ويستفاليا حديثة: صراع سوريا على الشرق الأوسط وصراعه عليها

07 نيسان/أبريل 2018
 
[هذه هي المادة الثامنة من ملف ينشره موقع العالم عن سوريا، وللاطلاع على المادة الأولى انقر هنا، والثانية هنا، والثالثة هنا، والرابعة هنا، والخامسة هنا، والسادسة هنا، والسابعة هنا]
 
تقديم
 
كما قال الصديق الباحث طارق العلي مرة بهذه المساحة ذاتها؛ أود التأكيد بداية أنني لا أستطيع إلا أن أتجنب جفاف التعابير وجفاء الحيادية بحديثي لا عن حدث بالغ الملحمية والعظمة والتأثير وحسب؛ بل عن حدث يمسني شخصياً بشكل مباشر؛ منتمياً إلى سؤال الضحية كما يسميه طارق. ولكنني مع ذلك؛ قد أبدو صادماً وفجّاً ببعض الآراء، التي لن يغنيني تلقيها بصدر رحب بقدر وضعها على محك النقاش الجاد.

مدخل: في معنى "سوريا"
 
في سوريا، كأي أرض حدودية [borderland] واقعة على حدود الإمبراطوريات التاريخية والأديان والحضارات؛ يسير التاريخ بقاعدة ثابتة: كل شيء متغير. عشية الفتح الإسلامي؛ كان الغساسنة والمناذرة وكلاء العنف باسم الإمبراطوريتين الكبيرتين في ذلك الوقت: البيزنطية والفارسية؛ ثم جاء الفتح الإسلامي الذي انطلق من دمشق لما يقارب المئة عام، في دولة مستقلة ذات سيادة، نادرة بتاريخ البلاد المنحوسة بجغرافيتها وطبغرافيتها؛ [1] جغرافيتها التي جعلتها دائماً محاطة بالقوى العظمى، التي إن أرادت التوسع بعد أن استقرت -سواء شمال سوريا في الأراضي الخصبة التي تفصل آسيا الصغرى وأوروبا حول بحر مرمرة، أو جنوبها بوادي نهر النيل، أو غربها بين دجلة والفرات- فإن عليها أن تمر حتماً بسوريا، حيث يراق الدم وتتداخل الأعراق وتصطدم الأديان؛ وطبغرافيتها الخشنة التي أفقدتها عنصر الربط الطبيعي للديموغرافيا الخشنة الشبيهة بهذه الطبغرافيا والمتسايرة معها.

فمن الشريط الجبلي الساحلي الضيق، الملجأ التاريخي للأقليات -التي تضم العلويين والمسيحيين والإسماعيليين- المرتابة من الغزاة القادمين من الغرب بالقدر نفسه من الحكام المستقرين بالشرق؛ تنفرج الطبوغرافيا على سلسلة سهول واسعة على امتداد نهر العاصي وسهل البقاع؛ قبل أن تصعد بحدة مجدداً مع جبال لبنان الشرقية، تليها هضبة حوران، وصولاً إلى جبال الدروز، نسبة للدروز المحتمين بها على غرار أقليات الساحل. من الغرب على جبال لبنان مباشرة، ينبع نهر بردى، الذي أدى لصعود واحة صحراوية، اسمها دمشق؛ محمية من الساحل بسلسلتين جبليتين ومساحات شاسعة من الصحراء شرقاً، بما يجعلها مدينة محصنة يمكن أن تكون عاصمة، إن توافر لها ممر يخترق الجبال للساحل، وممر آخر يربطها بحلب -المنفذ الاقتصادي الهام لأي قوة ستسيطر على دمشق-، مروراً بحمص وحماة وإدلب، بالأرض الممتدة نسبياً والصالحة أن تكون موطناً لسكان متجانسين، كانوا الأكثرية العربية السنية التي سكنت هذا العمق تاريخياً، ليشكل الممران معاً من دمشق ما تسميه اليوم كل من روسيا وإيران: "سوريا المفيدة".

أما شرق دمشق، تمتد البادية مشكلة أرضاً بوراً بين سوريا حتى بلاد ما بين النهرين، في طريق كان وما زال ممراً لسفر المجموعات صغيرة من الرجال الرحل، الحاملين القليل من المتاع، والكثير من الطموحات، ليكتمل نحس الجغرافيا الحدودية، والطبوغرافيا الخشنة، والديموغرافيا المتشظية. [2]


يمكن الحديث عن نشوء بذور سوريا، المجتمع والدولة، في القرن التاسع عشر؛ عندما شهدت الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تسيطر على سوريا منذ عام ١٥١٦ تغيرات جوهرية في طبيعة الحكم، تمثلت بالمجالات الأيديولوجية والسياسية التي فُتحت  نتيجة بعض الانفصالات داخل النظام الإمبراطوري العثماني الذي كان يسيطر على مساحات واسعة متعددة الأعراق والأديان واللغات، مترافقة مع صعود عالمي لمفاهيم الوطنية والمواطنة والمساواة السياسية، بدل الانتماء الديني والعرقي، الذي كان متمثلاً في الدولة العثمانية بنظام "الملة" الذي يمنح المسلمين السيادة على الذميين من اليهود والنصارى، مما أدى لثلاثة عوامل متداخلة ومتشابكة:

صعود الوطنية العرقية-الدينية، وخصوصاً في البلقان، والتي تحدت الأفضلية العثمانية المسلمة عسكرياً وجغرافياً وسياسياً وأيديولوجياً، مترافقة مع العامل الثاني وهو صعود الإمبريالية الغربية والصراعات الإمبريالية، التي أدت بدورها للعامل الثالث، متمثلاً بالإصلاحات العثمانية المسماة بـ"التنظيمات"، التي غيرت منطق وتعريف الإمبراطورية العثمانية، من كونها "إمبراطورية اختلاف"، إلى "إمبراطورية مواطنين"، بتغير جوهري ثوري، بدأ عام ١٨٣٩، بالمساواة السياسية بين المسلمين وغير المسلمين، واكتمل دستورياً عام ١٨٧٦، لمقصد واضح ومباشر: إزالة الخطر التوسعي الأوروبي وتعزيز السلطة الإمبريالية العثمانية، دون مراعاة للآثار الداخلية الكبيرة التي أدت لصعود البذور الأولى لـ"الطائفية الحديثة".

إذ كانت هناك ثلاثة تغيرات كبيرة مترافقة تسير معاً: الأول هو التفكيك المفاجئ لنظام تفوق المسلمين الرمزي والقانوني بدون أي تمهيد ثقافي للنخب المسلمة العثمانية التي كانت إمبراطوريتها واقعة تحت ضغط عسكري وسياسي واقتصادي أوروبي، والثاني هو واقع الإمبريالية الغربية التي ادعت حماية المسيحيين في المشرق، والذين بدورهم باتوا أكثر ارتباطاً بشكل تدريجي بهم، والثالث هو ظهور سياسات "الأعيان" المحلية [3] كما يسميها ألبرت حوراني، الذين يملكون نوعا من السلطة الذاتية (كعلماء أو عسكريين أو تجار أو أشراف... إلخ) في مناطق نفوذهم، مع إمكانية للوصول والتأثير بمركز الحكم في الأستانة، لدى الأكثرية المسلمة، مقابل "الوكلاء" في صفوف الأقليات، الذين استخدمتهم القوى الإمبريالية الأوروبية أو الروسية تحت ذريعة "حماية الأقليات". [4]


في النهاية؛ انتصر الحدث الثاني، التوسع الإمبريالي، على الحدث الأول، نظام "التنظيمات" العثماني، وتم تقسيم الولايات العثمانية العربية بين المنتصرين البريطانيين والفرنسيين في اتفاقية "سايكس بيكو" الشهيرة، ليبقى الحدث الثالث؛ سياسات الأعيان والوكلاء هو الحاكم للمجتمعات المحلية، حتى بعد الاستقلال من الانتداب الفرنسي، وصولا للانقلاب البعثي؛ نتيجة عوامل سياسية واجتماعية أخرى، يفصلّها برشاقة فيليب خوري، تلميذ ألبرت حوراني النجيب، في كتابه "أعيان المدن والقومية العربية". [5]
 
 
لم يكن الإشكال الأكبر للقوى الغربية، وتحديداً فرنسا وبريطانيا، بعد الحرب العالمية الأولى، هو خلق هذه الدول الوظيفية الغريبة فجأة وقسراً، دون صيرورة سياسية واجتماعية، فكل الدول كما يقول أسامة مقدسي [6] "تؤسس تأسيساً"، لكنه المنحى الذي تم اتباعه لهذا التأسيس، على خطوط جديدة وهادئة طائفية باسم حراسة الحرية الدينية. كان الفرنسيون، أصحاب أكبر الصلات الاستعمارية في الشام، أسياداً في استراتيجية التلاعب بالأقليات، [7] إذ كان أول ما سعت لفعله بعد الانتداب هو التقسيم الواضح والعلني على هذه الخطوط العرقية والطائفية، مترافقاً مع تعزيز لدور العلويين في الجيش والمؤسسات السورية أثناء الانتداب الفرنسي، الذي بانتهائه عام ١٩٤٣ كانت المكونات جاهزة لانفجار طائفي وديموغرافي كبير، بلغ ذروته بالحركة التصحيحية عام ١٩٧٠، على يد حافظ الأسد؛ الذي بدأ حكما غير اعتيادي في سوريا، لا بسيطرة العلويين الطائفية على الحكم، وحسب؛ ولكن بامتداد لحكم "فلاحي سوريا"، الذين شكلوا الغالبية الكبرى لـ"النيو- بعثيين"، أو "البعث الجديد"، كما يصفهم حنا بطاطو في كتابه "فلاحو سوريا"، [8] المناقض لشكل سياسات أعيان المدن التاريخي في سوريا.
 
أدت هذه السيطرة إلى ثلاث نتائج رئيسة متشابكة ومتداخلة؛ الأولى: وأد الصيرورة والحراك السياسي والاجتماعي لمحاولات خلق "دولة قومية" من الجسم الهجين الذي سلمته فرنسا للسوريين بعد الاستقلال، والذي كان بغالب هذه الفترة، منذ سايكس بيكو وحتى مطلع السبعينيات، "دولة شمولية"، يجسدها حكم الحزب الواحد الذي يعبر عن مصالح طبقات اجتماعية معينة ويحكم باسمها أو بالنيابة عنها، إلى كونه حكماً "سلطوياً" فردياً، تطور ليصبح "عائلياً أوليغاركياً"، تحول بموجبه الانتماء والولاء من الدولة والوطن والحزب إلى الفرد والعائلة والطائفة وشبكة المصالح المرتبطة بها [9]،

أي أصبحت سوريا "سوريا الأسد"، وتحولت الدولة من كيان سياسي، أي من كيان معنيّ بالشأن العام وممثلٍ للإرادة العامة، إلى "دولة متوحشة" [10]، كما يسميها ميشيل سورا، دولة ما قبل سياسية تحكم بها عصبية ابن خلدون بالانتماءات الطبيعية العائلية والطائفية والقبلية والمناطقية بدل المؤسسات القائمة على المواطنة، و"مخيال" يستحضر الأسد و"سيطرته الغامضة" ، بدل الكيان المتخيل الذي يعيد جمع الأفراد المتباعدين في انتماءاتهم وأعراقهم، مترافقة مع النتيجة الثانية الممثلة بالسيطرة العصبية لـ"عصبة" الأسد على أجسام الدولة ومؤسساتها، وفي النهاية أدت، ثالثا، لتحول النزاعات السياسية، أدوات وأهدافاً، إلى صراعات طائفية دموية بالغالب، أجاد الأسد الأب استخدامها واللعب بها وخلق استقرار واستقلال متخيلين، بتثبيت حكمه داخلياً، واللعب على التناقضات الجيوسياسية خارجاً، لتنفجر جميعاً في النهاية.
 
المقصد من كل هذه المقدمة المطولة هو التالي: اليوم، ونتيجة للظروف الطبيعية متمثلة بالجغرافيا والطبوغرافيا، ثم الظروف الاستعمارية التي رتبت الديمغرافيا بحسب هذه الظروف، ثم الظروف السياسية (أو بالأحرى اللاسياسية) التي فعّلت هذه الظروف معاً؛ يبرز للواجهة السؤال التالي: ما هي سوريا؟ أو بطريقة أخرى؛ من هو السوري ومن هم السوريون؟ ما الذي يجمع هذه المجموعة من "السوريين"، المتنوعين عرقياً ودينياً ولغوياً وطبقياً واجتماعياً، في هذه المساحة الجغرافية التي قيل لهم إن اسمها "سوريا"، بلا مخيال مشترك وفي ظل كيان عصبي طبيعي (لا سياسي) يرجعهم لما قبل الدولة، إلى هذه التنوعات والاختلافات؟
 
الصراع بين سوريا والشرق الأوسط
 
عام ١٩٦٥؛ أصدر الكاتب البريطاني باتريك سيل كتابه الكلاسيكي الأقل شهرة: "الصراع على سوريا" [11]، مؤرخاً به الفترة ما بين الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، وثورة البعث؛ والتي كانت بها سوريا دولة ضعيفة هشة ممزقة بالصراعات المحلية ومحاطة بفاعلين أقوياء إقليميين ودوليين، كانت تنظر لسوريا دائماً على أنها الجائزة التي يسعون جميعاً للسيطرة عليها لإتمام هيمنتهم على الشرق الأوسط، من الممالك الهاشمية في العراق والأردن، إلى المحاور المختلفة ما بين السعودي- المصري أو العراقي- التركي، إلى إسرائيل، والذين كانوا بالوقت نفسه أدوات للقوى العالمية، كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إلى أن وصل حافظ الأسد إلى الحكم الذي استمر لثلاثين عاماً أخرى حتى موته عام٢٠٠٠.
 
في كتابه الآخر الأكثر شهرة: "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط"، الصادر عام ١٩٨٨؛ يرى سيل أن الأسد استطاع إخراج سوريا من دوامة الصراعات الجيوسياسية وباتت هي بذاتها تنافس القوى الإقليمية الأخرى على النفوذ في الشرق الأوسط على جبهات متعددة، والتي يصفها كمال ديب في كتابه "تاريخ سوريا المعاصر" [12] -الذي كتبه بدعم وتعاون من سيل- بـ"الدولة المستقرة المستقلة والقوة الإقليمية المهمة التي لن تتراجع خلال العشرين عاما المقبلة"، في وصف خارجي، يتجاهل التغيرات والتشوهات الداخلية الموصوفة أعلاه على يد الأسد لتحقيق هذا النفوذ والصراع، داخلياً وخارجياً، والتي تحدث عنها، وللمفارقة، بوضوح سيل نفسه، بقوله: «[سوريا] مرآةُ المصالح المتنافسة على المستوى الدوليّ؛ فهي تستحقّ عناية خاصّة. وفي الحقيقة فإنّ شؤونها الداخليّة غالباً لا تحظى باهتمام ما لم ترتبط بسياق أوسع، يمسّ جيرانها من العرب والقوى الإقليميّة والدوليّة المعنيّة».
 
 
مع الأسد الابن؛ استمر القمع الداخلي بشكل مستقل بعيداً عن كل الظروف المتغيرة الأخرى، سواء بالتحولات الاقتصادية البنيوية متمثلة بالتحول نحو النيوليبرالية والسوق المفتوح، أو بالتغيرات الجيوسياسية [13] المتقلبة ما بين الحصار الجيوسياسي والدولي بعد اغتيال رفيق الحريري واحتلال العراق أو انفتاحه عقب دخول نظام الأسد الابن بعلاقات جديدة وقوية مع القوى الصاعدة حديثاً في الشرق الأوسط؛ لتصبح دمشق، العاصمة الإقليمية الوحيدة التي يمكن أن تستقبل كل الأضداد في المنطقة: الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بعلاقات قوية مع إيران وتركيا وقطر وتحسن مستمر في العلاقة مع السعودية وفرنسا والولايات المتحدة، وحتى إسرائيل التي وافق النظام على دخوله بمفاوضات سرية معها بوساطة تركيا، ليتحول الصراع على سوريا، مطلع الألفية، في ظل الحرب على الإرهاب وانضمام سوريا لـ"محور الشر" كما تصفه أمريكا، إلى ما اعتقد الأسد الابن أنه صراع على الشرق الأوسط في لعبة التوازنات الخارجية التي ظن أنه قادر على إدارتها، والتي حولها إلى شكل دولي عندما فشلت اللعبة الإقليمية بطلبه التدخل الروسي الرسمي. [14]
 
العصبية كغطاء للجيوسياسة
 
وكما تسير القاعدة في سوريا: الشأن السياسي السوري هو شأن جيوسياسي، والشأن الإقليمي والدولي هو شأن داخلي، بالضرورة. ما إن اندلعت الثورة في سوريا، وجدت الدول المحيطة بها، والتي كانت حاضرة أساساً في سوريا عن طريق لعبة التوازنات، حتى تحول التنافس الإقليمي السعودي- الإيراني- التركي إلى صراع دموي بالوكالة داخلها، إما من منطلق دفاعي؛ خشية انتقال الاضطرابات إلى هذه البلدان المجاورة، أو تفتت الدولة وانعكاس ذلك على تماسك الحدود والمجتمعات المتجاوزة لها، أو موجات المهاجرين من سوريا أو إليها، أو هجومي؛ بحثاً عن النفوذ الإقليمي في الحرب الباردة الإقليمية بين السعودية وإيران تحديداً، أو السيطرة العسكرية المباشرة، ترجمة لأطماع أو قطعاً لمشاريع معادية.
 
هذا الصراع السياسي بين النظام والقوى المسلحة المعارضة، والجيوسياسي في حرب الوكالة الإقليمية الباردة، تمت إعادته وتغطيته بصبغة عصبية، طائفية [15] بالدرجة الرئيسة، بتعزيز وتطبيع المصطلحات والرموز الطائفية للتجنيد في الصراع الجيوسياسي، [16] ضمن الأرضية الجغرافية والديمغرافية [17] المؤسسة لهذا الصراع، والأدوات المستخدمة والحاضرة في سياسات وأذهان "الدولة المتوحشة"، التي انقسمت بعد الثورة أفقياً، بين الدولة ومؤسساتها من ناحية، والمجتمع من ناحية أخرى، وتشظت عمودياً، على خطوط عصبية: مناطقية وطائفية وعائلية وعشائرية وطبقية.
 
هذا الانقسام الداخلي لم يكن متأثراً فقط من الخارج (المحيط الإقليمي) للداخل، بتمويله ودعمه تعزيزاً للصراعات الجيوسياسية، بل كان مؤثراً ومتلاعباً به كذلك، لا بتصدير هذا النزاع بشكله المباشر وحسب؛ بل بالتلاعب على المخاوف والأحلام الجيوسياسية وتغيير الخطاب والأدوات بما يتفق مع مصلحة هذه الأطراف الداخلية، سواء من ناحية النظام الذي لعب على وتر "مكافحة الإرهاب" و"العلمانية" مع الغرب مقابل تقديمه التنازلات تلو التنازلات لصالح إيران، أو الأطراف المعارضة المختلفة التي كانت تعيد تشكيل خطابها لتحصيل دعمها في صراعها الذاتي، الذي لا يبدو أنه سيتوقف حتى لو اتفقت الدول الإقليمية والعالمية، ذي المطالب السياسية الجوهر، لا الطائفية، والأدوات العصبية. [18]
 
هذا التشظي الأفقي والعمودي، مترافقاً مع التفاعل من الخارج للداخل وإليه، أحال الصراع السوري الكبير إلى صراعات محلية جداً بحسب العصبيات الصغيرة والمجتمعات المحلية، يتم إدارته، كما هو الحال نهاية الحكم العثماني، بأعيان الحرب الذين تحولوا إلى وكلاء عنف، [19] ضمن الحرب الإقليمية الباردة الأوسع، ضمن الصراع الدولي للنفوذ، بين قطبيه الرئيسين روسيا وأمريكا، المشاركين بشكل مباشر، أو عن طريق وكلاءهم: إيران والسعودية وتركيا وإسرائيل والخليج، في صراع سوريا على الشرق الأوسط، وصراع [الشرق الأوسط] على سوريا، معاً.
 
هذا الصراع المشكل من مجموع هذه الصراعات: الصراعات المحلية الصغيرة المتشظية، ضمن الصراع السياسي/ العصبي بين المعارضة والنظام، ضمن الصراع الإقليمي الجيوسياسي المغطى بالطائفية، ضمن الصراع الدولي، يسير في صيرورة مكونة من ثلاثة عناصر:

١): هو المجتمعات المحلية، والمحلية جداً بمطالبها وتكوينها، المعتمدة بتجنيدها على العلاقات العصائبية الجامعة لهذه المجتمعات (مهما كانت هذه العلاقات: طائفية أو عائلية أو مناطقية أو طبقية)،

نتيجة ٢): فشل الدولة الوطنية الحديثة، خصوصاً في العقدين الأخيرين ضمن ثلاثة صيرورات أخرى: أ) الفشل المؤسساتي بتأمين الخدمات العامة كالطب والتعليم وأشكال الرفاه الاجتماعي، ب) نتيجة الخصخصة المتزايدة منذ مطلع الألفية التي وسعت الفجوة بين الطبقات المختلفة، ج) مترافقة مع الفشل النظري والعملي لخلق مخيال مشترك، متشكلاً بـ"فئوية" النظام وعصبيته بتعزيزه طوائف أو فئات معينة على حساب فئات أخرى [20] ،

في ٣) محيط إقليمي ودولي متفاعل ومتدخل مباشرة، وجدت المجتمعات المحلية [والنظام السوري الذي لم يعد أكثر من طرف ضمن هذا الصراع]، طريقها إليه لتأمين احتياجاتها عن طريق الوسطاء والوكلاء، على المستوى البدائي الأساسي، مقابل غياب الحاجة أو الإحساس أو المشروع الوطني، مقابل تحقيق مصالح أو كف تهديدات لدول هذا المحيط، كنتيجتين مباشرتين لسياسات الأسد الأب (بالعصبية)، وسياسات الأسد الابن (بلعبة التوازنات الإقليمية)، فتحولت سوريا، أو عادت بالأحرى، إلى أرض حدودية، لا كيان سياسي، يحكم به الأقوى والأقدر على السيطرة، بالداخل أم بالخارج، في صراع ويستفالي لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا السياسية، ولن يستقر ولن يترك المنطقة تستقر بتحقيق مطالب هذه المجتمعات المحلية وحسب؛ بل بإعادة بناء مشروع الدولة السورية، مخيالاً ومؤسسات وسياسات.

الهوامش:

[4] Nader Hashemi and Danny Postel, Sectarianization: Mapping the New Politics of the Middle East, (London, Oxford University Press, 2017), P.25- 30. 
[5] فيليب خوري، أعيان المدن والقومية العربية: سياسة دمشق ١٨٦٠- ١٩٢٠، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ١٩٩٣.
[6] Hashemi and Postel, 32.
[8] حنا بطاطو، فلاحو سوريا: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ٢٠١٤.
لمراجعة الكتاب، انظر: الرابط.
[9] Link                                               
[10] ميشيل سورا، سوريا: الدولة المتوحشة، الشبكة العربية للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ٢٠١٧.
[11] Patrick Seale, The Struggle for Syria: A study in Post-War Arab Politics 1945-1958, Yale University Press, London, 1986, 10th Press.
[12] تاريخ سوريا المعاصر من الانتداب الفرنسي إلى صيف ٢٠١١، كمال ديب، دار النهار، بيروت، ٢٠١١.
[13] Raymond Hinnebusch and Tina Zintl, Syria from Revolt to Revolt Vol. 1, Syracuse University Press, New York, 2015, p. 226-34.
[16] Hashemi and Postel, 36.
[20] Hashemi and Postel, 59.
عبيدة عامر

كاتب ومترجم سوري، مهتم بالتاريخ الاجتماعي والسياسي لسوريا. عمل كاتباً في عدد من الصحف، وصدرت له ترجمة اثنين من الكتب، الأول «نفط الدم» عن دار جسور، والآخر «ما وراء الغرب العلمانيّ» عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.