دوائر الصراع حول سوريا: الجغرافية والقوى المحلية واللامركزية

24 نيسان/أبريل 2017
 
مدخل:

    • بعد أقل من نصف عام على انطلاق الثورة السورية منتصف مارس/آذار 2011 أصدرت الحكومة السورية جملة قرارات وتعديلات على بعض القوانين ومواد الدستور في إطار حملة إصلاح سياسي تلبيةً لمطالب المحتجين في محاولة لتهدئة الشارع السوري، ومن بينها المرسوم التشريعي 107 في أغسطس/آب 2011 الذي يتضمن اعتماد "التدابير اللازمة لممارسة اختصاصات الوزارة أو الإدارة أو المؤسسة المركزية التي تمّ نقل اختصاصاتها إلى الوحدة الإدارية بموجب الخطة الوطنية للامركزية"، وإدارة الوحدات الإدارية من قبل مجلسٍ محلي منتخب.
    • ويتجه الحل الأممي للأزمة السورية نحو سوريا تعددية يحكمها نظام حكم يعتمد فيدراليات قائمة على أساس القبول بالتعايش بين المكونات ضمن دولةٍ سوريةٍ موحدةٍ بعيدةٍ عن نظام الحكم المركزي القائم قبل الثورة، وهو أمرٌ لا يتعلق ببقاء نظام بشار الأسد أو زواله.

    • وتنطوي بعض الحلول المقترحة في إطار التسوية الأممية للصراع السوري على توزيع الرقعة الجغرافية السورية إلى عدة قطاعات خاضعة لأقلياتٍ دينيةٍ أو طائفيةٍ أو قوميةٍ لإدارتها بنموذجٍ من الحكم اللامركزي المرتبط بحكومةٍ مركزيةٍ مقرها العاصمة دمشق مع صلاحياتٍ واسعةٍ على جغرافية سيطرة تلك الأقليات.

    • وتتراوح التكهنات بين انقسام سوريا إلى دويلاتٍ عرقيةٍ وطائفيةٍ متنازعة على الأرض والحدود الإدارية والثروات والسلطة في مناطق قلّما كانت من مكونٍ عرقي أو طائفي واحد؛ والاحتمال الثاني عودة النظام الذي تُهيمن عليه الأقلية العلوية للسيطرة على كامل الأراضي السورية وقبول الأغلبية العربية السُنّية بالعودةِ إلى ما قبل انطلاق الثورة السورية للعيش تحت سلطة هذه الأقلية، وهو الراجحُ استناداً إلى عوامل ومعطيات عدة.

    • سيظل الواقع الميداني يُشير إلى تقسيم مناطق نفوذ على جغرافياتٍ متعددةٍ؛ لكن ليس هناك ما يشير إلى احتمالات تقسيم سوريا إلى كياناتٍ أو دويلاتٍ على أسسِ الطائفة أو الدين أو العرق؛ ومن شأن أيّ تسوية أممية للازمة السورية أنْ تعيد توحيد الجغرافية السورية في إطار مقرراتٍ دوليةٍ تعتمدها آليات مرجعية جنيف، أو قراراتٍ لاحقة من مجلس الأمن.

    • من المؤكد إنّ أيّ تغيير في البنية الأساسية لنظام الحكم ستكون لصالح الولايات المتحدة وأوروبا اللتان تدعمان بعض فصائل وقيادات المعارضة المسلحة والسياسية، وبالتالي ستكون الجغرافيات الحيوية للنفوذ الروسي في مناطق مرور خطوط أنابيب الغاز الخليجي أو النفط العراقي خارج السيطرة الروسية، وستشكل إقامة مثل تلك الخطوط تهديداً صريحاً للمصالح الروسية في مجال إيرادات الطاقة.

نظرة سريعة على الجغرافية السورية:
الحدود الإدارية لسوريا اليوم هي ليست ذاتها التي كانت تتشكل منها قبل اتفاقية سايكس بيكو 1916 المعروفة تاريخياً باسم بلاد الشام والتي تمتد جغرافيتها من جبال طوروس في الشمال إلى شبه جزيرة سيناء جنوباً وامتداداتها الصحراوية شرقاً وإلى سواحل البحر الأبيض المتوسط غرباً.
شكلت مناطق الساحل السوري تاريخياً موطناً لإقامة الأقليات في جيوبٍ منعزلةٍ ضمن سلسلةٍ جبليةٍ تمتد بموازاة ساحل البحر الأبيض المتوسط ضمّت في معظمها علويون ومسيحيون ودروز، ومن تلك السلسلة الجبلية ثمّة انحدار على سفوحها إلى مناطق منبسطة على طول نهر العاصي وسهل البقاع (لبنان) بامتداداته إلى سلسلة جبال القلمون شرق لبنان وهضبة وادي حوران وجبال جبل الدروز وغيرها من الجغرافيات الأكثر وعورة والتي توفر موانع طبيعية لاحتماء الأقليات؛ ومن ذات السلسلة الجبلية على الحدود اللبنانية الشرقية مع سوريا تتدفق ينابيع نهر بردى الذي يروي مناطق العاصمة دمشق.
وعلى امتداد دمشق شمالاً تمتد مساحاتٍ جغرافيةٍ صحراوية، منبسطة في معظمها، إلى محافظات حمص وحماة وإدلب ومن ثمَّ إلى محافظة حلب، ثاني أهم المحافظات السورية بعد العاصمة؛ وتمثل حلب ممراً برياً يربط بين دمشق جنوب سوريا، ومناطق الأناضول في تركيا إلى الشمال الغربي وصولاً إلى الدول الأوربية، أو إلى الشمال الشرقي وصولاً إلى روسيا والقوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى.
أما من العاصمة دمشق شرقاً فلا تبدو سوى مساحاتٍ شاسعةٍ من المناطق الصحراوية تصل بين سوريا والعراق وتمتاز بكثافةٍ سكانيةٍ متدنية.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قسّمت بريطانيا وفرنسا، بتوافق دول أخرى، منطقة الشرق العربي إلى عدة دول أو كيانات على أسس لا تنسجم مع التوزيع السكاني لتلك الجغرافيات عرقياً أو دينياً أو طائفياً؛ ما زرع بذرة صراع كامن يتمحور حول المصالح الفئوية والهويات الفرعية وصراع السلطة والموارد؛ وكان لهذا الصراع الكامن والتنوع الديني والطائفي والعرقي تداعيات على الواقع السوري قبل وبعد انطلاق الثورة السورية في مارس/آذار 2011.
وخلال حقبة الانتداب الفرنسي على سوريا التي انتهت في عام 1943، شهدت مناطق الساحل السوري تمركزاً للأقلية النصيرية، التي أصبحت فيما بعد تسمى العلوية، والتي ينحدر منها الرئيس السوري بشار الأسد نجل الرئيس السابق حافظ الأسد الذي جاء إلى السلطة في عام 1970 حيث عزّز التغيير الديموغرافي لصالح أقليته بتوطين المزيد من العلويين من سكان المناطق الساحلية في ضواحي العاصمة بصفتهم جنود أو ضباط في الجيش السوري، ووحدات الحرس الجمهوري بشكلٍ أدق.
 
الصراع على الجغرافية السورية:
اتخذ الصراع السوري بعد الثورة السورية عام 2011 طابعاً إقليمياً، ودولياً، بلا محددات تقف دون تدخل أيّ قوة منظمة، أو دولة؛ سواء الدول، مثل روسيا والتحالف الدولي، أو المنظمات والتنظيمات المسلحة، مثل تنظيم الدولة وجبهة النصرة والمجموعات المسلحة الشيعية المرتبطة بأحزابٍ شيعيةٍ عراقية، أو بالحرس الثوري الإيراني، مثل حزب الله اللبناني ولواء أبو الفضل العباس وسرايا الخراساني المرتبطة مباشرةً بمكتب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية.
الأطراف المحلية الأساسية التي تتوزع سيطرتها على جغرافية سوريا تتمثل في تنظيم الدولة والقوى الكردية وقوات النظام والمعارضة المسلحة؛ ولا تخلو خريطة الصراع السوري والتدخلات الإقليمية والدولية من عاملي الاقتصاد وجغرافية التنوع العرقي والطائفي للمجتمع السوري.
كما أنّ الصراع السوري بدا في ظاهره صراعٌ بين أغلبيةٍ تحاول تحقيق شراكة حقيقية في السلطة والموارد، وأقلية طائفية مدعومة إقليمياً ودولياً ترفض مثل تلك الشراكة وتكتفي بقبول مشاركة أطراف من الأغلبية لا يُنظر إليها كممثلٍ حقيقي لهم.
يظل العنوان الأبرز لمعظم المعارك التي تخوضها المجموعات المسلحة عموماً، هو السيطرة على المزيد من المساحات الجغرافية وانتزاعها من تنظيم الدولة لضمّها إلى مناطق سيطرتهم، وهو ذات ما تفعله قوات النظام التي تسعى إلى تعزيز سيطرتها على الأراضي السورية واستعادة المزيد منها وصولاً إلى كامل الأراضي السورية مستغلة الصراعات البينية بين الفصائل المختلفة لفرض واقع يقلل من عدد الجهات التي تسيطر على الأرض بما يسهل إعادة السيطرة عليها، إما بالتفاوض، أو باستخدام القوة العسكرية لقوات النظام والقوات الحليفة.
 
صراعات الأطراف الدولية والإقليمية:
ظهرت جغرافية الصراع السوري بثلاثة لاعبين أساسيين، إيران وروسيا والولايات المتحدة، ولكلّ من هؤلاء قوى محلية حليفة لها تُنفّذ سياساتها وتسعى لتحقيق مصالحها مقابل الدعم المقدَّم لها؛ ومع هؤلاء ثمّة لاعبين فرعيين مثل تركيا والسعودية وقطر، وهؤلاء أكثر انسجاماً في رؤيتهم لملف الصراع مع تباينات في سبل الخروج منه، أو الدعم المقدَّم للحلفاء على الأرض.
وتتداخل مصالح الأطراف الثلاثة الأساسية الفاعلة في الصراع السوري وتتناقض في محطات عدة، لكنّها تلتقي على هزيمة التنظيمات الموصوفة بالإرهاب، تنظيم الدولة في مقدمتها ومن ثمّ جبهة فتح الشام.
شكّل التدخل العسكري الروسي المباشر منعطفاً في تعارض المصالح مع الولايات المتحدة التي بدت الطرف الأقل تأثيراً من كلّ من إيران وروسيا؛ كما تعمل الأطراف الفاعلة في الصراع على فرض السيطرة والنفوذ على جغرافياتٍ ذات صلة بمصالحها الاقتصادية التي يمكن أنْ تكون جغرافيات خطوط أنابيب الغاز ومناطق الحقول النفطية هي الأكثر أهمية لدى كلّ طرف من تلك الأطراف.
استخدمت الأطراف الخارجية ساحة الصراع السوري لتصفية حسابات خاصة بها وتحقيق ما أمكن من مصالحها بصرف النظر حتى عن مصالح القوى المحلية الحليفة لها؛ ويحاول كلّ طرف خارجي أنْ تكون له منطقة نفوذ ضمن رقعة جغرافية تسيطر عليها القوة المحلية الحليفة لها، لذلك بدا الصراع السوري أكثر تعقيداً وهو لم يعد صراعاً محلياً في أيّ حال من الأحوال.
ومع دخول الصراع السوري العام السابع برز كواحد من بين أكثر الصراعات ذات البعد الجغرافي المرتبط بالبعد السياسي في العصر الحديث دون أنْ يتمكن المجتمع الدولي من وضع حل سياسي له لكثرة الأطراف المحلية غير المتفقة على رؤية مشتركة للحل، وتعدد الأطراف الإقليمية والدولية وتنوع مصالح كلّ طرف وتناقضها مع مصالح الأطراف الأخرى.
 
صراعات الأطراف المحلية:
النظام السوري والحلفاء المحليين:
بعد ست سنوات من الثورة السورية، حققت قوات النظام تقدماً ملحوظاً في محيط دمشق على حساب سيطرة المعارضة المسلحة، في ذات الوقت كان حزب الله اللبناني قد فرض سيطرةً مطلقةً على الطريق البري الواصل بين دمشق والساحل اللبناني، وهو يقع ضمن جغرافية بالغة الأهمية للمشروع الإيراني.
نهاية عام 2012 م وشتاء عام 2013 م بدت قوات النظام في أشد حالات الضعف لكثرة جبهات القتال واتساع رقعتها الجغرافية وانتشارها على مساحات خارج قدراته اللازمة لتغطيتها عددياً من قبل تلك القوات؛ ومنذُ تلك الفترة ركّزت قوات النظام على استراتيجية التخلي عن المناطق التي لا تُشكل أهمية استراتيجية لبقاء النظام وهيمنة الأقلية العلوية، إضافةً إلى تأمين الجغرافيات ذات الأهمية الاستراتيجية للمشروع الإيراني في المنطقة، وهي الجغرافية المعروفة باسم "سورية المفيدة".
تمتد جغرافية "سورية المفيدة" على طول مساحة المناطق من مركز الحكم في دمشق إلى الساحل السوري مركز ثقل الأقلية العلوية؛ وفي اتجاه آخر من العاصمة دمشق إلى الساحل اللبناني وهي مناطق يتولى حزب الله اللبناني تأمينها، وهي أيضاً على صلة بالاستراتيجيات الإيرانية في توسيع مساحة نفوذها وهيمنتها على منطقة الشرق العربي؛ وفي مايو 2013م سيطرت قوات النظام وحزب الله اللبناني على مدينة حمص وبعدها بلدة القصير ومعظم الطريق الواصل بين دمشق وحمص وحماة ومدن الساحل، وهي المساحات الجغرافية ذات الأولوية في الدفاع عنها.
ركّز النظام على مناطق ذات أهمية حيوية للدفاع عن تحصيناته في العاصمة والساحل، وكذلك ما له صلة بمناطق جغرافية تمثل طرقاً بريةً لتواصل المشروع الإيراني من الحدود الإيرانية مروراً بالعراق إلى الحدود مع سوريا وصولاً إلى العاصمة وحدود لبنان إلى بيروت والساحل اللبناني، ومن العاصمة دمشق مروراً بصحراء حمص إلى الحدود اللبنانية في القلمون وعرسال، وفي اتجاهٍ آخر من العاصمة مروراً بصحراء حمص وصولاً إلى مدن الساحل السوري وشواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وقد تعمّد النظام ترك جغرافيات واسعة خارج نطاق رؤيته للمناطق الحيوية التي يدفع بأكبر قوة للدفاع عنها من خلال ترشيد استخدام العنصر البشري وسحبه بعيداً عن الاستنزاف في مناطق لا تشكل أهمية حيوية راهنة؛ لكنّها تظل مناطق قابلة للاستعادة ضمن خطط النظام مع إيلاء عامل الأولويات أهمية خاصة تبعاً لمعايير النظام التي يضعها لتحديد أهمية هذه الجغرافية، أو تلك، من مناطق البلاد.
في الشمال السوري، وبمحاذاة الشريط الحدودي مع جنوب تركيا، سيطرت القوات الكردية على مساحاتٍ واسعةٍ دون أنْ يبدي النظام أيّ اعتراض أو مقاومة للسيطرة الكردية طالما تعد تلك الجغرافية بعيدة عن الجغرافية الحيوية للنظام، إضافةً إلى أنّ سيطرة القوات الكردية على تلك المناطق كفيلة بتهديد الأمن التركي، وهو هدفٌ من أهداف النظام لزعزعة الأمن والاستقرار في تركيا.
وفي كلّ الأحوال تبقى السياسات التي يتبعها النظام بعدم الاكتراث بسيطرة أيّ طرف من الأطراف على أراضٍ خارج نطاق الجغرافية الحيوية الضامنة لبقائه ونجاح مشروع الحليف الإيراني وضمان مصالح الحليف الروسي، هي سياسات مرحلية لا تتعارض مع استراتيجية النظام في استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية وإخضاعها لسلطته المركزية أو لسلطة لا مركزية ترتبط بالحكومة المركزية في دمشق، وهذه إحدى آليات إدارة المناطق السورية مُنذ صدور المرسوم التشريعي رقم 107 في 2011 بعد أشهرٍ من بداية الثورة السورية.
على الأقل في السنوات الثلاثة الماضية، باستثناء خسارة قوات النظام مدينة إدلب، اتبع النظام استراتيجيات متعددة لاسترداد الأراضي التي فقدها في الأعوام السابقة؛ واستعادت قوات النظام السيطرة على مساحاتٍ إضافيةٍ خلال معركة حلب صيف وخريف 2016، والمرحلة التي أعقبتها بإسنادٍ إيراني روسي مشترك، ودعم قتالي لمجموعات شيعية مسلحة دربتها ومولتها إيران إضافةً إلى حزب الله اللبناني ومجموعاتٍ محلية؛ وتتمتع هذه المجموعات المسلحة بنفوذٍ واسعٍ وسيطرةٍ شبه مطلقة على مناطق معروفة إعلامياً بأنها خاضعةٌ لسيطرة قوات النظام.



يُراهن النظام السوري على الانتصار العسكري واسترداد جميع الأراضي السورية، وهناك ثمّة اتجاهين إثنين برزا في سبيل التوصل إلى تسوية للصراع السوري بعد اليأس من الحسم العسكري لأي من أطراف الصراع.
الاتجاه الأول هو العودة والقبول بخضوع سوريا لسلطة الحكومة المركزية في دمشق مع مشاركةٍ يمكن التوافق عليها لبعض أطراف المعارضة السياسية الداخلية التي لا تزال تمارسُ نشاطاتها من دمشق، والخارجية كممثلةٍ عن الفصائل المسلحة والمعارضة التي تُمارس عملها السياسي من خارج البلاد.
والاتجاه الثاني يتمثلُ في استمرار الصراع المسلح لتثبيت مناطق سيطرة لكلّ طرف من الأطراف ووضع خطوط تماس تحترمها جميع الأطراف، لكنّ هذا سيبقى مؤجلاً حتى بلوغ الهدف الأمريكي غاياته في القضاء على تنظيم الدولة وجبهة فتح الشام.
 
الطرف العربي المعارض:
تركّز تواجد الأغلبية العربية السُنيّة تاريخياً في مناطق صحراوية وأراضٍ ممتدة من دمشق إلى حلب؛ فيما تركّزت الأقليات في مناطق جبلية وعلى الساحل السوري الذي وفّر لها فرص التواصل مع قوى خارجية للاحتماء بها من تهديداتٍ "مفترضةٍ" مصدرها الأغلبية العربية السُنيّة.
تأثرت جغرافية العرب السُنّة في سوريا بتداعيات انطلاق الثورة من مدنها وبلداتها لتكون هدفاً لقمع قوات الأمن التابعة للنظام ولقصف طائراته ثمّ طائرات الحليف الروسي مع واقع وجود نسبة كبيرة من السُنّة في صفوف الجيش السوري والفروع الأمنية، وكذلك عددٌ ليس بالقليل من العشائر العربية تقدّم دعمها للنظام وتقاتل إلى جانبه ضمن تشكيلات متعددة.
تتوزع السيطرة على الأراضي السورية جغرافياً إلى عدّة كيانات شبيهة بالدول تخضع لسلطاتِ مكوناتٍ قوميةٍ، مثل الأكراد في الشمال الشرقي، أو طائفيةٍ مثل العلويون في العاصمة وامتداداتها إلى محافظات الساحل؛ أو تكون خاضعةً لتياراتٍ فكريةٍ علمانيةٍ أو دينيةٍ مثل محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة فصائل إسلامية وأخرى تابعة للجيش السوري الحر؛ أما تنظيم الدولة الذي كان يسيطر على مساحات هي الأكبر قياساً إلى قوات النظام والأكراد والمعارضة المسلحة فقد تراجعت مساحات سيطرته إلى حدٍّ كبير، ويستمر التنظيم بخسارة أراضيه في سوريا والعراق أيضاً.
أما المساحات الجغرافية في جنوب العاصمة دمشق ومحافظة درعا على الحدود الأردنية والحدود مع هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل، فهي مساحاتٌ خاضعة لسيطرة فصائل الجيش السوري الحر الموصوفة بالاعتدال، والتي تتلقى دعماً وتمويلاً من الولايات المتحدة ودولٍ عربية، مثل الأردن والإمارات.
تميزت الجغرافيات ذات الأغلبية العربية السُنيّة في العراق وسوريا بكونها ميداناً للعمليات القتالية لأطرافٍ محليةٍ وإقليمية ودولية؛ مثل الأنبار والموصل في العراق، ومعظم ساحة الصراع المسلح في سوريا.
وتخوض الصراع المسلح في جغرافية المناطق العربية السُنيّة أطرافٌ محلية في معظمها لكنها ليست من أبناء نفس المناطق؛ ففي العراق تخوض المجموعات الشيعية المسلحة صراعها على جغرافية العرب السُنّة المغايرة لها في الانتماء الطائفي، وبعضٌ منها يخوض صراعه المسلح على جغرافياتٍ عربيةٍ سُنّيةٍ في سوريا؛ كما تخوض القوات الكردية في العراق وسوريا أيضاً صراعها المسلح على جغرافياتٍ معظمها عربية سُنّية مغايرة لها في الانتماء القومي.
لكنّ كلّا من جغرافيات الشيعة والأكراد، وهي جغرافيات منعزلة عن جغرافيات العرب السُنّة بالعراق، ظلت بعيدة عن دائرة الصراعات المسلحة ذات البعد الإقليمي والدولي؛ أما في سوريا فتكاد تصُح ذات المقاربة مع استثناء لبعض جغرافيات الأكراد في الشمال السوري التي شهدت صراعاتٍ مسلحةٍ لكنّها تظل مساحاتٍ صغيرةٍ قياساً إلى رقعة الصراع التي تخوضها القوات الكردية في جغرافياتٍ أخرى، وهي جغرافياتٍ عربيةٍ سُنّية.
سياسة فرض الأمر الواقع في السيطرة على مناطق العرب السُنّة في العراق تبنتها القوى الكردية في فرض سيطرتها على مناطق عربية سُنّية في شمال وشمال شرقي سوريا حيث تفرض الإدارة الذاتية للأكراد قانونها الخاص على العرب في مناطق سيطرتها، مثل التجنيد الإلزامي للذكور والإناث أو دفع البدل النقدي أو مغادرة مناطق السيطرة الكردية بما يشبه سياسة التهجير القسري لإحداث تغيير ديموغرافي في جغرافيات معروفة بغالبيتها العربية السُنيّة، واحتمالات استثمار هذا التغيير لصالح القومية الكردية في أيّ استفتاء لتقرير مصير نلك المناطق مستقبلاً فيما لو أقرّ الدستور السوري المُرتقب حق تقرير المصير على شاكلة ما أقرّه الدستور العراقي في 2005 بإعطاء الحق لسكان المحافظات بإقامة إقليمٍ من محافظةٍ أو أكثر وفقاً لاستفتاءٍ خاص بسكانها.
ومُنذ أوائل عام 2012 ظهرت تنظيمات إسلامية مسلحة تحمل الفكر الجهادي السلفي التقليدي، مثل جبهة النصرة لأهل الشام سابقاً أو جبهة فتح الشام، وهو فكر غير مألوف في أوساط الثورة السورية مُنذ انطلاقتها كحركة احتجاجية سلمية منتصف مارس/آذار 2011 وحتى عسكرتها أواخر صيف العام نفسه.
اختارت جبهة فتح الشام السيطرة على مناطق حدودية شرق سوريا لسهولة التواصل مع دولة العراق الإسلامية في الجانب الآخر من الحدود، وكانت الجبهة تحمل مسمى جبهة النصرة لأهل الشام، وهم مقاتلون قدموا من العراق من معسكرات تابعة لدولة العراق الإسلامية أواخر 2011 مع تمويل وسلاح وذخيرة للسيطرة على الأجزاء الشرقية من سوريا والتي كانت تخضع لسيطرة فصائل الجيش السوري الحر مُنذ يوليو/تموز 2012 وحتى خسارته مدن البو كمال والميادين ودير الزور وخسارته تلك المناطق على يد جبهة فتح الشام قبل أنْ تخسرها في أواخر يونيو/حزيران 2014 لصالح تنظيم الدولة.



حاول تنظيم الدولة السيطرة على أكبر مساحة من جغرافية سوريا بعد سيطرته على مدينة الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014 في ساحة خالية من الفصائل المسلحة مُنذ الانسحاب الأمريكي من العراق في نهاية العام 2011؛ وهي ساحة مغايرة للساحة السورية التي تتميز بتعدد الفصائل المسلحة العاملة وسيطرتها على مساحات مهمة من سوريا ما أدى إلى خلافات تطورت إلى صدامات مسلحة شكلت المنعطف الأخطر في مسار الثورة السورية.
تمتاز جغرافيات سيطرة تنظيم الدولة دون غيرها بالانحسار التدريجي مع زيادة في المساحات لفترات زمنية مؤقتة، كما يحصل في سيطرتها على مدن ثمّ خسارتها مثل تدمر ومحيطها الصحراوي الواسع؛ لكن لا تزال هناك مناطق مهمة خاضعة لسيطرة التنظيم في محافظتي الرقة ودير الزور، وهي في عمومها مناطق تشهد انحساراً في سيطرة التنظيم عليها، مما أدخل أطراف الصراع المحلية والإقليمية في تنافس للاستحواذ على تركته من الأراضي التي ينسحبُ منها بفعل العمليات العسكرية أو من دونها وفقاً لحساباتٍ خاصةٍ بقياداته.
ومع اتساع رقعة العمليات العسكرية باتت الجغرافية السورية أشبه بمقاطعات متعددة يسيطر عليها هذا الطرف أو ذاك ويتحصن فيها ويدافع عنها، مع عمل دؤوب لانتزاع السيطرة على مناطق جديدة وضمّها إلى الجغرافيات الأساسية لسيطرتها.
 
المجموعة الكردية في الصراع السوري:
يعتقد الأكراد أنهم الأقلية القومية الوحيدة في المنطقة التي تتشكل من 30 إلى 35 مليون نسمة دون أنْ يكون لهم وطنٌ قومي يجمعهم قياساً إلى هذا العدد الذي يتوزع على أربع بلدان متجاورة، سوريا والعراق وإيران وتركيا.
لا توجد إحصائية دقيقة تعكس واقع الوجود الكردي في عموم المنطقة، أو في بلدانها، وهي بالتالي أرقام تقريبية قد تقلّ عن الواقع أو تزيد، ولا تخلو في الكثير منها من عوامل الانحياز لدى الجهات التي تنشر مثل هذه الأرقام زيادةً أو نقصاناً وفقاً لما يخدم هدفها.
وحسب أرقام تقريبية من مصادر مختلفة يمكن تقدير أن من يعيش من الأكراد في العراق نحو 5 ملايين وفي تركيا نحو 14 مليون وفي إيران أكثر من 8 ملايين وفي سوريا يقدّر تقرير "المجموعة الدولية لحقوق الأقليات عام 2011 بأنّ مليونين ونصف مليون مواطن كردي يعيش في سوريا، من أصل أكثر من 23 مليون يمثلون عدد سكان سوريا"، ويرتفع عدد الأكراد إلى ثلاثة ملايين نسمة حسب المصادر الكردية السورية.
في الأشهر الأولى من الصراع السوري لعب الأكرادُ دوراً هامشياً وحذراً قبل أن تندمج القوى الكردية لتشكيل وحدات حماية الشعب كجناحٍ مسلحٍ لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والتي استطاعت بحلول العام 2014 إنشاء ثلاثة كانتونات في شمال سوريا وإعلان الإدارة الذاتية كنظامِ حكمٍ لإدارة المناطق التي تُسيطر عليها بمحاذاة الشريط الحدودي مع تركيا.
نجحت الإدارة الذاتية في فرض قبول العرب بالعيش كأقلية قومية ضمن مناطق سيطرتها أو الرحيل منها؛ وتمارس قوات حماية الشعب الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي انتهاكاتٍ وثّقتها منظماتٍ دوليةٍ تهدف لإفراغ جغرافيات سيطرة القوات الكردية من المكون القومي العربي أو القبول بالعيش تحت سلطتها كأقليةٍ قوميةٍ خاضعةٍ لقوانين الإدارة الذاتية، كالتجنيد الإلزامي والقتال إلى جانبها في جبهاتٍ متعددةٍ ضد تنظيم الدولة أو فصائل أخرى مثل قوات درع الفرات الحليفة لتركيا والتي تقاتل تنظيم الدولة بالدرجة الأولى للسيطرة على مساحات جغرافية تشكلُ مانعاً مناطقياً لتواصل الكانتونات الكردية الثلاثة.
ويضم كانتون الجزيرة تنوعاً عرقياً للعرب والأكراد والتركمان والأرمن والآشوريين، ويقل هذا التنوع في كانتوني عفرين وعين العرب (كوباني) بغالبيةٍ كرديةٍ مع وجود نسبة مهمة من السكان العرب خاصةً في محيط مركزي الكانتونين.
برزت سيطرة الأكراد على مناطق شمال سوريا خلال العام 2013 بمساعدة كلّ من النظام السوري والولايات المتحدة، وقد انسحبت قوات النظام السوري من أجزاء من شمال وشمال شرقي سوريا عام 2012، من أجل التركيز على الدفاع عن المناطق الحيوية، ومكّن هذا الانسحاب حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي من إنشاء وإدارة المناطق التي سيطرت عليها القوات الكردية التي وسّعت نطاق سيطرتها السياسية في جميع المناطق الخاضعة لسيطرتها العسكرية أو الأخرى التي سيطرت عليها خلال سلسلة من المعارك مع تنظيم الدولة.
لكنّ الطموحات الكردية بكيانٍ كردي مستقل تصطدم بمواقف عربيةٍ وإقليميةٍ رافضةٍ لأي تغيير في خريطة المنطقة السياسية، كما أنّ إيران وتركيا يرفضان ذلك أيضا من زاويةٍ أخرى تتعلق بما قد يشكله قيام كيان كردي مستقل في شمال سوريا من خطرٍ على الأمن القومي التركي، من وجهة نظر تركيا، التي تعمل للحفاظ على وحدة الأراضي السورية كسياسيةٍ استراتيجيةٍ تتفق معها إيران لعدم تشجيع الأكراد الإيرانيين على المطالبة بكيانٍ مستقل، إضافةً إلى رغبتها في الحفاظ على سوريا موحدة بقيادة الرئيس السوري الحالي، أو أيّ نظام حكم آخر يضمن مصالحها الحيوية في جغرافية التواصل البري بين طهران وسواحل البحر الأبيض المتوسط.
وسيبقى الحلم الكردي محكوماً بعوامل التركيبة السكانية التي تؤسس لواقع وجود الأكراد ضمن شريطٍ جغرافي يحده من الشمال الأتراك ومن الجنوب العرب، ويرفض كلّ من العرب والأتراك إقامة مثل هذه الكيانات طالما وجدوا فيها تهديداً لمصالحهم مع إيمانهم بإمكانية التعايش بين العرب والأتراك والأكراد، وهو ما قد تسفر عنه أي اتفاقية أممية لحلٍ سياسي للأزمة السورية لا تهمل حقّ أيّ مكونٍ من المكونات السورية، ومن بينها الأكراد ضمن دولةٍ واحدةٍ يختارُ الشعب شكل نظام الحكم وفق آليات ديمقراطية.
 
صراعات الأطراف الدولية والإقليمية:
الطرف الروسي:
ارتقت العلاقة الروسية السورية إلى مستوى التحالف الاستراتيجي بعد وصول الرئيس السوري السابق حافظ الأسد إلى السلطة في 1970؛ واقترن وصوله هذا بتحول في الوجود الروسي بالمنطقة العربية بعد قرار الرئيس المصري الأسبق أنور السادات طرد الخبراء الروس من مصر في عام 1971 والبحث عن بديل لاستمرار التواجد الروسي بالمنطقة؛ وكان الخيار السوري هو الأقرب إلى استراتيجيات القيادة الروسية لموقع سوريا الجغرافي على شواطئ البحر الأبيض المتوسط واتخاذ ميناء طرطوس على ساحله موقعاً متقدماً لوجود روسي دائمي.
وبنهاية الاتحاد السوفيتي وتفكيك جمهورياته عام 1989، كانت نهاية الحرب الباردة مع الولايات المتحدة قد دخلت بداياتها أوائل تسعينيات القرن الماضي لتشهد علاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد الروسي الوليد حرباً موصوفةً بالتنافس على المصالح حول العالم، وسباقاً محموماً لاستقطاب الحلفاء خدمة لمصالح الدولتين؛ وتكاد المنطقة العربية الأكثر اهتماماً لكلّا البلدين من بين الدول التي تشهد نزاعات مسلحة، العراق وسوريا بشكلٍ أكبر، وفي دولٍ أخرى منتجة للطاقة.
بعد اندلاع الصراع السوري المسلح، استغلت روسيا بشكلٍ ناجحٍ انكفاء الدور الغربي عموماً، ودور الولايات المتحدة في الصراع الذي وصل إلى حالة مستعصية على الحل الداخلي؛ كما إن عدم جدّية الولايات المتحدة في اتخاذ أيّ خطوات عملية حيال تجاوزات النظام السوري لما تعرف باسم الخطوط الحمراء التي رسمتها فيما يتعلق مثلاً باستخدام الأسلحة الكيمياوية وغيرها مهّد الطريق لتدخل روسي ناجح ونفوذٍ حقيقي على الأرض ضمن جغرافياتٍ حيويةٍ للمصالح الروسية.
وجاء التدخل الروسي المباشر إلى جانب حليفه في أيلول/ سبتمبر 2015 بعد إعلان الرئيس السوري، بشار الأسد، نهاية تموز/ يوليو 2015، أنّ الجيش السوري "قد تعب".
لمْ تتخذْ الولايات المتحدة خطواتٍ مضادة تخفّفُ من الأثر المترتب على حلفائها في سوريا نتيجةَ ذلك التدخل؛ ويعود ذلك إلى السمة التي اتصفت بها سياسة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق نهاية عام 2011 المتمثلة بتراجع الدور الأمريكي في عموم المنطقة والانسحاب التدريجي من ملفاتها الساخنة حتى عودتها الاضطرارية إلى المشهد بعد سيطرة تنظيم الدولة على الموصل بالعراق في العاشر من يونيو/حزيران 2014.
 
الطرف الإيراني:
تحولت الاستراتيجيات الإيرانية بعد فشلها بالسيطرة على الأراضي العراقية خلال ثماني سنوات من الحرب في ثمانينيات القرن الماضي من استراتيجيات الهجوم العسكري إلى بناء قواتٍ غير تقليدية من سكانٍ محليين في بلدان أخرى تتولى دعمهم وتدريبهم وتمويلهم وبناءهم فكرياً على أسس العقيدة المستنبطة من ولاية الولي الفقيه التي يُمثلها المرشد الأعلى علي خامنئي.
واصلت إيران سياساتها التوسعية في بلدان الشرق العربي مستثمرةً العامل الطائفي ضمن منطقة نفوذ ترسمها الدوائر المعنية في المشروع الإيراني الذي يعتمدُ على قوى محلية تبسط سيطرتها المباشرة، أو تمارسُ شكلاً من أشكال السيطرة والنفوذ على الجغرافية الممتدة من حدود إيران الغربية مع العراق إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط في سوريا ولبنان، وتمر عبر جغرافياتٍ يقطنها العرب السُنّة في غرب وشمال غربي العراق وشرق ووسط سوريا إلى العاصمة جنوباً، ومنها إلى لبنان غرباً أو إلى الشمال الغربي حيث المدن الساحلية؛ وهي مدنٌ تُعد موطناً للأقلية العلوية مع تداخل قومي وطائفي في القرى والبلدات المحيطة بمراكز تلك المدن التي هي الأخرى لا تعدّ ذات غالبية علوية مطلقة.
لعبت المجموعات الشيعية المسلحة أو ما يمكن تسميتها بالشبكات الإيرانية العاملة خارج الحدود دوراً في إعادة صياغة خريطة عدد من بلدان الشرق العربي؛ وهي أشبه بالجيوش الشعبية التي تنفذ مهام ذات صلة بمشروع تصدير الثورة الإيرانية، وهو مشروعٌ ينبني على أسس تمهيد الجغرافيا لقيامه وانتشاره؛ ووفقاً لتصريحات الجنرال حسين سلامي نائب قائد الحرس الثوري الإيراني الذي أكد في 31 ديسمبر/كانون الأول 2014 "وجود جيوش شعبية مرتبطة بالثورة الإسلامية في العراق وسوريا واليمن، يبلغ حجمها أضعاف حزب الله في لبنان"، وكذلك في العراق واليمن بأعدادٍ تبلغ أضعاف حزب الله تلعب نفس الدور الذي يلعبه الحزب في خدمة المشروع الإيراني.
تشمل القوات أو الجيوش الشعبية التي ترعاها إيران كلٌّ من حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي وحركة انصار الله اليمنية وعشرات المجموعات الشيعية المسلحة العراقية واللبنانية والأفغانية وغيرها؛ وتعمل على تغيير التركيبة السكانية لإحلال سكان من الشيعة والعلويين أو المتشيعين الجدد أو حتى من عوائل المجموعات الشيعية المسلحة من جنسياتٍ عراقيةٍ وإيرانيةٍ وأفغانيةٍ وغيرها على غرار ما جرى في مناطق أخرى، مثل بابا عمرو والحميدية والسباع وغيرها من أحياء مدينة حمص، والشاغور والعمارة والأمين وغيرها من أحياء دمشق القديمة، إضافةً إلى ريف دمشق في مناطق السيدة زينب وحجيرة والذيابية وعقربا ويبرود وعشرات البلدات الأخرى.
عزّز التدخل الإيراني المباشر في سوريا من سيطرة قوات النظام على المزيد من الأراضي التي خرجت عن سيطرته خلال السنوات الثلاث الأولى من الثورة؛ ونجحت قوات النظام في استعادة السيطرة على مساحاتٍ مهمةٍ من المدن والبلدات والمناطق ذات الأهمية الجغرافية لبقاء النظام واستمرار المشروع الإيراني في التمدد على الأراضي السورية، وشكلت خسارة المعارضة المسلحة مدينة حلب خطوةٌ متقدمةٌ في هذا الاتجاه لأهمية موقعها الجغرافي ودلالاتها الرمزية كثاني أكبر المدن السورية فيما يتعلق بالسيادة ورد الاعتبار لمؤسسة الجيش الذي جيّر النجاح العسكري باسمه على الرغم من أنّ الطيران الروسي لعب الدور الحاسم في حسم المعركة جواً، والمجموعات الشيعية الحليفة لإيران الدور الآخر الأكثر أهمية براً.
ومع ثبوت حضور العامل الطائفي في الدعم الإيراني لنظام بشار الأسد، تبقى عوامل الجغرافيا هي الأهم في الاستراتيجيات الإيرانية لضمان طرق التواصل البري بين إيران وسواحل البحر الأبيض المتوسط في كلّ من لبنان وسوريا؛ وتأمين السيطرة والنفوذ على جغرافياتٍ محتملةٍ لمرور خط أنابيب الغاز الإيراني عبر الأراضي العراقية إلى الساحل السوري.
 
الطرف التركي:
بعد سيطرة القوات الكردية على مدينة منبج في 13 أغسطس/آب 2016 بأقل من أسبوعين، أعلنت تركيا تدخلاً عسكرياً مباشراً لدعم بعض فصائل الجيش السوري الحر لما تراه اقتراباً كردياً من إقامة كيان كردي على جغرافيةٍ متصلةٍ بمحاذاة حدودها الجنوبية، وهو ما يشكل تهديداً لأمن المدن الحدودية وتهديداً بعيداً لوحدة الجغرافية التركية إذا استطاع الأكراد إعلان دولتهم المستقلة إلى جوار مناطق تركية تسكنها غالبية كردية في جنوب البلاد يمكن أنْ تُقتطع لتنضم إلى الدولة الكردية الوليدة.
بدأت القوات التركية السيطرة على مناطق حدودية في العمق السوري خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الذي انسحب من عدّة بلدات مثل جرابلس والراعي وإعزاز على مسافة تصل إلى نحو 100 كيلومتراً وبعمقٍ يصلُ إلى 40 كيلومتراً بقتالٍ ضعيف، أو من دون قتال.
وتُعد النزعة الانفصالية لدى القوى الكردية تهديداً للأمن التركي في المدى المنظور، فيما لا تُشكل تهديداً مرحلياً على النظام أو على بقاء سوريا بلداً موحداً طالما أنّ مقومات إقامة كيان كردي مستقل غير مكتملة؛ كما أنّ القوى الفاعلة الإقليمية (تركيا وإيران) والدولية (روسيا والولايات المتحدة) لا تسمح بإقامة كيانٍ كردي مستقل قبل إجراء تسوية شاملة للازمة السورية وكتابة دستور يتمّ التصويت عليه من قبل الشعب السوري لتحديد مستقبل البلد وشكل الدولة ونظام الحكم.



بدا التدخل العسكري التركي المباشر بقواتٍ بريةٍ ليس بعيداً عن التنسيق مع روسيا بعد عودة العلاقات الطبيعية بينهما إثر حادثة إسقاط المقاتلة الروسية وتطورها بشكل أكبر بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة منتصف يوليو/تموز 2016.
وطيلة فترة التدخل التركي ظلت القوات التركية بعيداً عن أي استهداف من قبل قوات النظام أو طيرانه رغم تكرار الرفض الرسمي للوجود التركي الذي ليس من بين أهدافه التعرض لقوات النظام، أو دعم الفصائل المسلحة التي تقاتله، واقتصار هدف التدخل على قتال تنظيم الدولة ومنع إقامة كيان كردي متصل، وهما هدفان يصبان في مصلحة النظام السوري.
وفي إطار الصراع على الجغرافيا طلبت تركيا من الولايات المتحدة الضغط على الأكراد للانسحاب من مدينة منبج لتكون جغرافية غرب الفرات خالية من أيّ وجود كردي باستثناء مناطق بلدة عفرين اقصى شمال غربي سوريا، وهي الكانتون الكردي الثالث التابع للإدارة الذاتية، وبتحقيق الانسحاب الكردي شرق الفرات سيكون هذا الكانتون غير ذا أهمية للكيان الكردي طالما تمّ عزله جغرافياً عن كانتوني عين العرب (كوباني) والجزيرة في الحسكة.
وفي أغسطس/آب 2016 دعا نائب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن مقاتلي الأكراد للتراجع إلى شرق الفرات، لكنّ هذا لمْ يحصل، بل على العكس عزّزت القوات الكردية وجودها في المدينة بعد دخول قوات سورية وأخرى روسية، إضافة إلى أنّ الولايات المتحدة ذاتها نشرت المزيد من القوات في فبراير/شباط 2017 في محيط المدينة وسيّرت دوريات مشتركة مع قوات سوريا الديمقراطية على الطريق بين منبج ومدينة الباب لمنع القوات التركية وقوات درع الفرات الحليفة لها من التقدم إلى المدينة التي أعلنت تركيا في 28 فبراير/ شباط 2017 عن أنّ "الخطوة المقبلة ستكون منبج. إنها تعود إلى العرب ولا تعود إلى ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) أو وحدات حماية الشعب الكردي (YGP)"، حسب تصريحاتٍ منسوبة للرئيس التركي في 28 فبراير/شباط 2017.
وفي 29 مارس/آذار 2017، أعلنت تركيا انتهاء عمليات درع الفرات، وهذا لا يعني انسحابا للقوات التركية التي يمكن أن تطلق عملية عسكرية جديدة في مرحلة لاحقة؛ وقدّرت تركيا إنّ "عملية درع الفرات تكلّلت بالنجاح، والتي كانت قد بدأت لتأمين حدودنا وعرقلة تهديدات وهجمات تنظيم داعش الإرهابي تجاه بلادنا"، كما جاء في بيان مجلس الأمن القومي التركي.
 
الطرف الأمريكي:
تُعطي الولايات المتحدة الأولوية لهزيمة تنظيم الدولة من جميع الأراضي التي يسيطر عليها كخطوةٍ في طريق القضاء على التهديدات المحتملة التي يُشكلها وجوده على الأمن القومي الأمريكي ومصالحها حول العالم؛ لكنّ هذا لا يعني إغفال اهتمام الولايات المتحدة بالصراع على الجغرافيات ذات الأهمية الاقتصادية المتعلقة بالمناطق النفطية، أو المناطق التي ستشكلُ مستقبلاً ممراً لخطوط نقل الغاز الإيراني والخليجي إلى أوربا من الساحل السوري.
التدخل الأمريكي الواضح في سوريا مُنذ حوالي عامين ترافق مع دعم قوات سوريا الديمقراطية في معارك عين العرب (كوباني) وتل أبيض وريفي الحسكة الغربي والجنوبي وريف حلب ضد تنظيم الدولة؛ لكنّ مصالح الولايات المتحدة على المدى البعيد لا تبدو بتلك الأهمية قياساً إلى مصالح روسيا وإيران، وتتركز المهام الأمريكية على دعم قوات برية حليفة لقتال التنظيم ومحاولة القضاء على تهديداته للأمن القومي الأمريكي.
لا تكترث الولايات المتحدة بمسائل تتعلق بسيطرة النظام أو المعارضة المسلحة أو غيرهما على الأراضي السورية خارج دائرة جغرافية اهتمامها في شمال وشمال شرقي سوريا حيث كان تنظيم الدولة يفرضُ سيطرته على مساحاتٍ واسعةٍ بعد منتصف 2014 قبل أنْ تنخرط الولايات المتحدة بالملف السوري بعمق بعيداً عن مناطق سيطرة النظام، وعن جغرافياتٍ أخرى حيويةٍ لكلّ من روسيا وإيران التي كانت لمفاوضات الملف النووي دوراً كبيراً في غض النظر الأمريكي عن النفوذ الإيراني لعدم عرقلة نجاح المفاوضات والتوصل إلى اتفاق.
في جانبٍ آخر، تسعى الولايات المتحدة لتعزيز قوة الأكراد السوريين في الشمال والشمال الشرقي المجاور لكلّ من العراق وتركيا لتهيئة مستلزمات العمل العسكري الكفيل بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في معقله بمحافظة الرقة السورية.
وفي معادلة التوازنات الإقليمية والدولية، والصراعات المتنقلة بين ساحتي العراق وسوريا، تلتزم الولايات المتحدة باتباع سياسات تهدف إلى الحد من تنامي المحور الروسي الإيراني ونفوذه عبر أذرعه المتمثلة بالميليشيات العراقية واللبنانية والسورية وغيرها؛ ومحاولة إيجاد قوى فاعلة ذات نفوذ على الأرض في مناطق تمتد إلى الساحل السوري لتأمين خط أنابيب نفط كركوك العراقي إلى بانياس على الساحل السوري، وتأمين خط أنابيب الغاز الخليجي إلى الساحل أيضاً لتصديره إلى أوربا لوقف احتكار روسيا لجزء كبير من حاجة السوق الأوربية من الغاز.
من المحتمل أنْ يؤدي دعم الولايات المتحدة لسيطرة الأكراد على جغرافياتٍ عربيةٍ ورفضهم الانسحاب منها إلى حتمية صراع قومي بين الأقلية الكردية والأكثرية العربية في تلك الجغرافيات ما يؤدي إلى احتمالات تفكك الدولة وتقسيمها إضافةً إلى عرقلة المسعى الأممي لإنجاز التسوية السياسية بين النظام والمعارضة؛
لكنّ الولايات المتحدة لا تُعطي هذه الاحتمالات الكثير من الاهتمام ولا تُبدي ذات الاهتمام بتداعيات سيطرة الشيعة على أراضٍ عربية سُنّية مغايرة لهم في الانتماء الطائفي، أو الأكراد على أراضٍ عربية سُنّية مغايرة لهم في الانتماء القومي؛ وسيظل هدف الولايات المتحدة الأول قتال تنظيم الدولة والقضاء عليه بصرف النظر عن تداعيات تحالفاتها مع القوى المحلية.
 
يمكن القول دون تردد بأنّ كلّا من الولايات المتحدة وروسيا لا تريدان التوصل إلى حل سياسي للصراع السوري المسلح إلاّ إذا حقّق هذا الحل مصالح كلّ منهما على انفراد؛ وهي مصالح معقدة يسودها التناقض بما ينعكس على إطالة أمد الصراع إلى وقتٍ تتغيرُ فيه التوازنات على الأرض بما يتوافق مع مصالح كلّ منهما دون تعارض، وهو أمرٌ مستبعدٌ في المدى القريب؛ ولكن يمكن اللجوء إلى نظامِ حكمٍ لا مركزي ضمن جغرافيات معينة تتولى إدارتها القوى المحلية الحليفة لأيّ منهما بما يعني قدرة هذه القوى على تحقيق مصالح روسيا أو الولايات المتحدة في مناطق حكمها اللامركزي.

SaveSaveSaveSaveSave

رائد الحامد

باحث ومحلل سياسي عراقي. سبق أن عمل رئيساً لوحدة البحوث والدراسات في مركز بغداد للبحوث الاستراتيجية، وبعد ذلك كرئيس تحرير مجلة "نوافذ الثقافية" وعمل أيضا كمستشار في مجموعة الازمات الدولية. ساهم بتأليف كتاب بعنوان "الاحتلال الامريكي للعراق المشهد الاخير" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2007.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.