أكراد سوريا: من التاريخ إلى الثورة
[هذه هي المادة الحادية عشرة من ملف ينشره موقع العالم عن سوريا، وللاطلاع على المادة الأولى انقر هنا، والثانية هنا، والثالثة هنا، والرابعة هنا، والخامسة هنا، والسادسة هنا، والسابعة هنا، والثامنة هنا، والتاسعة هنا، والعاشرة هنا]
-1-
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، خلال مطلع سنة 2013، كتاب جديد حول "مسألة الأكراد: الواقع-التاريخ-الأسطرة" يميط اللثام عن تاريخ ووضع الأكراد في المنطقة السورية وإسهامهم في صوغ الحدث الثوري منذ سنة 2011. ينضاف هذا المؤلف إلى مجموعة من الكتب التي كرسها المركز لمدارسة الشأن السياسي والاجتماعي والثقافي في "المجال الكردي وتجاور مختلف التنميطات الصحفية والإيديولوجية التي تطبع التعامل مع الشأن الكردي (وقضايا الأقليات بشكل عام) في العالم العربي؛ بخاصة في سياق الأحداث والتحولات السياسية والاجتماعية التي تعرفها المنطقة منذ مطلع سنة 2011.
تكمن القيمة العلمية لهذا المؤلف في كونه أحد أهم المؤلفات المهتمة بمسألة التأريخ الاجتماعي والسياسي للوجود الكردي في سوريا[1] من منظور تحليلي وعلمي، ويقدم صورة موضوعية حول الإسهام التاريخي للأكراد في بناء الهوية السورية المعاصرة وفي إنتاج الفعل الثوري في مواجهة قوى النظام منذ سنة 2011. فضلاً عن ذلك، يتعلق الأمر أيضاً بكتاب جماعي (تحت إشراف وعضوية الأستاذ عزمي بشارة ومساهمة محمد جمال باروت، و حمزة المصطفى وحازم نهار) يتسم بالأصالة العلمية ويبتعد عن أي توجه أيديولوجي أو سياسي أو إثني، ويهدف إلى محاولة إغناء النقاش وتسليط الضوء حول مسألة أكراد سورية، كما يرحب بمختلف التصويبات، والإضافات، والتعديلات، والنقاشات الرصينة والعلمية حول الأفكار الواردة فيه.
في الواقع، ما ينقص الجماعات العلمية في العالم العربي (سواء ضمن حقل العلوم الإنسانية أو الاجتماعي) هو فتح الباب أمام النقاش العلمي والابستيمولوجي حول ما ينشر ويروج (من مقالات، ودراسات، وكتب، وعروض كتب...)، والبحث عن إغناء النقاش والحوار المعرفي وربط جسور التواصل العلمي بين المتخصصين والمشتغلين في حقل العلوم الاجتماعية والسياسية، وتجاوز منطق الصمت والانسحابية المعرفية أو التموقف الأيديولوجي والسياسي: آن الأوان للإنتقال من "ثقافة الأذن" إلى "ثقافية العين" (بلغة المفكر المغربي عبد السلام بن عبد العالي) ومن المشافهة إلى المكاتبة، وخلق نقاش حقيقي قادر على فتح أفق التفكير النقدي والعلمي في قضايا راهن ومستقبل أوطاننا، بشكل يأخذ بعين الاعتبار قضايا القوميات والثقافات المحلية في سياق منطق الكونية.
-2-
حضيت مسألة الحضور السوسيو-تاريخي والثقافي للأكراد في المنطقة العربية -السورية والعراقية بخاصة- باهتمام العديد من الباحثين والمفكرين[2]، في إطار البحث عن طبيعة إسهامهم في صوغ البنيات الموضوعية للثقافات الإقليمية والمحلية من جهة، وفي إنتاج الفعل الثوري بعد سنة 2011 من جهة ثانية، وتأثير الأحداث التي يعرفها العالم العربي خلال العقد الأخير على مشروع "توحيد اللغة وبناء الدولة الكردية من جهة ثالثة. وتبعا لذلك، تداخلات واختلفت الرؤى والتوجهات البحثية والمقارباتية، وتعددت التفسيرات والتحليلات السياسية والسوسيولوجية للأوضاع، لكنها اتجهت نحو التأكيد على النقط التالية:
- الدور الفعال للأكراد في الجسم الثقافي والسياسي والسوسيوتاريخي العربي، وإسهامهم في إغناء الحضارة العربية-الإسلامية، بالشكل الذي يجعلهم بنية أساسية ضمن نسق بناء الهوية واللحمة الإقليمية، ويحافظ على خصوصياتهم اللغوية والإثنية والثقافية والدينية.
- أمام الاضطهاد التاريخي الذي تعرض له الأكراد -بهوياتهم ولغاتهم وثقافاتهم المختلفة ضمن "المجال الكردي"- كانوا من السباقين إلى رفع الظلم واعتناق صوت الحرية ضمن النسق العام لحركيات الربيع العربي (بخاصة في سوريا).
- لا يمكن اعتبار الأكراد مجرد "أقلية" أو "إثنية" محلية أو هامشية، بل إنهم "شعب" و"ثقافة" و"هوية" ممتدة في الزمن والتاريخ، استطاعت الحفاظ على وجودها واستمرارها –رغم الاضطهاد التاريخي- من خلال الاستثمار في هويتها الثقافية واللغوية (في تعدديتها واختلافها) .
- لا يمكن تصور نهاية أو مستقبل مشرق للأوضاع العربية والتحولات السوسيو-سياسية التي تعرفها المنطقة دون التفكير في ضرورة رد الاعتبار للهويات والثقافات المحلية بما يسهم في تجاور الصراعات الإثنية والطائفية ويحقق التعايش وقبول الآخر من جهة، ويضمن انتقال ديمقراطي واجتماعي حقيقي بالمنطقة من جهة أخرى.
في الواقع، وأمام تزايد حدة العنف والتطاحنات الإثنية والطائفية من جهة، والصراعات الأيديولوجية والسياسية من جهة أخرى، وارتفاع حدة معاناة المدنيين والأبرياء في المنطقة العربية خلال الثلاث سنوات الأخيرة، أضحى لزاما على الفاعل السياسي كما الاجتماعي الوعي بضرورة إشراك "العلوم الاجتماعية والإنسانية" –وليس فقط العلوم السياسية- في مسلسل البحث عن التسويات والتوافقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ من منطلق أن الأحداث التي عرفها العالم العربي خلال العقد الأخير أثبتت أن مشكلة "العرب" لا تكمن في تعقد الشروط إنتاج البنيات الموضوعية (السياسية والاقتصادية والتاريخية والاجتماعية) وتأثيرها على "المعيش" اليومي للأفراد والجماعات، وإنما في طبيعة البنيات الذهنية واللاشعورية المنتجة للطائفية والإثنية والعنف والدمار: العلوم الاجتماعية مدخل لمصالحة الإنسان العربي مع ذاته قبل مصالحته مع الآخر، ومصالحته مع تاريخه قبل حاضره من أجل استشراف مستقبله، كل ذلك في إطار نشر ثقافة قبول الآخر (مختلف الإثنيات والثقافات المحلية) كنسيج تاريخي مؤسس لهوية المنطقة على المستوى السياسي.
-3-
يضم الكتاب ثلاثة فصول أساسية، ويتكون من 192 صفحة من القطع المتوسط، تهدف إلى تسليط الضوء على الإطار التاريخي لوجود الأكراد بالمجال السوري (منذ الهجرة الكبرى 1925-1939 إلى حدود بداية الانتفاضة السورية خلال سنة 2011)، مروراً بتحديد الشروط الموضوعية التي أسهمت في ميلاد المنظومة السياسية الكردية الراهنة بسوريا وعلاقتها بالحركة الوطنية، وصولاً إلى إثارة الانتباه حول الإسهام الكبير للأكراد في مسلسل إنتاج الثورة السورية منذ سنة 2011. وتبعا لذلك، يظهر لنا بجلاء الأهمية التي يحتلها الأكراد في الجسم السوري (تاريخا، وثقافتا واجتماعا) من جهة، وانتفاضتهم ضد العنف والقمع الذي تتعرض له الأراضي السورية من طرف النظام الرسمي، وسعيهم نحو بناء "مشروع قومي كردي هوياتي (على المستوى اللغوي والجغرافي) من جهة أخرى.
يأتي الفصل الأول تحت عنوان عريض: "الأكراد في سوريا، إطار تاريخي عام". ويهدف إلى محاولة تقديم نبذة أولية -وأولية- حول التاريخ الكردي بسوريا خلال القرن الأخيرة، في إطار مقاربة متعددة التخصصات تنفتح على مختلف الأبعاد التي طبعت التواجد الكردي بالمجال السوري (الديمغرافية والجغرافية والسياسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية).
تبعا لذلك، يبين هذا الفصل الترابط الوثيق بين البناء العلمي لتاريخ الأكراد (الخاص) وتاريخ سوريا (العام)، بالشكل الذي يجعلهما مرتبطين وغير مفصولين بأي صورة من الصور، من خلال نموذج الجزيرة الكردية (محافظة الحسكة)، كما يقدم لعموم الباحثين المهتمين بالتاريخ السوري المعاصر (ومنه تاريخ الأكراد في الإقليم السوري) مادة خام (إحصائية وتحليلية) ونهج تاريخي راهني (أهمية التعدد الاختصاصي في دراسة الحدث التاريخي والكشف عن الشروط الذاتية والموضوعية المتحكمة في إنتاج التاريخانيات الاجتماعية للأقليات) يمكن من إزالة الشوائب الإيديولوجية والسياسية (والعلماوية) التي تخترق العديد من أدبيات العلوم الاجتماعية المتفاعلة مع قضايا الأقليات والثقافات واللغات والهويات الفرعية والهامشية؛ بخاصة قضية الكرد (والمجال الكردي) مع أحداث الربيع العربي.
تبعا لذلك، يبين هذا الفصل الترابط الوثيق بين البناء العلمي لتاريخ الأكراد (الخاص) وتاريخ سوريا (العام)، بالشكل الذي يجعلهما مرتبطين وغير مفصولين بأي صورة من الصور، من خلال نموذج الجزيرة الكردية (محافظة الحسكة)، كما يقدم لعموم الباحثين المهتمين بالتاريخ السوري المعاصر (ومنه تاريخ الأكراد في الإقليم السوري) مادة خام (إحصائية وتحليلية) ونهج تاريخي راهني (أهمية التعدد الاختصاصي في دراسة الحدث التاريخي والكشف عن الشروط الذاتية والموضوعية المتحكمة في إنتاج التاريخانيات الاجتماعية للأقليات) يمكن من إزالة الشوائب الإيديولوجية والسياسية (والعلماوية) التي تخترق العديد من أدبيات العلوم الاجتماعية المتفاعلة مع قضايا الأقليات والثقافات واللغات والهويات الفرعية والهامشية؛ بخاصة قضية الكرد (والمجال الكردي) مع أحداث الربيع العربي.
ما أضفى قيمة أسياسية على هذا الفصل -أو لنقل الدراسة- هو كتابته من قبل المؤرخ السوري محمد جمال باروث، المتخصص في التاريخ السوري الحديث والمعاصر، والمعروف بجديته والتزامه العلميين (فضلاً عن اهتماماته المتعدد)، واندراج أعماله ضمن الإسهامات التاريخية الرامية إلى تقديم صورة علمية واقعية ورصينة حول التاريخ السوري المتعدد[3] (إسهام مختلف التلوينات الثقافية والإثنية في إنتاج هذا التاريخ المعاصر). في الواقع، في سياق الظرفية العصيبة التي تمر منها الدول العربية، لابد –بداية- من تقديم دراسات تاريخية وسوسيولوجية تعيد الاعتبار لدور مختلف الأطياف في إنتاج الجسم الثقافي والسياسي الإقليمي من جهة، والتأثير والتأثر بالتحولات السياسية والاقتصادية بالعالم العربي خلال العقد الأخير من جهة ثانية، وأهمية إشراكها في صوغ الانتقال السياسي والديمقراطي من جهة ثالثة.
في إطار النهج التاريخي، لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل مسألة أكراد سوريا عن المسائل المماثلة في إيران والعراق وتركيا (ص: 15)، ولا يمكن فهم واقع ومستقبل هذه المنطقة دون استحضار وضع هذه الفئة ضمن "المجال الكردي"؛ ومرد ذلك إلى أن القوات الاستعمارية (بخاصة خلال المراحل الأولى للانتداب: عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي)، في انتهاجها لسياسات عرقية وإثنية موحدة في مختلف مناطق نفوذها (من المغرب إلى المشرق)، قد عملت على إنتاج صورة من صور التفاضلية الثقافية (بين الثقافة المركزية/الهامشية، النافعة/غير النافعة...) التي انعكست سلبا (تاريخا وحاضرا) على البنيات اللاشعورية للمنطقة، وأسهمت في تعميق نزعة طائفية (بخاصة في العراق اليوم) دفع الأكراد (ومختلف الإثنيات الدينية والثقافية اللغوية) ثمنها غاليا.
وتبعا لذلك، وفي إطار المقاربة "الإنقسامية" (في جذورها الانثربولوجية) التي حكمت تعامل المُعمر مع دول العالم الثالث، تم الحرص على تفتيت أي بوادر محتملة لتشكل "وعي إثني" أو عرقي أو طائفي –بشكل مباشر أو غير مباشر- حامل لفكرة الانفصال وبالتالي معارضة مطامع/مطامح المستعمر، من خلال تبني سياسة الكيل بمكيالين: نشر الفُرقة داخل الجسم السوري وتشجيع انشطار الأقليات الإثنية والطائفية من جهة، والحرص على أن يظل الوعي الإثني حبيس المواجهة مع الآخر-الإثني وليس مع الآخر المستعمر من جهة أخرى.
وتبعا لذلك، وفي إطار المقاربة "الإنقسامية" (في جذورها الانثربولوجية) التي حكمت تعامل المُعمر مع دول العالم الثالث، تم الحرص على تفتيت أي بوادر محتملة لتشكل "وعي إثني" أو عرقي أو طائفي –بشكل مباشر أو غير مباشر- حامل لفكرة الانفصال وبالتالي معارضة مطامع/مطامح المستعمر، من خلال تبني سياسة الكيل بمكيالين: نشر الفُرقة داخل الجسم السوري وتشجيع انشطار الأقليات الإثنية والطائفية من جهة، والحرص على أن يظل الوعي الإثني حبيس المواجهة مع الآخر-الإثني وليس مع الآخر المستعمر من جهة أخرى.
مع الاستقلال، واصلت الحكومات السورية -بل حكومات مختلف الدول المستقلة- تبني نفس النهج السياسي المزدوج المعايير في التعاطي مع مسألة الوافدين إلى "الجزيرة السورية"، في إطار الحرص على تأسيس نظام سياسي وحدوي (وليس تعددي بالضرورة) والرغبة في صهر التنوع الثقافي والإثني في قالب سوسيو-ثقافي "موحد"، فضلا عن التحكم في الديناميات الإثنية والطائفية داخل البلاد من خلال جعل صراعاتها ومطالبها موجهة نحو الإثنيات والطوائف الأخرى، وليس ضد النظام القائم.
في حقيقة الأمر، تم تطوير سياسية استيعابية (داخلياً وخارجياً) بالمنطقة ذات طبيعة خاصة:
- منع أي شكل من أشكال التمركز العرقي والإثني في مجال جغرافي معين، عن طريق تبني سياسة مفتوحة مع نسق التلوينات الثقافية وسياسة تقييدية مع الأكراد الراغبين في الاستقرار بالجزيرة (وأي مجال ممتد جغرافيا وثقافيا)؛
- الحرص على احتواء أي حراك إثني محلي (رغم تنامي حدة الثورات والانتفضات الكردية بعد الاستقلال، على سبيل المثال)؛ بخاصة في علاقته التأثرية والتأثيرية بالمجال الكردي؛
- استقبال هجرات كردية داخلية وخارجية متعددة، والعمل على التحكم في شروط تمركزها الجغرافي والثقافي (بخاصة في الجزيرة السورية)، الأمر الذي نتج عنه بروز رغبة سياسية (بخاصة خلال ستينيات القرن الماضي) في استئصال "المشكلة الكردية" وما تحمله من أبعاد هوياتية وثقافية ولغوية؛
- التركيز على تهميش الإثنيات والثقافات الفرعية واللغوية للأكراد وفصلها عن مخططات التنمية، حرصا على "سحق" إمكانية بناء وعي كردي خالص ذي جذور سياسية (أولا) ولغوية (ثانيا)؛
أسهمت هذه الشروط السياسية والتاريخية في إنتاج مجتمع كردي مزيج ومركب على المستوى الأنثروبولوجي، بين من ينتمون تاريخيا وثقافيا إلى المجال وبين من رَحلوا/رُحّلوا أو هَاجروا/هُجّروا إلى الجزيرة السورية. وتبعا لذلك، وأمام هذا الاختلاف الأنطولوجي في الوعي بالهوية والثقافة الكردية بين التركيبات الاجتماعية، استطاعت الأقليات التي تنتمي إلى المجال المحلي من الاندماج في النسق السياسي (وفق شروط الفاعل السياسي نفسه)، في حين عان الوافدون من التهميش في كافة أشكاله ومستوياته. وما يعزز هذا التصور، هو أن "أكراد الدواخل" قد استطاعوا إنتاج قيادات نسقية أثرت في البنيات الاقتصادية والسياسية (ولو جزئيا)، في حين أن "أكراد الدواخل" عانوا من صعوبات بنيوية في الاندماج الاجتماعي والسياسي خلال الحقبة الكولونيالية كما في حقبة ما بعد الاستقلال؛ بل إن هذه الفئة الأخيرة قد جرى التعامل معها وظيفيا من أجل مواجهة الحركات الوطنية (من طرف المستعمر) والحركات الثقافية (بعد الاستقلال). لكن مع ذلك، أسهم هذا التهميش في زيادة الوعي اللغوي والسياسي بأهمية الهوية القومية للأكراد، والاستفادة من التجربة الكردستانية (بالعراق) والرغبة في الاستثمار الثقافي في إقامة وجود كردي وازن في المجال السوري.
لا يمكن الفصل بين التطور التاريخي لسوريا الحديثة والمعاصرة، وتاريخ تطور الحضور الكردي في المنطقة؛ من منطلق أن الأكراد في المجال السوري (منذ المد الكولونيالي إلى حدود الفترة الراهنة)، ورغم الشروط الموضوعية التي طبعت التعامل السياسي معهم، قد بصموا على حضور قوي (ديمغرافيا وجغرافيا) واستفادوا من الأحداث التاريخية والسياسية التي عرفتها المنطقة خلال القرن الأخير، من أجل التفكير في صوغ مشروع سياسي ولغوي منفتح على المستقبل (رغم التحديات التي يواجهها)؛ بل إن الأحداث التي تعرفها سوريا خلال العقد الأخير، لا يمكن فهم شروط إنتاجها وامتداداتها ومستقبلها دون استحضار القضية الكردية.
يقدم لنا الفصل الثاني رصدا كرونولوجيا لتاريخ الحركة الكردية في سورية خلال مرحلة ما بعد الاستقلال (الخويبونية=عشرينات وثلاثينات القرن الماضي) ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (البرتية-خمسينيات وستينيات القرن الماضي) ثم المرحلة المعاصرة (تسعينيات القرن الماضي)، وفي الأخير المرحلة الراهنة (إلى حدود ما قبل 2011). وتبعا لذلك، هدف هذا الفصل إلى التأكيد على كون التفكير في تاريخ الأكراد (في المجال السوري بخاصة) هو بالضرورة تاريخ تفكير في الحركية السياسية الكردية السورية خلال القرن العشرين[4] من جهة، وفي الحركة السياسية الكردية في إطار "المجال الكردي" (بخاصة التركي والعراقي) من جهة أخرى.
إذا كانت المرحلة الأولى قد اقترنت بسياق الخروج من "اللحظة الكولونيالية" والانفتاح على الاستقلال، فإنها حملت معها مطامح كردية على المستوى السياسي والثقافي أيضا، والتي سعت نحو رد الاعتبار للكيان السوري من خلال رد الاعتبار للكيان الكردي. كان علينا الانتظار إلى مرحلة خمسينيات القرن الماضي (في إطار نتائج نهاية الحرب العالمية الثانية من جهة ونهاية الحركة الكولونيالية من جهة أخرى) من أجل الوقوف عند التأسيس السياسي-الحربي للقضية الكردية، في تفاعلها مع تجارب ثقافات الجوار، وظهور الرهان "الكردستاني" كتعبير عن بداية تكون وعي سياسي بضرورة توحيد "الشعب الكردي" (كأحد أعرق الشعوب في المنطقة، وليس كأقلية مهمشة وهامشية). في حقيقة الأمر، ومنذ تأسيس "حزب الأكراد الديمقراطيين السوريين"، تم العمل على خدمة رهانين أساسين: جذب اهتمام الأكراد نحو السياسة، والحرص على جعل رهان الوحدة الكردية النهج الديمقراطي لسير عمل المشهد السياسي المحلي.
ليس من السهل تفعيل مبدأ الوحدة السياسية دون التفكير في استثمار الغني الثقافي والإثني والإيديولوجي في إطار التعددية السياسية، نظرا لكون البنية الثقافية واللغوية الكردية تعرف تعددا لسنيا وهوياتيا كبيرا، ولا يمكن إغفاله أو صهره في إطار قالب أو تصور نمطي قبلي. ما يعاب على الممارسات السياسية في المنطقة، إلى حدود اليوم، هو عدم الوعي بأهمية التعددية الإثنية واللغوية داخل نفس الثقافة من جهة، وداخل نسيج الجسم المجتمعي من جهة أخرى، الأمر الذي يظهر بجلاء في تأخير وتعقد تحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود بعد الربيع العربي (في كل الدول التي عرفت حركيات اجتماعية وسياسية مجتمعية).
من منظور أنثربولوجيا الحركات الاجتماعية والثقافية، لا يمكن أن نلغي دور الأكراد في الدفع السياسي والاجتماعي نحو إنتاج الحدث الثوري بسوريا قبل سنة 2011، نظرا لكون البنيات الحزبية الكردية –على اختلاف مرجعياتها ورهاناتها- لم تتبنى موقف سياسي (أو ثقافي) يتضمن تلميحات إستراتيجية حول الرغبة في الاستقلال أو إقامة كيان خاص (على عكس باقي جسم "المجال الكردي": تركيا والعراق)، ولم تنظر –منذ عقود- إلى سوريا المفتتة، وإنما إلى سوريا الديمقراطية والحرة.
إضافة إلى ذلك، وعلى غرار التجارب الغربية (الاسبانية مع منطقة الباسك وكاتالانيا، وكندا مع الكيبيك)، ينشد الأكراد (والتنظيمات السياسية الكردية) الحلول والتوافقات السياسية والثقافية الديمقراطية، سواء تلك المتعلقة بمستقبل بالدولة السورية أو بالمجتمع الكردي. وتبعا لذلك، يظهر الاختلاف الكبير بين الاستراتيجيات السياسية وسياسات الهوية اللغوية والثقافية للأكراد في سوريا، وبين باقي المجال الكردي (مع تداخل الطائفي بالدين والثقافي بالإثني، لا تتم إضافة "حلم" التأسيس الديمقراطي للوجود السياسية والثقافي للأكراد بالمنطقة)، حيث يعلن الشرط الديمقراطي عن نفسه كحل عقلاني ومعاصر ينتصر للتعددية والاختلاف (الداخلي والخارجي).
في الفصل الأخير، ينفتح الكتاب على العلاقة الجدلية بين الأكراد والثورة السورية (منذ سنة 2011) مقدما شهادة تاريخية وسياسية (وعلمية بالأساس) حول المشاركة الكردية الفعالة في إنتاج الحدث الثوري وتأطيره وتوجيهه نحو الأبعاد الإنسانية والديمقراطية (وليس الطائفية أو الإثنية كما تروج له بعض المنابر الرسمية)؛ من منطلق أن الثورة السورية هي ثورة للمجتمع والثقافة السورية ضد العنف والقمع والاستبداد، وليس مجرد ثورة طبقية (طبقة فقيرة ضد النظام الحاكم) أو إثنية (ثقافة ضد أخرى) أو حتى سياسية (نظام سياسي في مواجهة آخر).
ما ميز التعاطي الكردي مع الثورة السورية هو "استحضار مبدأ الديمقراطية" (أولا)، والمزج بين رهانات "القضية الكردستانية القومية" (كقضية شعب) و"القضية السورية" (كقضية هوية محلية في إطار وحدة اجتماعية ومجتمعة)، واستثمار "التاريخ الأسود" مع النظام السوري (قمع الثورة الكردية سنة 2004) من أجل التصالح مع المجتمع (رد الاعتبار للذات الكردية الوطنية) وتعبئة السوريين ضد النظام.
لم يستغل الأكراد الوضع من أجل الدفاع عن مصالحهم الخاصة (أو التواطؤ مع النظام أو غيره)، وأبانوا عن وعي سياسي قل نظيره في المنطقة العربية، من خلال حرصهم على إعلاء صوت "الحرية وإخراس صوت القمع"، الأمر الذي جعلهم أحد "أسرار" لحمة واستمرارية الثورة السورية لما يقرب من عقد من الزمن (رغم الصعوبات والصراعات)، وأسهم في توحيد لحمة المجتمع السوري ضد الظلم واستثمار الغنى الإثني والديني والثقافي والطائفي من أجل رسم معالم سوريا المستقبل: سوريا الحرية، والديمقراطية، والكرامة والأخوة والمساواة.
قد تبدو المشاركة المكثفة للأكراد في الحركات الاحتجاجية والاجتماعية السورية (منذ مطلع سنة 2011) أمرا عاديا في سياق تاريخ القمع الذي تعرضوا له من جهة، ورغبتهم في تحسين الأوضاع من جهة أخرى، إلا أن ذلك لا يعكس اللحمة الاجتماعية والثقافية لمكونات الجسم السوري فقط، وإنما يجعلنا نستشرف مستقبلا "مشرقا" للحراك السوري بعد إنهاء بؤس النظام الرسمي الحاكم (مقارنة بالوضع الحالي الذي تعرفه دول "الربيع العربي") في إطار تحقيق انتقال ديمقراطي استثنائي في المنطقة.
ما عانت منه الثورة السورية في كرونولوجيتها السياسية، ومنه الحركة الكردية في المنطقة، هو ضعف تعاطي المجتمع السياسي الدولي مع الملف، والنظر إلى الحركات الاجتماعية السورية بوصفها تعبير عن حراك إثني (طائفي) وليس بوصفها حراك مجتمعي (وثقافي بنيوي) يجسد إرادة التغيير والرغبة في تحقيق الرهان الديمقراطي. لذلك، كان على الأطياف السياسية والإثنية السورية (بخاصة الكردية) أن تنظم الصفوف دون انتظار التدخل الخارجي الذي قد يأتي أو لا يأتي، من خلال قطع الطريق أمام بروز أي شكل من أشكال "الانشطارات أو العنصريات الإثنية" والتأكيد على وحدة الجسم السوري في إطار قبول الاختلاف والتعددية الثقافية والاجتماعية (وبالتالي، قبول التعددية السياسية في إنتاج المشهد الثوري).
لم يكن لهذا المسلسل السياسي أن يتم دون مصالحة مع الذات (التأكيد على هوية المشروع القومي في المجال السوري وانفتاحه على المجال الكردستاني[5]) ومع الآخر (الدفع بمطلب إسقاط النظام وليس إسقاط الهوية) وتنظيم الحراك الشبابي (في إطار خدمة الرهانات الكبرى للثورة) والاستفادة من مساعدات دول الجوار مع اشتداد حدة الأزمة والانتقال نحو عسكرة الثورة. بل أكثر من ذلك، تم العمل على استمالة حتى الأكراد المعارضين أو المحايدين (ضمن الجسم السياسي المحلي والإقليمي) للفعل الثوري، وتنبيه المجتمع الدولي إلى أن مشاركة الأكراد في الثورة يطبعها رهان إنهاء الظلم والاستبداد والمشاركة في صوغ انتقال سياسي ديمقراطي، وليس لهدف خدمة أجندات خاصة أو مصالح إقليمية: سوريا المستقبل والمستقبل سوريا.
ختاما، أمام التحولات التي تطبع التعاطي الدولي مع الأزمة السورية، يجور لنا الحديث عن قرب انفراج مسلسل المآسي والآلام والعنف نحو انتقال ديمقراطي وثقافي استثنائي بالمنطقة، نظرا لكون تعقد الوضع يبشر بقرب الحل. لكن مع ذلك، لابد من البحث منذ الآن عن شروط إنتاج توصيفات ومقترحات حلول سياسية واقتصادية وأيضا اجتماعية وثقافية لمستقبل سوريا بعد الأسد (سوريا الحرية)، تأخذ بعين الاعتبار الخصوصات المحلية والثقافية للبلد وتاريخه العريق وتنفتح على المستقبل الديمقراطي الموعود.
لا ننكر هنا خصوصية الشعب الكردي على المستوى التاريخي والإقليمي، إلا أن التفكير في حل للقضية الكردية[6] لن يكون في يد أحد غير الأكراد أنفسهم، من خلال تصور توافقيي بين مختلف أركان ومكونات الجسم السوري (وجسم المجال الكردي عامة) ينتصر لحق تقرير المصير (على الشاكلة المغربية في التعاطي مع قضية الصحراء) القطري (داخل التراب السوري) وأيضا القومي (المجال الكردي). لذلك، تظل مساهمة هذا الكتاب المرجعي أولية وأساسية في التأكيد على الحل الديمقراطي والسلمي كخيار استراتيجي في سياق الاضطرابات السياسية والثقافية التي تعرفها مجتمعات ما بعد الربيع العربي.
الهوامش:
[1] - حول التاريخ الاجتماعي والسياسي للوجود الكردي بسوريا ما قبل الربيع العربي، أنظر:
Tejel Gorgas, Syria’s Kurds. History, Politics and Society, Routledge, Londres, 2009.
[2] - على سبيل المثال، العمل المرجعي للكاتب حامت بوزرسلان:
Bozarslan, La Question kurde. États et minorités au Moyen-Orient, Paris, Presses de Sciences Po, 1997.
[3] - تعد هذه الورقة جزء من دراسة ضخمة ومرجعية للباحث، أنظر:
محمد جمال باروت، "التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية: أسئلة وإشكاليات التحوّل من البدونة إلى العمران النظري"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013 (1021 صفحة) .
[4] - حول الخيار السياسي للأكراد بالمنطقة، أنظر:
BOZARSLAN, Hamit, « Les Kurdes et l’option étatique », Politique étrangère 2/ 2014 (Eté), p. 15-26
URL:Link.
DOI : 10.3917/pe.142.0015
[5] - حول وضع ورهانات المجال الكردي السوري في إطار أحداث الربيع العربي، انظر:
Cyril Roussel, La construction d’un territoire kurde en Syrie : un processus en cours, Maghreb - Machrek 2012/3 (N° 213), p; 83-98.
[6] - لفتح باب النقاش حول الموضوع، أنظر:
Adel Bakawan, L’indépendance du Kurdistan est-elle possible ? Savoir/Agir 2014/4 (n° 30), p, 109 - 112.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- الرابط (1139 تنزيلات)
محمد الإدريسي
باحث مغربيّ، وأستاذ فلسفة. له عديد من الدراسات والمقالات العمليّة المحكمة في عدد من الدوريات العربيّة.
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.