كيف يصنع حزب العمال الكردستاني أمته في سوريا؟ (2-3)... صور "الشهداء"

24 تموز/يوليو 2017
 
الإعلام والعمال الكردستاني في سوريا:

يدرك الكردستاني رغم هيمنة العقلية الميليشياوية على مفاصله، أنه لا معنى للسياسة إذا لم تترافق مع حملات ترويج وتسويق. ولا بد من تحقيق شرط المزيج التسويقي. البضائع بالنهاية تبحث عن أسواق كما تؤيد ذلك كل الدراسات والأبحاث الحديثة، والسياسة بالنسبة للكردستاني سلطة. عصا، تحتاج لجمهور حتى يتم توظيفه لصالح مشاريعه.
وبالعودة إلى الإعلام وتعريفه حسب منظور الكردستاني، نجد أن هذه التعريف لا يتعدى عن كونه أكثر من وسيلة من وسائل مصادرة الرأي العام واستلابه واحتكاره. هذا المثلث؛ المصادرة والاستلاب والاحتكار هو جوهر مفهوم الإعلام الذي يتخذه الكردستاني كقاعدة عامة. المصادرة، وتعني هنا مصادرة المعلومة أو الخبر، لعدم خلق رأي عام حر ومنع الوصول إلى جوهر القضايا والحقائق التي يمكن لها التفاعل على خلفية الأحداث وإنتاج رأي عام موحد، قد يعقبه اتخاذ مواقف أو تحركات. لهذا يعمل الكردستاني ليل نهار على احتكار الساحة الإعلامية في مناطق سيطرته، ويغرقها بعشرات الوسائل الإعلامية التابعة له من أجل تغطية الأحداث وسد الثغرات، بما يتناسب مع منظومته الميليشياوية التي تعمل من طرف آخر على كسب العقول من خلال البروباغندا الحزبية وتزييف الوقائع وبث الإشاعة.

لذا يبدو بديهياً على ضوء التعريف السابق لمفهوم الإعلام لدى الكردستاني، أن يقوم بمنع كافة الوسائل الإعلامية الأخرى من العمل في مناطق سيطرته، ومن يخرق القاعدة في أفضل الأحوال يمنع من ممارسة نشاطه الإعلامي أو يطرد. لكن أغلب الوقائع تشير إلى أن العقوبات تكون أقسى من ذلك بكثير. حيث يتعرض الإعلاميون من خارج دائرة الكردستاني إلى الخطف والضرب والتصفية، ولدى الكردستاني سجل حافل بالانتهاكات ضد الصحافيين. جنكين عليكو واحد من هؤلاء الإعلاميين. ممن عمل على كتابة تقارير صحفية حول الكردستاني، تم ضربه بوحشية، ثم ألقي به في منطقة مهجورة من ريف القامشلي (15)، كذلك رنكين شرو مراسلة قناة روداو منعت من دخول المناطق الكردية وتعرضت للضرب المبرح في معبر سيمالكا الحدودي مع إقليم كردستان العراق. سردار داري صحفي وناشط، طعن بالسكين في صدره، وتم رميه أيضاً في أحد أرياف الحسكة.  سلسلة طويلة من هذه الانتهاكات التي تنتهي بمصادرة الرأي العام لصالح إعلام الكردستاني. وهناك مثال حي، يتعلق بمجزرة تل غزال بريف عين العرب(كوباني) عام 2013 والتي راح ضحيتها ثلاثة أشخاص من أبناء القرية وعدد من الجرحى. سوق إعلام الكردستاني القصة وقتها على أن قوات الحماية الكردية اشتبكت مع هؤلاء بسبب زراعتهم لنبتة الحشيش لبيعها فيما بعد للشباب الكردي لإبعادهم عن المهمات الملقاة على عاتقهم ضمن المرحلة التي تمر بها سوريا، وأن هؤلاء واجهوا تلك القوات التي كانت تحرص على ملأ الفراغ الحكومي بعد انسحاب مؤسسات النظام السوري. تلك الرواية كانت لسان حال كل وسائل إعلام الكردستاني، وتم اللعب على مفردات من قبيل. خلق فوضى. المجتمع الكردي محافظ ويرفض هكذا ظواهر. بعد ثلاث سنوات، في شباط 2017 قامت جماعة صالح مسلم بعقد مصالحة مع أهالي القرية (16)، واعتذرت من الأهالي عن تلك الحماقة، ودفعت لذوي الضحايا تعويضاً قدره ثلاثة ملايين ليرة سورية عن كل ضحية. تبين لاحقاً أن الخلاف الأساسي نشأ عندما رفض أهل القرية إقامة عرض عسكري في داخلها من قبل الكردستاني، مما دفع عناصر الأخير إلى شن هجوم دموي على سكانها العزل من أجل ترويضهم وإدخالهم ضمن حيز العمال الكردستاني.

ولعل ما يميز الكردستاني عن غيره من الأحزاب التي تمارس الأدلجة بحرفية بالغة مثل حزب الله، أنه أكثر قدرةً على فهم لعبة اللغة الإعلامية، ولمجموعة الأفكار والقيم والميول التي ينوي الترويج لها. هذه الحرفية والمهارة تنبع من خصوصية لها بعدين. الأول في أن الكردستاني قد اعتمد منذ تأسيسه على المدرسة الاشتراكية في تعريفه للإعلام. سلاح. وهذا ما جعله يستفيد من الإرث الإعلامي الضخم لتلك النظم. نظريات ودراسات وتجارب. الثاني أنه نشأ في مناخ. تركي، سياسي متقلب ومتوتر ما منحه مراناً وخبرة في وقت مبكر، وكان للإعلام التركي، المتطور والجريء، مقارنة بغيره ضمن سياقات تلك المرحلة، دوراً مهماً في نقل تلك الحرفية المهنية والتقنية التي امتاز بها إلى الكردستاني نتيجة الاحتكاك. معروف عن الإعلام التركي أنه كان له دور الريادة في الخصخصة عن سائر بلدان المنطقة وتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء. على الصعيدين السياسي والاجتماعي، بالرغم من حوادث الاغتيال التي نالت من صحفيين كثر. لكن هذا لم يمنع من نشوء امبراطوريات إعلامية خاصة ساهمت في رفع السوية الإعلامية بشكل عام. استفاد الكردستاني من هذه البيئة الخصبة ومزج المدارس ببعضها لينتج إعلاماً خاصاً به، كما سعى سريعاً لامتلاك وسائل خاصة به، مستفيداً من الفراغ الإعلامي لباقي الأحزاب والحركات الكردية التي لم تولي أهمية تذكر للوسائل الاعلامية.

فيما مضى، كانت الأولوية للعمل الحزبي الميداني. المقابلات الشخصية والندوات السرية وبعض المطبوعات الحزبية الهزيلة، هي الوسائل التقليدية الوحيدة المتاحة للأحزاب الكردية والتي تؤمن بها تلك الأطراف. في الوقت الذي كان يدخل فيه الكردستاني إلى كل بيت كردي قبل ثلاثة عقود عبر قناته الفضائية ليروج أفكاره، واستطاع فيما بعد خلق جيش من المقاتلين. الإعلاميين، المتمرسين على كلاسيكيات نظريات الصحافة. الاشتراكية والليبرالية. لهذا نجده اليوم يمتلك العشرات من المنابر الإعلامية (راجع الملحق في أسفل النص) مطبوعة ومسموعة ومرئية، وبلغات مختلفة. كردية وعربية وتركية وإنكليزية وفارسية. أي أننا أمام وسائل إعلامية تستطيع مسح الجمهور الكردي بكل فئاته وشرائحه، ومؤخراً انطلق نحو جمهور أوسع. غربي، مؤثر وضاغط على سياسات بلدانها فيما يخص الموقف من الكردستاني. لشطبه من لوائح الإرهاب أو لكسب مصادر التمويل في الحرب المعلنة على الإرهاب.

ويمكن القول إن اللغة الإعلامية التي يتوجه بها الكردستاني إلى جمهوره تصنف ضمن مستويين متناقضين. الأول أقرب ما يكون للغة البازارات الشعبية. شتم ووصف كل من يعارضه، بالمتخاذلين والخونة والعملاء. والدفع نحو ضرورة التخلص منهم لأنهم عثرة في طريق الحزب للوصول إلى أهداف ثورته المنشودة. لا يتوانى عن تكرار تلك المفردات في أغلب برامجه ذات الطابع التفاعلي مع الجمهور. يفتح الباب ويوحي لجمهوره بضرورة ممارسة حقه في التعبير عن آرائه، في الشتم والسباب. لذا تتحول اللغة هنا إلى دافع للانتقام والتحريض. سلاح يطعن به كل من يقف في طريقه. هذا المستوى اللغوي يصطاد فئة المتحمسين والمتهورين من أصحاب السوابق، أو ممن يؤمن بالعنف كوسيلة مجدية للتعبير عن الشخصية وإثبات وجودها. عند هذا المستوى ذاته يدخل نموذج لغوي آخر على الخط. لكنه على النقيض منه. لغة مفعمة بالعواطف الجياشة. تحفز الأحلام والآمال بتحرير كردستان وتتحدث عن قوافل الشهداء وتسرد قصص مبالغ فيها عن مآثر القادة وتضحياتهم. هنا اللغة الناعمة تتوجه إلى القلوب بصفتها منبعاً للمشاعر والانفعالات. كما هو دارج شعبياً. لا يعطي للعقل انتباهاً، على العكس يحاول تثبيطه وتجاهله. لا داع له. هذا الجانب يعمل على استقطاب الناس العاديين ممن عانوا قسوة الاستبداد وسياسات الإنكار بحقهم. يقع في فخ هذه اللغة قسم كبير ممن يصدق أكاذيب الكردستاني كمنظومة تحررية من الاستبداد ورفع الغبن والحيف الذي ألحق بهم كشعب مغلوب على أمره، وكثيراً ما تقف هذه الفئة حائرة أمام سلوكيات الكردستاني وتصطدم معه في أماكن عدة أو تنسحب من اللعبة بهدوء، وتنزوي بعيداً. تلتزم الصمت.
 
 مجموعة من مقاتلي الحزب في جبال قنديل
 
غاية اللغة. عند هذا المستوى، ليس الترويج للقضية الكردية. هي موجودة بالأصل. إنما حشرهم في دوامة الكردستاني بكل الطرق والسبل. لذلك يتم التركيز هنا على جذب المزيد من الأنصار من خلال مداعبة العواطف وسرد بطولات كوادر الحزب بلغة ملحمية وشاعرية تارةً. وتارةً أخرى بلغة تحقق الجوانب العنيفة لدى البعض الغاضب. وهذه الشريحة الأخيرة تهم الكردستاني كثيراً؛ كمنظومة مليشيوية. تحقق لهم هذا الجانب بسلاسة عبر تجنيدهم كمقاتلين أو تستفيد منهم في الظروف الطارئة.

أما المستوى الثاني من لغة الكردستاني الإعلامية تمتاز بالتعقيد والإبهام والإغراق في المصطلحات. هذا المستوى يكاد يكون سمة عامة في أدبيات الحزب ووسائل إعلامه المكتوب. هناك تقصّد في الزج بالمصطلحات الفلسفية والسياسية، مع رؤية ثورية تخلط لإضفاء شيء من الهيبة على النصوص التي تعبر عن وجهة نظر الكردستاني. في كثير من هذه المقالات والنصوص تكتشف أن الأمر يكاد لا يخرج عن نطاق استعراض معرفي، بالتاريخ، وببعض نظريات علم الاجتماع والسياسة. لا تجد مفيداً يضاف، ولا نقداً ولا محاكمات عقلية تبرهن مثلاً تحول الحزب من الماركسية إلى مفهوم الأمة الديمقراطية. ولا رجعية الفكر القومي الذي تخلى عنها مؤخراً تحت مسوغات تخلفه عن ركب الحضارة العالمي، تشعر بالنهاية أنك تقف أمام أحد نصوص الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين، نتيجة التناقضات والخلط.

هذا المستوى المزخرف بالمصطلحات والغموض لا يأتي عن عبث أو فراغ. ذلك أن الهدف الأول والأخير منه هو التقزيم. البداية كما ذكرنا تكون بالمرور عبر الحواضن العاطفية التي تحدثنا عنها. لغة تخاطب القلب وتتوجه للجميع عبر وسائل بصرية وسمعية، ثم مرحلة التقزيم وهي تشمل كل من دخل تحت عباءة الحزب. تعمل على خلق الشعور بالدونية لدى هؤلاء أمام جبروت الحزب وقادته ومفكريه من خلال إغراقهم بسيل المصطلحات والمفاهيم والنظريات. الغاية منها الترويض والإذعان للغموض. لن تفهم كل ما يقدم لك من كراسات ومنشورات. لماذا؟ ببساطة لأن الحزب والقادة أكبر منك. العلة بك أنت، وما عليك سوى تنفيذ الأوامر..

 ليس المهم أن يفهم هؤلاء مصطلحات الأمة الديمقراطية. كما قلنا، على العكس يجب إغراق الجمهور بسيل المصطلحات لتمويه الحقائق وضياع بوصلة الاتجاهات، وإضفاء شعور الدونية على الجمهور المستلب الإرادة من أجل تسهيل عملية الاستلاب الفكري.

الكردستاني وفن الإشاعة:

 تلعب الإشاعة لدى الكردستاني دوراً محورياً في صناعة الرأي العام وتأليبه ضد منتقدي سياساته وخصومه، وكما يقول الفرنسي لوسيان لوبون. الإشاعة أقوى من الحقيقة (17).

خاصة إذا كانت تلك الإشاعة تتماشى مع مصالح ومفاهيم المزاج الشعبي، وتساعده في التنصل من المسؤوليات والتبعات التي تلحق ضرراً عاماً. مثل مقتل عدد من مقاتليه في معركة ما. سرعان ما ينشر الكردستاني أن خصومه من كرد العراق أو سوريا ساعدوا العدو بشكل من الأشكال للوصول إلى هذه النتيجة الكارثية. وجرت العادة أنه يستبق حربه ضد معارضيه بسيل من الإشاعات غايتها تهيئة الرأي العام لتقبل نتائج سياساته وأفعاله القمعية. كما جرى تماماً لدى اغتيال القيادي الكردي مشعل التمو (18).

القيادي السوري الكردي مشعل تمو والذي اغتيل في السنة الأولى من الثورة السورية

عملت الأجهزة السرية لدى الكردستاني على وصف مشعل التمو بالمتسلق والوصولي والانتهازي، لدرجة أن باقي الأحزاب الكردية المناهضة للكردستاني وقعت في هذا الفخ وراحت تكرر وتجتر هذا الكلام، حتى تم اغتياله وطويت صفحته بهدوء.

ولأن الإشاعة هي من صلب أدبيات الصحافة الاشتراكية والشمولية. واستعملت كسلاح رخيص وغير مكلف لمقارعة الخصوم. تفنن بها الكردستاني وأدرك أنها تحتاج لمجهود كبير من أجل تفنيدها وتبيان كذبها ودحضها فيما بعد. ولنتذكر بهذا الصدد الطفل إيلان. الطفل الكردي الذي غرق في بحر إيجه. كما نعلم تحول إيلان إلى رمز لمأساة السوريين بالعموم وبالخصوص لأهل مدينة كوباني، مسقط رأس إيلان الذي صدم العالم بصورته التي تصدرت كبريات وسائل الإعلام العالمية، بعدما جرفته الأمواج للشاطئ. على إثر هذه الحادثة سادت موجة غضب عنيفة في الشارع الكردي حيال سلوكيات العمال الكردستاني التي أودت بتلك النتائج الكارثية لموجات النزوح والهروب الجماعي للكرد السوريين من مناطقهم، نتيجة عسف قواته القمعية وسياساته الرافضة للاختلاف. تضخمت الموجة. موجة الاستياء والغضب الكردي وتفاعلت من خلال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. خلال يومين ظل الكردستاني واجماً. يفكر بكرة الثلج التي تتضخم، التزم الصمت. ماذا يفعل لصد موجة الغضب؟ ما حدث أنه بعد يومين أو ثلاثة من موجات الغضب الشعبي، قامت الصفحات الموالية للكردستاني ببث إشاعة مفادها التالي. والد الطفل إيلان يعمل لصالح مافيات التهريب ما بين أزمير التركية واليونان، وهو من أرسل عائلته وبقي هو يمارس نشاطه المشبوه. في ظرف ساعات انتشرت تلك الإشاعة انتشار النار في الهشيم. تحولت الجموع الغاضبة والحاقدة على سياسات الكردستاني إلى النيل من والد الطفل وإلقاء وزر تلك النتيجة القاسية على اكتافه. نسي الجمهور صورة الضحية. إيلان. تلك كانت المهمة الأولى لتلك الإشاعة. صرف عنها الانتباه، واتجهت الأنظار نحو ذاك الأب الذي امتهن تجارة البشر. يا له من رجل قذر. تلك كانت المهمة الثانية للإشاعة. حاول البعض أن يفند تلك الإشاعة ولكن عبثاً. جرت عدة لقاءات مع والد الطفل الذي أكد أنه كان على متن القارب نفسه (19)، وكان هو من يقود القارب. هكذا جرت العادة يتفق المهرب مع أحد اللاجئين لقيادة القارب، هذه المعلومة يعرفها كل من عبر البحر نحو أوربا. لكن الضجيج كان أقوى. النار أضرمت، ولا مجال لإطفائها. تلك الإشاعة لم تنقذ العمال الكردستاني فقط. إنما أنقذت جمهوره وأنصاره أيضاً من استحقاق تاريخي. موقف. قد يكون مكلفاً. صدقوا الإشاعة وتماشوا معها إلى حين طويت صفحة إيلان وصار رقماً لضحية عابرة.

جمهور وخطاب الكردستاني:

 استطاع العمال الكردستاني خلال فترة وجيزة. هي بالتحديد فترة الحراك السوري السلمي ومن ثم الحرب، من توفير خطاب مطلوب ومقبول لجمهور واسع من المتابعين له، أو بشكل ثان تسلل إلى حالة التردد التي كان يعاني منها الكرد حيال المجريات على الساحة السورية، والسؤال المهم والأساسي هنا، من هو هذا الجمهور وما هي أشكال هذا الخطاب؟

 الجمهور الأول، كردي بامتياز، يتشكل من ثلاثة أو أربعة شرائح مختلفة. من حيث المكان، الشريحة الأولى تشمل أكراد سوريا المتطلعين والحالمين بالخلاص من الغبن والجهل والحيف الذي لحق بهم طيلة فترة حكم البعث، مع أنه سبق وأن جرب هذا الجمهور خطاب الكردستاني خلال ثلاثة عقود خلت. إلا أنه عاد وسقط مجدداً في الفخ. أمام خطاب جديد ظاهرياً. رفع شعار كردستان سوريا، كانت تلك هي الفرصة التاريخية ليس فقط لهذا الجمهور لتحقيق طموحاته القومية، إنما للكردستاني أيضاً لإعادة إنتاج نفسه بعدما أصابه الخمول والنزيف في الفترة التي تلت اعتقال أوجلان. ومع أن ذاك الخطاب مر بمراحل دراماتيكية، وأحياناً مضحكة نتيجة تقلباته؛ إدارة ذاتية، كانتونات، وفيدرالية روج آفا، ثم فيدرالية الشمال، وربما نشهد الكونفدرالية أيضاً. كل شيء وارد لأن سوق الحرب السورية مازالت تستوعب الكثير من أشكال الخطاب. إلا أنه أمسك بمفاصل الحياة اليومية وصادر القرار الكردي وجيره لصالحه.

 في كل الأحوال يمكن رد الأمور إلى أن هذا الجمهور المقهور والحاقد على البعث السوري، لم يكن يتصور في يوم من الأيام أن يجد شرطياً يتحدث إليه بالكردية أو كتاباً يتناول تاريخه يوتم تداوله دونما محاسبة أو معاقبة. انبهر بالمراكز الثقافية والأنشطة والشعارات المكتوبة بالكردية التي تعم شوارع مناطقه. ترك قضية سقوط الاستبداد، كأولى خطوات إنجاز قضيته، ولحق بخصوصية أوهمه بها الكردستاني وظن أنها الأهم. ساعدته في ذلك جملة من الظروف. إغراءات النظام من طرف. خاصة في بدايات الحراك السلمي، وتشظي وتنازع المعارضات السورية واستعصائها في نفق الإسلام السياسي. دخول الحركات الجهادية فيما بعد زاد من إحكام اغلاق الدائرة، ليجد هذا الجمهور نفسه خارج اللعبة. من طرف فهو مغلوب على أمره بعد تمكن الكردستاني من السيطرة على الأرض، ومن طرف ثان محاط بحروب طاحنة تدور من حوله. بدا هذا الجمهور وكأنه استسلم لقدره. للكردستاني، يمشي نحو حتفه بعدما تم تجفيف كل الخيارات الأخرى. لم يعد يعنيه سقوط الاستبداد من عدمه. وهذا ما يبرر انحسار الشارع الكردي وانغلاقه على نفسه، ثم موجات الهروب الجماعية من المناطق الكردية كرد فعل على سياسات القمع التي مارسها الكردستاني بحق كل من حاول الوقوف بوجهه، عدا عن الظروف الحياتية الصعبة والتجنيد الإجباري وتراجع التعليم والضرائب. رغم ذلك لاقى خطابه الجديد رواجاً لدى البعض. خاصة مع ارتفاع موجة التيارات السلفية والجهادية، والبعض الآخر. ممن تبقى داخل المناطق الكردية، لم يكن أمامه سوى خيار الرضوخ وركوب الموجة.

الوضع بالنهاية في المناطق الكردية لا يقل كارثية عن غيرها من المناطق السورية. قد يظن البعض أن الصورة مختلفة. كوباني (عين العرب) مع جزء كبير من ريفها مدمرة بالكامل. مليون وربع المليون كردي سوري مهجر. أعداد مهولة من القتلى والجرحى الكرد ممن قاتل في صفوف الكردستاني. حصار اقتصادي وشح في الموارد. هروب الكفاءات، ناهيكم عن إرث ثقيل من العداوات التي راكمها الكردستاني مع المحيط العربي والتي تنذر بمستقبل غامض.

وسط تلك الصورة المأساوية لراهن كرد سوريا، كانت المكنة الإعلامية لحزب العمال الكردستاني تعمل ليل نهار على ترسيخ مفهوم ثورة "روج آفا". رسخت تلك الآلة الإعلامية تلك الفكرة. الثورة، وبات من الصعب الفكاك من هذا الزيف. صار واقعاً. تلك الثورة لم تكن في حقيقتها سوى البضاعة التي بيعت لجمهور كان يراقب المشهد عن بعد. من خارج الحدود، يشكل هذا الجمهور باقي الشرائح ضمن هذه الفئة. كرد تركيا بالدرجة الأولى وإيران والعراق بدرجة أقل، والبعض من كرد المهاجر. كل هؤلاء وقعوا في مستنقع ثورة "روج آفا التي سريعاً ما تبنت فلسفة أوجلان. تم الترويج لها كأرضية للحلم الكردي المنشود. وهنا ثمة مسألة مهمة عانى منها كرد سوريا اللذين لاذوا بالفرار إلى تركيا. اذ لاقوا كلمات التأنيب والشتم من أقرانهم كرد تركيا، وتم اعتبارهم خونة لثورة "روج آفا" المزعومة. كانت تلك إحدى مفاعيل تأثر كرد تركيا بالسياسات الإعلامية التي تم الترويج لها والإقبال عليها.
 
متظاهر موالي لحزب العمال الكردستاني في تركيا
 
الجمهور الثاني، يشمل فئات متنوعة ومختلفة من مكونات الشعب السوري. بعض مكونات الجزيرة السورية. عشائر عربية. كلدو آشور. تركمان، بالإضافة إلى مجموعات عسكرية متفاوتة ومتفرقة هنا وهناك في ريف حلب وكوباني (عين العرب). أغلبها امتهنت الحرب بنفس المنطق المليشياوي. لذا غضت الطرف عن الجوانب السياسية. لم تهتم بتلك الجزئيات التي لم تكن على سلم أولوياتها. بالعموم هذه الفئة من الجمهور السوري، الخليط. في غالبيته يتمسك اليوم بأجندات الكردستاني لأسباب متعددة. محاربة الإرهاب والتطرف. تسويق مفاهيم الديمقراطية. وليس آخرها إعلان الكردستاني عن تخليه عن المشروع القومي الكردي بإقامة دولة كردستان، واستبداله بمشروع الأمة الديمقراطية، وفوق كل هذا الحاجة إلى الأمن. تماماً كما نجح النظام السوري في وسم الثورة السورية بالإرهاب. لعب الكردستاني على نفس الوتر، وربما هذه النقطة الأخيرة دفعت بالكثيرين للتحالف معه بدوافع "بقائية" لتوفير هذا الحد الأدنى من الأمان، مقابل بدائل سلفية وجهادية ماثلة أمامهم.

 أما الجمهور الثالث، هو جمهور بعيد عن الوسط الكردي والإقليمي. جمهور عالمي خائف من تصاعد وتيرة الإرهاب العابر للحدود، والذي أوجد له مكاناً في كل من سوريا والعراق. تنظيم الدولة الإسلامية(داعش)، تلك الفوبيا التي اشتغل عليها النظام السوري ونجحت في مهامها. أرّقت العالم وجعلته يشعر بالذعر. وفي هذا السياق يمكن الوقوف عند حدث مهم للغاية. حدث مفصلي. كوباني أو عين العرب. التسمية ليست محل خلافنا هنا. البداية كانت عندما أخذ نجم تنظيم الدولة الإسلامية(داعش) يسطع ويلمع في وسائل الإعلام العالمية والعربية. صور قطع الرؤوس والسحل والحرق والسبايا والمحاكم والرهائن الأجانب. كان العمال الكردستاني يراقب الوضع باهتمام بالغ. الأنظار كلها تتجه صوب ذاك المارد الذي ظهر على الساحة. خفقت لهول فظائعه القلوب في شتى أرجاء المعمورة، لم يعد لانتهاكات النظام السوري من معنى أمام هول المشاهد الهوليودية التي أنتجتها استديوهات داعش المترامية الأطراف، من الموصل إلى الرقة. كان الرأي العام العالمي يتقلب على صفيح ساخن، والدبلوماسية الدولية في حيرة من أمرها. كيف السبيل لمواجهة هذا الطاعون الذي يتمدد.

حيال هذا الواقع، حاول الكردستاني أن يدخل اللعبة مراراً. عرض خدماته في محاربة التنظيم. لكن لم تكن هناك ثقة كاملة من المجتمع الدولي بجدوى التعامل مع الكردستاني. كانت هناك معارك هزيلة ومناوشات بين الفينة والأخرى على عدة جبهات بين الكردستاني وتنظيم الدولة. مع ذلك لم يقتنع الغربيون. ولذلك كان سؤال ما العمل لدخول السوق؟  هو ما يشغل بال قادة الكردستاني، وهم يراقبون عن كثب زيادة التمويل والحاجة الماسة من قبل تلك الدول لإيجاد من يحارب تنظيم الدولة بالوكالة عنهم. جاء الجواب سريعاً. خلال أقل من يومين كان التنظيم يسيطر على كامل مساحة ريف كوباني. زهاء 400 قرية سقطت دون إطلاق رصاصة واحدة. طلب الكردستاني من الأهالي عدم المقاومة وضرورة المغادرة نحو الحدود التركية. ساد الهرج والمرج. راح السكان المحليون والنشطاء والمحللون يتساءلون. كيف تسقط كل تلك المساحات الشاسعة بظرف ساعات. حتى أن بعض سكان تلك القرى أكدوا أكثر من مرة أن التنقل عبر الطرق الريفية للمنطقة يحتاج لوقت أكثر من الزمن الذي استغرقته التنظيم في احتلال تلك المساحات. لم يكن هناك جواب مقنع حول ما يجري على الأرض. سوى بعض التبريرات التي لا معنى لها من قادة الكردستاني، من قبيل أنهم يريدون جر التنظيم الى المدينة، وهناك سيتم سحقهم تحت أقدام مقاتليهم، ولكن حدثت الكارثة، اذ سيطرت داعش على كامل المدينة، بعد عدة أيام، ولم يتبقَ لمقاتلي الكردستاني سوى جيوب صغيرة. بعض الأزقة على التخوم.

في هذه الأثناء كان الإعلام العالمي يرصد مئات ألوف المدنيين الهاربين وهم يعبرون الطرق الترابية نحو الداخل التركي. نساء وأطفال يفترشون الطرقات في المدن والبلدات التركية القريبة. في الواقع هؤلاء لم يكونوا سوى ضحايا، استفاد منهم الكردستاني لجذب الانتباه. وتوجهت أنظار العالم لقوات الكردستاني وارتفعت الأصوات بضرورة تقديم السلاح والدعم لقوات الحماية الكردية. الجناح السوري العسكري للكردستاني.

 وبالعودة الى جمهورنا. العالمي، الذي كان يتابع مجريات المعارك على خلفية صور المدنيين العزل. انتقل الكردستاني نحو مساحة أوسع. دخل السوق الإعلامية الدولية وأقنع المجتمع الدولي بأنه طرف يمكن الاعتماد عليه، طيع ويسمع الأوامر أيضاً. لا وفوقها يملك مقاتلات جميلات تم تسويقهن جيداً في المحافل الدولية.

هكذا كانت معركة "كوباني" نقطة الانعطاف نحو النجومية العالمية بالنسبة للكردستاني ولم يعد تاجر الشنطة يرضى بالفتات، والأجور تتناسب طرداً مع النجومية. ومع زيادة الإقبال على خدماته ارتفعت مطالبه، وهذا ما دفعه نحو المزيد من سياسات احتكار الشأن الكردي. زاد من القمع والتهجير وإلغاء المختلف، وزادت حاجته للمقاتلين المأجورين، وصلت الحال لتجنيد كبار السن والأطفال، واليوم يحاول أن يجد لنفسه مكاناً في تسويات الحل السوري، كلاعب مهم أثبت جدارته.

بورصة الشهداء:

لم يكن غريباً أن يدخل الشهداء في سياسات خطاب العمال الكردستاني كما فعل حزب الله اللبناني، وعلى خلاف كل حركات التحرر العالمية والجيوش النظامية، تلك التي تعتبر سقوط مقاتليها خسارة تستدعي المراجعة وإعادة الحسابات وتغيير الاستراتيجيات، يعتبر الكردستاني ذلك إنجازاً عظيماً، لا بل يسعى نحو دفع المزيد من جمهوره لحمل هذا اللقب. سقوط الشهداء يعني بالنسبة لمنظومته صواب سياساته والمضي فيها. لهذا نجد أغلب خطابات قادته حافلة بتمجيد الشهداء. دماءهم وحدها هي التي تمهد الطريق نحو تحقيق الأهداف. هذه العلاقة الطردية بين الدماء وتحقيق الحلم الشعبي. كردستان، رسخها الكردستاني لدى جمهوره وباتت من المسلمات التي يصعب نقاشها أو التحدث عنها. وهنا أيضاً لا بد من سوق مثال يساعد على فهم آلية خطاب الشهداء.

الشاب الكردي (ف. م) ينحدر من إحدى القرى الحدودية في منطقة عفرين. لم يكن يجيد الكردية ولم تكن لديه ميول سياسية أو ثقافية. فشل في دراسته الثانوية والتفت للعب كرة القدم مع نادي الحرية الحلبي. لوحظ عليه قبيل اختفائه الأبدي في أواخر الثمانينات أن ثمة تغيرات حدثت في دائرة اهتماماته. كلمات معينة استجدت على معجمه اللغوي البسيط، من قبيل القائد "أبو" أوجلان.  يقول إن تحرير كردستان ضرورة وأن تحرير كردستان تركيا ضرورة تاريخية. مفردات وأحاديث مشتتة ومفككة. لم يكن يجيد التحدث بالسياسة. كانت لعبة كرة القدم كل هاجسه وطموحه. لكنه وقع بالفخ من خلال فتاة كانت تربطه بها علاقة انتهت به إلى جبال قنديل وسط ذهول عائلته التي كانت تحاول أن تبتعد بنفسها عن أية تبعات سياسية يمكن لها جلب رحلة من المتاعب. بعد عدة سنوات انقطعت أخبار (ف. م). فقد الاتصال به، في هذه الأثناء كانت تتوالى أسماء الشهداء من قنديل بين الفترة والأخرى. تسريب الأسماء كان يتم بالقطارة. وقد حاول أهل الشاب مراراً الاستفسار عنه دون فائدة. كانت قيادات حلب تكتفي بجملة مقتضبة. عايش وسعيد بما يقوم به، اطمئنوا. هذه الجملة كانت بمثابة الوصفة الجاهزة لكل من يسأل عن أولاده، ممن غرر بهم ودخلوا تلك الحرب المزعومة من أجل تحرير كردستان.

لكن في أواخر التسعينات. أي بعد التحاق (ف. م) بصفوف العمال الكردستاني بعدة سنوات، وبعيد اعتقال اوجلان بأشهر قليلة. التقينا مع أحد الهاربين من جبال قنديل. كان شاباً في الثلاثينات من العمر. بحي الشيخ مقصود. الفقير. ذو الغالبية الكردية. الحي الذي كان بمثابة خلية نحل لعموم الأحزاب الكردية واليسارية السورية، وهو يعتبر اليوم قلعة من قلاع حزب العمال الكردستاني يدافع عنها بشراسة، كان الشاب يستعد للتوجه نحو أوربا. لم يكن أمامه سوى خيار الهروب. إما أن يعتقله الأمن السوري. الهاربون تحديداً كانوا يلقون معاملة قاسية وسنوات سجن طويلة، أو أن ينتظر مصيره المحتم على يد رفاق الأمس. تحدثنا طويلاً عن تفاصيل السنوات التي قضاها في جبال قنديل، حتى عن نوع الطعام وعلاقات الحب والتدريب والمعارك. عن كل شيء. رغم خوفه ومحاولات تهربه استطعت الحفر في ذاكرته بمساعدة أحد الاصدقاء الذي منحه الأمان لجره للسرد. أوقعنا به في تلك الجدلية المفرطة التي كنا نمتاز بها نتيجة حماسنا وشغفنا بكتب اليسار. كنا صورة أخرى لا تقل عن راديكالية حزب العمال الكردستاني ولكن بدون عنف. كان التدخين من طقوس النقاش. لا معنى للمعارك والسجالات بدون دخان. كان الشاب يخاف البوح، لم يكن يمتلك الثقة الكافية نتيجة وضعه الحرج.  سألته بعد أن فرغت جعبتي من الأسئلة وأخذ النعاس يتسلل إلى عيوننا. هل تعرف (ف. م)؟ نزل سؤالي عليه كما الصاعقة. حدق في ملياً وسألني بخوف. من أين تعرف (ف. م)؟ سؤالي طرد النعاس عن جفنيه وحفزه على البوح بأسرار جديدة بعد أن تأكد من العلاقة المتينة السابقة بيني وبين (ف. م). في النهاية رمى بالحقيقة التي أفزعتني وأحزنتني. (ف. م) تم قتله بعد محاولة هروب فاشلة من قنديل. قبض عليه في اللحظة الأخيرة. جيء به وربط إلى جذع شجرة بعد أن جرد من ثيابه. تم دهنه بمخلفات الطعام لجذب الحشرات التي أوسعت جسده لسعاً ثم أخذ إلى مكان ما واختفى إلى الأبد (20). احتفظت بهذا السر. تفاجأنا فيما بعد. بعد سنوات، بانتشار خبر استشهاد صديق الطفولة (ف. م).

تكشف قصة (ف. م) عن جوانب حقيقية غير تلك التي نتخيلها عن قدسية الشهادة التي يتظاهر بها الكردستاني. حيث اعتاد العمال الكردستاني على التكتم عن إعلان أسماء الشهداء. سواء قتلوا في المعارك أو نحروا على يد رفاقهم نتيجة محاولات هروب فاشلة، أو وشاية بتهمة الخيانة والتمرد على الأوامر. طيلة سنوات كره وفره مع الجيش التركي اتبع الكردستاني هذه الطريقة. التكتم على قتلاه وخساراته. ثم يتحين التوقيت المناسب ويحول الخسارة إلى عرس جماهيري. حسب قاموس مصطلحاته.

 الكشف عن أسماء الشهداء كان وما يزال يخضع لجملة من الظروف السياسية الداخلية والخارجية تتحكم بهذا الموضوع. هناك فترات كساد. لا معنى لإعلان أسماء الشهداء. الجبهات هادئة أو ثمة مشاريع سلام تلوح في الأفق أو أن هناك ظروف دولية تسيطر على المزاج العام للجمهور. تشغله عن إطار الاهتمامات المحلية. الشهداء هم بالنهاية رصيد. مدخرات. يجب عدم الإفراط بهم في تجارة خاسرة. تماماً، كما يسعى تاجر الشنطة إلى الابتعاد عن المغامرات الغير مجدية في أوقات غير مناسبة. ما فائدة كميات وفيرة من البضائع في غير مواسمها. تلك هي الحقيقة الدامغة. العديد ممن سقط قتيلاً لم يعرف ذويهم بالأمر إلا بعد مرور سنوات طويلة. حتى عندما يتسرب نبأ استشهاد البعض منهم كان الكردستاني يسارع لنفي تلك الأخبار. يعيّشون الأهل على أمل أن يعود أولادهم ذات يوم. مع مرور الزمن كان يتم ترويضهم لتقبل تلك الحقيقة المرة. البعض كان يصل لحد أنه يريد سماع خبر استشهاد ابنه او ابنته ليتخلص من القلق الذي يساوره لسنوات. تلك كانت إحدى منهجيات امتصاص نقمة الأهالي وتجنب ردات الفعل. خاصة مع ذوي الميول الرافضة لالتحاق أبنائهم بالقتال.

وهنا نذكر مثالاً أخر عن نجل الراحل. أبو صلاح. الفنان الكردي المشهور. ففي حديث دار بيني وبين الراحل يخص ابنه غيفارا الذي استشهد هو الآخر في قنديل. كان معروف عن الراحل رفضه لنهج وسلوكيات حزب العمال. كان ناقماُ عليهم بسبب خطف الكردستاني لأحد أولاده وسحبه إلى قنديل. أعتقد كان في الرابعة عشرة عندما غرر به. طفل. إلى أن استسلم الراحل أبو صلاح لتلك الحقيقة المرة. رضخ للأمر وحاول مراراً إيجاد مخرج لإنقاذ ابنه من الورطة. كان يتصل به من وقت لآخر. سراً، ربما عبر وسيط، كلما سنحت لابنه الظروف بالتحدث. ذات مرة قال لي: بت أخاف عليه أكثر من ذي قبل. قلت له لماذا؟ ما الذي تغير حتى تزداد مخاوفك. أجاب. يعرفون أنني أتصل به. حتى هو- أي ابنه-  بات يخشى من تواصله مع والده. لم تمضي أشهر حتى تم الإعلان رسمياً من قبل العمال الكردستاني عن استشهاد غيفارا.

حادثة استشهاد ابن الفنان أبو صلاح تفتح الباب على نقطة مختلفة لابد من الإضاءة عليها قبل الانتقال إلى محاور جديدة، وهي أن ثمة سياسة خادعة اتبعها الكردستاني إزاء خصومه ممن اختلفوا مع نهجه، تقوم على التركيز على جذب الشباب الكردي، بمن فيهم الأطفال، من البيئات ذات الميول الرافضة لسياساته. وهذا ما حدث تماماً مع المرحوم أبو صلاح. كان اصطياد ابنه ليس سوى عملية لإغراق العائلة بأكملها في مستنقع الكردستاني. تكتمل تلك الصورة التراجيدية بتحويل هؤلاء الشباب. الضحايا. إلى سلعة يتم إعادة انتاجها من خلال التضحية بهم عمداً أو من خلال مجريات المعارك ليتحولوا إلى شهداء. هؤلاء الشهداء ليسوا في الواقع سوى تلك الحفرة التي يقع فيها الأهالي. يرضخون بالنهاية لتلك الحقيقة التي تضعهم أمام اختفاء أولادهم. والبعض منهم بحكم العواطف والحميمية يلجون اللعبة من أوسع أبوابها. لأن العملية لا تتوقف عند هذا الحد، إنما يتم سحب ذوي الشهداء نحو الحزب عبر مؤسسات مثل عوائل الشهداء، تقام لهم الاحتفالات والمكرمات في كل مناسبة. وما أكثر هذه المناسبات. أوسمة معدنية وصور وشعارات. هذا كل رأسمالهم. ليرى الأهالي أنهم صاروا ضمن دائرة تحيط بهم من كل جانب. لا مناص أمامهم سوى الرضوخ تخليداً لذكرى أولادهم وأحبتهم.
 
 
تلك السياسات الخادعة. المدروسة بعناية فائقة، كثيراً ما أوقعت بخصوم العمال الكردستاني. الكثير من العوائل الكردية ذات الميول المناهضة كلياً لفكر ونهج الكردستاني. خاصة تلك المنضوية لنهج البرزاني، هذه العائلات تحديداً تم خطف أولادهم وتجنيدهم. والملاحظ أن أغلب هؤلاء الفتية يتحولون إلى شهداء. بقدرة قادر. هل هي الصدفة أم دهاء الميليشياوية التي تسيطر على منظومة الكردستاني؟ على الأغلب هؤلاء الشهداء الذين ينحدرون من البيئات المعارضة للكردستاني، ليسوا أكثر من أداة للعبور إلى داخل أسوار تلك العائلات المنيعة أمام تمدد الكردستاني. توغل، ومن ثم نسج العلاقات وبث الإيديولوجيا في مراحل تالية. ونتيجة هذه الثقافة. ثقافة صناعة الشهداء. والتي ترافقت مع ازدهار مقابر الشهداء. اليوم تكاد لا تخلو منطقة كردية من هذه المقابر التي يتباهى بها الكردستاني. كما ظهرت عشرات المؤسسات الخاصة بعوائل وأمهات الشهداء، ولدى الاطلاع على النظم الداخلية الخاصة ببعض هذه المؤسسات نجد المحتوى ينصب بالدرجة الأولى على الضخ الإيديولوجي للكردستاني. نشاطات واجتماعات غايتها رفع منسوب الدم. لم أجد أية مواد تخص رعاية أسر وأبناء الشهداء. فقط المادة الأخيرة. السادسة عشرة، من مؤسسة عوائل الشهداء (21) بعفرين تتطرق بشكل مقتضب إلى توفير الرعاية الصحية والتعليم لعوائلهم. دون الدخول في التفصيلات، بينما تسرد باقي المواد ضرورة أرشفة الشهداء وصنع أفلام وكتب عنهم، ولا تنسى إحدى المواد بضرورة إقامة مقابر إضافية. اذ ترد مثلاً في المادة العاشرة الجملة التالية (متابعة إنشاء مقبرة شهيد سيدو وشهيد رفيق). حتى أنها قامت مؤخراً بنقل رفات شهداء الانتفاضة الكردية عام 2004 إلى ملاك مقابرها. رغم اعتراض الأهالي (22).
 
المراجع:
 
(15) - أرشيف يكيتي ميديا.
(16) - موقع روداو. حزب الاتحاد الديمقراطي يعتذر عن "مجزرة" تل غزال في كوباني.
(17) - سيكولوجية الجماهير. لوسيان لوبون..
(18) - تم الترويج لأكاذيب طالت حياته الشخصية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
(19) - صحيفة الحياة. تقرير عن ملابسات الحادثة. 3-ايلول-2015
(20) - تنويه: طريقة القتل هذه معروفة لدى أغلب من قابلتهم من العناصر المنشقة عن العمال الكردستاني، حتى أحياناً عندما يسأل البعض من العناصر عن رفاقهم المختفين يقال لهم. ذهب إلى باريس. كناية عن التخلص منه وقتله.
(21) - وكالة أنباء هاوار. عنوان الخبر. مؤسسة عوائل الشهداء تجدد إدارتها في عفرين
ونواحيها. 11-2-2016
(22) - موقع روداو. مؤسسة عوائل الشهداء تنقل رفاة شهيدة لمقبرتها بعفرين رغم رفض أهلها.18-4-2016.
 
ملحق بأسماء وسائل إعلام العمال الكردستاني في سوريا:

- الموقع الرئيسي للعمال الكردستاني – كردي – عربي- تركي
- الموقع الرئيسي لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا
- الموقع الرئيسي لحزب الحياة الحرة في إيران
- موقع قوات حماية المرأة ypj
- مجلة قوات حماية المرأة
- موقع قوات الحماية الشعبية ypg
- موقع الشهداء. hpg-sehit. 
- موقع الأسايش asayish.
- موقع فيدرالية روجافا شمال سوريا fdr-bs
- موقع anfarabic بالعربية والكردية والتركية والفارسية والانكليزية
- وكالة انباء هاوار عربي- كردي- تركي
- موقع خبر 24
- الموقع الرسمي لحركة الشعب الكردستاني serxbon 
- جريدة سرخبون الورقية serxbon 
- إذاعة جودي تبث من عامودا
- مجلة الحرية (آزادي) الورقية كانت ناطقة باسم الثورة السورية منذ 2011
- مجلة مزكين الورقية للأطفال
- جريدة روناهي الورقية RONAHI
- قناة روناهي
- قناة م م سي الغنائية.
- قناة ستار.
- مجلة اتحاد ستار الورقية
- موقع ستار
- موقع اتحاد الشبيبة الديمقراطي
- مجلة آفاق المرأة (أسو جيان)
- مجلة فيان الثقافية والفنية
- إذاعات محلية في كوباني وعفرين والقامشلي
- الموقع الرئيسي للإدارة الذاتية في عفرين
- الموقع الرسمي للإدارة الذاتية في كوباني
- الموقع الرسمي للإدارة الذاتية في القامشلي
- وكالة ما بين النهرين مقرها ألمانيا
- موقع أرارات
- جريدة GUNDEM تطبع في تركيا
- شبكة صدى الأنين DENHA كردي عربي
- موقع روج نيوز. rojnews
- موقع نسوي باسم (المسلة) /gazetesujin – كردي عربي تركي إنكليزي
- جريدة آزادي ولات يومية AZADIA WELAT تصدر في تركيا
- موقع komunar يهتم بالفكر
- جريدة أوزكور بوليتيكا OZGUR POLITIKAHG الورقية   كردي- تركي
عبدو خليل

كاتب وباحث في الشأن السوري والكردي

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.