وفي الوقت الذي تكون فيه الأحزاب السياسية وسيلةً للتنافس حول السلطة ضمن إطار بيئة تشريعية تسمح بالتنافس السياسي من خلال أدوات واضحة ومحددة. نجد أن الواقع السوري اليوم يعاني حالة من الفراغ على مستوى السلطة والمؤسسات وخاصة في مناطق المعارضة السورية، أو حتى في الخارج الذي يعاني من هشاشة واضحة على مستوى المؤسسات السياسية للمعارضة السورية. الأمر الذي بات يحول دون توفر الحد الأدنى من مقومات العمل السياسي المنظم القائم على التنافس الحزبي.
في ظل هذا الوضع، نحاول في هذه الورقة طرح مدى إمكانية تأسيس أحزاب سياسية في الظروف الحالية التي تمر بها سوريا؟ وهل هناك حاجة لوجود الأحزاب السياسية في ظرف فراغ السلطة وغياب المؤسسات داخل مناطق المعارضة؟
وماذا يمكن أن يكون دور هذه الأحزاب (إن وجدت) في ظل هذه الظروف؟
وما هي العوامل والظروف التي سيتوجب على الجماعات السياسية مراعاتها عند تأسيس الحزب السياسي في سوريا؟
فهرس المحتويات
نشوء الأحزاب وتطورها خلال القرن الماضي
تطور المنظومة الحزبية خلال القرن الماضي في الدول الديمقراطية
البيئة التشريعية التي تعمل في إطارها الأحزاب
كيف يمكن التمييز بين الأحزاب السياسية والتجمعات الشعبية الأخرى؟
تأسيس الأحزاب في الواقع السوري
ماهي وظيفة الأحزاب؟
ثقافة نقد الأحزاب و فقدان الثقة بها
دروس مستفادة للأحزاب الجديدة في سوريا
نشوء الأحزاب وتطورها خلال القرن الماضي
تلعب الأحزاب دورا مهما ومفصليا في الدول الديمقراطية والديكتاتورية على حد سواء. فهي تمثل أحد أهم أدوات تنفيذ الديمقراطية في النموذج الأول، كما أنها أحد تُعد أحد أدوات تشريع وتجميل للدكتاتوريات، وهو الأمر الذي كشفته بعض التجارب الديكتاتورية في العالم، كما في حالة الاتحاد السوفيتي، وفي سوريا ما قبل الثورة.
وقد تم النظر عموما إلى الأحزاب السياسية كقنوات للتواصل والعبور بين عموم المجتمع والسلطة السياسية فيه. إلا أن هذه القنوات لها ألوان وعناوين تعكس الأفكار والعقائد والمصالح الموجودة في المجتمع، كما أنها دائمة التغير والتطور بما يواكب ديناميات التحول في أفكار ومصالح شرائح المجتمعات التي تمثلها هذه الأحزاب.
في هذا السياق، تفسر نظرية الشروخ التي وضعها العالِمان: سايمون مارتين ليبست وشتاين، طريقة ظهور وتكون المنظومة الحزبية في المجتمع، بوصفها تأتي كنتيجة لانعكاس الصراعات الفكرية الرئيسية في المجتمع على العملية الانتخابية، وبالتالي فإن ظهور حزب جديد يتطلب تغيراً في تموضع الصراع الفكري في المجتمع، مما يسمح بنشوء توجهات جديدة تمثلها أحزاب جديدة.
ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت الأسئلة الجوهرية في المجتمعين الأوربي والعربي تتمحور حول علاقة الدين بالدولة، والصراع بين أبناء المدينة وأبناء الريف، وكانت ترجمة هذه الاهتمامات تتجلى بشكل واضح عبر السلوك الانتخابي للمواطنين، وفي الأطر التنظيمية والفكرية للأحزاب السياسية.
وفي سياق الحالة السورية مثلا، يمكن ملاحظة هذا الخلافات وتتبعها منذ الاستقلال وحتى بداية نهاية الحياة الحزبية بشكل عملي في سوريا، مع وصول حزب البعث للسلطة في عام ١٩٦٣. فقد كانت الدولة السورية المولودة حديثا وحتى نهاية عهد أديب الشيشكلي عام ١٩٥٤ محكومة من النخب المدينية التي أخذت تتشكل داخل المدن الكبرى في العقود الأخيرة من العهد العثماني، والتي كانت تعود في أغلبيتها إلى ملاك الأراضي وموظفي الدولة العثمانية. ورغم أن المكون العربي السني ذو الطابع الليبرالي كان في طليعة هذه النخبة، لم تغب عن هذه الشريحة شخصيات متعددة من باقي المكونات ذات الانتماء الطائفي والتي كانت تحتفظ برأس مال اجتماعي وتعليمي مشابه لما تمتلكه تلك الشريحة.
زعيم الكتلة الوطنية شكري القوتلي 1947
ولكن، ابتداء من عام ١٩٥٤ ظهر جيل جديد من السياسيين السوريين الذين ينتمون في أغلبيتهم الى الطبقات الوسطى، كما أن معظمهم قد تلقى تعليمه في المدارس العمومية التي أنشأها الانتداب الفرنسي، وليبدأ الصراع على الحكم واضحا بين الجيلين القديم والجديد من خلال التنافس بين الأحزاب. وكمثال على ذلك، يمكن أن نشير هنا إلى حالة الاستقطاب التي شهدتها البلاد بين حزب الشعب والحزب الوطني (الذي يضم في صفوفه الجيل السياسي القديم )، وبين حزب البعث والحزب القومي السوري والحزب الشيوعي وجماعة الإخوان المسلمين التي أخذت تمثل الجيل الجديد، كما أن معظمها يعود في تأسيسه الى أوائل الأربعينيات من القرن الماضي. وقد اشتمل هذا الجيل الجديد على تمثيل أكبر للأقليات الدينية والطائفية والإثنية في سوريا، وعلى تمثيل أوضح للصراع القائم بين الريف والمدينة، والقائم بين المرجعية الدينية للدولة والمرجعية الاشتراكية أو الشيوعية.[1]
لا زالت هذه المواضيع تشغل المجتمعات العربية اليوم، حيث لم تستطع السياسات العربية منذ ذلك الحين تقديم حلول واستجابات مناسبة للمشاكل الإجتماعية التي أدت لظهور تلك التساؤلات في المجتمعات العربية. بينما ظهرت في المجتمعات الأوروبية منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات أسئلة فكرية جديدة شغلت المجتمعات هناك وخلقت بعداً جديد في الصراع السياسي، حيث كانت النقاشات حول الفَرق بين المادية وما بعد المادية[2] هي المحرضات التي أدت لظهور تجمعات وأحزاب سياسية جديدة مثل أحزاب الخضر المنتشرة في أوروبا.
في هذا السياق يقوم العالم كلاوس فون بييمه[3] بتوصيف هذا التطور في الدول الأوروبية الغربية مقسما الأحزاب الى ثلاثة اتجاهات:
الأول يتمثل في الأحزاب الكمية التي تشكلت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى منتصف الخمسينات، والتي كانت تضم طبقات مختلفة وإيديولوجيات متناقضة بين صفوفها، واستمدت قوتها وتمويلها وتماسكها من تماسك الكتلة البشرية الهائلة التي تضمها وظروف الحرب والاقتصاد آنذاك.
أما الاتجاه الثاني فيتمثل في الأحزاب الشعبية التي بدأت في التشكل منذ أوائل الخمسينات وحتى أواخر السبعينات. وقد أخذت هذه الأحزاب تسعى إلى استقطاب كافة أفراد الشعب، كما أخذت تتسم بلون إيديولوجي معين مثل: الإشتراكية، الليبرالية، المسيحية المحافظة. وتعتمد أيضا في تمويلها على دعم سخي من قبل الحكومات.
أما الثالث فهو الذي يشمل ما سُمي بأحزاب الناخبين الحرفيين أو المختصين. اذ ساعدت وسائل الاتصال والتقدم العلمي، ابتداءً منذ أواخر السبعينيات، على رفع الكفاءات وطرق التواصل في الأحزاب، ما أدى الى تغير في أسلوب إدارة الأحزاب من خلال تحولها لتجمعٍ من المدراء المختصين والكفاءات المتعلمة المختصة، التي تدير الحزب بطرق علمية و احترافية بعيدا عن الصراعات الطبقية والخلافات الإيديولوجية التي باتت تقريبا من الماضي. ولذلك أصبح التفرغ للعمل الحزبي أمراً لا مفر منه، الأمر الذي همش عمل المتطوعين وأضعف من أهمية امتلاك الحزب لأعداد ضخمة من المنتسبين. لا يزال النقاش دائرا فيما إذا انتقلت فعلا أغلب الدول الأوروبية من مرحلة الأحزاب الشعبية إلى مرحلة الأحزاب ذات الكفاءات المختصة. ففي الأحزاب الألمانية والفرنسية والبريطانية اليوم لا يوجد توظيف لغالبية أعضاء الأحزاب، لأنها تعتمد على العمل المختص وعلى التفرغ، ولكن في نفس الوقت لا يزال يتمتع كل حزب بعدة مئات آلاف من الأعضاء. كما أن الأحزاب الألمانية والبريطانية اليوم لا يمكن قيادتها من الأعلى إلى الأسفل مثل الشركات، رغم أنها تمتلك مدراء بمهارات نظرائهم في الشركات، وذلك يعود لكون الحزب الألماني هو مجموعة من المؤسسات والأجزاء والمجموعات الكثيرة التي تحتاج للتنسيق والتوفيق فيما بينها.
كما أن قوانين الأحزاب تضمن حرية التعبير عن الرأي للأعضاء والمساواة بين الأعضاء، ولا يحق للحزب إخراج أو طرد أيٍ من أعضاءه بدون إجراءات معقدة، ولهذا يوجد محاكم حل نزاع داخل كل حزب وفي كل المستويات المذكورة.
البيئة التشريعية التي تعمل في إطارها الأحزاب
تعمل الأحزاب على قاعدة التنافس، وتسعى للوصول إلى الحكم. لذلك استدعى وجودها قاعدة تشريعية لتنظيم عملها. وبالتالي تسعى التشريعات القانونية في الدول الديمقراطية لخلق البيئة المناسبة التي تسمح للجماعات البشرية المهتمة بممارسة العمل السياسي بتأسيس أحزاب تساهم في تشكيل (تمثيل) الإرادة السياسية للشعب. حيث تتيح هذه الدول تأسيس الأحزاب بحرية ويكون نظامها الداخلي متفقاً مع الأسس التي قامت عليها الدولة (جمهورية، ملكية، ديمقراطية،إلخ). كما تتحمل الأحزاب مسؤولية التصريح العام عن مصدر وطرق إنفاق مواردها وأملاكها.
أما في الدول الدكتاتورية فإن القوانين والبيئة التشريعية تسعى إلى تشريع استمرار سلطة الحاكم من خلال الترخيص لأحزاب صورية، كما تسعى لخنق أية محاولة لتأسيس أحزاب جادة ممكن أن تهدد السيطرة المطلقة للحاكم الفرد.
كما تضم البنية التشريعية في جميع الدول قوانين تخص حظر الأحزاب التي قد تهدد النظام السياسي في الدولة، والذي على الأحزاب أن تمارس العمل السياسي في إطاره. في أغلب الدول الديمقراطية يكون هذا القرار حكرا على المحكمة الدستورية العليا، حيث لا يحق للرئيس أو البرلمان أو الحكومة حظر أو حل أي حزب. كما أن الأنظمة الديمقراطية تسعى لعدم منع أي جهة من الممارسة السياسية عن طريق الحظر وقوة القانون، بل تشجع على مناكفتها في المجال السياسي ومحاججتها، وكذلك من خلال مكافحة أسباب ظهورها من خلال العمل الاجتماعي المنظم. والسبب في ذلك يكمن في عدم الرغبة في تدخل الدولة في ديناميكية التنافس السياسي. فحتى لو خالف أحد الأحزاب الدستور بشكل واضح، وتم حله نتيجة ذلك، فإن أي قرار من هذا النوع يعد تدخلاً مخلاً في منظومة العمل الديمقراطي وسيترتب عليه ردات فعل وآثار اجتماعية خطيرة. حيث سينجم عنه إخراج نواب منتخبين من قاعدة شعبية من البرلمان، ومصادرة أملاك الحزب التي عمل على بنائها جزء من الشعب ومحاربة أفكار وتوجهات وتطلعات جزء من الشعب. وقد لا يحقق قرار المنع والحل في النهاية الغاية منه، حيث قد يتحول الحزب إلى جماعة باطنية أو حزب سري يعمل في الخفاء ويؤذي الدولة والمجتمع، دون أن يكون هناك أي مراقبة أو سلطة على أعماله. كما أن إخفاق المحكمة في منع أي حزب لعدم كفاية الأدلة، ستُكسب أعماله وتطرفه المشروعية وتزيد من قاعدته الشعبية ومن تطرفه، لأن الإخفاق في منع الحزب بعد محاكمته هو شهادة حسن سلوك له. لذلك لا يصح اللجوء إلى هذه الأداة إلا في الحالات الاستثنائية الملحة.
إن مجموعات العمل السياسي التي تود تشكيل أحزاب في بيئة الثورة السورية بعيدا عن التعامل مع النظام في دمشق، تعاني من مشكلة الفراغ التشريعي نتيجة غياب السلطة المركزية القادرة على تسجيل الأحزاب لديها بعد أن تقوم بوضع معايير وشروط وطنية مناسبة لتشكيل الأحزاب. فجميع الأحزاب التي تم الإعلان عنها في البيئة السورية في المناطق الخارجة عن سلطة النظام هي عبارة عن مجموعات عمل تسعى لخوض التجربة التنظيمية للعمل الحزبي، إلا أنها تفتقر للقاسم المشترك من المعايير والبنى، وذلك نتيجة لغياب الدولة وفقدان الحاضنة التشريعية التي تؤطر لنظام سياسي، يجب على الأحزاب أن تتنافس في إطاره. بل يمكن القول أن طبيعة النظام السياسي القادم في سوريا لا تزال مجهولة ومن الصعب التكهن بها، وبالتالي فإن قواعد التنافس السياسي وأدوات الممارسة الحزبية ستبقى في الفترة الحالية غير معرفة، مما يعني بالضرورة عدم إمكانية قيام أحزاب سياسية بالمعنى التقليدي للحزب.
ولكن يمكن القول بإن واقع الفوضى نتيجة غياب السلطة المركزية يُحتم على المجموعات الراغبة بممارسة العمل السياسي أن تؤطر أعمالها تحت مظلات سياسية ذات هيكليات وأطر واضحة. وبالتالي فإن سعي هذه المجموعات للتحول بمنهجية ممارساتها إلى نمط العمل الحزبي هو خطوة إيجابية في اتجاه ضبط بيئة العمل السياسي المعارض وتصحيح مسارها. كما أن تجربة تأسيس العمل السياسي ستُغني قدرة هذه المجموعات في مرحلة لاحقة على تأسيس أحزاب سياسية منظمة تتنافس للوصول إلى الحكم في إطار نظام سياسي يضع قواعد اللعبة السياسية التي على الأحزاب أن تتقيد بها. وذلك بعد أن تدخل سوريا مرحلة جديدة تنتقل فيها الأزمة الحالية من مرحلة الصراع العسكري إلى مرحلة النزاع السياسي، حيث تجد الأحزاب السياسية دورها التقليدي المتعارف عليه.
كيف يمكن التمييز بين الأحزاب السياسية والتجمعات الشعبية الأخرى؟
هناك ضرورة للتمييز بين الحزب السياسي وغيره من أشكال المنظمات الأخرى. فالحزب السياسي يحصل على ميزات لا تملكها أي منظمة أو مؤسسة أخرى في النظم السياسية الحديثة. حيث تحصل الأحزاب على دعم مالي حكومي وحماية قانونية دستورية، ولا يمكن حلها أو إيقافها عن العمل إلا من خلال المحكمة الدستورية العليا. يكون هناك عادة في كل دولة قانون للأحزاب يحدد الفرق بين الحزب غيره بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية على مستوى الدولة أو الإقليم. كما يحدد القانون كيف يمكن للمؤسسة أو التجمع من خسارة صفة الحزب. إذ تُشترط عادة الجدية في التجمع مثل عدد الأفراد و استقرار المؤسسة وجدية الأهداف، حيث يتم تحديد معايير واضحة لكل من هذه الشروط.
في الحالة السورية يمكن رصد العديد من مجموعات العمل في داخل سوريا وخارجها تعمل على ممارسة أعمال عديدة في مجالات مختلفة: إعلامية، إغاثية، طبية ، عسكرية وغيرها.
كل هذه المجالات لا تتطلب التسجيل المسبق لدى أي سلطة مركزية للدولة للحصول على صفة العمل، بخلاف الأحزاب السياسية. ولكن بغض النظر عن الناحية القانونية التي هي الفيصل الرئيسي في تمييز الحزب السياسي عن غيره من التجمعات، فإن الحالة السورية تعاني من تعقيدات إضافية ناتجة عن ثقافة الخوف التي زرعها النظام في قلوب السوريين من العمل السياسي بشكل عام والعمل الحزبي بشكل خاص.
يتميز الحزب عن أية مجموعة عمل بالمزايا التالية:
يُفترض في الحزب الدوام بينما يُفترض في مجموعة العمل الزوال حال تحقيق الهدف التي أنشئت من أجله.
يسعى الحزب دائماً لأن يكون مؤسسة على مستوى الدولة أو الولاية أو الإقليم على الأقل، بينما تكون مجموعات العمل ذات طابع مناطقي في الغالب.
الحزب مجموعة كبيرة من الأفراد المؤمنين ببرنامج سياسي معين يستند في الغالب لقييم ومفاهيم مشتركة، ولذلك فهم ملتزمون بهذا البرنامج مما يزيد الثقة المتبادلة بين الأعضاء ويزيد وحدتهم بسبب وحدة الهدف والفكر، وهذا بالطبع يجعل العمل الجمعي المشترك أسهل.
الحزب هو مثال المؤسسة وذلك في هيكليته وأهدافه ونظامه الداخلي وثقافة الانضباط التي يزرعها في أعضائه.
الحزب يجمع ويصنع ويستقطب الكفاءات الفكرية والتكنوقراطية والسياسية (التفاوض وصنع الإجماع)، مما يمكنه من إدارة أجهزة الدولة في حال نجاحه في الانتخابات. هذه الكفاءات تبقى ضمن الحزب عندما يخسر الحزب الانتخابات ليعود فيوظفها حين ينجح في الانتخابات من جديد.
إن ثقافة الديمقراطية (وحتى الديكتاتورية كما في حالة حزب البعث) تبدأ في الحزب. ولذلك فإن ضمانة الديمقراطية هي الثقافة الحزبية الديمقراطية.
تأسيس الأحزاب في الواقع السوري:
في الحالة السورية يمكن رصد العديد من مجموعات العمل في داخل سوريا وخارجها تعمل على ممارسة أعمال عديدة في مجالات مختلفة: إعلامية، إغاثية، طبية، عسكرية وغيرها.
كل هذه المجالات لا تتطلب التسجيل المسبق لدى أي سلطة مركزية للدولة للحصول على صفة العمل، بخلاف الأحزاب السياسية. ولكن بغض النظر عن الناحية القانونية التي هي الفيصل الرئيسي في تمييز الحزب السياسي عن غيره من التجمعات، فإن الحالة السورية تعاني من تعقيدات إضافية ناتجة عن ثقافة الخوف التي زرعها النظام في قلوب السوريين من العمل السياسي بشكل عام، والعمل الحزبي بشكل خاص. كما أن التركة الثقيلة لحزب البعث وممارساته الإقصائية والديكتاتورية، تلقي بظلالها على الوعي العام السوري للعمل الحزبي ومستوى تقبله للعمل السياسي في إطار الأحزاب السياسية. إضافة لذلك، فإن مجموعات العمل السياسي التي أخذت تتشكل في الخارج بشكل أساسي، تفتقر للقاسم المشترك من المعايير والبنى، وذلك نتيجة غياب الدولة وفقدان الحاضنة التشريعية التي تأطر للعمل الحزبي.
كما أن طبيعة النظام السياسي القادم في سوريا لا تزال مجهولة ومن الصعب التكهن بها، وبالتالي فإن قواعد التنافس السياسي وأدوات الممارسة الحزبية ستبقى في الفترة الحالية غير معرفة، مما يعني بالضرورة عدم إمكانية قيام أحزاب سياسية بالمعنى التقليدي للحزب. مع ذلك، ورغم كل العوائق السابقة، فإنه لا بد عند السعي لتأسيس أي حزب في البيئة السورية الحالية يجب مراعاة الجوانب التالية:
تحديد فلسفة الحزب هويته ورؤيته للطريق الأمثل لمستقبل الأمة. عادة ما تكون صياغة الغايات والفلسفة للحزب عمومية وتتصف بالمثالية كي تبقى صالحة لأطول مدة ممكنة. ويتم العودة لها والتعامل معها على أنها البوصلة التي توجه القرارات العامة للحزب.
اختيار الاسم المناسب: يجب أن يكون سهلاً، واضحاً، ويعبر عن أهداف الحزب.
اختيار الشعار: لا بد للحزب من شعار يعبر عن رسالته (صورة أو كلمات تعبر عن أهدافه وأفكاره).
النواة المؤسسة: وهذه النواة تتألف من عدد من الأشخاص المؤمنين بأفكار سياسية متقاربة والملتزمين بالعمل الطويل الأمد.
الشرعية والعلنية: لا بد من إعلان تأسيس الحزب على الملأ، فالحزب السري يثير الشكوك ولايحظى بالاعتراف من الرأي العام، وبالتالي لا يحظى بالشرعية القانونية. طبعا لا بد من تسجيل الحزب عند الجهات المختصة وفقاً للقوانين الناظمة لتأسيس الجمعيات والأحزاب. لكن وفي ظل غياب هذه الدولة والقوانين العادلة الناظمة لتأسيس الأحزاب لا بد من الإشهار، ووضع أدبيات الحزب وهيكليته في متناول المتابعين والمهتمين (صفحة نت أو بروشورات) كي يطلع عليها الجميع، وكذلك محاولة تسجيل الحزب في دولة مجاورة، كجمعية سياسية أو مجموعة ثقافية، والحصول على اعتراف عدد من الدول به كحزب شرعي يمثل شريحة من المجتمع السوري ويسعى لترخيص وجوده حالما تسمح الظروف القانونية بعد انتهاء الثورة.
البرنامج السياسي: إن البرنامج السياسي يمثل الأفكار أو المسار الفكري الذي يؤمن العمل والدعم الضروريين لنظرة الحزب إلى تطور البلاد المستقبلي في محاور الحياة كلها، ويوفر الأعمال اللازمة لتغذية ما يراه الحزب ضروريا من أجل ازدهار البلاد. أي أن البرنامج السياسي هو عبارة عن مجموعة المسارات التي يتم اختيارها من بين مجموعة بدائل أخرى من أجل تحقيق رؤية الحزب في معالجته للتحديات التي تواجه البلاد في كل المراحل. إن هدف أي حزب سياسي في العالم هو الوصول إلى الحكم (الجهاز التشريعي، الجهاز التنفيذي، المجالس المحلية). وعندما يحكم الحزب في أي من الأجهزة السابقة الذكر فإنه يسعى من خلال مرشحيه لتطبيق برنامجه. ويشمل البرنامج رؤى لكيفية إدارة الدولة والاقتصاد وتحقيق المساواة والعدالة وإعلاء سلطة القانون. وقد يقوم هذا البرنامج على رؤيا مفصلة ومعلنة أو على مجموعة من الرؤى والأفكار السياسية. وليس من الضرورة هنا أن تكون كل الأحزاب أيديولوجية، فبعضها أحيانا يكون كمجرد تحالف بين أعضاء ومناصرين لخدمة مصالح معينة (اقتصادية، اجتماعية أو ثقافية..) أو لدفع تطور الدولة في اتجاه معين.
الاستراتيجيات والأهداف: البرنامج السياسي يتضمن الأهداف الدائمة التي يسعى الحزب لتحقيقها كلما وصل أحد مرشحيه إلى موقع مؤثر في السلطة وفي الدولة (على أي مستوى). لكن لابد في كل مرحلة من مراحل العمل الحزبي، وفي المراحل التي تمر بها الدولة والوطن، من تحديد أهداف يسعى الحزب إلى تحقيقها بما يدفعه خطوة أخرى إلى الأمام على طريق تحقيق البرنامج.
الهيكلية: الحزب مؤسسة، ولذلك فلا بد له من هيئات متخصصة يضطلع بالقيادة ووضع السياسات العامة وتطوير البرنامج وإدارة الحزب وزيادة الأعضاء وتدريبهم ودعم المرشحين وإنشاء الفروع واحترام النظام الداخلي. العديد من الأحزاب الأوروبية تعمل على تقسيم الولايات إلى مناطق، حيث تنطلق من مفهوم العمل المناطقي للتمثيل الشعبي. ففي كل منطقة يجب أن يكون هناك خلية أو وحدة للحزب التي قد تكون جمعية، أو مجموعة من المواطنين، تتمتع بصلاحيات معينة، ولها إدارة وترسل مفوضين عنها إلى مستوى أعلى وهي الدائرة الانتخابية. وهناك يجتمع الممثلين عن المناطق لانتخاب إدارة، ومن ثم يرسلون مفوضين عن هذه الإدارة إلى المستوى الأعلى، التي هي الولاية في الدول الاتحادية (ألمانيا أو سويسرا)، أو المحافظة في الدول المركزية (فرنسا)، وهناك يجتمع من جديد الممثلين عن الدوائر الانتخابية، لينتخبوا فيما بينهم مجلس إدارة أيضا، وممثلين على مستوى الاتحاد الألماني. ومن خلال هذه الهيكلية يكون الأعضاء في رأس الهرم بمثابة ممثلين شرعيين للقواعد في الحزب، ويتحقق بذلك البناء الديمقراطي للحزب.
النظام الداخلي: كأية مؤسسة لابد للحزب من نظام داخلي يضبط العلاقات بين الهيئات المؤلفة لهيكليته، ويحدد المسؤوليات ويوزع السلطات بما يمنع سيطرة أفراد قليلة على قرار الحزب. وفيما يلي بعض أهم المواضيع التي يتوجب على النظام الداخلي ضبطها:
تحديد فلسفة الحزب وغاياته
شروط الأهلية والانتساب إلى الحزب، بما في ذلك تحديد الحقوق والمهام والمسؤوليات.
تحديد أجهزة الإدارة والهيكليات التنظيمية، وتحديد وضبط صلاحياتها ومسؤولياتها وآليات تواصلها مع بعضها.
الإجراءات المتعلقة بوضع السياسات.
إجراءات وطرق اختيار قادة الحزب ومرشحيه للمناصب الهامة.
الآليات المتعلقة بحسن الإدارة المالية وضبط الشفافية.
الآليات المتعلقة بحل النزاعات الداخلية.
سبل تفسير نظام الحزب وتعديله.
التدابير المتعلقة بالعقوبات والترفيعات.
التمويل: تحصل الأحزاب عادة على تمويل من خلال طريقين أساسيين:
الأول يأتي من التبرعات والتمويل الخاص. فغالباً ما تعتمد الأحزاب على اشتراكات سنوية يتم جمعها من الأعضاء، كما أن هناك مصادر أخرى للتمويل مثل التبرعات المعلنة من مناصرين للحزب وبرنامج،ه أو عوائد أملاك وأوقاف الحزب في حال وجودها. اما الثاني فهو قد يأتي من قبل الحكومة كما هو جار في العديد من الدول.
الأعضاء وسياسة العضوية: في الستينات من القرن الماضي كانت الأحزاب الطليعية هي السائدة على الساحة السياسية. وهي أحزاب لا تسعى إلى توسيع عضويتها وإدخال العدد الأكبر من المواطنين في صفوفها، وإنما تسعى إلى استقطاب نخب مجتمعية ترى في نفسها القدرة على إدارة المجتمع. إلا أن هذا النموذج انتهى إلى ديكتاتورية الحزب الواحد الذي يتعالى على الجميع ويعتبر نفسه "قائد الدولة والمجتمع"، ويفرض برنامجه فرضاً بقوة الدولة بعد ان يستولي عليها. هناك أيضاً نموذج الأحزاب الشعبية التي تحاول جمع العدد الأكبر من الأعضاء من أجل ادعاء تمثيل المجتمع بأسره (مثل حزب البعث بعد حكم الأسد). وهذا يقودنا أيضاً إلى حزب يدعي التفويض الشعبي الكامل، فيعمل على إقصاء بقية الأحزاب عن السلطة، ويستأثر بها وحده بدعوى أنه يمثل كل شرائح المجتمع. من هنا، يجب أن يختار الحزب سياسة للعضوية تجعله، أولاُ، لاعباً جدياً على الساحة السياسية، وتجعله، ثانياً، قادراً على ترشيح مرشحين لأي منصب وفي أية منطقة في البلاد، وتجعله، ثالثاً، ممثلاً لمصالح شريحة حقيقية في المجتمع تؤمن بمبادئه وأهدافه وبرنامجه، و أخيراً تحقق له توازناً يضعه في وسط الطيف بين النموذج الطليعي والنموذج الشعبي.
قد نجد في التوصيف أعلاه تشابهاً من حيث الشكل البيروقراطي مع العمل داخل حزب البعث، وذلك لإن البناء البيروقراطي للأحزاب حول العالم متشابه إلى حد كبير. كما أن اعتماد آليات عمل بيروقراطية منظمة يعد أمراً ضرورياً وأساسياً لبناء حياة سياسية صحية في سوريا المستقبل.
ماهي وظيفة الأحزاب في الدول غير المستقرة (سوريا نموذجاً)؟
في الدول المستقرة تكون مهمة الأحزاب الرئيسية هي المساهمة في بناء وتمثيل الإرادة السياسية الشعبية في كل مجالات الحياة العامة. يمكن تفصيل ذلك من خلال ما يلي:
المساهمة في تشكيل الرأي العام.
المساهمة في عملية التثقيف السياسي.
دعم مساهمة المواطنين في الحياة العامة.
بناء المواطنين المؤهلين لملأ المناصب الحكومية.
المشاركة في الانتخابات من أجل الوصول إلى السلطة.
المشاركة والتأثير في تطوير العمل السياسي في البرلمان والحكومة.
السعي لتحقيق ونشر الوعي الشعبي بأهدافهم السياسية
السعي لتشكيل جسر تواصل بين الشعب ومؤسسات الدولة.
وغالبا ما تنطلق قوانين الأحزاب بشكل رئيسي من نظرية (غيرهارد لايب هولز) التي ترى في الأحزاب السياسية قنوات تواصل بين الشعب والمجتمع من جهة ومؤسسات الدولة من جهة أخرى، ولذلك هي أحد المكونات الرئيسية للدولة الديمقراطية.
ولكن ماذا يمكن أن تكون مهمة الأحزاب في الدول الغير مستقرة والتي تعاني من ظروف حرب كما هو الحال في سوريا؟
عادة ما تكون وظيفة الحزب التقليدية هي تنظيم التنافس، والتدافع السياسي بين الجماعات الطامحة للوصول إلى السلطة. مما يدفع الكثيرين للتساؤل فيما إذا كان الوقت مناسبا لإنشاء الأحزاب للغايات السابقة (الوصول للسلطة)؟ خاصة والكل يعلم أن الثورة اليوم تمر بظروف قاسية ومؤلمة وخطيرة على مستوى مستقبل الثورة السورية بأكملها. أم أن انتظام المجموعات المعارضة السورية في أحزاب سياسية بات اليوم ضرورة ملحة من أجل العمل المنهجي على وضع السياسيات التي تستجيب للحاجات الملحة للسوريين على المدى المتوسط والبعيد. ويمكن تعداد بعض هذه الضرورات كما يلي:
ستكون المهمة الرئيسية للأحزاب هي المشاركة في مسار التغيير في سوريا عبر برامج عمل منظمة ومبنية على أساس احتياجات المجتمع السوري، تسعى في مجملها إلى تبني برامج ومشاريع عمل تدعم بناء القدرات وتدعم المؤسسات الأهلية والمحلية الناشئة في البيئة السورية.
تنظيم عملية التنافس السياسي بين المجموعات العاملة في إطار المعارضة، من خلال إيجاد مكونات سياسية تستند في تأسيسها لمعايير وبرامج عمل واضحة، مما سيساهم تدريجيا في تخفيف الأضرار والعطالة الناجمة في جزء منها.
تجنب الأحزاب إنشاء جيوب الإقصاء على أساس إيديولوجي في بيئة الثورة، وهذا ما يمكن أن يتم من خلال تبني برامج عمل غير مؤدلجة تتيح الفرصة للمشاركة لكل من يرغب في العمل. ما يضمن تجدد الدماء بشكل دائم، وعدم استيلاء مجموعة معينة على مقاليد الحزب بشكل مطلق.
تأهيل الشباب الثوري الطامح لدخول معتركات السياسة بالأدوات الضرورية التي سيحتاجها في الواقع السوري. والسعي إلى تعزيز العمل المؤسساتي في البيئة السورية، وذلك من خلال المساهمة في دعم نجاح الهياكل الناشئة في الواقع السوري الجديد في كل أنحاء القطر وخارجه (تنسيقيات محلية وتجمعات مناطق ومجالس محافظات).
وضع رؤيا لسوريا المستقبل: تشارك الأحزاب مع الجماعات والأفراد السوريين العاملين في الثورة من أجل وضع مبادئ عامة وخطوط عريضة تقوم عليها سوريا المستقبل، يرضاها الجميع وتكون الحد الأدنى المشترك للعمل السياسي في المستقبل. قد يكون هذا عبر نشر الدراسات أو عبر المشاركة في وضع مقترحات للدستور الجديد، أو عبر المشاركة في حكومة المرحلة الانتقالية.
مرحلة ما بعد سقوط النظام:
بعد سقوط النظام، وقبل الوصول إلى مرحلة الاستقرار، ستترتب على الأحزاب السياسية مسؤوليات هامة تقتضي العمل على الانتقال بالدولة من مرحلة الفوضى إلى مرحلة استقرار، وهو ما يتطلب من الأحزاب المشاركة في تشكيل مرحلة انتقالية تقوم على ما يلي:
- المساهمة في وضع دستور انتقالي ينظم عمل الدولة خلال المرحلة الانتقالية.
- العمل على إدخال التعديلات المناسبة على القانون، بحيث تُلغى كل القوانين المشرعة للعنف والحامية لمرتكبيه، والمشرعة لاحتكار السلطة واحتكار الاقتصاد.
- المساهمة في تشكيل حكومة انتقالية من الخبراء القادرين على نقل البلد من حالة الفوضى إلى حالة الاستقرار. وتأجيل الصراعات السياسية مع ضمان محدودية سلطة الحكومة بحيث لا يخترقهاحزب أو مجموعة أو دعاة أفكار معينة لا يكون حولها إجماع وطني كامل.
- العمل على تشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد، يشارك فيها أخصائيون قانونيون وممثلون عن كل الأحزاب والفئات العمرية والجنسين والقوميات والطوائف الدينية والطبقات الاقتصادية-الاجتماعية.
- المساهمة في تنظيم استفتاء جماهيري لإقرار الدستور الجديد، مع تأجيل البت في بعض القضايا المصيرية مثل علاقة الدين بالدولة إلى أجل مسمى (ثلاث سنوات مثلاً)، حتى تستعيد البلد صحتها الاقتصادية والسياسية، ويُتاح لكل فئات الشعب التعبير عن آرائها والتعريف بها، وحتى يكون هناك حوار وطني بناء يؤدي إلى إجماع وطني، بدل فرض أيديولوجية معينة بدعوى الأغلبية (الأغلبية مفهوم متغير حسب السياق التاريخي وتركيبة المجتمع).
- السعي لتشكيل مفوضية للمصالحة الوطنية وتقصي الحقائق (والاستهداء ببعض نماذج المراحل الانتقالية التي شهدتها بعض الدول مثل جنوب افريقيا)، تتضمن الهيئات القانونية والقضائية المناسبة لمحاسبة المتورطين في القتل والتدمير والتعذيب والفساد من النظام القمعي محاسبة عادلة تحقق مبادئ الردع والنكال والقصاص، وتَقر بها أعين المتضررين وذويهم.
أطفال سوريون في ظل الحرب
7- المساهمة في وضع رؤية وآليات لحل الأجهزة الأمنية والفرق العسكرية الخاصة (التابعة لشخص واحد في الدولة) التي أذاقت الشعب أصناف العذاب والذل على مدى عقود. وتأخذ هذه الرؤية والآليات بعين الاعتبار الأعداد الهائلة لمستخدَمي هذه الأجهزة، وتغلغلها في كافة أجهزة الدولة ونواحي الحياة، بما يضمن السلم الأهلي وعدم انتشار الفوضى مع التأكيد على المحاسبة والقصاص.
ثقافة نقد الأحزاب وفقدان الثقة بها:
انتقاد الأحزاب السياسية وفقدان الثقة بها له جذور عميقة في التاريخ وفي الثقافات المختلفة. ففي الثقافة التركية يقول الشيخ بديع الزمان النورسي: "أعوذ بالله من الشيطان ومن السياسة". أما في المراجع الألمانية القديمة فنجد تعابير مثل: " السياسة تجارة قذرة" أو "موسيقا خشنة"، وفي التراث البريطاني يتم تعريف السياسي على أنه "محتالٌ يحميه القانون". وكثيرا ما يتم وصف الأحزاب في الأدبيات والثقافة العربية على أنها وكالات لأشخاص قلائل يلهثون وراء مصالح ضيقة تضر الصالح العام. ولعل التجارب العربية مع حزب البعث في سوريا والعراق زادت من سلبية وقتامة الانطباع السلبي عن الأحزاب.
أما في أوروبا فإن الصورة السلبية عن الأحزاب مردُّها بشكل أساسي للتطور المعرفي، الذي عمل على تحويل العمل الحزبي إلى عمل اختصاصي منفصل على الجمهور ويعمل على حماية مصالح النخبة بالدرجة الأولى.
من الجدير بالذكر هنا الإشارة لنظرية روبريت ميخائيل[4] حول النخب، التي ترى أنه في ظل المؤسسات الضخمة التي تضم أعداد كبيرة من الأعضاء، لا بد من وجود نخبة تقود هذه المؤسسة بغض النظر عن طريقة الإدارة والنظام المعمول به في المؤسسة. ولكن سرعان ما تنفصل هذه النخبة عن القاعدة وتنفصل مصالحها عن مصالح المجموعة التي تمثلها. ولعل الحقائق التجريبية تؤكد هذه النظرية ومنها ما يلي:
التراجع المستمر في أعداد المنتسبين للأحزاب في أوروبا وخاصة فئة الشباب.
الانخفاض المستمر للناخبين أصحاب الولاء الثابت، اذ أن نسبة الناخبين الذين يقررون في اللحظة الأخيرة لمن يودون إعطاء صوتهم تزداد باستمرار، مما يعني أنهم لا يملكون قناعة قوية بأي حزب من الأحزاب.
ضعف التركيز في الانتخابات المحلية والاتحادية، ما أتاح الفرصة في السنوات الأخيرة لوصول بعض الأحزاب والجماعات الصغيرة للبرلمانات.
كما تشير استطلاعات الرأي في هذا السياق، الى أن الأحزاب السياسية في ألمانيا تتمتع بثقة ٢٣٪ فقط من الشعب مقارنة بـ٧٧٪ للمحكمة الدستورية و٤٨٪ للبرلمان في عام ٢٠٠٩. كما تؤكد الاستطلاعات أن تدني الثقة لا تقتصر فحسب على الأحزاب والطبقة السياسية، وإنما كذلك بقدرتها على مواجهة التحديات وحل المشاكل المستجدة التي تواجه المجتمع والدولة. وبغض النظر عن نظرة المجتمع للأحزاب، فإنه تجدر الإشارة إلى أن نسبة المنتمين للأحزاب في ألمانيا لا تتجاوز ٣ بالمئة من عدد سكان ألمانيا، كما أن نسبة المشاركين في اللقاءات الحزبية لا تتجاوز ٢٥ بالمئة من أعداد منتسبيها. كما أن القرارات المهمة لا تُتخذ إلا في دوائر ضيقة جدا، وأما الاجتماعات العامة فيتم الإعلان عنها فقط للتصويت عليها.[5]
دروس مستفادة للأحزاب الجديدة في سوريا
على المجموعات السورية الراغبة بتأسيس أحزاب سياسية في بيئة الثورة السورية أخذ العديد من العقبات النفسية والاجتماعية الناتجة عن فقدان الثقة بالأحزاب السياسية، وكذلك فقدان الثقة بالنخبة السياسية بعين الاعتبار لدى التخطيط لتأسيس الحزب الجديد. ذلك أن بيئة الثورة الناشئة في ظل فراغ الدولة والتمرد عليها أدى لزيادة مشاعر عدم الثقة والنقد المستمر للمجموعات والنخبة السياسية. وبالتالي فإن أي مجموعة عمل تهدف إلى إنشاء حزب سياسي، عليها، بدايةً، العمل على خلق جسور من الثقة مع المجموعات الفاعلة والشرائح الشعبية. حيث يمكن تعداد الأدوات التالية المساعدة على بناء الثقة على سبيل المثال لا الحصر:
فتح الباب أما أنواع جديدة من الانتساب والمشاركة الحزبية.
فصل الإيديولوجيا عن البرامج السياسية العملية للحزب.
استخدام أشكال التواصل الحديث.
رفع سوية الممارسة الديمقراطية داخل الحزب.
فتح الباب أمام أنواع جديدة من الانتساب والمشاركة الحزبية:
العديد من الأفراد والشباب في سوريا يتحرج من الانتساب للأحزاب الناشئة حديثا، كما أن حداثة عهدها وضعف خبرتها يدفع الكثيرين للتريث قبل اتخاذ قرار من هذا النوع. لذلك ينبغي على هذه الأحزاب تقديم أشكال جديدة من الانتساب الغير ملزم، أو الانتساب الحزبي التجريبي، أو انتساب محدود الصلاحيات والواجبات، أو انتساب حزبي كضيف، كما يمكن إبداع العديد من أشكال الانتساب الأخرى. والهدف من هذه الأشكال هو خلق حالة مرنة من الارتباط تناسب ثقافة وعقلية الشباب اليوم التي لا تحبذ الالتزام بإيديولوجيا معينة أو واجبات ثابتة، وتُعلي من قيمة المرونة والعملية والاستقلالية بشكل كبير.
فصل الإيديولوجيا عن البرامج السياسية العملية للحزب:
كما سبق القول: يجب أن تتجنب الأحزاب إنشاء جيوب الإقصاء على أساس إيديولوجي في بيئة الثورة، وذلك من خلال تبني برامج عمل غير مؤدلجة تتيح الفرصة للمشاركة لكل من يرغب في العمل. وبالتالي تكون المشاركة في الحزب وفي برامج العمل مفتوحة وممكنة لكافة السوريين، حيث تكون معايير الاستمرار في المشاركة هي القدرة على العطاء، بدلاً من اعتماد معايير ترشيحية للمشاركة في العمل.
استخدام أشكال التواصل الحديث:
وسائل الاتصال الحديثة لا يتوقف توظيفها على الصراعات الانتخابية، وإنما أيضا للتواصل بين الأعضاء من خلال توفير شبكة داخلية للأعضاء، تزودهم بمعلومات خاصة بهم وطرق للتواصل والتراسل فيما بينهم بما يتفق مع ثقافة العصر وتطور وسرعة انتقال المعلومة. كما أنه يمكن للاستخدام المنهجي والمنظم لهذه الوسائل وبعض الوسائل الأخرى (فيسبوك، تويتر) أن يساعد في رفع مستويات الشفافية، بما يزيد حظوظ بناء الثقة مع المجتمعات المحلية والأشخاص الفاعلين، ويرفع من جاذبية الأحزاب الجديدة.
رفع سوية الممارسة الديمقراطية داخل الحزب:
إن شعور الأعضاء بقدرتهم على المشاركة الفعالة في اتخاذ القرار داخل الحزب يرفع من نسب بقائهم في الحزب ومن جاذبية دخول الأعضاء في الحزب. ولذلك، فإن هناك ضرورة لاعتماد آليات بيروقراطية مرنة بالشكل الذي يوسع إمكانيات التشاركية والمساهمة في القرارات الحزبية.
في جميع الأحوال، فإننا نرى أنه لا يمكن الاستغناء عن الأحزاب السياسية في أي دولة ديمقراطية كأحد الأركان الرئيسية للنظام السياسي الديمقراطي. كما أن فشل مجموعات العمل السياسية في تحولها إلى أحزاب سياسية على المدى المتوسط والطويل سيساهم من جهة في تعميق واقع الفوضى السياسية المفتقدة للمعايير والمبادئ الناظمة للعمل السياسي في سوريا، كما أنه سيساهم في دعم نمو الجماعات المتطرفة التي تسعى لممارسة دور سياسي خارج الأطر التنظيمية المتعارف عليها في الدول المستقرة. وسيساهم أيضا في دعم نمو الجماعات الفئوية والمصلحية ذات المصالح الضيقة، وذلك لقدرتها على بناء علاقات وصلات أمتن بالقاعدة الشعبية في محيطها المحلي التي تعمل به وتمثل مصالح بعض أفراده.
المراجع:
[1] مقال "هل الدولة السورية قابلة للتقسيم" على موقع الجزيرة نت للكاتب. أنظر أيضاً إلى نتائج إنتخابات عام ١٩٥٤ تحت الرابط التالي: الرابط وقارنها بنتائج إنتخابات عام ١٩٤٧ وعام ١٩٤٩ تحت الروابط التالية: الرابط الأول، الرابط الثاني
للأسف هذه الإحصائيات غير متوفرة في المراجع العربية والمرجع الوحيد الذي يضم بيانات كاملة ومتسقة عنها هو موسوعة قاعدة البيانات الإنتخابية المعتمد كمرجعية لبيانات ويككيبيديا:
Nohlen, D, Grotz, F & Hartmann, C (2001) Elections in Asia: A data handbook, Volume I
[2] ما بعد المادية مصطلح من وضع العالم رولاند إنكل هارت حيث يصف به التيار الذي لا يركز به على الماديات والعالم المادي فقط وإنما يهتم بالقيم المجردة والتي لا يمكن قياسها ماديا مثل: الحرية والصحة وحماية الطبيعة والسعادة.
[3] Stefan Marschall، (2011), Das politische System Deutschlands، UVK Verlag، 118-121
[4] Robert Michels، (1911), “Zur Soziologi des Parteiwesens in der modernen Demokratie. Untersuchung über die olgarchischen Tendenzen des Gruppenlebens”, Leipzig، Klinkhardt
[5] Infratest dimap، März 2009، (Stefan Marschall، (2011), Das politische System Deutschlands، UVK Verlag، 121-125)