Print this page

المصالحات في سوريا: هل تؤدي للسلام؟ أم هي أداة لقهر الضحايا؟

14 شباط/فبراير 2017
 
تُجمع أغلب أدبيات تسوية المنازعات أن المصالحة الوطنية هي تعبير عن مرحلة يصل فيها إدراك الأطراف المتصارعة إلى إستحالة فوزها في الصراع عبر اسلوب العنف وحده، وتلجأ تالياً إلى تسويات وسطية تحقق من خلالها بعض أهدافها وتعترف للطرف الأخر ببعض أهدافه، مقابل خروجها من دائرة الإستنزاف العبثي وتقليص المخاطر الوجودية على بيئتها.
ويشترط تحقيق هذا الأمر توجه جميع الأطراف بنية صادقة وغير مخادعة نحو المصالحة على إعتبار أنه مشروع مجتمعي طويل الأمد، ومن أهم اشتراطاته، تحطيم القاعدة الوهمية التي تزعم بسيادة التطابق التام بين الدولة وسلطاتها الفرضية، من جهة، وبينها وبين المجتمع، من جهة ثانية. ومقابل ذلك الاعتراف بتعددية المصالح المجتمعية وبتعددية تمثيلياتها الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

بالإضافة إلى ذلك ينظر الى المصالحة بوصفها تسعى نحو إلغاء عوائق الماضي واستمراريتها السياسية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتصحيح ما ترتب عنها من غبن ومآسي وأخطاء وانتهاكات وجرائم جسيمة، والقطع نهائيا من قبل الجميع مع الحلول العنيفة في معالجة الملفات والقضايا المختلف حولها، والنظر بتفاؤل إلى المستقبل من خلال التأسيس في الحاضر للبنات غير مزيفة أو كاذبة حول الديمقراطية والمشاركة المتساوية.

 إن المصالحة كمشروع مجتمعي طويل الأمد تعني إنجاز توافق وطني بين مختلف مكونات الإطار الحضاري للمجتمع حول خطة شمولية ومتكاملة، محددة، ودقيقة، تسترشد بالمبادئ الأساسية المستخلصة من تجارب فض النزاعات بالطرق الهادئة وتخضع لمضمون القانون الدولي وإجراءاته الملزمة والآمرة للدولة وحكوماتها المتعاقبة.

بطبيعة الحال لن يتمكن هكذا مشروع نبيل من النجاح إلا إذا توفرت له شروط منها: - وجود حكماء، نزهاء، أكفاء، عادلين، مقبولين من قبل مجموع أطراف النزاع.

 –  قبول الأطراف المتنازعة الجلوس إلى بعضهم جلسة الند للند.
 – إظهار القابلية الحقيقية للإصغاء الجاد للآخر.
– تحديد الغايات البعيدة من المصالحة وأهدافها المرحلية.
 – تدقيق بنود هذه الأهداف وجدولة إجرائياتها بحسب الزمان والمكان.
 – تحديد المعتدي والمعتدى عليه ومرجعيات كل منهما.
 – ربط المصالحة بالإصلاح الشمولي مع العمل سويا من أجل ضمان عدم تكرار الاعتداء المعني وعدم التساهل، سواء في الحاضر أو المستقبل، مع باقي الاعتداءات الممكنة على حقوق الناس و حرياتهم"1".

المصالحة الوطنية في سياق الصراع العالمي:
ليست تجربة المصالحات الوطنية بدعة إخترعها نظام الاسد، فجميع البلدان التي مرّت بظروف منازعات داخلية، في اميركا الجنوبية وأسيا وأفريقيا، شهدت تجارب وأنماط من المصالحات الوطنية إستطاعت من خلالها، تلك المجتمعات، بداية مرحلة جديدة وطي صفحة الماضي بكل آلامه، ومنذ محاكمات نورمبيرغ الشهيرة بعد الحرب العالمية الثانية أخذت هذه المصالحات مفهوم " العدالة الإنتقالية"، لكونها تمثل إنتقالاً من مرحلة إلى أخرى، مرحلة يكون الظلم والاضطهاد والجريمة أدواتها الأساسية في تحقيق السيطرة والقهر، إلى مرحلة يحصل فيها الضحايا، من كل الأطراف، على حقوقهم، والتي غالباً ما تكون على شكل محاكمة الجناة وتعويض المتضررين وإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة غير تلك التي كانت سائدة قبل الصراع، فضلاً عن تغيير الأشخاص الذين تولوا السلطة في المرحلة التي حصلت فيها الصراعات.

أنماط المصالحات:

- النمط الجنوب أفريقي
حيث إضطهد البيض المستعمرون سكان البلاد الأصليين على مدى عقود طويلة، ووفق هذا النمط، وبعد إتفاق الأطراف المنخرطة في الصراع على الاتجاه صوب المصالحة، جرى تشكيل لجان للمصالحة "لجنة الحقيقة والمصالحة". وقد دمج هذا النمط بين إعتراف الجناة وطلبهم الصفح من ضحاياهم، وبين المحاكمات على أصحاب الجرائم الكبرى، وكذلك التعويض للمتضررين.
حقّقت هذه التجربة نتائج باهرة، وخاصة وأن من قادوها كانوا شخصيات ذات قيمة إعتبارية كبيرة، من امثال نيلسون مانديلا المناضل الجنوب أفريقي، وديزموند توتو رئيس أساقفة الكنيسة الأنجليكانية، وفريديريك دي كليرك أخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا، ونظرا لنجاح هذه التجربة فقد جرى نقلها إلى رواندا وسيراليون ودول أخرى مثل المغرب التي شكلت فيها لجنة "الإنصاف والحقيقة " من قبل الملك المغربي محمد السادس بتاريخ 7 يناير / كانون الثاني 2004.

- النمط الأمريكي اللاتيني
 وقد تم تطبيقه في البيرو والأرجنتين والسلفادور وتشيلي، وهي قريبة من التجربة الأفريقية من حيث المضمون الذي يقوم على شكل حوار وطني بين الجناة والضحايا مع تضمينه بأليات جديدة مثل لجان التقصي ولجان الحقائق. غير أن البعد الدولي كان ظاهراً خلاله، عبر فرض الدول والهيئات -المساهمة في إعادة الإعمار والتنمية في هذه البلدان- ضرورة تطبيق محكم لحكم القانون بما يسمح بالتنمية الإقتصادية.  "2".
 
وفي هذين النمطين تم تطبيق جملة من الأليات لضمان نجاح هذه التجارب مثل:

برامج التعويض أو جبر الضرر: وهي مبادرات دعمتها الدولة، وساهمت في جبر الأضرار المادية والمعنوية المترتبة على انتهاكات الماضي؛ وتقوم عادة بتوزيع خليط من التعويضات المادية والرمزية على الضحايا، وقد تشمل هذه التعويضات المالية والاعتذارات الرسمية.

الإصلاح المؤسسي: استهدفت إصلاح المؤسسات التي لعبت دورا في هذه الانتهاكات (غالبا القطاع الأمني والمؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية.. وغيرها)، وإلى جانب تطهير هذه الأجهزة من المسئولين غير الأكفاء والفاسدينِ، غالبا ما شملت هذه الجهود تعديلات تشريعية وأحياناً دستورية.

وبناء السلام: يستخدم "بناء السلام" كمفهوم شامل يتضمن مجموعة من الأنشطة أو الإجراءات المتعلقة بخلق الشروط الضرورية لتحقيق السلام المستدام في المجتمعات محل الصراعات، وتحديد ودعم الهياكل التي تسهم في تقوية وترسيخ السلم من أجل تجنب العودة إلى حالة الصراع. ومن أهم الإجراءات التي شملها: إعادة توطين اللاجئين والمشردين داخلياً، والتسريح وإعادة إدماج المحاربين السابقين، ودعم عملية التطور الديموقراطى، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإعادة تأسيس حكم القانون."3".
 
- النمط الأوروبي
والذي تم تطبيقه في يوغسلافيا السابقة من خلال انشاء المحكمة الجنائية الخاصة. وفي هذا النمط باتت المحاكمات الدولية جزء من عملية التسوية السلمية، كما تم العودة إلى إستلهام نموذج محاكمات نورمبرغ، ولا سيما مع دخول ميثاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية لحيز التنفيذ في 2004 وإقرار وجود المحكمة كألية دائمة لمحاسبة مرتكبي الغنتهاكات الحطيرة لحقوق الإنسان."4".

- النمط الجزائري
وهو يتميز بالتسييس والإنحياز لجهة معينة في الصراع، وهي النظام الحاكم، حيث قام هذا النمط على أساس توصيف الصراع الذي حصل في الجزائر والذي تسبب به النظام الحاكم عبر إلغاءه لنتائج الإنتخابات البلدية التي فاز بها الإسلاميون، على أنه إرهاب ضد الدولة، وبالتالي فإن عملية المصالحة إقتصرت على إصدار عفو عن المعارضين، مع تقديم تعويض رمزي للضحايا، دون تحميل النظام الحاكم أي مسؤولية عن هذه الحرب التي أدت إلى مقتل 200 ألف، وإختفاء عشرات الآلاف من المواطنين بالإضافة إلى الدمار الحاصل في ممتلكات المواطنين."5".

أنماط أخرى:

نمط "المصالحة الصامتة":
تشكل "المصالحة الصامتة" أحد المداخل التي قد يتم اللجوء إليها سعيًا للخروج من الأزمات المستعصية، خاصةً في البلدان التي تُعاني نزاعاتٍ مسلحة واضطراباتٍ عنيفة. اشتُقَّت هذه الفكرة من أدبيات حل الصراع حول "السلام البارد" التي طرحها مايكل لوند، ومقاربات "التعايش" التي أسسها علماء، مثل: ديفيد كروكر، وتشارلز فيلا فيسينشيو، ومو بليكر. وهي تعني أن أطراف النزاع قد يتكيفون ويقبلون عمليًّا المساحة التي يشغلها كل طرف سلميًّا، دون أن يقوموا بالاستمرار في إيذاء أو محاولة تدمير الآخرين، أو أن يسعوا لمكتسبات جديدة عبر استهداف الآخرين مثلما كان يحدث في الماضي. 

أي إن المصالحة الصامتة لا تشمل آنيًّا أي تطوير للعلاقات بين أطراف النزاع إلى ما هو أبعد، كي تأخذ منحى تفاعليًّا إيجابيًّا يتيح تحقيق العناصر المفترض توافرها لإتمام مصالحة علنية تقليدية ناجحة. وبالتالي، يمكن النظر لهذه الفكرة على أنها مقاربة براجماتية وسيطة بين الاستمرار في النزاع المنهك للمتنازعين، أو اللجوء إلى مصالحة تقليدية علنية لما تحمله الأخيرة من تعقيدات وتبعات سياسية ذات كلفة.

عادةً ما يكون اللجوء إلى المصالحة الصامتة مرتبطًا بإدراك أمرين أساسيين: الأول أن أطراف النزاع ترى صعوبة أو استحالة الحسم العنيف للصراع على المدى القصير أو المتوسط، في ظل استمرار الإنهاك والخسائر والاستنزاف المتبادل. أما الأمر الثاني فيتعلق بعدم قدرة أطراف النزاع على تحمل تبعات المصالحة التقليدية الشاملة التي تتطلب كلفة عالية، مثل: الاعتراف السياسي، والمحاسبة على الجرائم المقترفة، وتقديم تنازلات سياسية كالاعتراف بالطرف الآخر، فضلا عن ضرورة وجود استعداد مجتمعي لفكرة المصالحة التقليدية، وأخيرًا توافر جرأة سياسية لقادة الأطراف المتنازعة للجلوس على طاولة التفاوض من أجل الخروج باتفاق سلام شامل ومستدام."6".

تسويات الحد الأدنى: أدى تعثر عمليات التسوية الشاملة في مناطق الصراعات الداخلية إلى تصاعد التركيز على تسويات الحد الأدنى (Minimal Settlements) التي تقوم على التهدئة المرحلية للصراع من خلال فرض هدنة مؤقتة في بعض البؤر الجغرافية التي تشهد أكثر المواجهات احتدامًا دون التعامل مع الجذور العميقة للصراع والمسببات الأساسية لاستمراره.

وتقوم تسويات الحد الأدنى على التعامل بواقعية مع تعقيدات الصراعات الداخلية التي باتت تستعصي على التسوية النهائية، في ظل التناقضات الحدية بين مواقف أطراف الصراعات والطابع الصفري للتفاعلات والمصالح الحاكمة لاستمرارها، والتعارض الكامل بين مصالح الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لأطراف الصراع.

كما ترتبط هذه الأنماط من التسويات بحالة انعدام الثقة بين أطراف الصراع، وإرث العداء المستحكم فيما بينها، وهيمنة قيم "الثأر" والتعصب و"شيطنة الخصوم"، وتصميم كل منها على إنهاء الوجود المادي للآخر، وهو ما يجعل التوصل لتسوية تقوم على المكاسب النسبية غير قائم في إطار هذه الصراعات المعقدة التي تفتقد لتحديد واضح لأطرافها وشبكات تحالفاتها."7".
 
التجربة السورية.
قبل الخوض في التجربة السورية، إذا صح إعتبارها تجربة، لا بد من إيضاح إشكالياتها الأساسية:

1- رؤية النظام المتعالية " الدولة لا تصالح ".
ليس خافياً مدى الترابط في سورية بين نظام الحكم والدولة، إذ يتصرف ممثلوا النظام بصفتهم الدولة وبالتالي فإنهم على حق دائماً وانهم غير ملزمين بالإعتراف بالأخطاء التي يرتكبها النظام والتي يصل أغلبها إلى حد جرائم حرب موصوفة، وأن ما يقدمونه عبر عملية المصالحة لا يعدو أن يكون منحة أو عطاء للنجاة بالحياة بدل الموت والفناء، أو في أفضل الحالات التنازل عن حق" الدولة" تجاه فئات إجتماعية أجرمت بحقها، كنوع من الرحمة والشفقة، وفي حالات أخرى إعطاء هذه الجماعات فرصة لتحضيرها وتوعيتها سياسياً ووطنياً بوصفها جماعات جرى التغرير بها سابقاً ومارست الخيانة ضد " الدولة"، ولكن الدولة" النظام" بقلبها الكبير تمنح هؤلاء فرصة للتعافي من لوثة الخيانة.

هذه النماذج المتعالية حصلت في العراق والجزائر والمغرب"8"، حيث عملت السلطات على رشوة الجماعات المتضررة، عبر تجزئة المشكلة وتحويلها إلى أضرارٍ فردية، وتعويض المتضررين ممن تهدمت منازلهم، أو فقدوا ذويهم، بمبالغ مالية محدودة مقابل طي الملفات إلى الأبد. بيد أن الصورة في سورية كاريكاترية بدرجة لا تقاس حتى مع هذه النماذج الهزيلة، حيث يطلب من الفئات التي يتم التصالح معها التعويض للنظام عبر صور متعددة أهمها، الإعتراف بأن عذاباتهم هم من تسبب بها ثم تسليم أبناءهم للقتال على الجبهات لإخضاع مناطق جديدة وسكان أخرين.

2- إفتقادها لإطار واضح.
تعتبر التجربة السورية في هذا الإطار من أسوأ تجارب المصالحة التي عرفتها جميع مناطق النزاع في العالم، فهي تفتقد لأطر ناظمة " مؤسسات وقوانين" لإدارة هذه العملية الخطيرة. فعلى مستوى الجهات المشرفة على العملية تتوزع ما بين " وزارة شؤون المصالحة" و" لجنة المصالحة في مجلس الشعب"، و" نشاط الأجهزة الأمنية"، و" مبادرات وجهاء وتجار أزمات" بالإضافة إلى النشاط الروسي في مركز حميميم، ونشاط الإيرانيين كما ظهر في حمص والزبداني."9".

من جهة أخرى لا ينظم هذه المصالحات قانون محدد وواضح، كما لا يترتب عليها إلتزامات معينة وخاصة على الطرف الاخر" النظام"، حتى أن عناصر التسوية وشروط المصالحة قد تختلف من منطقة لأخرى.

3- إنحيازها للسلطة الحاكمة.
جميع المصالحات التي إجراؤها تتم على قاعدة أن الطرف الآخر " النظام- الدولة"، يمثل السلطة المطلقة والمرجعية العليا في الحيز الجغرافي السوري، وأن هذه المصالحات تعني بالدرجة الأولى إعتراف الأفراد والمجتمعات المحلية برؤيتهم الخاطئة تجاه الثورة ومحاربة النظام. وأن الدولة كانت على الدوام تطبق القانون والدستور، لذا لا يترتب على هذه المصالحات أي التزام، كما لا تعني إعترافاً من قبلها بالمسؤولية عن الأحداث، وهي بعكس كل تجارب المصالحة في دول العالم حيث يعتبر النظام /الدولة طرفاً في الصراع ويحاكم ممثلوها ومؤسساتها وتلتزم بكافة الاستحقاقات التي تترتب عليها.

تعريف المصالحة في سورية.
يمكن تعريف المصالحة المحلية القائمة في سورية بأنها: عملية تفاوضية محلية تتم بين ممثلي كل من النظام والمجتمعات المحلية، يتم بموجبها استعادة النظام السيطرة على المناطق التي خسرها في وقت سابق مع إدارتها بشكل حصري عبر مؤسساته، بالتزامن مع تسوية وضع مناصري الثورة وممثليه عبر عمليات تسوية فردية، ومنح سكان تلك المناطق الإذن بالعودة لمنازلهم، وفي حالات كثيرة لا يتم الإلتزام بشرط عودة السكان لمنازلهم(10).

أسبابها:
تشكّل جميع المصالحات الحاصلة في سورية إنعكاساً لحجم الكارثة التي عاشتها تلك المناطق، فقد اعتمد نظام الاسد سياسة الأرض المحروقة والحصار الشامل تجاه المناطق الثائرة، دون الإلتفات لحجم الضحايا وطبيعة المعاناة التي يسببها للمجتمعات المحلية، وقد أقرت الكثير من المنظمات الدولية، ومنها الأمم المتحدة، أن هذه السياسات تشكّل جرائم حرب موصوفة، كما اكتفى العالم بذلك دون أن يتقدم خطوة في إتجاه إنقاذ المحاصربن والواقعين في دائرة نار سياسات الأرض المحروقة.

بالإضافة لذلك، ساهمت عوامل أخرى من نوع إنكفاء المعسكر الإقليمي الداعم للمعارضة، والنقص في الذخيرة وإنقطاع خطوط الإمداد، معطوفاً على ذلك الدعم اللامحدود الذي يتلقاه نظام الأسد من روسيا وإيران، في صناعة هذا النمط من المصالحات، وفي جميع الحالات شكّل عامل حماية المدنين عنصراً أساسياً في قبول المصالحات وورقة ضاغطة بيد نظام الأسد.
    
المناطق المستهدفة.
بلغ عدد اتفاقيات المصالحة الحاصلة في سورية أكثر من 60 حتى نهاية 2016، ومن أبرز تلك الاتفاقيات: قارة وحوش عرب وعرسال والجبة وحفير الفوقا ومعضمية القلمون والبويضة والذيابية في محافظة ريف دمشق، قرى في الريف الشرقي لمحافظة حمص منها: سكرة، الريان، أحمر، شلوح، المضابع، قرى ومزارع في ريف ناحية الحمراء الشرقي والغربي ومنطقة صوران إضافة إلى قريتي السمرة وكوكب في محافظة حماة، قرى ومزارع في ريف محافظة اللاذقية منها: البلاطة وبلوطة واوبيم ووطى الخان وتلا وبيت الشكوحي وكفرية وحكوم والمريج ومرج خوخة وعين الجوزة وترتياح وسلمى والقرامة والسفكون وسولاس وخربة سولاس والروضة والدرة والعالية والوادي وعطيرة والقصب. قرى ومزارع في ريف محافظة القنيطرة منها: جباتا الخشب وطرنجة وأوفانيا ومزارع عين البيضا وجورة الشيخ وأم باطنة وممتة والصمدانية الشرقية."11".

في العاصمة وريفها:
برزة، القابون، حي تشرين، بيت سحم، يلدا، ببيلا، القدم والعسالي، داريا، معضمية الشام، خان الشيح، قدسيا والهامة، تل منين.
 
اتفاقيات الإخلاء
يمكن تعريف اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها في سورية بأنها: عملية تفاوضية ذات بعد ديمغرافي تجري بين ممثلي النظام والمقاومة المحلية بوساطة أممية، يتمخض عنها استعادة النظام المناطق التي تسيطر عليها فصائل المقاومة علاوةً على تهجير من فيها من مدنيين ومقاتلين. بدأت أولى اتفاقيات الإخلاء في عام 2012، ليشهد عاما 2015-2016 العدد الأكبر من اتفاقيات الإخلاء التي تم التوصل إليها والتي يقدر عددها بين (حزيران 2012-ونهاية 2016) بــ9 اتفاقيات، 6 منها تمت في حين ما تزال 3 معلقة بانتظار التنفيذ، ويمكن تزمين اتفاقيات الإخلاء وفق الشكل التالي: تلكلخ (حزيران 2012)، حمص القديمة (7-5-2014)، الحجر الأسود (6-7-2015)، الزبداني (19-9-2015)، حي القدم (23-12-2015)، قريتي قزحل وأم القصب (21-7-2016)، داريا (25-8-2016)، شرق حلب (كانون الثاني 2016). ومما يلحظ أن محافظتي حمص وريف دمشق كانتا الأكثر استهدافاً باتفاقيات الإخلاء بــ 6 من أصل 7، وهو ما يعتبر مؤشراً على توجه مقصود من قبل النظام وحلفائه خاصة إيران لتعزيز سيطرتهم على العقد الاستراتيجية فيما يعرف بسورية المفيدة من خلال تصفية مناطق سيطرة المقاومة فيها، وإجراء تغيير ديمغرافي يعزز من أمن النظام وتموضع حلفائه في أي ترتيبات مستقبلية لسورية"12".
 
مخاطر المصالحات.
تنطوي المصالحات التي يفرضها النظام والتي يتم عقدها وفق صيغتها الحالية على مخاطر كبيرة تتجاوز مدى تاثيرها على الثورة إلى مستقبل سورية، بما فيه من إعادة تشكيل للخريطة السكانية والتوزيع الديمغرافي، ويمكن تحديد المخاطر التي تتضمنها هذه العملية بالأتي.

- تحوّلها إلى نموذج مقبول للحل في سورية، وقد تبنتها الأمم المتحدة من خلال خطة الهدنة التي ستيفان دي مستورا، كما شاركت الأمم المتحدة ببعض هذه الإتفاقيات، وخاصة اتفاقيات الإخلاء، كما لوحظ مؤخراً أن وثائق الهدنة بين تركيا وروسيا قد أشارت إلى المصالحات بوصفها أحد أليات الحل."13".

ولا شك أن اعتماد المصالحات بوضعها الحالي يشكل خطراً على قضية السوريين، ذلك لأنها تبرئ نظام الأسد من كل جرائمه تجاه السوريين طيلة سنوات الحرب التي شنها عليهم، كما انها تجعل مخرجاتها قانونية وشرعية، وخاصة ما تعلق منها بترحيل المواطنين ونفيهم وعمليات التغيير الديمغرافي.

 -  إحداث تغير ديمغرافي مقصود من خلال استبدال مكون محلي أصيل بمكونات مجتمعية متشيعة من مناطق أخرى وبما يؤثر على المعادلات الأمنية والسياسية لسورية المستقبل، ومن المعلوم أن نظام الأسد الواقع بدرجة كبيرة تحت تأثير إيران و يعمل على تخديم مشروعها في سورية والمشرق العربي، يسعى إلى إعادة هندسة الجغرافية بطريقة تساعده على حماية نظام حكمه لسنوات طويلة وبما يخدم الغاية الإيرانية في السيطرة على دمشق وحمص. وقد اعترف النظام بنفسه أكثر من مرّة على أن العملية طبيعية وتحصل في الحروب، كما اعتبر أن التطهير ساعد بدرجة كبيرة في تنقية المجتمع السوري وصفاءه"14".

- إضعاف الموقف التفاوضي للمعارضة وتكريس حكم الأسد، ذلك أن المعارضة تخسر أوراق قوتها وتواجدها من خلال هذه المصالحات، ومع الزمن لن تجد ما تفاوض به نظام الأسد، ولن يكون مستعداً هو ومن خلفه إيران للتنازل ومفاوضة معارضة ليس لديها على الأرض ما يؤكد مصداقيتها، وهنا يتوجب على المعارضة أن تنتبه لمشاريع السلام والحل التي تطرحها روسيا فيما تعمل أدواتها بشكل حثيث على إجراء المصالحات في مناطق عديدة في سورية وإخراجها من مساحات الثورة، ذلك أن الهدف الأهم لروسيا ينصب على إخماد الثورة نهائياً عبر تفكيك حلقات قوتها ثم فرض الحل الذي ترغبه وتريده وهو البقاء على النظام الحالي برئاسة بشار الأسد."15".

- تجنيد الشباب في جيش النظام: حيث ينتج عن المصالحات في الغالب ترك آلاف الشباب المطلوبين للخدمة الإلزامية أمام خيارات محدّدة تتمثل بتسليم أنفسهم للنظام وسوقهم إلى جبهات القتال أو العمل ضمن حواجز مشتركّة مع قوات النظام بالقرب من مناطقهم، بما يحوّلهم إلى مخبرين بحكم طبيعة عملهم، ولا شك أن النظام يستفيد من عشرات آلاف الشباب ليزجهم في معارك ضد إخوتهم في الثورة على الجبهات المشتعلة، كما لا يكون حريصاً عليهم ويعتبرهم وقوداً رخيصاً لحربه عل الثورة، ويتمنى لو يتم القضاء عليهم في المعارك لانهم بنظره سيبقون مصدر خطر دائم."16".
 
هل تساهم المصالحات في بناء السلام في سورية؟
 
يحتفل نظام الأسد بالمصالحات التي يجريها ويعتبرها، كما حليفته روسيا، الطريقة المثلى للخروج من الأزمة التي تسبب بها في البلاد، ويريدها نظام الأسد كما هي عليه الآن، تقوم على قاعدة رفع القصف والتنكيل عن المناطق التي تجري المصالحة مقابل إعادة خضوعها لسلطته، لكن هل هذا قوام المصالحة الوطنية كما عرفته كل تجارب الصراعات في العالم؟

بالنظر لتجارب حوالي ثلاثين دولة على مستوى العالم اعتمدت أسلوب المصالحات كخطوة على طريق الخروج من أزماتها، يتبين أن العملية أعقد بكثير مما يتم التعاطي معها في سورية، وذلك لتضمنها طيفاً واسعاً من الإجراءات القانونية والسياسية تتحوّل معها إلى عملية إستراتيجية وليست مجرد تكتيكات انية وعمليات تشاطر يجريها الجلاد على جسد ضحاياه، أو يتعامل معها بوصفها عملية تجري بين غالب ومغلوب.

إن جميع عمليات المصالحة التي جرت على مستوى العالم، انتهت بصياغة عقد إجتماعي جديد داخل تلك الدول وإعادة إصلاح جدزي وشامل لمؤسسات الدولة وسلوكها.  كونها هي من أوصلت الأمور إلى هذا الواقع الكئيب، فضلاً عن محاكمة الأشخاص المسؤولين عن إرتكاب الجرائم، وتعويض وجبر المتضررين.

وقد يقول قائل إن  المصالحة الحالية في سورية هي مصالحات مؤقتة، والبلاد لا زالت في حالة حرب وحين إنتهاء الحرب سيجري طرح الأمور وبصيغ أفضل، لكن الوقائع تشير إلى أن نظام الأسد ومن خلفه روسيا وإيران يذهبون بإتجاه شرعنة المصالحات بوضعها الحالي وتثبيت نتائجها على الأرض، ولا يوجد في الأفق، وفي حال إستمرار نظام الأسد في الحكم ما يبشر بإمكانية تحقّق مصالحة وطنية حقيقية في سورية.

أي مصالحة لا تنطوي على الإعتراف بحق الضحايا ورد الإعتبار إليهم وضمان عدم تكرار الفواجع بحقهم، وما لم تتضمن إحالة واضحة للمسؤليات، وما لم تكن ضمن سياق إستراتيجي يهدف إلى الإنتقال إلى مرحلة مختلفة، هي مجرد عمليات تدليس لن يكون لها شرعية كما أنها لن تدوم طويلاً ولن تشكل مدخلاً للإستقرار والسلم.
 
الهوامش:

1- في مفهوم المصالحة، مصطفى صويلح، مداخلة ألقيت في إطار ندوة المصالحة التي نظمتها، بمدينة الرباط يوم 12 نونبر 2005، هيئة متابعة توصيات المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان / الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (المكتب المركزي) ، المنظمة المغربية لحقوق الإنسان ( المكتب الوطني ) ، المنتدى المغربي للحقيقة و الإنصاف ) المكتب التنفيذي)  . انظر الرابط.
2- تجارب الصالحة حول العالم: دروس للحالة المصرية، جريدة المصري اليوم، 25-8-2013. انظر الرابط.
3- مروة نظير: العدالة الإنتقالية قراءة مفاهيمية ومعرفية، الشبكة العربية العالمية، 10-5-2011. انظر الرابط.
4- نفس المصدر.
5- قراءة في مشروع السلم والمصالحة الجزائري، فوزي اوصديق، الجزيرة نت، 27-9-2005. انظر الرابط.
6- هل تصلح "المصالحات الصامتة" لتجميد نزاعات الشرق الاوسط؟، عمرو صلاح، مركز المستقبل، 25-12-2016. انظر الرابط.
7- المفاهيم العشرة الأكثر تحكماً بتفاعلات العالم 2017، محمد عبد الله يونس، مركز المستقبل، 29-12-2016. انظر الرابط.
8- مصطفى صويلح، مرجع سابق.
9- العملية التفاوضية المحلية في الصراع السوري: مسار مركب لسلام هش. مركز نصح، 6-10-2016. انظر الرابط.
 10 – المصدر السابق.
11- المصدر السابق.
12- المصدر السابق.
13- مفاوضات أستانة لتثبيت الهدنة، إبراهيم حميدي، الحياة، 12-1-2017. انظر الرابط.
14- لقاء بشار الاسد مع صحيفة بوليتكيا الصربية. انظر الرابط.
15- لا تخفي روسيا هدفها في تفكيك الثورة، وقد أعلن وزير الدفاع الروسي بشكل صريح بعد معركة حلب انهم قضوا على الثورة العربية
16- المصالحات وعود كاذبة وإعادة تعويم للنظام، شبكة جيرون الإعلامية، 21-12-2016. انظر الرابط.
غازي دحمان

حاصل على البكالوريوس في العلوم سياسية من جامعة الفاتح بليبيا. يكتب في عدد من الصحف العربية منذ عام 1997 مثل الحياة والعربي الجديد وموقع الجزيرة نت.

مواد أخرى لـ غازي دحمان