّست بشكل ما تأويلاً للكونيّة التوحيديّة عبر ادراجها ضمن شكل سياسيّ ملتبس لكنّه ما يزال حاضراً في الوعي الإسلامي الذي يكمن أقصى طموحه في منح الواحديّة الإلهيّة معادلها على الأرض من خلال وحدة جماعة المؤمنين الكونيّة المفترضة، أي الأمّة. فالإسلام، وهو دين تفكّر قياساً بالدّيانتين التوحيديّتين السّابقتين عنه، هو الأكثر جذريّة بخصوص تأكيد وحدانيّة الإله.

وكلّ شيء يجري وكأنّ هذه الجذريّة قد تحوّلت إلى نزعة كونيّة للتسيّد، وقد يكون هذا هو المصدر الحقيقي لصعوبة الفصل بين السّياسة والدّين في الإسلام. غير أنّه على عكس الصّورة الشّائعة، فإنّ السياسي والدّيني منفصلان عن بعضهما البعض في المجتمعات المسلمة على مستوى الوقائع الفعليّة. فالإسلام يطرح نفسه كسلطة نصّ إلهي يكون فيه الدّيني وظيفيّاً بين يدي أخصائيي الشّريعة، أي العلماء، لا بين أيدي السّلطة السياسيّة. لكن، إذا كان الدّيني والسّياسي منفصلان عن بعضهما البعض وظيفيّاً، فإنّ السياسي والديني في نهاية المطاف، وبحكم التطابق المثالي بين العقيدة والشّكل عند أمّة المؤمنين، متعالقان بالضرورة([4]). ومن شأن هذا الإطار الفكري أن يجعل من الصّعب توصيف إطار الجماعات السياسيّة المخصوصة، وهو ما يُترجم في الممارسة عبر موقفين متناقضين: عدم اكتراث بالسّياسة العمليّة وتحقيرها، من جهة أولى، وطموح سياسي شمولي، من جهة أخرى. ذلك أنّ التفكير في السّياسة ضمن إطار ديني، لا يمكن أن يجري إلاّ على مستوى مشروع يطمح إلى توسّع الإسلام كونيّاً. ويغذّي هذا النزوع المزدوج تارةً الميل الإسلامي إلى التصوّف، إن لم يكن إلى القدريّة، وتارة أخرى الميل إلى الفوران التوسّعي، وهو ما لا يزال قائماً في الإسلام، وشاهداً على صعوبة الجمع والفصل بين الأمرين في آن.

وأخيراً، وفي المقام الثّالث، ينبغي الانتباه كذلك إلى الشكل المخصوص الذي يكتسيه الوحي في الإسلام. ذلك أنّ الديانات التوحيديّة، ولأسباب بنيويّة لا تخضع للصدفة، هي ديانات وحي ولا يمكن إلاّ أن تكون كذلك. فمن أين يمكن أن تصدر الحقيقة الدينيّة في إطار توحيدي، إن لم يكن من إرادة الله في إرشاد البشر إلى وجوده وفي ما يبتغيه منهم. فمن دون ذلك سيجهل البشر الله، وقد جهلوه بالفعل طوال قسط كبير من تاريخهم. والحقّ أن التّفكير في التوحيد يلقي بنا مباشرةً في صميم تاريخ الوحي، بيد أنّ هذا الوحي يتّخذ ثلاث سبل شديدة التباين في الدّيانات التوحيديّة: ألا وهي العهد اليهودي، والتجسّد المسيحي عند المسيحيّين، والنبوّة المحمديّة عند المسلمين. ويُقدّم القرآن نفسه على أنّه كلام الله ذاته، بينما تصلنا بشارة ابن الله، في الحالة المسيحيّة، عبر روايات أربعة أناجيل مختلفة. فالإنجيل ليس كلام الله، وحين تستحضر الحكمة الشعبيّة "كلام الإنجيل"، فمن المؤكّد أنها تشير إلى أقوال قطعيّة، غير أنها أقوال تروي وقائع من حديث البشر مسلّم بصدقيّتها، وليست أقوال الله ذاته. أمّا قول القرآن، فهو مغاير تماماً، فالله نفسه هو من قاله، مرّة واحدة ومن خارج الزمان.

وفيما يمثّل قول الإنجيل موضوعاً لشتّى التأويلات، فإنّ القرآن لا يُناقش البتّة، بل يُتلقّى ويُجسّد ويُعاش من خلال التناغم مع الحقيقة المطلقة المشرعة أمام الرّوح البشريّة. وقد يعترض البعض قائلاً إنّ موسى حمل وصايا مقدّسة إلى بني إسرائيل. ولكنّ الوصايا ليست رسالة مكتملة تجعل أتباعها يعيشون في صميم الحكمة الإلهيّة. ومن هنا يأتى إشكال اليهوديّة الدّائم مع نقض تلك الوصايا ونقض العهد المعقود من خلالها. ويتولّد عن نمطيّة الوحي الجذريّة في الإسلام نزوع – وليس حتميّة - نحو النصوصيّة خاصّ به. والدليل على أنّ الأمر بعيد عن الحتميّة، أنّ هذه النقطة كانت مثار نقاش تاريخي وعنيف في القرون الأولى من الإسلام([5]). والحقّ أنّه يمكننا أن نعاين تصويراً بليغاً لهذه النصوصيّة فيما نسمّيه اليوم "السلفيّة" التي تمثّل اشتقاقاً مركّباً من الوهابيّة المتشكّلة في نهاية القرن الثامن عشر بالحجاز، والتي اتفق المختصّون على توصيفها بأنّها ضرب من التقويّة النصوصيّة. وفي حين تطوّرت التقويّة الأوروبيّة في شكل ديانة قلبيّة ترتبط بالتأويل الداخلي، فإنّ مثيلها في العالم الإسلامي، أي الوهابيّة، يطرح نفسه كديانة تعبديّة نصوصيّة تنادي بالخروج على مجتمع فاسد والتطبيق الحرفي للرسالة الإلهيّة.

لقد اقتصرت هذه اللمحة السريعة على بعض العناصر دون أخرى، إذ يوجد بلا شكّ سمات أخرى نحتاج إلى طرقها، بدءًا من كون الإسلام هو دين الشّريعة. فالإسلام يُحدّد قاعدة حياة تمثّل في الآن نفسه قاعدة اجتماعيّة، أي ما اشتهر بأنّه الشّريعة، وهي قاعدة تُحدّد، كما الحال في اليهوديّة، الحدود بين الطاهر والنجس، وهو ما يتشكّل عنه صيغة علاقات بين الدّيني وجوهر الوجود اليومي لا تخلو بحقّ من قوّة اجتذاب وجودي. لكنّ السمات الثلاث التي سلّطنا عليها مجهرنا، تبقى في نظرنا أوثقها ارتباطاً بتحليل الأصوليّات، وهي متعدّدة، التي تدّعي الانتساب إلى الإسلام.
 
تناقضات الأصوليّة

لقد ذكرنا آنفاً، ولا سبيل إلاّ ذلك، النظام الإسلامي الإيراني المنبثق عن ثورة 1979، وشدّدنا على الطابع الاستثنائي الذي حافظت عليه. فإيران تمنحنا نموذجاً خالصاً من الأصوليّة، وحالة شديدة الخصوصيّة في الآن نفسه. إنّها الحالة الوحيدة التي تمكّن فيها المشروع الأصولي من التطوّر بحقّ: مشروع إعادة بناء مجتمع ديني من فوق، بفضل سلطة سياسيّة للديني، ونقصد سلطة الجهاز الدّيني. وهذه بحقّ حالة مخصوصة، مما جعلها نموذجاً معزولاً رغم طموحات قياداتها الدعويّة.

فإلى ماذا يعود هذه الاستثناء؟ يعود إلى أنّ الأمر في المقام الأوّل يتعلّق بإيران، ثمّ إلى خصوصيّة التشيّع داخل الإسلام. ذلك أنّ الثورة الإيرانيّة، وهو ما يتبيّن بوضوح بالرجوع في الزمن، لم تكن ثورة دينيّة فحسب، بقدر ما كانت ثورة قوميّة في ذات الوقت: فقد كانت ثورة في سبيل تأسيس أمّة إيرانيّة باسم تاريخ يعود إلى بداية القرن العشرين وتميّز بالثراء والاضطراب. إنّها أمّة إيرانيّة ذات أركان شديدة الرسوخ وجدت سبيلها إلى التحقّق السّياسي من خلال هذه الثورة الدينيّة. أضف إلى ذلك، تميّز التشيّع في الإسلام بوجود رجال دين. فالتشيّع هو في الواقع دين باطني تأويلي، هذا ما يفصله عن التديّن المساواتي الذي يختصّ به الإسلام السنّي، حيث لا يُوجد أشخاص يتمتّعون بسلطة دينيّة خاصّة، باستثناء حكمتهم أو معرفتهم بالشريعة الإسلاميّة. وقد سخّر التشيّع جهازه الديني لخدمة تلك الثورة، وهو جهاز تسييري لم يوجد قطّ في الإسلام السنّي.

وفيما عدى ذلك، فإنّ ما يجب اعتباره في الثورة الإيرانيّة، هو نتيجتها التي أثّرت بقوّة، نظراً إلى التركيز الشديد الذي حظيت به من جانب جميع الحركات النضاليّة في المنطقة، في طريقة تعريف المشروع الأصولي أو إعادة تعريفه من جهة مساندته أو معارضته. فبعد مضيّ ستة وثلاثين عاماً، وهي مرحلة من الزمن تكفي لنتبيّن الأمر بوضوح، يمكننا القول عن بصيرة بأنّ هذا المشروع الأصولي فشل فشلاً ذريعاً([6]). فقد أدّى المشروع الطامح إلى إعادة تشييد مجتمع ديني من فوق، إلى نقيضه، أي إلى تدمير كلّ عناصر بقاء الانتظام الديني في المجتمع الإيراني. ويعود ذلك إلى سبب عميق: إذ يستحيل مزج الدّيني مع السياسة المعاصرة، التي تقيم بالقوّة، مهما كانت إرادة مستخدميها، رابطة بين البشر تُخرجهم من الانتظام الديني. فالرّافعة السياسيّة للدولة الحديثة قد تسمح بإقامة مشروع يهدف إلى تغيير المجتمع القائم برمّته، ولكنّها تؤدّي لا محالة إلى أن يصير هذا المشروع إلى عكس ما يقتضيه الانتظام الخاضع. وباستعارته لغة الانتظام الخاضع بشكل غير واع، ينقلب مسعى استعادة الوحدة الدينيّة القديمة إلى نقيضه، هادماً آخر الأعمدة التي يمكن أن يرتكز عليها النظام المقدّس القديم. وبهذا تُثبت التجربة أنّ الأصوليّة تحديثيّةٌ رغماً عنها.

ومن هذه الزاوية، قد يمكن النظر إلى الثورة الإيرانيّة على أنها أولى العلامات على المسار الذي عبّر عن نفسه راهناً في سلسلة الثورات العربيّة. فقد كانت، هي الأخرى، ثورات قوميّة في المقام الأوّل، ضمن منطقة ثقافيّة يجابه فيها مبدأ الدولة القوميّة، لأسباب دينيّة وتاريخيّة معاً، صعوبات صلبة تحول دون تجذّره([7]). إلا أنّ الضغط البنيوي الذي تمارسه العولمة يدفع نحو ترسيخ الدّول القوميّة، بما لا يُرضي النظرة السّاذجة التي ترى العولمة "هادمة للحدود". وبغضّ النظر عن هذه العوائق، الدول القوميّة بصدد التجذّر والتطوّر في العالم العربي الإسلامي، وهو ما يمثّل تحدّياً لكونيّة الإسلام ) ولنتذكّر الصراعات التي رافقت تأميم الكنائس المسيحيّة في أوروبّا بدايةً من عصر الإصلاح(، والحال أنّ الحديث عن أمّة يعني الحديث عن تطابق بين السّلطة والمجتمع. وما إن يتحقّق هذا التطابق، حتّى تغدو طرائق تنفيذه أمراً ثانويّاً قياساً بالمبدأ نفسه. ففي نطاق الأمّة، وبمقتضى هندسة بنائها، تنبع السّلطة من تحت ولا تكتسب شرعيّة إلاّ حين تكون معبّرة عن الأمّة. وبهذا المعنى يغدو مسار البناء القومي، بمعنى تكوّن الأمم وتجذّرها على مستوى كوني، دافعاً إلى الديمقراطيّة.

وقد عملت هذه الحاجة الملحّة للتطابق بين السّلطة والمجتمع ما في وسعها لهدم بعض الأنظمة الاستبداديّة التي كانت تبدو مستقرّة بثبات، كما أدّت إلى صعود الإسلاميّين القويّ، إن لم تكن فتحت المجال أمام الجهاديّة المتطرّفة. ذلك أنّ هذه المجتمعات سبق أن تأسلمت ثقافياً جزئيّاً، واصطبغ فيها بالضرورة تعبير المجتمع عن نفسه بالمرجعيّة الإسلاميّة. وهذا ما جعل هذا التطلّع، بالنسبة إلى الإسلاميّين المتطرّفين، يؤدّي بالضرورة إلى مساءلة الإطار القومي الذي انبثق من صلبه، وذلك لشدّة عجز الوعي الأصولي عن قبول الانغلاق في بلدان مخصوصة، إذ يعتبره ارتهاناً للنموذج الغربي وخيانة لرسالة الإسلام الكونيّة. وفي هذا الصدد، تمثّل استعادة الخلافة في خضمّ الانسداد التراجيدي في سوريا، واقعة على غاية من الدلالة([8]). فهي التعبير الأسمى عن المقصد الأصولي، وستكون لها آثارها، مهما يكون مصير هذه المحاولة في استعادة النموذج البكر لزمن النبيّ.

ولا تشي الأسلمة الثقافيّة المستجدّة في المجتمعات العربيّة بأفق شديد الحديّة. فهي، من جهة، أثر عكسي لارتفاع مستوى التعليم، وللانكفاء الهويّاتي الذي يولّده ضغط العولمة، من جهة أخرى. ويوجد تديّن عوائدي يقوم أساساً على الشعائر التعبديّة والطقسيّة، كما هو الحال في مجمل المناطق الدينيّة، لكنّنا نعرف جيّداً أنّ هذه الشعائر، على نحو الصلاة والصوم والحجّ والزكاة والحجاب، لا تستثير سوى مستوى ضئيل من الالتزام الشخصي، وهي تؤدّى بغاية تأديتها لا غير، ولا يتطلّب أداؤها انخراطاً روحيّاً مكثّفاً. أمّا التعليم، وعلى النقيض من ذلك، فهو يدفع نحو تملّك الشعيرة بصفة فرديّة في سياق انكفاء هويّاتي، ويصنع ضمائر دينيّة فردانيّة، وهذا أمر جديد كلّ الجدّة بالنسبة إلى هذه المجتمعات. بل الأكثر جدّة أنّه يستحثّ ضمائر مطبوعة بخصوصيّة هوياتيّة تسعى إلى البحث عن مرجعيّتها في الدّين. ومن باب السّذاجة الغربيّة الظنّ أنّه بارتفاع مستوى التعليم، تنتصر الأنوار وتندحر الظلاميّة والخرافة. فذلك لا يتحقّق بالضرورة في أمد قصير، بل يتطلّب زمناً طويلاً. ففي لحظة أولى وفي سياقات معيّنة، يفتح التعليم السبيل نحو صيرورة فردانيّة عبر تعزيز الالتزام الديني، وهذا مسار كنّا قد شهدناه كذلك في التّاريخ الغربي. فمن عصر الإصلاح إلى عصر الأنوار، لم تكن السّبيل سالكة البتّة، حيث كان على الفردانيّة أن تؤكّد نفسها، في سياق تديّن تقليدي، من خلال الإيمان الشخصي، وهي مرحلة شبه محتومة في مسار الفَردَنة، كما يُبيّن التّاريخ الذي اجتزناه.

وتتّصل هذه الملاحظات بخلفيّة الظاهرة، فلنتناول الآن تعبيراتها المباشرة. لقد انتشرت الأصوليّة في الإسلام السنّي عبر مسلكين. ويتمثّل أكثرهما دراماتيكيّة، ذاك الذي يمسّنا بقوّة، في المسلك الجهادي للحرب الشّاملة ضدّ الغرب الفاسد والمُفسد وممثّليه المحليّين. وهي حرب شاملة يغيب فيها بشكل كبير المشروع السياسي البعيد، بفعل الانغماس في ضرورات الصّراع اليوميّة التي غالباً ما تغدو هدفاً في ذاتها. لكن، بالرغم من أنّ هذا المسلك هو الأكثر بروزاً، إلا أنّه ليس الأساسي. فقد كان المسلك الأساسي للأصوليّة السنيّة مسلك أصوليّة أشدّ تكتّماً وتكثّفاً، هو ما نُصنّفه ببعض التسرّع تحت اسم السلفيّة. لذلك من المهمّ تبيّن العلاقة بين هذين المسلكين، إذ هما متناقضان ومترابطان في الآن نفسه.

وابتداءً، ليست السلفيّة المنحدرة من الوهابيّة (ودعونا نقفز في ذلك على بعض المذاهب المماثلة) سوى ضرب من التقليدويّة المفرطة، ترسّم ديانة نصوصيّة صارمة تشدّد على ممارسة الشعائر. غير أنّ المهمّ في ذلك هو فهم المغزى من هذه النصوصيّة، من جهة دفعها إلى إعادة ترسيخ الانضباط الخاضع، تحت غطاء الوحي. والحقّ أنّ قروناً من النّقد المتواصل للسّلطة غير العقلانيّة قد غيّب مفهوم الوحي عندنا، ولذلك وجب التذكير بدوره من جديد. فالوحي عبارة عن حقيقة منزّلة من السماء لا يمكن للمرء سوى الخضوع لها، وهو حقيقة تنير الرّوح البشريّة عبر التواصل مع الرسالة الإلاهيّة. ولا يتطلّب ذلك مجرّد الخضوع إلى نظام، بل يتطلّب كذلك نشاطاً فكرياً عالياً يُفترض أن يفتح الرّوح البشريّة على العالم الآخر.

وعلى سبيل التنويه، نشير إلى أنّ إعادة تأكيد الانتظام الخاضع هو ما يجعل جميع الأصوليّات، أينما وجدت في العالم، منشغلة بمسائل الحياة والموت. ذلك أنّ الحياة والموت هما موضع العطاء الخاضع، إذ تُوهب الحياة إلى البشر وتُسلب منهم من قبل إرادة تتجاوزهم. وهذا هو الشّكل البدئي من الانضباط الخاضع، ووجه الوجود البشري المتفلّت من إرادة البشر، والذي تنبني عليه فكرة النّظام الخاضع. وقد يمكن القول إنّ الحياة والموت هما آخر ملاذ للانتظام الدينيّ الخاضع، ونقطة الانغراس الأخيرة التي سيبقى التأويل الخاضع للوجود البشري يستمدّ منها طويلاً، إن لم يكن إلى الأبد، قوّةً قاهرة.

لكن، بفعل الرهان الذي طرحه تقدّم الحداثة التي أكسبته معناه، يبدأ قصور التأكيد المتشدّد على الانتظام الخاضع في الظهور بسرعة. إنّه تأكيد عاجز بكلّ بساطة، وهو لا يمنع شيئاً. ومن المؤكّد أن المؤمنين يحافظون على إيمانهم، لكنّ ذلك يترافق بمواصلة المجتمع تطوّره في غفلة منهم منفلتاً بالكامل من تعصّبهم. أضف إلى ذلك أنّ هذا التشدّد، وقد كانت مصر المعاصرة مدار تجربة هذه الرؤية، يترافق عموماً بلامبالاة مستخفّة نسبيّاً تجاه السّياسة.

وهذا هو السبب الذي شجّع النظام المصري، على سبيل المثال، على نشر ضرب من الإسلامويّة الداعية إلى ترك السّياسة وإطاعة السّلطات. ذلك أنّ الديانات التقليديّة، بمختلف ضروبها، لا تحمل رؤية مكتملة عن السّياسة، ولا تختزن عقيدة للنظام الاجتماعي الذي تكتفي بتكريسه وتأييده، وهي لا تنظّر للانتظام الخاضع الذي تكتفي بإقراره عبر تسليم مفاتيحه. فهي ترشد إلى كيفيّة العيش داخل إطار ليست هي من تحدّده، بل هي تفترضه فحسب، حتّى وإن كان إطاراً معدّاً لاحتضان الرّسالة التي تحملها. فأقصى ما يمكنها فعله هو أن تُحدّد نمطاً لاشتغال المجتمع، وتعجز في جميع الحالات عن تحديد إطار سياسي. وفي حالة الإسلام، يتمّ ملء هذا النقص برسالة لا تحمل طابعاً دينيّاً مباشراً، بل تكون في شكل صيغة مؤسطرة لما كان عليه المجتمع الديني الأصلي. وبهذا، فهي لا تطرح عقيدة سياسيّة، بقدر ما تولّد طوبي ماضويّة عمّا كان عليه المجتمع الإسلامي في بداياته. وهذا ما تطرحه الأصوليّة بديلاً عن الرؤية السياسيّة.

وعودة إلى الأصوليّة الدينيّة الخالصة التي تعنينا، فإنّ هذه الحدود، سواء من جهة الضّمير الشّخصي أو من جهة الاشتغال الجّمعي، تفتح المجال أمام مسلك أصولي آخر أشدّ تطرّفاً، وذلك في مستوى الانخراط الشّخصي كما المشروع السّياسي على حدّ السّواء، حيث لا يكفي الالتزام بالشّعائر، ولا المثاليّة التوّاقة إلى الأصول، إذ يتطلّب التحدّي مزيداً من القناعة الفردانيّة وبذل مجهود أكثر منهجيّة في سبيل فرض الرّسالة الدينيّة على الإطار الوجودي الجمعيّ. وبذلك، يفرز عجز الأصوليّة الدينيّة "القاعديّة"، إذا صحّ التعبير، تطرّفاً يتطلّب من أتباعه التزاماً يكون في ذات الوقت فردانيّاً بانخراط أفراده فيه، وسياسيّاً بخوض معركة ضدّ عالم يأتي من الخارج. غير أنّه يستحيل على الأصوليّة السياسيّة امتلاك مشروع سياسي فعلي باستثناء الشريعة الدينيّة التي لا تقول شيئاً في تسعين بالمائة من شؤون الوجود الجمعيّ، وباستثناء هذا المبدأ الفردي لمسار الأصوليّة السياسيّة الذي يؤدّي في النهاية إلى تدمير نظام الانضباط الخاضع الذي تطمح إليه.

وتبقى ملاحظة أخرى، نسوقها باختزال، وتتعلّق بمسألة حسّاسة بالنسبة إلى الوعي الغربي، ألا وهي غياب أو استحالة وجود مشروع سياسيّ يفسّر بحقّ الاهتمام المهووس بوضعيّة المرأة. فمن المعلوم أنّ تراتبيّة الجنسين في الإطار العائلي، داخل الحداثة الغربيّة نفسها، قد مثّلت آخر البصمات الحيّة للانتظام الخاضع. فقد تمّ هدم كلّ التراتبيّات الأخرى، ولم يبق سواها، ولم تنحلّ إلاّ منذ عهد قريب. فما دام هذا الطلل الرّاسخ للانتظام الخاضع قائماً، ونقصد تراتبيّة الجنسين، فإنّه يمكننا أن نحلم باستعادة البقيّة. فإذا تجاوزنا هذه العقبة، فإنّنا سندخل عالماً آخر، أي عالمنا الرّاهن، عالم المساواة المحضة وتوحّد الكائنات البشريّة في طبيعتها رغم اختلافاتها العيّنية، كاختلافات الجنس وما شابهها، وهو بعينه العالم الذي لا ينفكّ يطارده طيف الحساسيّة الأصوليّة. وهذا هو السبب في أنّ هذه القضيّة تبدو للوهلة الأولى، وهذا غريب لكنّه مفهوم، قادرة على التعبئة.

وتبلغ هذه التوتّرات، بين فردانيّة الاعتقاد وانتظام المشروع الخاضع، أقصاها في حالة الشبّان الجهاديّين الذين نراهم يتشكّلون ويعلنون عن أنفسهم بأنفسهم على أرض أوروبّا. إنّهم بتحولهم إلى الإسلام، دون أيّ رابط أصلي يربطهم بثقافة الإسلام، إنّما يعبّرون عن انفصالهم الشخصي والاجتماعي بلغة دينيّة، دون أن يسعوا أصلاً إلى تحصيل أيّة معرفة بالدّين، في مفارقة سبق أن بيّنها أوليفه روا (Olivier Roy) كأحسن ما يكون في كتابه الجهل المقدّس (La Saint Ignorance). ولعلّ المثير في هذه التنويعة الاحترابيّة من الأصوليّة، هو لامبالاتها بالسّلطة الدينيّة، وذلك نتيجة تكثّف الحافز الفرداني الذي يحرّكها. فهي تنتج أشخاصاً لا يهابون الموت في سبيل قضيّة تتيح لهم أن يكونوا أفراداً بإنكار ذواتهم كأفراد. وقد سبق أن عرفنا نماذج أخرى في تاريخنا على هذه الشاكلة. فمن البيّن أنّ هؤلاء المحاربين من أجل بلوغ المستحيل وتدمير الذات هم الأخطر على الإطلاق، لكن ينبغي علينا فهم السبيل التي ينتهجون. فهم يمثّلون أقصى الطيف الأصولي الذي يمكنه كذلك الانكفاء إلى ضرب من التقوى المتصلّبة والمسالمة.

ومنتهى القول أنّ منطق التدمير الذاتي هذا، هو كذلك أملنا. فالأصوليّة هي رغم كلّ شيء، بل رغماً عنها، سبيل إلى دخول الحداثة القهقرى، لكن يجب علينا معرفة موقعها في الحداثة إذا ما أردنا خوض المعركة التي تفرضها علينا بما يلزم من تبصّر.  

الهوامش:

[1] - من بين الأدب الضخم الذي أنتج حول المسألة، تبقى المصنفات الخمسة لمشروع الأصوليّات (Fundamentalisms Project) الذي أشرف عليه مارتن مارتي (Maryin Marty) وسكوت أبليبي (Scott Appleby)، أهمّ مرجع في هذا الشأن.
انظر خصوصاً المصنّف الأول:
Fundamentalisms Observed. Edited by Marty Martin E. and Appleby R. Scott. Chicago and London: The University of Chicago Press, 1991.
[2] - أحيل بخصوص هذه المسألة إلى التحليل الذي اقترحته في كتابي:
À l'épreuve des totalitarismes, Gallimard, NRF, collection «Bibliothèque des sciences humaines», Paris, 2010.
[3]  أعتمد في ذلك على:
Seyyed Vali Reza Nasr, Mawdudi and the Making of Islamic Revivalism, New York, Oxford UP, 1996.
انظر كذلك:
Roy Jackson, Mawlana Mawdudi and Political Islam: Authority and the Islamic State, New York, Routledge, 2011.
[4] - لقد بيّنت باتريشيا كرون (Patricia Crone) هذه المسألة بوضوح في كتابها:
 God’s Rule. Government and Islam, New York, Columbia up, 2004.
فنظراً إلى نزول الدعوة المحمديّة في محيط تنتفي فيه الدولة، انبثق الإسلام كجماعة مؤمنين كانت جماعة سياسيّة في الآن نفسه، وهو ما أكّده توسّعه القاهر. ولم يكن هناك من سبب يقضي بانفصال الجماعتين عن بعضهما البعض.
[5]  كان ذلك موضوع المواجهة بين المعتزلة والأشعريّة، والتي خرج منها الأشاعرة منتصرين.
[6] - من أجل مقاربة للثورة الإيرانيّة، انظر:
Mahnaz Shirali, La Malédic­tion du religieux. La défaite de la pensée démocratique en Iran, Éd. François Bourin, 2012.
[7] - وهي صعوبات بيّنها بوضوح علي المزغني في كتابه:
L’État inachevé. La question du droit dans les pays arabes, Gallimard, 2011.
[8] -  Mathieu Guidère, «Le retour du califat», Le Débat, n° 182, novembre-décembre 2014.
جهاد الحاج سالم
باحث ومترجم تونسي.
مارسيل غوشيه

فيلسوف ومؤرخ فرنسي، يعمل مديرا للدرسات بالمدرسة العليا للأبحاث في العلوم الاجتماعية، مركز الأبحاث السياسية ريمون آرون. من أهم مؤلفاته: "فك السحر عن العالم: التاريخ السياسي للدين" (1985)، و" الدين في الديمقراطية" (1998)، و"الشرط السياسي" (2005)، و"من أجل فلسفة سياسية للتربية" (2013).

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.