Print this page

الرأسماليّة بوصفها ديناً: بين فالتر بنيامين وماكس فيبر

26 شباط/فبراير 2018
 
ترجمة: جهاد الحاج سالم

[نشر هذا المقال بالفرنسيّة تحت عنوان «Le Capitalisme comme Religion: Walter Benjamin et Max Weber»، في العدد 23 من مجلة "إدراكات سياسيّة" (Raisons Politiques) الصّادر في الفصل الثّالث من سنة 2006.]
ملخّص:

تعتبر المسوّدة الموسومة بـ"الرأسماليّة بوصفها ديناً"، والتي خطّها فالتر بنيامين سنة 1921 وبقيت مجهولة إلى غاية نشرها ضمن الكتابات المختارة سنة 1985، من أهمّ نصوصه وأكثرها "استغلاقاً". ورغم استلهامه أعمال ماكس فيبر، وخصوصاً منها عمله حول التوافق الانتقائي بين الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة، إلا أنّ بنيامين يتجاوز أطروحة عالم الاجتماع: فالرأسماليّة في نظره لا تحمل جذوراً دينيّة فحسب، بل هي نفسها دينٌ، وعبادة لا تنقطع، دون رحمة ولا هوادة، تقود المعمورة البشريّة نحو منزلة اليأس. بذلك تنتمي هذه المسودّة، كبعض نصوص جورج لوكاتش وإرنست بلوخ وإريك فروم، إلى مجمل "تأويلات" أعمال فيبر المناهضة للرأسماليّة.
ضمن المقالات غير المطبوعة لفالتر بنيامين (Walter Benjamin) التي نشرها سنة 1985 كلّ من رالف تيدمان (Ralph Tiedemann) وهيرمان سكويبنهاوس (Hermann Schweppenhäuser) في المجلّد السّادس من كتاباته المختارة، تعترضنا مسوّدة غامضة بشكل لافت، لكنّها تبدو ذات راهنيّة مذهلة، عنوانها: "الرأسماليّة بوصفها ديناً". وهي تتمثّل في ثلاث أو أربع صفحات، تحتوي بعض الملاحظات والإحالات البيبليوغرافيّة. ونظراً إلى غموضها وتناقضها، بل وأحياناً سحرها، لا تفتح هذه المسودّة بسهولة مغاليقها. وبما أنّها لم تكن معدّة للنّشر، فإنّنا نتفهّم عدم اضطرار كاتبها إلى جعلها مقروءة ومفهومة. لذلك تمثّل التعليقات التالية محاولة جزئيّة في تأويلها، تقوم في أغلبها على فرضيّات لا على يقينيّات، وتتجنّب الخوض في بعض من "بقعها المعتمة".

يرجع عنوان هذه المسودّة مباشرة إلى كتاب إرنست بلوخ (Ernst Bloch) الموسوم بـطوماس مونتزر: لاهوتي الثّورة المنشور سنة 1921. ففي نهاية الفصل المخصّص لكالفين، استنكر الكاتب ما اعتبره حيلة في عقيدة المصلح الجنوي ستؤدّي إلى "القضاء بالكامل" على المسيحيّة وصبغها بـ"عناصر دين جديد، ألا وهو الرأسماليّة المرفوعة إلى مرتبة الدّين (Kapitalismus als religion)، وقد صارت كنيسة مامون"(1).

نحن نعرف أنّ بنيامين قد قرأ هذا الكتاب، حيث يروي في رسالة بعثها إلى غيرشوم سكولم (Gershom Scholem) في 27 نوفمبر 1921: "ناولني )بلوخ( مؤخّراً، خلال أولى زياراته هنا، النّسخ الكاملة لـكتاب "مونتزر"، وقد شرعت في قراءتها"(2). من ذلك، يبدو أنّ تاريخ كتابة هذه المسوّدة لا يعود إلى "أواسط سنة 1921 أو بعدها بقليل"، على نحو ما يذهب إليه المحرّرون، بل إلى نهاية سنة 1921. وبأيّة حال، لا يشاطر بنيامين أطروحة صديقه عن الخيانة الكلفانيّة والبروتستانتيّة لروح المسيحيّة الحقيقيّة(3).

من البيّن كذلك أنّ عنوان المسوّدة مستلهم من كتاب الأخلاق البروتستانتيّة والروح الرأسماليّة لماكس فيبر. وهو الكاتب الذي ذُكر اسمه في المسوّدة مرّتين، الأولى في المتن، والثانية في الهوامش البيبليوغرافيّة، حيث نجد إحالة إلى طبعة سنة 1921 من كتابه مقالات مختارة في علم اجتماع الدين، إلى جانب طبعة سنة 1912 من كتاب إرنست بلوخ التعاليم الاجتماعيّة للكنائس والمجموعات المسيحيّة الذي يدافع فيه، بخصوص مسألة أصل الرأسماليّة، عن أطروحات تتوافق بشدّة مع أطروحات فيبر. إلا أنّ أطروحة بنيامين، كما سنرى لاحقاً، تتجاوز أطروحة فيبر، وتستعيض على وجه مخصوص عن تمشّيه "المحايد قيميّاً" بلائحة اتّهام للرأسماليّة.

"يجب أن نرى في الرأسماليّة ديناً"، بهذا الإقرار القاطع تبدأ المسوّدة. تليه إشارة إلى فيبر، وهي في أحد وجوهها خطوة نحو المفاصلة معه: "إنّ إظهار البنية الدينيّة للرأسماليّة -أي إظهار أنّها ليست تشكيلة يشرّطها الدّين فحسب، كما يرى فيبر، بل ظاهرة دينيّة بالأساس- مازال يجرّنا اليوم إلى ثنايا جدل كونيّ هائل". وتبرز هذه الفكرة مرّة أخرى في موضع متقدّم من المسوّدة، لكن في صياغة أكثر مواربة، بل أقرب منها إلى الحجاج الفيبري: "إنّ المسيحيّة، في عصر الإصلاح، لم تهيّئ الطريق لبزوغ الرأسماليّة، بقدر ما تحوّلت هي نفسها إلى رأسماليّة". والحقّ أنّ هذا القول لا يختلف كثيراً عن خلاصة كتاب الأخلاق البروتستانتيّة. أمّا عنصر الجدّة فيه، فهو فكرة الطبيعة الدينيّة للنّظام الرأسمالي نفسه، وهي أطروحة أكثر جذريّة من أطروحة فيبر، رغم أنّها ترتكز على الكثير من عناصرها التحليليّة.

ويواصل بنيامين حجاجه: "لا يمكننا أن نزيد في تمتين خيوط الشّبكة العالقين فيها. إلاّ أنّ هذه النقطة سيتمّ تناولها بشكل خاطف في موضع لاحق". يا لها من حجّة طريفة... فكيف يمكن لهذا الاستدلال أن يحبسه في شبكة الرأسماليّة؟ إلاّ أنّ هذه "النقطة" لن يتمّ تناولها "في موضع لاحق"، بل في الإبّان، وعلى شكل عرض موجز للطبيعة الدينيّة للرأسماليّة، حيث: "يمكننا منذ الآن أن ندرك ثلاث خصائص لهذه البنية الدينيّة للرأسماليّة في الزمن الحاضر". وعند هذه النقطة، يتوقّف بنيامين عن ذكر فيبر، غير أنّ هذه النقاط الثلاث مستلهمة من أفكاره وحججه، لكن مع إدراجها ضمن منظور جديد أكثر نقديّة وجذريّة- اجتماعيّاً وسياسيّاً، ولكن أيضاً فلسفيّاً )وربما لاهوتيّاً؟(- وفي تعارض كامل مع أطروحة فيبر حول العلمنة.

"في المقام الأوّل، الرأسماليّة هي دين تعبّدي محض، وقد تكون أكثر دين تعبّدي على الإطلاق. فلا شيء فيها يكتسب أهميّته دون أن يكون في علاقة مباشرة بالعبادة، ولا عقيدة مخصوصة فيها ولا لاهوت. من ذلك تكتسب النفعيّة صبغتها الدينيّة"(4). إذن، تشكّل الممارسات النفعيّة للرأسماليّة- مثل استثمار رأس المال والمضاربة والعمليّات الماليّة ومناورات البورصة وشراء البضائع وبيعها- نظيراً لعبادة دينيّة. إذ لا تقتضي الرأسماليّة الانتماء إلى مذهب، عقيدة كان أو "لاهوتاً"، فالمهمّ فيها هو الأفعال التي تتحوّل، من خلال ديناميّتها الاجتماعيّة، إلى ممارسات تعبديّة. فبنيامين، في تعارض بعض الشيء مع أطروحته عن الإصلاح والرأسماليّة، يقارن الدين الرأسمالي بالوثنيّة الأصليّة، فهو أيضاً دين "عملي بشكل مباشر" ويخلو من كلّ انشغالات "متعالية".

لكن، ما الذي يسمح باعتبار هذه الممارسات الاقتصاديّة الرأسماليّة "عبادة"؟ لا يشرح بنيامين ذلك، بل يستخدم، في الأسطر الموالية من المسوّدة، عبارة "العابد". وقد نفهم منها أنّ العبادة الرأسماليّة تتضمّن آلهة ما، وهي موضوع عبادة. مثال ذلك، ما نراه في "المقارنة بين صور القدّيسين في مختلف الديانات والأوراق النقديّة في مختلف الدول". حيث يكون المال، المتعيّن في شكل ورقة نقديّة، موضوع عبادة مثله مثل القدّيسين في الديانات "العاديّة". ومن الجدير الإشارة إلى تشبيه بنيامين، في مقطع من كتابه اتّجاه واحد، الأوراق النقديّة بـ"واجهات جهنّم" (Fassaden-Architektur der Hölle) التي تترجم "روح القُدُس" في الرأسماليّة(5). ولنذكّر بالنقش الشهير المحفور على باب جهنّم، أو بالأحرى واجهتها، كما يصوّره دانتي: "من يدخل هنا، فليهجر الأمل إلى الأبد". وتبعاً لماركس، ينقش الرأسمالي هذه الكلمات على مدخل المصنع، متوجّهاً بها إلى العمّال. وسنرى لاحقاً أنّ اليأس، بالنسبة لبنيامين، يمثّل حالة العالم الدينيّة في ظلّ الرأسماليّة.

غير أنّ الورقة النقديّة ليست سوى إحدى تمظهرات آلهة أخرى أكثر محوريّة في النظام التعبّدي الرأسمالي: وهي المال، أو الإله مامّون، أو تبعاً لبنيامين، "بلوتون... إله الثروة". وتحيل بيبليوغرافيا المسوّدة على مقطع عنيف في تنديده بالسيطرة الدينيّة للمال، نعثر عليه في كتاب "دعوة إلى الاشتراكيّة" للمفكّر اللاسلطوي اليهودي الألماني غوستاف لانداور (Gustav Landauer)، الذي صدر سنة 1919 قبل اغتياله بفترة قصيرة على يد عسكريّين مناهضين للثّورة. ففي متن الصّفحة التي تحيل إليها بيبليوغرافيا مسوّدة بنيامين، يكتب لاوندر: "بيّن فريتز مونثر أنّ كلمة Gott (الله) مطابقة في أصلها لكلمة Götze (صنم)، وأنّ كلاهما يعنيان "المقولب" )أو "المسبوك"(. فالله صنيعة البشر، يكتسب حياة، فيجتذب حياة البشر، حتى يغدو في النهاية أقوى من البشريّة.

إنّ المسبوك الأوحد، والصنم الأوحد، والله الأوحد، الذي نفخ فيه البشر من روحهم، هو المال. فالمال مصطنع وحيّ، والمال ينتج المال ومزيداً من المال، وللمال قوّة العالم جمعاء.

فمن منّا لم يفهم إلى حدّ اليوم، أنّ الإله، أو المال، ليس سوى روح منبثقة من البشر، روح صارت شيئاً (Ding) حيّاً، صارت وحشاً (Unding)، وأنّه معنى (Sinn) حياتنا الذي انقلب إلى هراء (Unsinn)؟ المال لا يخلق ثروة، بل هو الثروة. إنّه الثروة في ذاتها، وما من ثريّ إلاّ المال"(6).

لا يمكننا، قطعاً، معرفة مدى موافقة بنيامين على حجّة لانداور. غير أنّه يمكننا، من باب الافتراض، اعتبار هذا المقطع المحال إليه في بيبليوغرافيا المسوّدة مثالاً عمّا يعتبره "ممارسات تعبديّة" للرأسماليّة. ورغم أنّ المال، من وجهة نظر ماركسيّة، ليس سوى إحدى تمظهرات رأس المال -وهو ليس أهمّها-، إلا أنّ بنيامين كان أقرب إلى الاشتراكيّة التحرريّة التي يدعو إليها غوستاف لاوندوار أو جورج سورال (Georges Sorel)، منه إلى كارل ماركس وفريدريك إنجلز. وينبغي انتظار عمله مشروع الأروقة (Passagenwerk) حتى يستلهم من ماركس نقد العبادة الصنميّة للسلعة، حيث يحلّل أروقة الشوارع الباريسيّة بوصفها "معابد رأس المال التجاري". إلا أنّ ذلك لا ينفي وجود استمراريّة بين مسوّدة العام 1921 والكتاب الضخم غير المكتمل في السنوات الثلاثين.
إذن، ليس المال -ذهباً أو نقداً- والثروة والسّلعة سوى بعضاً من آلهة الدين الرأسمالي، أو أصنامه، وما تداولها "العملي" في الحياة الرأسماليّة الشائعة سوى تمظهرات تعبديّة، حيث "لا شيء... يكتسب أهميّة" خارج مدار العبادة.

أما السمة الثانية للرأسماليّة فـ"هي ترتبط وثيقاً بهذا التجسيد التعبّدي، وهي ديمومة زمنيّة العبادة. فالرأسماليّة هي احتفال بعبادة دون راحة ولا هوادة. حيث لا يوجد "أيّام عاديّة"، وما من يوم إلاّ وهو يوم احتفال، بالمعنى الهائل لانتشار الفخامة المقدّسة، والتوتّر الشديد الذي يطغى على المتعبّدين". ومن المحتمل أن يكون بنيامين قد استلهم في ذلك تحاليل كتاب الأخلاق البروتستانتيّة حول القواعد المنهجيّة لسلوك الكلفيني/الرأسمالي، والسيطرة المستمرّة على تدبير المعيش، الذي يظهر خصوصاً في "التثمين الديني للعمل المهني في العالم- بما هو نشاط يمارس دون انقطاع، باستمرار وبشكل ممنهج"(7). دون انقطاع وبلا هوادة وبلا رحمة: بنفس الكلمات تقريباً، وبشكل لا يخلو أيضاً من التهكّم، يستعيد بنيامين فكرة فيبر عبر إشارته إلى ديمومة "أيّام الاحتفال".

فقد ألغى الرأسماليّون البوريتانيّون غالبيّة أيّام العطل الكاثوليكيّة، حيث اعتبروها حافزاً على الكسل. بذلك، تشهد جميع الأيّام، في إطار الدين الرأسمالي، انتشار "الفخامة المقدّسة"، أي طقوس البورصة والمصنع، في حين يتتبّع المتعبّدون، بقلق و"توتّر شديد"، صعود الأسهم وهبوطها. ولا تعرف الممارسات الرأسماليّة انقطاعاً، حيث تهيمن على حياة الأفراد من الصباح إلى المساء، ومن الربيع إلى الشتاء، ومن المهد إلى اللّحد. فعلى غرار ملاحظة بوكهاردت ليندنر (Buckhardt Lindner) المتبصّرة، تقترض مسوّدة بنيامين من فيبر مفهوم الرأسماليّة بما هي نظام دينامي، يسير في توسّع شمولي، يستحيل صدّه أو الإفلات منه(8).

وأخيراً، تكمن السمة الثالثة للرأسماليّة بوصفها ديناً في طابعها التأثيمي، فـ"قد تكون الرأسماليّة أوّل نموذج عن عبادة غير مكفّرة (entsühnend) بل مؤثِّمة". ويمكننا التساؤل عن الدين الذي يعتبره بنيامين نموذجاً للعبادة المكفّرة، أي مناقضاً لروح الدين الرأسمالي. وبما أنّ النصّ يصوّر المسيحيّة كصنو للرأسماليّة، فقد يكون المقصود بذلك اليهوديّة، ذلك أنّ أهمّ يوم عطلة فيها، كما نعرف جميعاً، هو يوم كيبور المعروف بـ"يوم التكفير"، وترجمته الأمينة هي "يوم الغفران". هذه ليست سوى فرضيّة، ولا شيء يؤشّر عليها في المسوّدة.

ومن ثمّ يواصل بنيامين مرافعته ضدّ الرأسماليّة محاججاً بأنّه "على هذا النحو، تستثير الرأسماليّة حركة هائلة. وهي حركة وعي مثقل بالخطيئة لا يعرف كيف يكفّر عن نفسه فيلجأ إلى العبادة، لا ليتطهّر من خطيئته، بل ليجعل منها خطيئة كونيّة، ويزرعها بالقوّة في الوعي، وخصوصاً، ليورّط الله في خطيئته، حتى يغدو بدوره في نهاية المطاف معنيّاً بالتكفير عنها".

في هذا السياق، يستحضر بنيامين ما يسمّيه "الغموض الشيطاني لكلمة Schuld" التي تؤشّر على "الدَّيْن" و"الخطيئة" في الآن نفسه. فتبعاً لبوكهاردت ليندر، يقوم المنظور التاريخي لنصّ بنيامين على افتراض استحالة الفصل، في نظام الدين الرأسمالي، بين "الخطيئة الأسطوريّة" والدَّيْن الاقتصادي(9).

والحقّ أنّنا نجد لدى ماكس فيبر حججاً مماثلة تتوسّل اللّعب على المعنى المزدوج لمصطلح الواجب: فبالنسبة إلى البورجوازي البيوريتاني، "ما ينفقه المرء على أغراضه الشخصيّة يكون على حساب خدمة عظمة الله"، فيصير بذلك خطّاءً و"مديناً" لله. زد إليه كون "الفكرة القائلة بأنّ لدى المرء واجبات إزاء الممتلكات المؤتمن عليها والتي يخضع إليها أوليت له مهمّة القيام بها بوصفه حارساً أميناً )...( تُثقل على الحياة بثقلها البارد. فكلّما زادت هذه الممتلكات، كلّما زاد معها شعور المرء بالمسؤوليّة )...( ما يجبره، في سبيل خدمة عظمة الله، على مضاعفتها عبر العمل الدؤوب"(10). بذلك نرى كيف ينطبق تعبير بنيامين، حول "زرع الخطيئة بالقوّة في الوعي" تماماً على الممارسات البيوريتانيّة/الرأسماليّة التي يحلّلها فيبر.

إلا أنّه يبدو لنا أنّ حجّة بنيامين أعمّ من ذلك: إذ ليس الرأسمالي وحده خطّاءً و"مديناً" لرأسماله، إذ أنّ الخطيئة كونيّة. فالفقراء خطّاؤون لأنّهم فشلوا في جني المال، وهم بذلك مدينون: ونظراً إلى اعتبار النجاح الاقتصادي، في نظر الكالفاني، علامة على اصطفاء الرّوح وخلاصها، فإنّ الفقير ملعون بالضرورة. كما تغدو الخطيئة كونيّة حين تصير، في الحقبة الرأسماليّة، منقولة من جيل إلى جيل، على نحو ما يبرز أدام مولر (Adam Müller)- وهو فيلسوف رومانسي محافظ وناقد قاس للرأسماليّة- في مقطع تحيل عليه بيبليوغرافيا مسوّدة بنيامين، حيث يكتب: "إنّ البؤس الاقتصادي الذي كان، في الحقب الماضية، يعانيه كلّ جيل بعينه وينقضي بمضيّه، قد تحوّل، منذ أن صار كلّ فعل أو سلوك يعيّر بالذّهب، إلى كتل من الديون ما فتئت تتثاقل، لتنوء بها الأجيال القادمة"(11).

وبهذا، يغدو الله متورّطاً في هذه الخطيئة العامّة: فإذا كان الفقراء خطّائين ومحرومين من النّعمة، وإذا كان مصيرهم المقدّر، في ظلّ الرأسماليّة، هو الإقصاء الاجتماعي، فتلك هي "إرادة الله"، أو تبعاً لنظيرها في الدين الرأسمالي، إرادة السّوق. ومن البيّن أنّنا لو نظرنا إلى ذلك من جهة الفقراء والمدانين، فسنعتبر الله خطّاءً، ومعه الرأسماليّة. وفي الحالتين، يرتبط اللّه وثيقاً بسيرورة التخطئة الكونيّة.

لقد بيّنا إلى حدّ الآن المنطلق الفيبري لمسوّدة بنيامين، في تحليله للرأسماليّة بوصفها ديناً منبثقاً عن تحوّل في الكالفانيّة. إلا أنّه يوجد مقطع في المسوّدة يبدو فيه وكأنّ بنيامين ينسب إلى الرأسماليّة بعداً فوق-تاريخي لا نلمسه لدى فيبر أو ماركس، إذ يقول: "تطوّرت الرأسماليّة في الغرب كخليّة طفيليّة في المسيحيّة -وهو ما يمكننا إبرازه لا في علاقة بالكالفانيّة فحسب، بل بكلّ التيّارات المسيحيّة الأرثوذكسيّة الأخرى- ممّا يجعل من تاريخ المسيحيّة، في نهاية التحليل، تاريخ إحدى خلاياها الطفيليّة بالأساس، ألا وهي الرأسماليّة".

ولا يبرهن بنيامين على صحّة قوله البتّة، لكنه يحيل في المسوّدة إلى كتاب عنوانه روح المجتمع الرأسمالي البورجوازي(12)، يسعى كاتبه برونو أرشيبالد فوشس (Bruno Archibald Fuchs) هدراً إلى إثبات أنّ أصول العالم الرأسمالي تعود، على النقيض من أطروحة فيبر، إلى زهد المعابد الرهبانيّة والمركزة الباباويّة في الكنيسة القروسطيّة(13).

وفي نهاية المطاف، تؤدّي سيرورة التخطئة الرأسماليّة "الرهيبة" إلى تعميم اليأس: "فمن صميم هذه الحركة الدينيّة المتعيّنة في الرأسماليّة، أنّها تمضي إلى النهاية، إلى أن يصير الله خطّاءً بكماله وتمامه، وإلى أن تصيب العالم حالة من اليأس بالكاد يقدر المرء فيها على الترجّي. حيث يكمن السبق التاريخي للرأسماليّة في كون ديانتها لا تُصلح الوجود بقدر ما تهدّمه. فيعمّ بذلك اليأس إلى درجة أن يصير حالة دينيّة في العالم يكتفي المرء إزاءها بانتظار الخلاص". ويضيف بنيامين، مستشهداً بنيتشه، أنّنا نشهد "انتقال كوكب الإنسان، ضمن مداره المتوحّد بإطلاق، نحو مسكن اليأس".

ما سبب ذكر نيتشه في هذا التوصيف المذهل، ذي الإيحاء الشعري والفلكي؟ إذا كان اليأس هو عينه الغياب الجذري لكلّ أمل، فقد يجد تصويره الأمثل في "حبّ القدر" (amor fati) الذي يبشّر به فيلسوف المطرقة في كتابه هذا هو الإنسان، حيث يقول: "إنّ صيغتي المبجّلة للتعبير عن العظمة لدى الإنسان هي حبّ القدر، أي ألاّ يطلب المرء شيئاً آخر غير ما هو كائن، لا فيما مضى، ولا فيما سيأتي، أبداً على الإطلاق. لا ينبغي على المرء أن يتحمّل الضرورة على مضض )...( بل أن يحبّها".

وبالطبّع، لا يتطرّق نيتشه في كلامه إلى الرأسماليّة. غير أنّ ماكس فيبر النّيتشوي يستنتج بتحفّظ -وليس بالضرورة عن حبّ- الطّابع المحتوم للرأسماليّة بوصفها مصير الحقبة الحديثة، وهو ما تشير إليه آخر صفحات كتاب الأخلاق البروتستانتيّة، حيث يستنتج فيبر، بنوع من القدريّة المتشائمة، أنّ الرأسماليّة الحديثة "تحدّد، بقوّة لا تقاوم، أسلوب عيش جميع الأفراد الذين يولدون ضمنها -ولا تقتصر في ذلك على الأفراد المعنيّين بالتملّك الاقتصادي".

ويمثّل فيبر هذا الإكراه بالسّجن الذي يُحتَجز فيه الأفراد ضمن نظام الإنتاج العقلاني للسّلع، فـ"على رأي باكستر، لا ينبغي أن يقع همّ الخيرات الخارجيّة على أكتاف هؤلاء القدّيسين إلاّ على شاكلة "معطف خفيف يمكن خلعه في أيّ لحظة". إلا أنّ القدر قد حوّل هذا المعطف إلى قفص جليديّ"(14). والحقّ أنّه توجد تأويلات أو ترجمات عدّة لعبارة فيبر stahlhartes Gehäuse: البعض يعتبرها "زنزانة"، والبعض الآخر يعتبرها قوقعة كالتي يحملها الحلزون على ظهره. والأرجح أن يكون فيبر قد استلهمها من صورة "قفص الحديد الجليدي" التي نحتها الشّاعر الإنكليزي البيوريتاني بونيان (15)(Bunyan).


وسواء كان الحديث عن قفص يأس أو قفص حديدي أو قفص يأس حديدي: فمن فيبر إلى بنيامين، نجد أنفسنا ضمن نفس الحقل الدلالي الذي يسعى إلى وصف المنطق القاسي للنّظام الرأسمالي. لكن، لماذا ينتج هذا النظام اليأس؟ يمكن أن نطرح عدّة إجابات على هذا السؤال:
  • أوّلاً، لأنّ الرأسماليّة حين تعرّف نفسها على أنّها الشكل الطبيعي والضروري للاقتصاد الحديث، على غرار ما بيّنا آنفاً، فهي تنفي إمكانيّة كلّ مستقبل مغاير، وكلّ مخرج منها، وكلّ بديل عنها. فقوّتها، بعبارة فيبر، "لا تقاوم"، ولذلك فهي تقدّم نفسها كمصير محتوم.
  • يحوّل هذا النظام غالبيّة البشر إلى "معذّبين في الأرض"، لا يمكنهم انتظار الخلاص الإلهي، مادام الله متورّطاً في حرمانهم من النّعمة. فبحكم قدرهم المحتوم، لا أمل لهم في الخلاص. إذ أنّ إله الدين الرأسمالي، أي المال، لا يرحم من يعوزه المال.
  • إنّ الرأسماليّة هي "دمار الوجود"، حيث تستبدل الوجود بالكسب، والخصائص البشريّة النوعيّة بالمقادير الكميّة السلعيّة، والعلاقات البشريّة بالعلاقات الماليّة، والقيم الأخلاقيّة أو الثقافيّة بقيمة معتبرة واحدة، وهي المال. وفي حين لا ترد هذه الحجّة في نصّ بنيامين، إلا أنّها قد تطوّرت بشكل كبير في الكتابات المعادية للرأسماليّة ذات التوجّه الاشتراكي الرومنسي التي يحيل عليها في البيبليوغرافيا: مثل كتابات غوستاف لاندور وجورج سوريل (George Sorel)، إضافة إلى كتابات آدم مولّر ذات المنزع المحافظ. ومن المهمّ التنويه هنا إلى القرابة الاشتقاقيّة بين كلمة Zertrümmerung )أي الدمار-م( التي يستعملها بنيامين في حديثه عن "دمار الوجود"، وكلمة Trümmern )أي الخراب-م( التي يستعملها في الأطروحة التاسعة من كتابه أطروحات في مفهوم التّاريخ لوصف الخراب الذي يسبّبه التقدّم.
  • بما أنّ "خطيئة البشر" ودَيْنهم لرأس المال أبديّان ولا ينفكّان عن التعاظم، فلا أمل البتّة في التكفير عنهما. إذ يضطرّ الرأسمالي إلى تنمية رأسماله وتوسيعه، خوفاً من أن يسحقه منافسوه، فيما يضطرّ الفقير إلى اقتراض المزيد من المال يفتدي به دَيْنه.
  • تبعاً لدين رأس المال، تكمن إمكانيّة الخلاص الوحيدة في تكثيف النظام، وفي التوسّع الرأسمالي، وفي مراكمة المزيد من السلع، وهو ما يؤدّي إلى تعميق اليأس لا غير. ويبدو أنّ ذلك ما يشير إليه بنيامين حين يتحدّث عن تحوّل اليأس إلى حالة دينيّة في العالم "يكتفي المرء إزاءها بانتظار الخلاص".
إنّ هذه الفرضيّات غير متناقضة أو متنابذة، والحقّ أنّ النصّ لا يحتوي إشارات صريحة تسمح بفصل المقال بينها. وبأيّة حال، يبدو أنّ بنيامين يقرن اليأس بغياب مخرج من الرأسماليّة، إذ "لا يعرض الفقر، مثله مثل الرهبان المتجوّلين، مخرجاً روحيّاً أو ماديّاً. فلا تُنتج هذه الحالة التي لا تترك مخرجاً منها سوى الخطيئة. وليست "الهموم" سوى مؤشّر على هذا الوعي الخطّاء بغياب مخرج ممكن. فـ"الهموم" تُولد من الخوف بانتفاء أيّ مخرج، لا يكون ماديّاً أو فرديّاً، بل جمعيّاً". بذلك، لا تقدّم ممارسات الرّهبان التقويّة مخرجاً ممكناً، لأنّها لا تتحدّى الهيمنة الدينيّة لرأس المال. وبينما تعتبر المخارج الفرديّة المحضة وهماً، ينفي دين رأس المال إمكانية كلّ مخرج جمعي وجماعي واجتماعي.

غير أنّ بنيامين، وهو عدوّ لدود لدين رأس المال، مجبر على إيجاد مخرج منه. وفي سبيل ذلك، يفحص أو يراجع، بشكل خاطف، عدداً من مقترحات "الخروج من الرأسماليّة"، من ضمنها:

1 (إصلاح الدين الرأسمالي: وهو من المحال، باعتبار شموليّته المانعة. فـ"لا يجب انتظار التكفير عن الخطيئة لا من هذه العبادة في ذاتها، ولا من إصلاح هذا الدين، إذ ينبغي على هذا الإصلاح أن يتمكّن من الارتكاز على عنصر قائم فيه، دون أن يتبّرأ منه بالكامل". وبذلك، لا يمثّل التبّرؤ من دين رأس المال مخرجاً منه، لأنّه فعل فردّي محض: فهو لا يردع آلهة رأس المال عن ممارسة سلطتها على المجتمع. أمّا الإصلاح، فدعنا نستشهد بحديث غوستاف لاوندر، في نفس الكتاب الذي يحيل عليه بنيامين في البيبليوغرافيا، حيث يقول: "لقد صار الله )أي المال( قويّاً وقديراً بما فيه الكفاية، بحيث يستحيل علينا إلغاءه عبر عمليّة إعادة هيكلة بسيطة، نصلح من خلالها "اقتصاد المقايضة""(16).

2 (نيتشه والإنسان المتفوّق: لم يكن نيتشه، بالنسبة لبنيامين، عدوّاً، بقدر ما كان "أوّل من اضطلع عن وعي بمهمّة تحقيق الدين الرأسمالي... حيث يُعيّن فكر الإنسان المتفوّق "القفزة" الأخرويّة، لا في التحوّل أو الكفّارة أو التطهّر أو التوبة، بل في التكثيف...). (فليس الإنسان المتفوّق سوى إنسان تاريخي لم يحوّل نفسه، بالغاً العظمة بانتهاكه حرمة السماوات. بذلك أخطأ نيتشه حين فجّر السماء بفعل تكثيف الكائن البشري الذي يعتبر، من المنظور الدينيّ ومن منظور نيتشه نفسه)، في مرتبة الخطيئة ولازال"(17).

كيف يمكننا تأويل هذه الفقرة التي يشوبها بعض الغموض؟ قد تكون واحدة من القراءات الممكنة القول بأنّ الإنسان المتفوّق لا يكثّف سوى جموح الدين الرأسمالي، أي إرادة قوّته وتوسّعه اللامتناهي. فهو لا يتحدّى خطيئة البشر ويأسهم، بل يتركهم في مواجهة مصيرهم. وهذه ليست سوى محاولة أخرى لأشخاص يدّعون التفرّد، أو أعضاء نخبة أرستقراطيّة، يسعون إلى الخروج من جحيم الدين الرأسمالي، فينتهي بهم المطاف إلى إعادة إنتاج منطقه. (ما نطرحه هنا ليس سوى فرضيّة لا غير، والحقّ أنّ هذا الجزء من نقد بنيامين لنيتشه مايزال مستغلقاً علينا).

3 (اشتراكيّة ماركس: "في نظر ماركس، الرأسماليّة التي لا تحوّل نفسها تنقلب إلى اشتراكيّة من خلال الفائدة والفائدة المضافة، بما هما من وظائف الدَّيْن/الخطيئة (ولنلاحظ الغموض الشيطاني لهذه الكلمة)". )م- يستخدم هنا بنيامين كلمة Schuld التي تعني الدَّيْن والخطيئة في الآن نفسه، لذلك اخترنا وضع العبارتين معاً لإظهار ازدواجيّة المعنى التي يبني عليها تحليله(. صحيح أنّ بنيامين لم يطّلع بعد، في تلك الحقبة، على الكثير من آثار ماركس، ولربّما يكون قد اكتفى بترديد انتقادات غوستاف لانداور للماركسيّة، التي يتّهمها بمحاولة بناء ضرب من اشتراكيّة رأس المال. حيث يرى ماركس، تبعاً لهذا المفكّر اللاسلطوي أنّ "الرأسماليّة تُفرز من صميم صلبها (ganz und gar) الاشتراكيّة، ونمط الإنتاج الاشتراكي "يتبرعم" (entblüht) في تربة الرأسماليّة"(18) عبر مركزة الإنتاج والدَّيْن بالأساس.

غير أنّ إشارة بنيامين إلى "الخطيئة"، أو لنقل Schuld التي تعني "الدَّيْن" و"الخطيئة" في الآن نفسه، تبقى غير مفهومة في نظرنا. وبأيّة حال، يرى بنيامين أنّ الاشتراكيّة الماركسيّة تحافظ على مقولات الدين الرأسمالي ولا تمثّل مخرجاً منه. وكما نعلم جميعاً، سيغيّر بنيامين كثيراً من رأيه في هذا الموضوع، بداية من سنة 1924، بعد قراءته كتاب التاريخ والوعي الطبقي لجورج لوكاتش (Georges Lukacs).

4 (إريك أنجر (Erich Unger) والخروج من الرأسماليّة: أو "تجاوز الرأسماليّة مشياً على الأقدام"(19). يثير مصطلح Wanderung الارتباك ولا تبلّغ ترجمته الفرنسيّة، شديدة الحرفيّة، معناه الفعلي )م- ترجمته الفرنسيّة السّائدة هي « marche à pied » أي المشي على الأقدام(. والحقّ أنّه لا يعني "المشي على الأقدام" بقدر ما يؤشّر على الهجرة والترحال. فالمصطلح الذي يستخدمه إريك أنجر هو Wanderung der Völke، أي هجرة الشعوب. حيث يكتب في الصفحة الأربعة وأربعين من كتابه الذي يحيل عليه بنيامين في بيبليوغرافيا المسوّدة: "يُوجد خيار منطقي واحد: إمّا ممارسة التجارة غير المشروعة، أو هجرة الشعوب. ذلك أنّ أيّ هجوم يستهدف النظام الرأسمالي في أماكن نفوذه محكوم عليه بالفشل )...( ففي سبيل أن نحقّق شكلاً من الانتصار على النظام الرأسمالي، يجب أن نغادر أوّلاً مجال فعاليّته، لأنّه قادر ضمن نطاقه على استيعاب كلّ فعل مضادّ له"(20). فالأمر كما يرى، يقتضي ضرورة استبدال الحرب الأهليّة بهجرة الشعوب.

ونحن نعرف أنّ بنيامين كان متعاطفاً مع أفكار إريك أنجر "اللاسلطويّة الميتافيزيقيّة"، وقد امتدحه في مراسلاته مع سكولم. غير أنّه لم يبلغ إلى علمنا كونه يعتبر "الخروج من نطاق المجال الرأسمالي" مخرجاً ممكناً من الرأسماليّة، كما أنّ المسودّة لا تمدّنا بأيّ معلومة تشير إلى ذلك(21).

5( أخيراً، الاشتراكيّة التحرريّة التي يدعو لها غوستاف لانداور، صاحب كتاب دعوة من أجل الاشتراكيّة. حيث يكتب المفكّر اللاسلطوي، في مؤلّفه الذي يحيل عليه بنيامين في المسوّدة: "إنّ الاشتراكيّة عودة )أو تحوّل، (Umkehr، وبدء على عود، واستعادة للرّابطة مع الطبيعة، ونفخ في الرّوح من جديد، وإعادة تملّك للصلة البشريّة )...( لذلك يرغب الاشتراكيّون في العودة إلى التجمّع ضمن تعاونيّات"(22).

يستعمل لانداور بدوره مصطلح Umkehr الذي يوظّفه بنيامين في نقد نيتشه وإنسانه المتفوق الرّافض "التحوّل والكفّارة" صاعداً السماوات دون أن يتحوّل، وكذلك في نقد ماركس الذي يعتبر أنّ الاشتراكيّة هي "رأسماليّة لا تتحوّل". لذا، قد يجوز لنا الافتراض أنّ اشتراكيّة لانداور، بما تتضمّنه من "تحوّل" أو "عودة"- إلى الطبيعة والعلاقات البشريّة والحياة الجماعيّة-، هي المخرج من "منزل اليأس" الذي شيّده الدين الرأسمالي. وعلى غرار إريك أنجر، كان لانداور يعتقد بشكل ما في ضرورة مغادرة مجال الهيمنة الرأسماليّة من أجل تأسيس تعاونيّات اشتراكيّة في الأرياف. إلا أنّه لم يعتبر هذا التمشّي متناقضاً مع منظور الثورة الاجتماعيّة: فقد انخرط، قبل صدور كتابه بفترة قصيرة، في ثورة جمهوريّة مجالس برلين قصيرة العمر (سنة 1919) وشغل فيها منصب مفوضّ الشعب لشؤون التربية- وكان ذلك التزاماً شجاعاً كلّفه حياته. وضمن تعليق لافت حول استخدام مفهوم Umkehrفي مسوّدة بنيامين، يرى نوربرت بولز (Norbert Bolz) في ذلك ردّة فعل ضدّ أطروحة فيبر التي تعتبر الرأسماليّة قدراً محتوماً. ففي نظر بنيامين، يؤشّر ـUmkehr على تعطّل التاريخ والميطانيّة (Metanoïa) والكفّارة والتطهّر... والثورة في الآن نفسه(23).

وبطبيعة الحال، يبقى كلّ ما ذكرناه مجرّد افتراضات، إذ لا تشير المسوّدة في متنها إلى أيّ مخرج من دين رأس المال، مكتفية بتحليل منطقه القاسي و"المتوحشّ" بنَفَسٍ بارد وعدائيّ صارخ.

وفي كتابات بنيامين خلال السنوات الثلاثين، وعلى رأسها عمله مشروع الأروقة، تغيب إشكاليّة الرأسماليّة بوصفها ديناً، ويحلّ محلّها نقد صنميّة السّلعة ورأس المال باعتبارها بنية أسطوريّة. والحقّ أنّه يمكننا تبيان بعض التوافقات بين المقاربتين- مثل الإشارة إلى المظاهر الدينيّة للنّظام الرأسمالي -إلاّ أنّ التنافرات الصارخة بينهما تثنينا عن ذلك، وأبرزها التبنّي الصريح للماركسيّة كإطار نظري.

كما يبدو أيضاً أنّ إشكاليّة ماكس فيبر قد اندثرت من الحقل النظري الذي أسّسه بنيامين في أعماله اللاحقة. إلاّ أنّنا نعثر في كتابه أطروحات حول التاريخ على إشارة ضمنيّة، لكنّها بارزة للعيان، إلى الأطروحات الفيبريّة. ففي الأطروحة السادسة، يكتب بنيامين ناقداً عبادة العمل الصناعي في الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة: "ها هي أخلاق العمل البروتستانتيّة القديمة تحتفل بإحيائها، في شكل مُعَلْمن، على يد العمّال الألمان"(24).
إنّ مسودّة بنيامين التي دوّنها سنة 1921، باستلهامها عمل ماكس فيبر لكن مع تجاوز أطروحاته السوسيولوجيّة، تندرج ضمن تشكيلة فكريّة يمكن تسميتها بقراءات فيبر المعادية للرأسماليّة. والحقّ أنّ هذه القراءات تمثّل، في جزء كبير منها، ضرباً من "الاختلاس": فموقف ماكس فيبر من الرأسماليّة لم يتعدّ المراوحة أو المزاوجة بين ضرب من "الحياديّة القيميّة" والتشاؤم والتحفّظ. غير أنّ البعض من "أتباعه" المهرطقين استخدموا حجج كتابه الأخلاق البروتستانتيّة في تطوير عداء عنيف للرأسماليّة ذو منزع اشتراكي/رومانسي.

ويأتي على رأس هذه التشكيلة الفكريّة إرنست بلوخ الذي كان، بين السنوات 1912 و1914، من بين دائرة أصدقاء ماكس فيبر في مدينة هايدلبرغ. وكما رأينا آنفاً، فإنّ إرنست بلوخ هو من "ابتدع" عبارة "الرأسماليّة بوصفها ديناً"، في كتابه حول طوماس منتزر الصادر سنة 1921، محمّلاً الكالفينيّة مسؤوليّة ذلك(25). وبهدف إقامة الحجّة على اتهامه، استدعى ماكس فيبر شاهداً في مرافعته: إذ يرى بلوخ كون الكالفنيّين يعتبرون أنّه: "بفضل واجب العمل المجرّد، يتطوّر الإنتاج بشكل متوهّج وممنهج، حيث تساهم أمثولة الفقر، التي يطبّقها كالفين على الاستهلاك فحسب، في تشكيل رأس المال. بذلك تسري فريضة الادّخار على الثروة، والتي تعتبر مقداراً مجرّداً مطلوباً في ذاته، يتطلّب تنمية دائمة... وعلى نحو ما أظهر ماكس فيبر ببراعة، فإنّ الاقتصاد الرأسمالي النامي قد وجد نفسه منعتقاً ومستقلاًّ ومتحرّراً بالكامل من تأنيبيات الضمير المسيحي البدائي، ومن كلّ عنصر مسيحي حافظت عليه نسبيّاً الإيديولوجيا الاقتصاديّة القروسطيّة"(26).

بذلك، يصير تحليل فيبر "المتحرّر من حكم القيمة" لدور الكالفينيّة في ازدهار روح الرأسماليّة، ضمن نصّ إرنست بلوخ الماركسي المولع بالكاثوليكيّة، نقداً عنيفاً للرأسماليّة وأصولها البروتستانتيّة. ومن المؤكّد أنّ بنيامين قد تأثّر بهذا النصّ، على نحو ما رأينا آنفاً، لكن دون أن يتقاسم مع بلوخ تعاطفه تجاه "تأنيبيات الضمير المسيحي البدائي" أو العناصر "شبه المسيحيّة" للأيديولوجيا الاقتصاديّة الكاثوليكيّة القروسطيّة.

كما نعثر أيضاً، في عدد من مقاطع كتاب التاريخ والوعي الطبقي، على اقتباسات من فيبر استند عليها جورج لوكاتش في تأسيس نقده ضدّ التشيّؤ الرأسمالي. وبعد سنوات من صدور هذا الكتاب، يشير الماركسي الفرويدي إريك فروم (Erich Fromm) بدوره، في مقالة صدرت سنة 1932، إلى فيبر وصومبارت (Sombart) في معرض تنديده بمسؤوليّة الكالفينيّة في تدمير فكرة الحقّ والسّعادة الخاصّة بالمجتمعات ما قبل الرأسماليّة- بما فيها الثقافة الكاثوليكيّة القروسطيّة –وتعويضها بالقيم الأخلاقيّة البورجوازيّة، من قبيل واجب العمل والاكتساب والادخار(27).

إذن، تقدّم مسوّدة بنيامين مثالاً على القراءات "الابتداعيّة"- وجميعها من أعمال مفكّرين يهود ألمان ذوي منزع رومانسي - التي استخدمت أعمال فيبر السوسيولوجيّة، وخصوصاً كتاب الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسماليّة، كذخيرة هاجمت بها دون رحمة النظام الرأسمالي وقيمه وممارساته و"دينه".

ومن المثير أن نقارن مسوّدة بنيامين التي خطّها سنة 1921 بأعمال عدد من لاهوتيي التحرير في أمريكا اللاتينيّة الذين طوّروا منذ بداية عقد الثمانينات، دون أن يطّلعوا على هذه المسوّدة، نقداً جذريّاً للرأسماليّة بوصفها ديناً وثنيّاً. ومن ذلك، يعتبر هوغو أسمان (Hugo Assman) أنّ "الدين الاقتصادي" الرأسمالي يتعيّن في اللاهوت المستتر ضمن النموذج الاقتصادي الرأسمالي نفسه، وفي ممارسته التعبديّة اليوميّة. فهو دين لا تُؤدَّي ضمنه المفاهيم الدينيّة الصّارخة التي نجدها في أدبيّات "مسيحيّة السّوق"- من قبيل الكتابات الدينيّة التي أنتجتها تيّارات المحافظين الجدد – سوى وظيفة تكميليّة. ويعتبر أسمان أنّ لاهوت السّوق، من كتابات مالتوس إلى آخر وثيقة أصدرها البنك الدولي، يمثّل لاهوتاً قربانيّاً متوحّشاً: حيث يفرض على الفقراء التضحية بأنفسهم على مذبح الأصنام الاقتصاديّة(28).

ونجد أطروحات مشابهة لدى اللاهوتي البرازيلي الشّاب )من أصل كوري( جونغ مو سونغ (Jung Mo Sung)، حيث طوّر في كتابه وثنيّة رأس المال وموت الفقراء نقداً أخلاقيّاً دينيّاً للنّظام الرأسمالي العالمي الذي تحكم مؤسّساته- مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – على ملايين الفقراء في العالم الثالث بأن يضحّوا بأنفسهم فداءً لإله "السّوق الدوليّة" طبق منطق الدّين الخارجي المتوحّش. ففي منظور الدين الرأسمالي، فإنّه "لا خلاص خارج السّوق. )...( وبتقديس السّوق على هذا النحو، يغدو من المستحيل التفكير في التحرّر عبر هذا النظام أو عبر بديل آخر عنه. وبذلك توصد كلّ أبواب التعالي، بالمعاني التاريخيّة )أي نموذج مجتمع آخر يتجاوز الرأسماليّة( أو بمعاني التعالي المطلق )أي لا إله خارج السّوق("(29). وفي هذه الأطروحات توافقات، واختلافات، بيّنة مع أفكار بنيامين. لكن، ألا يحملنا هذا بعيداً عن موضوع مقالتنا؟
الملاحظات والإحالات البيبلوغرافيّة:

  1. Ernst Bloch, Thomas Münzer, théologien de la Révolution, Paris, 10/18, 1964, trad. de l’all. par Maurice de Gandillac, p. 182-183. Cf. E. Bloch, Thomas Münzer als Theologue der Revolution, 1921, Francfort, Suhrkamp Verlag, 1962. في النسخة الثانية من الكتاب، عوضّ بلوخ عبارة "كنيسة الشيطان" بـ"كنيسة مامون".
  2. Walter Benjamin, Gesammelte Briefe, Francfort, Suhkamp, vol. II, p. 212-213. حول الرابط بين بنيامين وبلوخ في خصوص هذا الموضوع انظر:
  3. Werner Hammacher, « Schuldgeschichte », in Dirk Baecker, Kapitalismus als Religion, Berlin, Kulturverlag Kadmos, 2003, p. 91-92.
  4. Benjamin, « Le capitalisme comme religion », in W. Benjamin, Fragments philosophiques, politiques, critiques, littéraires, édité par Ralph Tiedemann et Hermann Schwepenhäuser, trad. de l’all. par Christophe Jouanlanne et Jean-François Poirier, Paris, PUF, 2000, p. 111-113. إنّ مجمل الإحالات المرجعيّة إلى مقاطع المسودّة تقتصر على هذه الصفحات الثلاثة من الكتاب، لذلك سأوفّر مشقّة الإحالة إليها كلّما استشهدنا بمقطع منها.
  5. Benjamin, Einbahnstrasse, inW.Benjamin Gesammelte Schriften, vol. IV, 2001, p. 139.
  6. Gustav Landauer, Aufruf zum Sozialismus, Berlin, Paul Cassirer, 1919, p. 144.
  7. Max Weber, L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme, Paris, Gallimard, 2001, trad. de l’all. par Jean-Pierre Grossein, p. 235.
  8. Lindner, « Der 11.9.2001 oder Kapitalismus als Religion », in Nikolaus Müller Schöll (dir.), Ereignis. Eine fundamentale Kategorie der Zeiterfahrung. Anspuch und Aporien, Bielefeld, 2003, p. 201.
  9. Lindner, ibid., p. 207.
  10. Weber, L’éthique protestante…, op. cit., p. 230 et 232.
  11. Adam Müller, Zwölf Reden über die Beredsamkeit und deren Verfall in Deutschland, Munich, Drei Masken, 1920 [1816], p. 58.
  12. Bruno Archibald Fuchs, Der Geist der Bürgerlich-Kapitalistischen Gesellschaft. Eine Unters. über die Grundlagen u. Voraussetzungen, Munich/Berlin, 1914.
  13. , p. 14-18.
  14. Weber, L’éthique protestante…, op. cit., p. 222-225
  15. Edward A. Tiryakian, « The Sociological Import of a Metaphor : Tracking the Source of Max Weber’s “Iron Cage” », in Peter Hamilton (dir.), Max Weber : Critical Assessments, Londres, Routledge, 1991, vol. I, 2, p. 109-120.
  16. Landauer, Aufruf zum Sozialismus, op. cit., p. 145.
  17. لقد عدّلنا من الترجمة الفرنسيّة بالرجوع إلى الأصل الألماني: Gesammelte Schriften, VI, p. 102.
  18. Landauer, Aufruf zum Sozialismus, op. cit., p. 42.
  19. Benjamin, « Le capitalisme comme religion », in W. Benjamin, Fragments philosophiques, politiques, critiques, littéraires, trad. de l’all. par Christophe Jouanlanne et Jean-François Poirier, Paris, PUF, 2000, p. 113.
  20. Erich Unger, Politik und Metaphysik, (hrsg. Von Mangred Voigt), Würzburg, Könnigshausen & Neumann, 1989 [1921], p. 44.
  21. يرى جواشيم فون سوستين (Joachim von Soosten) أنّ أنجر يفكّر في الخروج من الرأسماليّة من خلال المجال، بينما يفكّر بنيامين في ذلك بمصطلحات زمنيّة أخرويّة. انظر: « Schwarzer Freitag : die Diabolik der Erlösung und die Symbolik des Geldes », in D. Baecker (dir.), Kapitalismus als Religion, op. cit., p. 297.
  22. Landauer, Aufruf zum Sozialismus, op. cit., p. 145.
  23. Bolz, « Der Kapitalismus – eine Erfindung von Theologen ? », in D. Baecker (dir.), Kapitalismus als Religion, op. cit., p. 205.
  24. Benjamin, « Über den Begriff der Geschichte », Gesammelte Schriften, I, 2, p. 274.
  25. Bloch, Thomas Münzer, théologien de la revolution, op. cit., p. 182-183.
  26. , p. 176-177.
  27. Eric Fromm, « Die psychoanalythische Charakterologie und ihre Bedeutung für die Sozialpsycholgie », 1932, Gesamtausgabe, Stuttgart, Deutsche Verlag-Anstalt, 1980, vol. I, p. 59-77.
  28. Hugo Assmann et Franz Hinkelammert, A Idolatria do Mercado. Ensaio sobre Economia e Teologia, São Paulo, Vozes, 1989.
  29. Jung Mo Sung, Deus numa economia sem coraçâo. Pobreza e neoliberalisme : um desafio oà evnagelizaçâo, São Paulo, Paulinas, 1992, p. 94.
جهاد الحاج سالم
باحث ومترجم تونسي.
مايكل لوي

ولد مايكل لوي (Micheal Löwy) سنة 1938 في البرازيل لأبوين من يهود فيينا، وهو يعيش في باريس منذ سنة 1969. اشتغل استاذاً في المدرسة العليا لدراسات العلوم الاجتماعيّة (EHESS)  منذ سنة 1990، ويتبوأ حالياً منصب مدير بحوث فخري في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا (CNRS). نشر عدّة كتب في علم اجتماع الدين والثقافة والأدب، لا سيّما عن فالتر بنيامين وماركس وفيبر، بالإضافة إلى دراساته ومقالاته العديدة.

ذات صلة