Print this page

التابعون الحَضَر في الثورات العربيّة: القاهرة ودمشق في منظور مقارني

18 تشرين2/نوفمبر 2016
 

ترجمة: جهاد الحاج سالم

تفحص هذه الورقة دور التابعين الحضر بوصفهم في آنٍ أعواناً مشاركين في الثورات العربيّة، وقوى توسطيّة ضدّ الفعل الثوري. وتطرح حجّة أساسيّة مفادها أنّ تموقع التابعين الحضر في الفترات الثوريّة يجب أن يُفهم من خلال ربطه بموقعهم السوسيو-مجالي ضمن التشكيلة السياسيّة الحضريّة المعقّدة.

وتتشكل هذه التشكيلة عبر نزاعات قوّة تتضمن الحكومة والنخب السياسيّة وقوى اجتماعيّة متعدّدة. وسنفحص من خلال تناول حركتي الاحتجاج الثوري في القاهرة ودمشق كحالتين مقارنتين، الموقع المتمايز للفاعلين التابعين في هذين الموضعين الحضريّين كي نستخلص كيف شكّل تموقُعُهم إزاء الدولة والحكومة انخراطهم في كلا الثورتين.

ففي الحالة المصريّة، كانت القوى الأساسيّة في احتجاجات التحرير الثوريّة المذهلة، تبعاً للتوصيفات السّائدة، مشكّلةً من شباب الطبقات الوسطى المتعلّم، أو مستخدمي الإنترنت المتمكّنين من الميديا([1]). وهذه السرديّة تبخس حقّ القوى الشعبيّة من جهتي الدّور الذي لعبته في الثورة وأنماط انخراطها فيها. وسوف تكتشف هذه الورقة أنماط الفعل الشعبي الحضري السّابقة لأيّام الثورة في ساحة التحرير واللاحقة لها، حيث ستتناول المواجهات بين القوى الشعبيّة وأعوان الدولة (خصوصاً رجال الشرطة)، واحتشاد سكان الأحياء الشعبيّة الحضريّة، والاهتياج والفعل الثوريّين في الأحياء الشعبيّة. وحجّتنا في ذلك أنّ أطر النّشاط الشعبي في القاهرة متجذّرة في أشكال التفاعل اليومي بين القوى الشعبيّة وأعوان الحكومة، حيث شكّلت تلك الأشكال من التفاعل، بدورها، الذوات الحضريّة التي شاركت في صناعة "الشعب" بوصفه ذات الثورة. وبالاعتماد على عملنا الميداني في أسواق القاهرة اللانظاميّة خلال سنة 2010، وعملنا السّابق مع سكّان الأحياء الحضريّة اللانظاميّة، سنعيّن تشكيل الذوات المعارضة في سياق التطوّرات السوسيو-سياسيّة الكبرى التي أحدثتها السياسة العامّة الاقتصاديّة النيوليبراليّة، وخصوصاً تنامي اللانظاميّة في السكن والتشغيل وتكثيف سياسات الدولة الأمنيّة([2]).

ونحن نركّز، ضمن هذا التحليل لدور القوى الشعبيّة الحضريّة في الثورة، على تشكيلٍ مخصوص من علاقات السلطة الصغرى، وعلى الديناميّات التفاعليّة التي شكّلت الذوات المعارضة الفاعلة خلال الاحتجاجات الثوريّة في ميدان التحرير وما بعدها. وبلا شكّ، يمثّل تنامي الاحتشاد السياسي خلال العقد السّابق وتجربة النشاط المنظّم التي راكمها فاعلون اجتماعيّون وسياسيّون متعدّدون، مثل العمّال والمهنيّين ومجموعات الشباب، عوامل أساسيّة في فهم النشاط الثورّي في ميدان التحرير([3]). لذلك، ولئن كان اهتمامنا بمستويات الأنشطة الصغرى والمحليّة موجّهاً نحو إيضاح التجذّر المجالي لسجلاّت الفعل والمقاومة وتشكّلها مجاليّاً، فمن المهمّ التنبّه إلى أنّ الاهتمامات المحليّة للقوى الشعبيّة، مثل العنف البوليسي وحقوق السكن والخدمات الاجتماعيّة، لم تكن معزولة عن المطالب الوطنيّة التي رفعت في ميدان التحرير، حيث تمفصل النشاط المحلي مع الاحتشاد الوطني الواسع الذي انطلق في 25 يناير 2011.

وتقدّم الحالة السوريّة تبايناً مع الحالة المصريّة، ما يسمح بإجراء تحليل مقارن لدور القوى الحضريّة التابعة في الثورات العربيّة، وهي مقارنة تضع هذا الدور في بؤرة الاهتمام، وتتجاوز مجرّد الكشف عن اختلاف أشكال الانتظام والنشاط لدى التابعين، إلى الكشف عن مستويات الانسجام وخطوط الانقسام المتعدّدة التي تشقّهم. وتُمثّل دمشق مثالاً صارخاً على الطبيعة المتشظيّة للتابعيّة. فنظراً لتشكيل الفضاء الحضري وأنماط ضبطه من قبل النظام السوريّ، فقد كان من الصعب على القوى التابعة في دمشق أن تباشر نفس نوع الاحتشاد واحتلال الفضاءات العامّة المركزيّة على غرار ما تمّ في القاهرة. وقد تمّ استغلال التشظّي السوسيو-مجالي للتابعيّة من قبل النّظام لتقسيم التابعين والحيلولة دون تشكيل معارضة شعبيّة موحّدة.

وستركّز هذه الورقة على ثلاث من خصائص الموضع الحضري الدمشقي التي قد تساعد على تفسير أنماط الاحتشاد والاحتجاج فيه: أولها، تشظّي الهويّات التّابعة حيث يشكّل التماهي الطائفي عنصر انقسام حضري. وثانيها، تجذّر أجهزة القمع في الفضاء الحضري بشكل يعمّق الانقسامات ويتلاعب بالتماهي الطائفي. أما ثالثها، فهو وجود نمط مخصوص من إعادة التشكيل الحضري يتمّ عبره تحويل شرائح من السكان التابعين المهاجرين إلى حاجز بين النظام والمجموعات التّابعة الأخرى. وتكشف هذه الخصائص المميّزة للفضاء الحضري في دمشق كيف يمكن لتاريخ إعادات التشكيل الحضري وطابعها الخاصّ أن يكونا حاسمين في طريقة تشكّل الاحتجاجات والاحتشادات الشعبيّة ومسارها خلال الفترات الثوريّة. ففي دمشق، تمثّل لانظاميّة السكن والتشغيل عاملي تباين وانقسام اجتماعي بين التابعين، كما بينهم وبين القوى المهيمنة. وستعتمد مناقشتنا لهذه المسألة على عمل ميداني باشرناه في عدد من الأحياء الحضريّة بالمدينة قبيل الانتفاضة الثوريّة التي انطلقت في مارس 2011، وعلى مقابلات مع ناشطين شباب خلالها([4]). وسوف نرسم بإيجاز، معالم إعادة تشكيل دمشق تحت حكم نظام الأسد، بما يمكّن من إجراء فحص دقيق للذّوات التّابعة المتباينة في خضمّ الانتفاضة الشعبيّة.

 التّابع والشّعبي ومسألة الفاعليّة السياسيّة

قبل المضيّ في تحليلنا المقارن لدمشق والقاهرة قبل الثورتين وخلالهما، ينبغي تسجيل ملاحظة بشأن استخدامنا لمقولة "التابعين الحضر". فكما سيتبيّن لاحقاً، نستخدم مصطلحي "القوى التابعة" و"القوى الشعبيّة" كمترادفين، وذلك بهدف التقريب تحليليّاً بينهما، إن لم يكن المماهاة بينهما. فـ"القوى الشعبيّة" هي المقولة المستعملة في دراسات الشرق الأوسط العربيّ للإشارة إلى الفاعلين الاجتماعيّين المتعدّدين والمتمايزين بصفة أساسيّة عن النخب الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة([5]). وعلى الرغم من كون هؤلاء الفاعلين غير متجانسين ولا يشكّلون كياناً متمايزاً، إلا أنهم يعتمدون أطراً مرجعيّة اجتماعيّة وثقافيّة مشتركة ويتقاسمون درجةً من القرب الاجتماعي والمكاني، من خلال إقامتهم في أحياء المدينة الموسومة عادةً بـ"الأحياء الشعبيّة". بالإضافة إلى ذلك، فإنّ "الشعب" و"القوى الشعبيّة" هما المصطلحان المستخدمان في العربيّة للدلالة على الفاعلين من غير النّخبة وغير المتجانسين اجتماعيّاً. وقد اكتسب هذان المصطلحان رمزيّةً كثيفة وغنيّة عبر تاريخ طويل من الاستخدام، بدءاً من وصف المناهضين للاستعمار المنخرطين في نضالات التحرّر، وصولاً إلى وصف بعض حاملي الأصالة الثقافيّة والبسالة الاجتماعيّة بشكل رومنسي، أو الإشارة، بقصد التحقير أحياناً، إلى "الشعب" بما هو كتلة جاهلة إمّا لا مبالية أو ميّالة إلى الفورات العنيفة. وقد استكشفت مدوّنة من العمل البحثي المتأثّرة بـ"كتابة التاريخ من تحت" والتصوّرات الغرامشيّة عن الهيمنة المضادّة، إلى جانب مقاربات نظريّة أخرى، الفاعليّة السياسيّة لـ"الشعب" من خلال الاهتمام بالفضاءات الشعبيّة وحقول الفعل الاجتماعيّة والسياسات اللانظاميّة (انظر مثلاً: Singerman، 1995؛ Gelvin، 1998).

وعلى غرار مصطلح "القوى الشعبيّة"، استخدم مصطلح "التابع" لوصف الفاعلين الاجتماعيّين المستبعدين من المجال السياسي النظامي، والمهمّشين الذين تعتبرهم المنظورات الثقافويّة كما الاقتصادويّة فاقدين للفاعليّة السياسيّة. وقد تمّ تطوير بناء مفهوم "التّابع" للوقوف في وجه من ينفي الفاعليّة السياسيّة عن المجموعات الخاضعة. وقد جرت نقاشات بحثيّة عدّة حول مختلف استخدامات المصطلح ومزاياه، إلا أنّنا لن نتناولها في هذا المقام (انظر: O’Hanlon & Washbrook، 1992؛ Prakash، 1992؛ Lal، 2001). وبالمقابل، نريد أن نوضّح الأرضيّة المفهوميّة المشتركة بين مصطلحي "القوى الشعبيّة" و"القوى التّابعة" من أجل غايات تحليليّة. فقد تمّ تشكيل التابع، انطلاقاً من كتابات غرامشي، على يد مؤرّخين هنود معاصرين سعوا إلى كشف الصراعات والمساهمات السياسيّة، التي غيّبتها الكتابة التاريخيّة الكولونياليّة والنخبويّة، للسكّان المتمايزين عن النخبة والعالقين في شباك علاقات الهيمنة([6]). وفي هذا المشروع الجديد لكتابة التاريخ الهندي، تمّ التفكير في غير النخب بوصفهم "الشعب"، وفي التابعيّة بوصفها حالة/شرط خضوعهم (انظر: Guha، 1988؛ Spivak، 2005؛ Roy، 2011)([7]). ونريد الاعتماد على هذا المفهوم المبكّر للتّابع، والتواصل مع تفكّرات أكثر راهنيّة حول التحضّر التّابع من أجل إثراء التحليل المتعلّق بالقوى الشعبيّة الحضريّة في الشرق الأوسط، وخصوصاً دورها في الثورات الرّاهنة([8]). ذلك أنّ الأسئلة التي طُرحت حول "القوى الشعبيّة" هي نفسها التي أثيرت كذلك حول "التّابعين" الحضر، وأهمّها تلك التي تخصّ موضعهم السوسيو-مجالي، ومجالات فعلهم، والعوامل التي تشكّل ذاتيّاتهم السياسيّة (انظر: Roy، 2011). وهنا، نحن نجني منافع الترجمة التحليليّة.

تراجع اقتراحات أنانيا روي (Ananya Roy) النقديّة حول التحضّر التّابع، المعادلات التقليديّة بين التابعيّة والحرمان، وبين اللانظاميّة والفقر. حيث يضع نقد روي البناءات الجامدة والجوهرانيّة للتّابع موضع استشكال، لأنّها مقولات سوسيولوجيّة قائمة على شروط طوبوغرافيّة وأنطولوجيّة. وبتحدّيها تصوّرات الفضاءات الحضريّة اللانظاميّة بوصفها "مَلَكَة المحرومين"، والتي تحدّد طوبوغرافيا مخصوصة بالتابعين، تشير روي إلى الطبيعة المتباينة للانظاميّة التي تُنفذّها الإدارة الحكوميّة وممارساتها التعديليّة. وفي توافق مع سبيفاك (2005)، تنتقد روي تعيين التّابع في الشعبي، وهي حركة تنسب، تبعاً لسبيفاك، هويّةً للتّابع، وتضفي بالتالي على التّابعيّة طابعاً أنطولوجيّاً([9]). لكنّنا نجادل بأنّ إضفاء طابع أنطولوجي على التّابع ليس حتميّاً إذا اعتبرنا أنّ هويّة الشعبي تُنتج علائقيّاً وسياقيّاً، وإن كانت الهويّة الشعبيّة ترتكز على تقاليد تاريخيّة ثقافيّة وتنزع نحو الاستمراريّة والثّبات. أضف إلى ذلك أنّ "التّابع" و"الشّعبي" مقولتان متشابكتان بمعنى إذا كانت التّابعيّة تفترض وجود فاعليّة عند الذّات الخاضعة، فإنّ "الشعبي"، بما هو هويّة، لا يفلت بدوره من ممارسات السلطة وما يتّصل بها من تراتبيّات معياريّة وماديّة تجعل منه خاضعاً. وبهذا المعنى، فإنّ "الشعبي" يحافظ على الهويّة باعتبارها عنصراً أساسيّاً في ممارسات الهيمنة والاحتجاج. والحقّ أنّ هذه الهويّة تدخل في صناعة الذّات المعارضة، أي أنّها عنصر في الفاعليّة السياسيّة.

كيف توجّه هذه الاقتراحات النظريّة تحليلنا للحالتين المصريّة والسوريّة، وكيف تثري هاتين الحالتين فهمنا للشعبي والتابع؟ إنّنا نأمل من خلال مقاربة القوى الشعبيّة بوصفها تابعة، في تحديد طبيعة تابعيّتها. ففي القاهرة، يظهر خضوع القوى الشعبيّة وتنشأ الذاتيّات المعارضة خلال التفاعلات مع الحكومة والشّرطة في سياق تقترن فيه السياسات النيوليبراليّة والأمنيّة. وبذلك، فنحن لا نقترح النظر إلى الأحياء الشعبيّة بوصفها مكان عيش المحرومين، ولا ننظر للانظاميّة بوصفها حالة أنطولوجيّة. فملاحظات روي حول اللانظاميّة بما هي نتاج علاقات القوّة تبدو محقّة حين ننظر إلى تموقع أحياء دمشق الشعبيّة المتمايز تجاه الانتفاضة، حيث لا يعني احتلال الفضاء الحضري اللانظامي بالضرورة معارضة النظام. والواقع أنّ الانقسامات بين السكّان التابعين تحدث ضمن عمليّة الإنتاج اللانظامي للفضاء. وفي المحصّلة، نحن نهتمّ من خلال تعيين التّابع في الشعبي، بالتّفكير في مجالات الفاعليّة السياسيّة ضمن علاقتها بالذاتيّات التي تنبثق عن تفاعلات القوى الشعبيّة مع الحكومة. وبدل الانطلاق من افتراضات مسبقة حول الفاعليّة السياسيّة للتّابعين، سنستخلص العوامل المعقّدة التي تشكل تموقع التّابعين في شبكة السّلطة والسّيطرة.

 القوى الشعبيّة والمقاومة المجاليّة في الثورة المصريّة

غذّى الاحتشاد والنشاط الشعبي الثورة المصريّة المتفجّرة وما يزالان يدعمانها. ولا يمكن فهم الدّور الذي تلعبه القوى الشعبيّة بالكامل إلاّ عبر ربطه بموقع تلك القوى في التشكيلة الحضريّة، وأشكال انتظامها الجمعي، وأطر نشاطها، ورأسمالها الاجتماعي والرّمزي، وبالأخصّ جميع أطر تفاعلها مع الحكومة. فقد شكّلت جميع تلك العوامل كيفيّة انخراطها في الاحتجاجات وأفعالها ضدّ النظام ومؤسّسة حكمه الرئيسيّة، ونعني بها الشّرطة. وفي الآن نفسه، تتمفصل سجلاّت نشاط القوى الشعبيّة ومقاومتها المجاليّة مع مشاريع سياسيّة أوسع. بل إنّ الاحتشاد والتحركّات المحليّة يُوجّهها النشاط المتمركز حول ساحة التحرير. ولسبر معالم مساهمة التابعين في الثورة والأشكال التي اتخذتها، سننطلق من رصد سريع لموقع الأحياء الشعبيّة في المشهد الحضريّ كي نستخرج الخصائص الأساسيّة، وأهمّها لانظاميّة الأنشطة الاقتصاديّة والسكن، التي وفّرت مقداراً من الاستقلاليّة الذاتيّة لهذه القوى وغذّت في المقابل علاقتها الصراعيّة مع الحكومة. وسنفحص، في القسم الفرعيّ الثاني، خصائص المشاركة الشعبيّة وطبيعتها كي نُلقي الضوء على تمظهر بعض ديناميّات التكوين الحضري والتناقضات المتعيّنة ضمنه في الثورة.

 القاهرة الشعبيّة: اللانظاميّة وجذور التمرّد

سنلخّص في هذا المقام مظاهر إعادة تشكيل القاهرة منذ السبعينات، خصوصاً من خلال ظهور الأحياء الشعبيّة الجديدة بوصفها فضاءات استقلال ذاتي نسبي، وتمرّد، واحتجاج ضدّ الحكومة. وقد جرى أغلب هذا التوسّع الحضري بشكل لانظاميّ ومستقلّ عن تخطيط الدّولة، حيث أنشأ النّاس العاديّون أحياءً سكنيّة إمّا باحتلال أراضٍ تابعة للدّولة أو البناء على أراضٍ زراعيّة، وهو ما يعني في كلتا الحالتين خرق الإجراءات الرسميّة المنظّمة لإقامة المباني. كما كانت العديد من الأحياء الشعبيّة العتيقة ساحات توسّع لانظامي. هذا البعد من إعادة التشكل الحضريّ يجب النّظر إليه على خلفيّة تخلّي الدولة عن لعب دورها في توفير الرّفاه وتطبيقها سياسات عامّة اقتصاديّة نيوليبراليّة منذ أوائل الثمانينات، قبل أن تبلغ أوج تطوّرها في التسعينات([10]). فقد كان نموّ التشغيل اللانظامي والخصخصة المطّردة للخدمات الاجتماعيّة عاملين في دفع القوى الشعبيّة نحو فكّ ارتباطها بالدّولة وتحصيل مقدار من الاستقلاليّة الذاتيّة عنها. وقد ظهرت هذه الاستقلاليّة الذاتيّة من خلال إنشاء مؤسّسات و آليات إدارة نزاعات ذات قاعدة جماعويّة، والدعم المحلّي لقيم التّفاعل الاجتماعي وشبكات التضامن الاجتماعي Ismail)، 2006). وفي محاولة منها لاحتواء هذه الاستقلاليّة الذاتيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة المتنامية، كثّفت الدولة سياساتها الأمنيّة عبر توسيع رقعة رقابتها الأمنيّة على الأحياء الشعبيّة.

لقد انبثق عن مسار إنشاء الأحياء الجديدة، إلى جانب عوامل أخرى مثل تفشّي الأنشطة الاقتصاديّة اللانظاميّة فيها، علاقة صراعيّة مع الحكومة مع محاولة أعوان الدولة ووكالاتها السّيطرة على هذه الأحياء باسم القانون والنّظام. فقد كان التفاعل مع أولئك الأعوان وتلك الوكالات، خصوصاً منها الشّرطة، عنصراً بنيويّاً في مسار الحياة اليوميّة لسكّان الأحياء اللانظاميّة ومناطق المدينة القديمة. فقد شنّت الشرطة حملات منتظمة ومتعدّدة في الأحياء الشعبيّة بهدف فرض السّيطرة على الفضاء، وإدارة سلوك السكّان وأنشطتهم. وتكشف سرديّات اللقاءات مع الشّرطة تطوّر بنية شعور مخصوصة، يقع الإذلال في القلب منها (انظر: Ismail، 2006 ; 2012). فعادةً ما تتضمّن مثل تلك الحوادث قيام الشرطة بحملات على الأسواق ومصادرة السلع وموازين البيع. وتحمل هذه الحوادث المنتظمة تشابهات مع حادثة السّوق التي دفعت بمحمّد البوعزيزي إلى الإقدام على فعله الخارق بالانتحار حرقاً: حيث يصفع الأعوان الباعة ويضربونهم ويلقون بهم أرضاً ويصادرون بعنف الموازين الضروريّة لكسب المعاش في السوق. وبذلك تساهم هذه التجارب في صنع ذات معارضة قد تنتقل في أيّ لحظة إلى الفعل فرديّاً أو جماعيّاً.

 التابعون الحضر في معركة القاهرة:

في صور الثّورة المشحونة رومنسيّاً، تظهر احتجاجات التحرير كنموذج على المقاومة المتحضّرة، فهي سلميّة و"مثقّفة" ومساواتيّة. والفاعل الرئيسيّ، في هذه التصويرات، هي الطبقات الوسطى، حيث أنّ الشّباب المتعلّم هو من يقودها ويُلهمها، فيما تُقصى القوى الشعبيّة من هذه السرديّة، وخصوصاً سكّان أحياء المدينة اللانظاميّة([11]). كما يُستبعد منها أيضاً العديد من مشاهد العنف الذي جرى في شوارع ساحة التّحرير الخلفيّة، بما تضمّنه من حرق لمراكز الشرطة، وقد بلغت 99 حالة على مدى البلاد([12]). وقد حدثت الاعتداءات على قوّات الشّرطة أساساً في المناطق ذات الكثافة السكانيّة العالية الموصومة طويلاً في الخطاب الرّسمي العامّ بكونها "عشوائيّات" المدينة، مثل بولاق الدكرور والمطريّة وإمبابة، والأحياء الشعبيّة القديمة مثل باب الشعريّة والجمّالية. وقد اقتحم المتظاهرون في هذه المناطق بنايات الشّرطة وأحرقوها وأشعلوا النيران في مدرّعاتها. لذلك أجزم أنّ الثورة، بالنّسبة لهؤلاء المتظاهرين، كانت ثورة ضدّ الشّرطة (انظر: Ismail، 2012). ذلك أنّ مراكز الشّرطة كانت، خلال الفترة الطويلة التي اشتغل فيها ضبّاط الشرطة كأعوان حكم يوميّ في الأحياء الشعبيّة، أماكن ممارسات عنيفة من تعذيب واعتداء لفظي وإذلال.

وكان الهدف من هذه الهجمات تصفية حسابات مع أعوان الشّرطة، وتعطيل تحرّكاتهم كي يُمكن للاحتجاجات أن تتواصل. وكمثال على ذلك، يروى أنّه في حيّ السيّدة زينب القديم توجّه عشرة آلاف ساكن نحو مركز الشّرطة حين حاولت قوّات الأمن المركزيّ تعطيل مسيرة في اتجاه ساحة التحرير، وبدأت في إطلاق النار على المتظاهرين. وقد أحرق المتظاهرون المبنى بعد أن أطلقت عليهم الشّرطة الرّصاص وقتلت العديد منهم. وترافق ذلك مع هجمات أخرى في الأزبكيّة وعين شمس والسّهل والبساتين، وعديد المناطق الأخرى، في ما وصفته بعض التقارير الصحفيّة بأنّه موجة مظاهرات شعبيّة من أجل السّيطرة على مباني الشّرطة وتطهيرها (انظر: al-Youm al-Sabi’, 30 Jan. 2012). ويؤكّد جمال بشير، وهو ناشط شبابي وعضو سابق في "الوايت نايتس أولتراس" (White Knights Ultras) إحدى مجموعات مشجّعي فريق الزمالك، مركزيّة المواجهات مع الشرطة التي جرت في الأحياء بالنّسبة للثّورة. حيث يقول في تعليق نقدي على السّرديات التي تُصوّر الثورة على أنها حدث سلمي قائم على احتجاجات شباب الطبقات الوسطى في ساحة التحرير: "يجب أن لا ننسى ما جرى في الفترة الفاصلة بين 25 و28 يناير، هذا الجزء المحجوب من التّاريخ... حيث كانت هناك مواجهات دائمة في العمرانيّة مثلاً، كما كان هناك أناس في الطالبيّة يحاولون بلوغ وزارة الخارجيّة. فقد تواصلت المعركة لفترة طويلة بعد أن طُردت النخبة السياسّة من ساحة التحرير بالغاز المسيّل للدموع". ويضيف: "استمدّت هذه الثورة قوّتها من إحراق هؤلاء الحرافيش (وهو مصطلح يستخدم للدلالة على "الرعاع" المثمّنين في كتابات الروائي المصري نجيب محفوظ) مراكز الشرطة وانهيار وزارة الداخليّة. وقد استغلّت النخب السياسّة هذا الأمر من أجل تركيز الصراع في ساحة التحرير. ودون هذه المواجهة، لم يكن للثورة أن تكون، فقد تم تسوية جميع مراكز الشرطة بالأرض، لأنّ النّاس كانوا يموتون داخلها طيلة سنوات" (ورد في: Hussein، 2012).

ولقد كانت الهجمات على مراكز الشرطة محور جدل صاخب منذ تنحية مبارك. ففي حين صوّرتها وزارة الداخليّة وبعض شرائح الإعلام الجماهيري على أنّها من فعل البلطجيّة والمخرّبين والمجرمين، يؤكّد ناشطون بارزون على أنّ عمليّات حرق مراكز الشرطة كانت فعلاً عضويّاً نابعاً من الثورة([13]). وبهذا،  ترفض السّرديات الرسميّة الاعتراف المعنوي بمشاركة شباب الطبقات الشعبيّة في الثورة. وفي تطوّر معبّر للأحداث، أصدرت المحاكم النّاظرة في القضايا المرفوعة ضدّ أعوان الشّرطة المتّهمين بإطلاق الرّصاص على المتظاهرين في الأحياء الشعبيّة، أحكاماً تُبرّئ هؤلاء الأعوان. وتبعاً لحيثيّات الأحكام، فقد تبنّت المحاكم وجهة النظر القائلة بأنّ تلك الاعتداءات ارتكبها مخرّبون ومندسّون، ولذلك فهي لا تقع في إطار أحداث الثورة (انظر: Izzat، 2012). وبهذا أسقطت صفة الثوريّين والشهداء عن الفاعلين الشبّان الشعبيّين الذي قضوا على أيدي قوّات الشرطة في الأحياء الشعبيّة، ممّا سدّ أمام عائلاتهم كلّ سبيل للمطالبة بالتعويض، ناهيك عن الاعتراف المعنوي باستشهاد أبنائها وبناتها. وتختزل تلك القرارات الصادرة عن المحاكم والنقاشات العامّة التي دارت حولها، النزاعات حول دور القوى الشعبيّة في الثورة، وطبيعة مشاركتها فيها.

إنّ رصدنا لانخراط الأحياء الشعبيّة في الثورة يسعى إلى إضفاء الأهميّة عليها بما هي فضاءات مقاومة، والتأكيد على أنّ المواجهات مع قوّات الأمن كانت متجذّرة مجالياً بحيث أنّها تُعبّر عن تناقضات متعيّنة في فضاءات الأحياء الشعبيّة([14]). وحجّتنا في ذلك أنّ مشاركة القوى الشعبيّة في الثورة، على نحو ما لُوحظت في المواجهات المتركّزة حول الأحياء، تكشف عن أبعاد مقاومة متشكّلة مجاليّاً ومحليّاً. وإضافة إلى مركزيّة تلك المعارك بالنسبة للثورة، فقد كانت أيضاً استعادة لصراعات عالقة مع أعوان الحكم ومؤسّساته. وبذلك، تزاوجت الهموم والتجارب المحليّة المتمفصلة مع مشروع التغيير الوطني، في الاحتشاد الجماهيري بساحة التحرير.

وقد اتخذت المشاركة المتركّزة حول الأحياء في الثورة، شكل معارك شوارع استخدمت فيها الحجارة والزجاجات الحارقة في مواجهة رصاص قوّات الأمن. وقد أدّت الصدامات مع الشرطة وحرق مراكزها إلى تراجعها وتقويض قدرتها على منع مسيرات المتظاهرين من بلوغ ساحة ميدان التحرير. ويبرز ذلك جليّاً في المعارك التي احتدمت بأحياء المدينة القديمة، مثل ما جرى في المنطقة المعروفة بالقاهرة الفاطميّة، في حيّ بولاق أبو العلاء، حين تحوّلت، بحكم قربها من ميدان التحرير، إلى شوارع خلفيّة للمواجهات مع الشرطة. وفيما يلي، سنتناول الأحياء التي شاركت في المعارك ضدّ قوّات الشرطة، ونلخّص العلاقات الصراعيّة بينها وبين الحكومة وطبيعة العداء المتجذّر بينهما مجالياً. وفي هذا الخصوص، يتوافق تركيزنا على الفعل المحلّي، مع طرح أرتورو إسكوبار (Arturo Escobar) (2001) حول إمكانيّة فهم هذه الصراعات المتمركزة مكانيّاً بوصفها "استراتيجيّات تموقع تابعة". فقد هيّأت هذه الاستراتيجيّات الأرضيّة لانخراط القوى الشعبيّة في الثورة.

وتقدّم معركة القاهرة الفاطميّة، التي جرت في حيّ الجمالية القديم وسوق الموسكى الشعبي، مثالاً واضحاً عن المشاركة المتعيّنة محليّاً للقوى الشعبيّة في الثورة. فقد احتدمت المعركة بين الناس وقوّات الشرطة في الأيّام الأولى للثورة بالممرّات الرئيسيّة لسوق الموسكى وأزقّته. ولفهم هذا الأمر، ينبغي علينا سبر طوبوغرافيّة المنطقة المعلّمة بلقاءات التجّار والسكّان اليوميّة مع رجال الشرطة وعلاقاتهم العدائيّة بهم. فقد اقترن هذا العداء بحملات الشرطة على الأسواق التي كانت تتخلّلها عمليّات مصادرة يوميّة للبضائع. ونظراً إلى أنّ المنطقة تجتذب عدداً كبيراً من السيّاح، فقد كانت تخضع لمراقبة أمنيّة مفرطة، وهو ما جعل عمّال المحلات والورش في المنطقة بصفة دائمة عرضةً لممارسات الاشتباه والتحرّي البوليسيّة (Ismail، 2012). وضمن هذا الوضع، تتّصل معارك الشارع المتمركزة في الأحياء بتلك الصراعات المستمرّة ضدّ ممارسات الحكم التي تُضيّق فرص كسب المعاش في المنطقة. وعلى غرار الأحياء الأخرى، فقد حفّزت شؤون الحكم وتجاربه المحليّة، بخصوصيّاتها الموضعيّة، نشاط المنطقة ومشاركتها في الاحتجاجات الثوريّة.

ولم تكن القوى الشعبيّة في هذه الأحياء متماثلة أو متجانسة بطبعها، بل متمايزة بحكم موقعها ضمن البنية الاجتماعيّة المحليّة. وهذا التمايز ناتج عن اختلاف أنماط الاندراج في الاقتصاديّات الوطنيّة والعولميّة، كما أنّه يكشف عن ديناميّات تغيّر اجتماعي-اقتصادي في صفوف الطبقة الشعبيّة. فمع تحرير التجارة، مثلاً، ظهرت فئات جديدة من الباعة والتجّار نتيجة الفرص التي أوجدها استيراد السلع الاستهلاكيّة من الصين. وفي هذا الخضمّ، أصبح باعة الأكشاك والباعة المتجولّون قادرين على مزاحمة التجّار القدامى ومزاحمة تجارتهم. وقد صعّد ذلك من المنافسة، وكان له أثر مشهود على الإنتاج المعملي المحلي. ففي سياق تقييم هذه التحولات التي عرفتها السوق الشعبيّة، أكّد لي أحد التجّار المتوسّطين بأنّ "رؤوساً قد قُطعت"، أي أنّ الباعة المتجّولين الصغار، باستغلالهم الفرص التي وفّرتها إمكانيّة استيراد السلع الرخيصة من الصين، أصبحوا يزاحمون تجّار المنطقة المتوسّطين وحتى الكبار منهم. وقد خلقت هذه "التسوية" توتّرات بين أصحاب الدكاكين والباعة المتجوّلين، ما أدّى أحياناً إلى نشوب مواجهات بينهم تطلبّت تدخّل رجال الشرطة.

وفي ما وراء تراتبيّات السوق اللانظاميّة، وجد تجّار وباعة الأسواق الشعبيّة مثل سوق الموسكى أنفسهم في منافسة غير متعادلة مع رجال الأعمال الكبار المرتبطين بالنظام والنخب الحاكمة. فقد راج حينها الحديث عن تأثير رجال أعمال على التجارة والإجراءات الجمركيّة بهدف إقصاء التجّار من الأسواق اللانظاميّة، وهذا ما ثبت سنة 2010 حين تمّ فرض "شهادة جودة" على السلع الصينيّة وحظر استيراد أجهزة الهاتف الجوّال من الصين. وقد أثّرت هذه الإجراءات سلبيّاً على التجار القدامى كما الباعة الجدد الصغار، نظراً لارتباط بعضهم ببعض من خلال الاقتراض اللانظامي والترتيبات الماليّة وشبكات التزوّد والتوزيع، وهي شبكات تنتظم عادةً على قاعدة علاقات القربى والانتماء المناطقي. فعلى الرغم من تمايز التجار والباعة اقتصاديّاً على أساس حجم المعاملات والرأسمال المراكم، إلاّ أنهم قد يجتمعون في مواجهة النظام وأعوان الدولة، على أرضيّة مشتركة تقوم على ترتيبات السوق والقرب السوسيو-مجالي والأحقاد المشتركة ضدّ السياسة العامّة التي تحابي نخب الأعمال. ولذلك، يجوز القول بوجود بنية ذاتيّة جماعيّة جذّرت الفعل الجماعي للتابعين الحضر المتمايزين.

وعلى غرار الجمّاليّة، سهّل بولاق أبو العلا، وهو حي شعبي قديم مجاور لميدان التحرير، حركة المحتجّين ووفّر لهم معبراً آمناً نحوه. ففي 27 يناير، انتفض سكّان أبو العلا في وجه قوّات الأمن المركزي لمنعهم من دخول المنطقة (نعتمد في هذا التحليل على: Ismail، 2012). وقد ارتبط الدفاع عن المكان الذي تبدّى في معارك الشارع، بالصراعات المتواصلة من أجل الحفاظ على الحيّ وعلى الحياة المحليّة ضدّ تحالف الدولة ورأس المال العولمي من أجل الاستحواذ على عقارات الحيّ الثمينة. ففي الأيّام الأولى للثّورة، رفع المتظاهرون شعارات حول مشاغل محليّة، وطالبوا بحقوق اجتماعيّة واقتصاديّة، وبذلك اندمجت مطالبهم مع المشروع السياسي لميدان التحرير الساعي إلى إسقاط النظام([15]). لقد تمحورت علاقات بولاق أبو العلا الصراعيّة مع الحكومة والشرطة حول صراعات من أجل حقوق السكن، وعلى الحفاظ على استقلاليّة ذاتيّة جماعويّة من خلال المطالبة بأشكال حوكمة محليّة.

لقد كان الحيّ، الواقع في قلب القاهرة، موضوع مشاريع "تجديد حضري" عموميّة وخاصّة متتالية، كان آخرها ما خطّط له عدد من الشركات العقاريّة متعدّدة الجنسيّات وباعثون حضريّون كبار بهدف حيازة الأراضي الفارغة والمباني القديمة المتداعية. وكانت خطط المستثمرين العقاريّين في باطنها، تروم تحويل قطاعات من بولاق أبو العلا إلى مراكز سكنيّة وتجاريّة باهظة الثمن. وفي الأثناء، أعلنت محافظة القاهرة في "مخطط القاهرة 2050" الذي تمّت صياغته في شكل مقترح لتحويل القاهرة إلى "عاصمة عولميّة"، نيّتها قي إعادة حيازة عدد من المباني السكنيّة والمتاجر. وفي توافق مع هذا المخّطط، قامت الشرطة في السنوات القليلة السابقة للثورة بإجلاء قسم من سكّان الحيّ بالقوّة بعد انهيار مساكنهم. والحقّ أنّ استخدام مثل هذه الممارسات الإداريّة والقهريّة إنّما تمّ من أجل تحويل مناطق من بولاق أبو العلا إلى أحياء فقيرة، حتّى يسهل إجلاء أهلها وهدم مبانيها. وقد طالب سكّان بولاق أبو العلاء خلال التحاقهم بالاحتجاجات الثوريّة، بالحقّ في السكن والعيش في ظروف صحيّة (انظر: Luccini and Morandini، 2011)، فتكثّف الصراع بين الرأسماليّة العولميّة والسكّان على مدى السنوات القليلة الماضية، هو ما جعل مشاغل الأحياء الشعبية مركزيّة في مجرى الثورة([16]).

بولاق أبو العلا (القاهرة)

كما كانت هناك صراعات أخرى مع الحكومة أيضاً، تتعلّق بتدخلات الشرطة لفرض الأمن العامّ. فأبو العلا، مثله مثل بقيّة الأحياء الشعبيّة، شهد قيام أشكال حوكمة داخليّة، مثل المجالس العرفيّة، بهدف تسوية النزاعات وتفادي تدخّل الشرطة. وحين تفشل هذه المؤسّسات أحياناً في أداء وظيفتها وتلجأ الأطراف المتصارعة إلى العنف، فإنّ ذلك يُوفّر ذريعة لقوّات الشرطة للتدخّل وفرض سيطرتها وحضورها البارزين والمباشرين. كما تلجأ الشرطة أيضاً إلى ممارسات الاحتواء والسيطرة غير المباشرة عبر وساطة الوجهاء المحلّيين الموالين للنّظام وأعضاء مجلس الشعب ورؤساء البلديّات، بل إنّ هذه الوحدات كثيراً ما تتداخل فيما بينها. وكمثال على ذلك، كان أحد أعضاء الحيّ في مجلس الشعب جنرالاً سابقاً في جهاز أمن الدولة حظي بدعم وزير الداخليّة السابق حبيب العادلي (انظر: al-Masry al-Youm, 19 oct. 2010)). كما كان من بين وجوه السلطة والوساطة ملاّكاً لشركات كبرى كانوا في نفس الوقت أعضاءً في الحزب الوطني الديمقراطي المنحلّ (مقابلة بحثيّة مع تاجر معدن في بولاق أبو العلاء، أفريل 2010). فالمنافسات السياسيّة والاقتصاديّة في الحيّ كانت تدور خلال انتخابات مجلس الشعب حول السيطرة على عقاراته وأنشطته التجاريّة المختلفة، وهي تشير إلى ما سبق أن أشرنا إليه حول اقتران الحكم البوليسي بالمصالح الاقتصاديّة الذي عزّزته السياسة العامّة النيوليبراليّة.

إنّ تمفصل الصراع المتعيّن محليّاً مع الاحتجاجات الوطنيّة والنشاط المتمركز حول ساحة التحرير البيّن في حالة القاهرة الفاطميّة وبولاق أبو العلا، يمكن ملاحظته أيضاً في الأحياء الشعبيّة الجديدة. ففي أحياء مثل بولاق الدكرور والعمرانيّة وإمبابة، اقتحم الأهالي مراكز الشرطة وأحرقوها، كما قاموا في 25 يناير 2011 بمسيرات نحو ميدان التحرير، مقدّمين دعماً حيويّاً للاحتشاد الوطني في ذلك اليوم. وقد عمل الناشطون الشبان الذين دعوا إلى الاحتجاج يوم عيد الشرطة مع سكّان بولاق الدكرور على تنظيم مسيرة يوم 25 يناير انطلقت من شارع النّاحية، أحد شوارع الحيّ الرئيسيّة (مقابلة بحثيّة مع خالد عبد الحميد، أحد المنسقين الرئيسيين لاحتجاجات يناير، القاهرة، 2 مارس 2011)([17]). وقد نجح خمسة عشرة ألف شخص، من قرابة ثلاثين ألف شاركوا في انطلاق المسيرة، من بلوغ ميدان التحرير (بناء على ما ورد في: Ismail، 2012). وفي حين نسّق أهالي بولاق الدكرور مع المنظّمين الشبّان في ميدان التحرير، كانت المسيرات في الأحياء المجاورة، مثل حيّ الفيصل، من تنظيم الأهالي أنفسهم. والحق أنّ تجربة المواجهة مع الشرطة وقوّة مشاعر العداء تجاه الحكومة لدى أهالي أحياء مثل بولاق الدكرور، جعلت من تلك الأحياء فضاءات مثاليّة للاحتشاد في أيّام الثورة الأولى. ففي مواجهاتهم اليوميّة مع قوّات الشرطة، طوّرت القوى الشعبيّة ممارسات متدرّجة تصاعديّاً من التجنّب إلى المواجهة (انظر: Ismail، 2006). وقد أرست هذه الممارسات المعيشيّة اليوميّة إطاراً من العلاقات وسجلاّت فعل مخصوصة تمّ تفعيلها في الصدامات مع الشرطة خلال الثورة.

وتبرز هنا أهميّة الدور الذي لعبه أعضاء مجموعات مشجّعي كرة القدم من الألتراس في تنظيم المسيرات نحو ميدان التحرير. فقد قاد هؤلاء الشبّان، الذين ينتمون إلى قطاعات مجموعات الألتراس المنتظمة قاعديّاً في الأحياء، مسيرات من أحياء الهرم وفيصل وغيرها من الأحياء الشعبيّة. وتبعاً لعدّة ناشطين، تعرفّ الألتراس، الذين يتمتعون بخبرة سابقة في مجابهة التكتيكات التي تعتمدها الشرطة للسيطرة على الحشود، على نقاط الضعف في خطوط الأمن التي أقامتها الشرطة وخطّطوا لاختراقها (مقابلات بحثيّة مع ناشطين في ألتراس الأهلي، القاهرة، مايو 2012). وتُظهر المسيرات التي انطلقت من الأحياء الشعبيّة علامات فعل منظّم، لا بسبب احتشاد بعض قادة الاحتجاج ونشطائه في ميدان التحرير في بولاق الدكرور فحسب، بل كذلك لأنّ شباب الألتراس من الأحياء الشعبيّة ناقشوا الدعوة الفايسبوكيّة إلى "يوم الغضب" وتجادلوا حول شكل مشاركتهم هل تكون كألتراس أم كأفراد. وقد اختاروا، في البداية، الانضمام إلى مسيرات الأحياء على أساس فردي قبل أن يقرّروا في 28 يناير المشاركة تحت رايات الألتراس.

لقد انخرط شباب الأحياء الشعبيّة في الاحتجاجات توجّههم في ذلك علاقاتهم مع قوّات الشرطة، خاصّة وأنهم كانوا الهدف الرئيسي لممارسات ضبطيّة مثل الاشتباه والتحرّي. ففي بداية الثمانينات، كانت المعارضة الشبابيّة تعبّر عن نفسها من خلال النشاط في الجماعات الإسلاميّة الحركيّة (Ismail، 2000). ومع بداية التسعينات، أزاحت المجموعات الدينيّة الدعويّة وأخويّات الأحياء المجموعات المتطرّفة لتغدو قاعدة تنهض عليها هويّة شبابيّة ذات قاعدة مجاليّة قويّة تستثمر فضاءات الحيّ مثل الأزقّة وورش العمل والأسواق اللانظاميّة. وبقدر ما نجد هذه الهويّة منتجة ضمن علاقات السّلطة، بقدر ما نجد "الشعبي" بوصفه هويّة، متعيّناً في "التابع" بما هو موقعيّة. بل إنّ هذه الهويّة تدخل بدورها في صنع الفاعليّة السياسيّة. وعلى سبيل المثال، فإنّ الشباب الذين تحدّثنا إليهم خلال مقابلاتنا حول علاقاتهم مع الشرطة، كانوا يستنكرون دائماً إخضاعهم من قبل رجال الشرطة. حيث يشيرون صراحة إلى التناقضات والتوتّرات بين الهويّة الذاتيّة لـ"ابن البلد" أو "الصنائعي الحرّ" التي يتعرّفون على أنفسهم من خلالها، وبين إخضاعهم إلى ممارسات الإذلال البوليسيّة (Ismail، 2006 ; مقابلات بحثيّة مع ناشطين شباب، القاهرة، فبراير 2011 ومايو 2012). فيقول رامي، وهو ناشط ألتراس أهلاوي قاد مسيرة من حيّ الهرم في 25 يناير، بخصوص الصدامات مع الشرطة في الشارع والملعب: "إنها طريقة لنقول (لرجال الشرطة) لقد تغلّبنا عليكم. لقد بعتم البلد، أنتم غير جديرون بالاحترام. أنتم أذللتموني ودستم على كرامتي. أنتم أجبرتموني على نزع ملابسي عند دخول الملعب. ما دمتم تعاملوننا بهذه الطريقة، فسأجيبكم على طريقتكم وبثقافتكم. يعبّر ذلك عن حالة عشتها... فقد ضُربت، واختبرت الذلّ. وكنت، طوال خمس وعشرين سنة، غير فاعل" (مقابلة بحثيّة، القاهرة، مايو 2012)([18]).

لذلك يشدّد هذا التحليل لاحتشاد القوى الشعبيّة ومشاركتها في الثورة على أنّ البنى التحتيّة للاحتجاج تكمن في السيرورات الصغرى للمعيش اليومي التي تطوّرت على مستوى الحيّ، وفي أشكال الانتظام الجماعوي وأنماط فعل الشباب الشعبي وتفاعله مع حكم الدولة. ذلك أنّ الفاعليّة السياسيّة للقوى الشعبيّة ليست ارتكاسيّة بصفة مطلقة، وهي لا تنبثق، على نحو ما يرى بايات (Bayat) (2000)، حين يهدّدها الفعل الحكومي فحسب، إذ أنّ مثل هذه القراءة لفاعليّة التابع تستهين بقدرة أشكال الانتظام وأنماط الحوكمة والتموقع اليوميّة إزاء الحكومة على توليد موارد احتشاديّة، وبقدرة التفاهمات والمشاعر المشتركة على تشكيل ذاتيّات معارضة قد تتصرّف بشكل فردي أو جماعي حتّى في صورة عدم مواجهتها تهديداً مباشراً لمصالحها. ذلك أنّ أخويّات الشباب (حلقات التأنّس اليومي المركّزة في الأحياء، والمتمحورة حول الشارع، والمنتظمة حول العمل والسكن) والمنظّمات الخيريّة وخدمة توفير الأمن الممركزة حول الحيّ، لم تتح فحسب مقداراً من فكّ الارتباط بحكم الدولة، بل كانت أيضاً أطراً لأنماط معيش يومي جماعيّة. وبعبارة أخرى، فإنّ القوى الشعبيّة لا تعيش حياة متذرّرة أو تسعى لتحصيل وسائل معاشها فرديّاً، بل تبني مؤسّسات جماعويّة وتصارع القواعد المعياريّة المفروضة عليها وتدخل معها في جدال. أضف إلى ذلك، أنّ انخراط شباب الأحياء الشعبيّة في الثورة كان موجّهاً بخبرة سياسيّة مستقاة من تجربتهم اليوميّة مع الحكومة. فالتمييز الذي أقامه جمال بشير، في ملاحظته التي أوردتها آنفاً، بين سياسة النخب وسياسة الطبقات الشعبيّة، تتوافق مع ما رواه لنا رامي، في نفس المقابلة التي أوردنا منها مقطعاً أعلاه، حول الكيفيّات التي عمل بها نشاط شباب الألتراس رمزيّاً على تغذية قوى الثورة: "كلّ ما قمنا به كان سياسة، من الشعارات إلى الأناشيد. نحن نمارس السياسة باستخدام لغتنا، لغة الشعب المنتظم في الميدان العامّ. والشعارات التي رفعناها في الثورة، كنّا قد رفعناها سابقاً، حيث أنشدنا في المواجهات مع الشرطة: 'آه يا دولة الحراميّة، هي كلابك الداخليّة'. في حين كان لنا بعد انتخابات 2010 أناشيد أخرى مثل: 'احنا شبابك يا حريّة'".

للوهلة الأولى، قد تبدو مشاركة القوى الشعبيّة في الثورة المصريّة عرضيّة إذا ما فُهمت بوصفها مجرّد جزء ممّا يبدو حركة احتشاد جماهيري عفويّة، وانتفاض سلمي ضدّ النظام الحاكم. إلى جانب ذلك، ونظراً لافتقادها لملامح حركة اجتماعيّة منظّمة، ينزع البعض إلى اعتبار القوى الشعبيّة ذراعاً إمّا للمعارضة الإسلاميّة المنظّمة أو لنشطاء الطبقة الوسطى الذين حرّكوا الاحتجاجات الوطنيّة خلال المرحلة الأولى من الثورة. ومهما كانت الحال، فإنّ هذه الطريقة في قراءة انخراط القوى الشعبيّة ونشاطها أيّام ميدان التحرير، عاجزة عن التقاط العوامل المحدّدة لمشاركة القوى التابعة في القاهرة. أمّا وصفنا للاحتشاد والفعل المتمركزين حول الحيّ، فيمكّننا من التعرّف إلى ثلاثة عوامل شكّلت انتفاض التابعين ضدّ النظام: الأوّل، تحقّق مقدار من الاستقلاليّة الذاتيّة وفكّ الارتباط بالدّولة من خلال ترتيبات اقتصاديّة واجتماعيّة لانظاميّة. والثاني، هو تطوّر أشكال حوكمة داخليّة متمركزة محليّاً وفّرت حاجيّات الأمن وفضّ النزاعات وعزّزت معايير التفاعل. أما الثالث، فهو تموقع معارض إزاء الدولة وتاريخ طويل من التفاعل الصراعي مع أعوانها ووكالاتها.

فحين التحمت القوى الشعبيّة والشباب والطبقات الوسطى في 25 يناير 2011، انبثق "الشعب". لقد تشكّل "الشعب" حينها، بوصفه ذات الثورة الجمعيّة، من التقاء قوى اجتماعيّة وأفراد موحدّين حول رفض نمط حكم مخصوص. ولم يكن تجمّع تلك الذوات المعارضة مجرّد تجمّع منتظم بهدف تحقيق أهداف معيّنة، بل جماعات مكوّنة من ذوات فرديّة تشكّلت في تفاعلات مع أعوان الدولة وداخل القوى الشعبيّة وأحياء المدينة التي تقطنها. وقد فعّلت هذه القوى ذاتياتها المعارضة جنباً إلى جنب مع تفعيل معارضتها السياسيّة المعلنة والمنظّمة في ميدان التحرير (Ismail، 2012).

 التابعيّة المتمايزة في سوريا

عرفت الانتفاضة السوريّة احتشاداً عارماً ومتواصلاً في عدد من المدن السوريّة، أهمّها حمص وحماة ودمشق، حيث جرى الاحتجاج أساساً في الأحياء الهامشيّة والضواحي والقرى المجاورة لمحافظة ريف دمشق. وفي الآن نفسه، وإلى حدود زمن قريب، كان هناك هدوء ملحوظ في مدن أخرى، أهمّها حلب([19]). وقد تمّ تأويل تردّد هذه المدن في الالتحاق بالانتفاضة والهدوء النسبي لمركز دمشق، بأنّ النظام كان يحظى بدعم أكبر مدينتين سوريّتين. لذلك نودّ تناول التوزيع الجغرافي المخصوص للانتفاضة، بالتركيز خصوصاً على الأحداث الجارية في دمشق. وسنعرض للغرض، مسألة خلق التابعيّة الحضريّة المتمايزة لانقسامات وسط القوى التابعة نفسها، ممّا جعل بعض شرائحها تدعم النظام ضدّ الانتفاضة. وفي فحصنا لهذه المسألة، نُؤكد على أنّ خصوصيّات التكوين الحضري والانقسامات السوسيو-مجالية التي تشقّه، هي العوامل الرئيسيّة التي تولّد هذه التمايزات وترسّخها.

 دمشق في الانتفاضة السوريّة

انطلقت الانتفاضة في درعا، وهي مدينة تقع جنوب محافظة درعا العامّة على الحدود مع الأردن([20]). وتمثلّت شرارتها الأولى في اعتقال مجموعة من الأطفال التلاميذ وبلوغ أخبار عن تعذيبهم بعد أن كتبوا على جدران مدرستهم شعار الثورات الجارية في بلدان عربيّة أخرى: "الشعب يريد إسقاط النظام". كما كانت تُوجد أحقاد أخرى في درعا تتعلّق بمشاكل حول استغلال الأراضي وإسناد رخص البناء، وما إلى ذلك. وكردّ فعل على الصدّ العنيف الذي ووجهت به مظاهرات درعا، انتظمت احتجاجات في مدن وقرى أخرى، أدّت إلى تشديد الدولة إجراءاتها القمعيّة، ممّا أشعل موجة متصاعدة من الاحتجاج والقمع الضاري. وقد أكّد لنا ناشطون من عدّة أحياء دمشقيّة ومناطق سوريّة أخرى، في مقابلاتنا البحثيّة معهم، أنّ الاحتشاد في أيّام الانتفاضة الأولى لم يكن استجابة للدعوات الفايسبوكيّة التي أطلقت في أواخر يناير 2011 من أجل "يوم غضب" سوري، بقدر ما كان فعلاً عفويّاً للتّعبير عن التضامن مع درعا([21]). وكانت دُومَا، وهي ضاحية دمشقيّة، من أولى الأماكن التي انتفضت مبكّراً من أجل دعم درعا، إذ انطلقت الاحتجاجات المناهضة للحكومة قرب العاصمة مباشرة إثر أحداث درعا بقليل. وحينها، بدأت التطلّعات والأهداف الوطنيّة في عديد المحليّات والجهات، تتمفصل مع المشاغل المحليّة، واكتسى الطابع المحلّي الأوّلي لحركة الاحتجاج توجّهاً وبنيةً وطنيّين من خلال تأسيس لجان التنسيق السوريّة المحليّة واتحاد تنسيقيّات الثورة السوريّة.

ما هو موقع دمشق في الانتفاضة؟ بالرغم من السكون الظّاهر، فقد شهدت المدينة نشاطاً عارماً داخل ثلاثة أصناف من الفضاءات الحضريّة: الأحياء التقليديّة مثل الميدان وركن الدّين، والأحياء/الضواحي اللانظاميّة مثل برزة وقابون وحرستا ودُومَا (وآخرها تقع إداريّاً في محافظة ريف دمشق)، ومدن ريف دمشق مثل داريّا والمعضميّة([22]). كيف نفسّر هذه التشكيلة؟ لماذا لم تتوسّع رقعة الاحتجاج لتشمل جميع دمشق، وأيّ دور لعبته المتغيّرات السوسيو-مجالية في تشكيل هذا الإطار الاحتجاجي؟

 عناصر الانقسام الحضري: التابعيّة في الأحياء اللانظاميّة

من المؤكّد أنّ ممارسات الاستقطاب والإدماج والإقصاء التي تمارسها الدولة، تلعب دوراً فاعلاً في إعادة إنتاج القوى المجتمعيّة، وفي تأسيس فاعليّتها السياسيّة. لذا، ينبغي تناول عمليّة إعادة تشكيل القوى الاجتماعيّة وتنظيمها بالنّظر إلى السياسات الشعبويّة التي مارسها حزب البعث في مختلف فترات حكمه. فبالرغم من أنّ برامج النظام التنمويّة استهدفت المناطق الريفيّة، إلا أنّ الاستثمار فيها كان مختلاًّ، وغير منتج في أغلبه. ولذلك شهدت المحافظات التي لم تُدرج في مشروع الإنتاج الزراعي الرأسمالي الضخم، مثل محافظة اللاذقيّة، هجرة سكّان قرى بأكملها نحو المدن، وعلى رأسها دمشق. ولم تجد العديد من تلك الأسر سبيلاً إلى دخول سوق الشغل سوى التطوّع في صفوف الجيش. وكانت هذه حال العلويّين والسكّان الأكثر فقراً لشبه الجزيرة السوريّة (أي شمال غرب البلاد). وقد خلق هذا النمط من التجنيد في الجيش ارتباطات محوريّة بين النظام وقطاعات محرومة من السكّان، كما أدّى إلى نشوء خطوط انقسام اجتماعيّة بين أعوان عنف الدولة وسيطرتها (مثل الجيش) والمجموعات الاجتماعيّة الأخرى التي تشاركهم نفس المواقع الاجتماعيّة-الاقتصاديّة. فالولاء للنّظام وللرّئيس يجب فهمه من خلال هذه الأنماط الشعبويّة للاستقطاب وتجذّرها المجالي.

فإذا ما تناولنا أنماط التوطّن الريفي-الحضري، مع اعتبار أنّ السكّان الريفيّين يمثّلون القاعدة التاريخيّة لحزب البعث وشبكته ونقطة ارتكازه المحوريّة، فسترتسم أمامنا صورة أكثر وضوحاً لكيفيّات إعادة تشكّل الانقسامات المجتمعيّة التقليديّة في شكل انقسامات هوويّة تفلق الجسد الاجتماعي إلى طائفتين متمايزتين. ولفهم إعادة تشكيل الفضاء الحضري وانتظام القوى الاجتماعيّة، وهما يصوّران ديناميّات النزاع والانقسام التي تحدّد بدورها تشكيل الذاتيّات وتموقع المحكومين إزاء الدولة، فمن المهمّ تناول الطرق التي رسمت من خلالها السياسات التنمويّة والشعبويّة التكوين الحضري، وبالأخصّ، دائرة السلطة الحكوميّة في دمشق (انظر: Hinnebusch، 2011).

فدمشق منقسمة تبعاً لخطوط اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة ودينيّة. ونظراً لكونها تُمثّل تاريخيّاً مدينة مركنتيليّة، فقد كانت ساكنتها في أغلبها سنيّة مع أقليّة مسيحيّة مهمّة. وإلى حدود أواخر الفترة الكولونياليّة، تركّزت معظم الحياة السياسيّة للمدينة في أحيائها القديمة، التي كانت منتظمة تبعاً لتمايزات اجتماعيّة-دينيّة. وقد تسبب توسّع المدينة في تعميق التمايز الاجتماعي والديموغرافي داخلها مع نشأة الأحياء اللانظاميّة وانتقال العديد من سكّان الأحياء القديمة إلى ريف دمشق. كان ذلك التوسّع، في جزء منه، نتيجة هجرة ريفيّة ضخمة نحو المدينة انطلاقاً من محافظات مثل إدلب (ذات الأغلبيّة السنيّة) والمناطق الساحليّة (العلويّة في أغلبها)، بدأت خلال الستّينات واستمرّت في التمدّد خلال السبعينات والثمانينات.

وتمثّل هذه الأحياء الجديدة شكلاً من التوطّن الحضري المرتكز على الأصل الجهوي والانتماء الطائفي، إضافة إلى ترابطه بالجيش والدولة. فقد كان قدوم شريحة من المهاجرين الريفيّين إلى المدينة مرتبطاً بصعود الجيش إلى السلطة، حيث تمّ توطين جنود الجيش ومتطوّعيه ومجندّيه في الضواحي، ما جعل هذا النمط من التوطّن مرتبطاً وظيفيّاً بطبيعة علاقات السكّان مع النظام. ومن ذلك حيّ المزّة 86 الذي أقيم على الأراضي الصخريّة لجبل المزّة في أواسط السبعينات بهدف توطين أعضاء "الفرقة 86" التابعة لرفعت الأسد. وجميع سكّان هذا الحي من ضبّاط الصفّ المتطوّعين، و85 بالمائة منهم علوّيون. وبهذا، يقدّم لنا تاريخ إنشاء الحيّ نموذجاً عن نمط احتواء داخل النظام من خلال أجهزة القمع. غير أنّ الاندماج والانفكاك الحضريّين لسكّان الحيّ يكشفان عن طرق تدعيم الانقسامات المجتمعيّة والتلاعب بها. ذلك أنّ مراحل اندماج المهاجرين، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، في المدينة تكشف عن إقصائهم وتهميشهم. وقد اكتشفنا من خلال عملنا البحثي حول الاقتصاد الحضري بدمشق، أنّ النشاطات الاقتصاديّة "التقليديّة" المتمثّلة أساساً في التجارة والإنتاج الحرفي ما يزال يسيطر عليها أساساً التجّار السنّة ولم يندمج المهاجرون ضمنها إلاّ كعمّال يوميين. لذلك، نجد الجيل القديم من سكّان حيّ المزّة 86 منخرطاً في أغلبه في صفوف الجيش، بينما انخرط الجيل الجديد أساساً في النشاط الاقتصادي الهامشي.

وعلى غرار حيّ المزّة 86، يمثّل القابون حيّاً لانظاميّاً آخر أقيم على أرض زراعيّة. وقد اجتذب مهاجرين من شمال سوريا (خصوصاً ريف إدلب) وريف دمشق، انخرط الكثير منهم في الجيش، ولم يجدوا طرقاً لكسب المعاش إلاّ على هوامش الاقتصاد المحلّي، وامتهن بعضهم التهريب، أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، حين نشط بعض المجندّين العاملين في لبنان في تهريب بضائع مثل الملابس والتجهيزات الإلكترونيّة وقطع غيار السيّارات، فيما انخرط بعضهم الآخر في القطاعات الخدميّة حيث أصبحوا، مثلاً، ملاّكاً أو سوّاق حافلات نقل صغيرة. وعلى نحو سكّان المزّة 86، لم يندمج سكان القابون في الاقتصاد الدمشقي، إلا أنهم، في المقابل، لم يعتمدوا على النظام في كسب المعاش، وحافظوا بذلك على درجة من الاستقلاليّة عنه.

إذن، يتعلّق عنصر التمايز الرئيسي بين الحيّين بالقرب الاجتماعي والسياسي من النظام. فسكّان المزّة 86 استقطبهم النظام منذ زمن توطّنهم حين تمّت إقامة حيّهم كامتداد للمجموعة الحاكمة. ويساعد فهم ديناميّات العلاقة بين المزّة 86 والنظام، على تفسير الإحساس بالهشاشة الذي انتاب سكّان هذا الحيّ لحظة وفاة حافظ الأسد سنة 2000. حيث يُروى أنّ بعضهم أعدّ حينها حقائبهم للرحيل عن المدينة والعودة إلى قراهم الأصليّة، نظراً لتشكّكهم في المستقبل وخوفهم من دفع ثمن ولائهم للنّظام. وخلال الانتفاضة القائمة، بقي حيّ المزّة 86 على ولائه للنّظام، في حين انتفض حيّ القابون.

ففي التاريخ المرويّ للمزّة 86، بدءاً من إسناد الأرض أو السماح باستغلالها وإلى حدود إمداده بخدمات البنية التحتيّة الأساسيّة، يظهر الحيّ على أنّه امتداد للحاكمين. ولطالما أنهى الكثير من سكّان الحيّ القدامى الذين أجرينا معهم مقابلات بحثيّة سنة 2005 كلامهم بعبارات مثل: "الحياة جيّدة، نحن نشكر الرئيس" أو "الله يحمي الرئيس"، وهي عبارات تتجاوز كونها مجرّد أدعية تُتلى لعبادة الزعيم، بقدر ما هي اعتراف بامتنان تشترطه العلاقات الزبائنيّة، مصاغٌ بعبارات تغطّي علاقات الخضوع.

إنّ علاقات الأحياء بالنظام وتركيبتها الديموغرافيّة هي العوامل الأساسيّة التي تتدخّل في صياغة استجاباتها المتمايزة تجاه الانتفاضة في دمشق وغيرها من المدن السوريّة. حيث تعتمل ضمن هذه التشكيلة الحضريّة المعقّدة، صراعات تتعلّق بملكيّة الأرض والتموقع تجاه الحكومة، وهي صراعات مشحونة بمعانٍ طائفيّة. وتظهر هذه الانقسامات بكلّ وضوح في حالة حيّ البرزة الواقع في أقصى شمال دمشق وفي علاقته بجماعة عشّ الورور المجاورة له. فقد أُقيم حيّ البرزة على أرض زراعيّة، فيما بقيت نواته السكانيّة الأولى تقطن منطقة تُسمّى برزة البلد، ويُشار إلى هؤلاء السكّان القدامى باسم "البرزاويّين" للدلالة على هويّتهم المجاليّة. فقد بدأ توسّع برزة وتشكلها الحضري أثناء السبعينات مع مصادرة الدولة لمساحات من الأراضي لصالح مشروع مساكن برزة الموجّه للطبقة الوسطى، ومن أجل بناء منشآت عسكريّة، من بينها المستشفى العسكري. وتفاقمت عمليّة تفتيت أرض برزة وتجذّر العداوات تجاه النظام ضمنها، حين توطّنت عائلات إحدى الوحدات العسكريّة المنضوية تحت الألوية التابعة لرفعت الأسد على أرض منطقة صخريّة تُسمّى عشّ الورور محاذية لمنطقة برزة البلد. وقد أثار هذا التوطّن توتّرات منذ بدايته، باعتبار أنّه تمّ في نظر سكّان برزة الأوائل على جزء من مجالهم الجماعوي. وقد نجم عن ذلك حوادث عنف تُعرف إلى اليوم باسم أحداث برزة. فوفقاً لرواية بعض شهود العيان من برزة، هاجم جيرانهم الجدد من عشّ الورور سنة 1975 مقهى تجمّع فيه شيوخ الجماعة لتنظيم استغلال الآبار المخصّصة لسقي الحقول الزراعيّة، ونشب قتال أودى بحياة عدد من شيوخ برزة البلد. وبما أنّ حيّ الورور كان يُعتبر تحت حماية رفعت الأسد، اعتقد سكّان برزة بأنّه ما من سبيل لإنصافهم، بل أنّ بعضهم فرّ من الحيّ خوفاً من معاقبته على المشاركة في القتال.

عش الورور/ دمشق

وخلال الانتفاضة الحاليّة، نشب الصراع بين البرزاويّين وسكّان عشّ الورور من جديد. وتبعاً لروايات بعض المبحوثين، فإنّ السبب يعود إلى هجوم سكان عشّ الورور على برزة ومحاولتهم قمع المظاهرات هناك. ففي الأيّام الأولى للانتفاضة، بلغ إلى مسامع سكان عشّ الورور بأنّ البرزاويّين يخطّطون للهجوم عليهم كي يستعيدوا أرضهم. ويعتقد الكثيرون أنّ مثل هذه التحذيرات كانت جزءاً من استراتيجيّة اعتمدها النظام في مناطق عديدة من البلاد لزرع بذور الصراع الطائفي فيها، وهو ما سنعود إلى تناوله لاحقاً. وبذلك، تمّ حشد سكان عشّ الورور ضدّ جيرانهم. وقد صوّر لي اثنان من سكّان برزة ضبّاط الصفّ المجنّدين من حيّ العشّ على أنهم أقرب إلى جيرانهم المقموعين في برزة منه إلى النظام الذي يدافعون عنه، بحيث اصطفّت، في هذه المواجهة، مجموعتان تابعتان ضدّ بعضهما البعض، أو لنقل بعبارات أحد الناشطين ببرزة: "إنّ سكّان العشّ مقموعون مثلنا، وهم يُعامَلون كالعبيد، غير أنهم يدافعون على النظام لأنّه تمّ تخويفهم من جيرانهم السنّة 'المتشدّدين'" (مقابلة بحثيّة، 2011).

قد تُمثّل حالة المزّة 86 وعشّ الورور الشكل الأقصى للاستقطاب الزبائنيّ من خلال التشغيل والمحاباة البيروقراطيّة والتدابير السكنيّة، لكنّها تكشف أنماط التغيّر المجاليّة والديموغرافيّة التي رافقت عسكرة الحكم والمجتمع. فقد تمّ تأسيس أحياء بأكملها في طرف المدينة لإسكان عناصر الجيش وعائلاتهم، كما أصبحت مناطق بعينها، في أحياء أخرى، مخصّصة حصراً للجيش. ففي القابون، تمّ تخصيص البناءات السكنيّة المجاورة للثكنات العسكريّة لعائلات عناصر الجيش، وأغلبهم إن لم يكن كلّهم من العلويّين. ولطالما قيل لنا في المقابلات البحثيّة التي أجريناها هناك سنة 2005، أنّ تلك البناءات أماكن مخصّصة حصراً للعلويّين.

إنّ انتظام البرزة وعشّ الورور يضع حيّين فقيرين في مواجهة بعضهما، حيث أُقيم أحدهما لخدمة النظام على أرض مصادرة يزعم الطرف الآخر أحقيّة ملكيّتها، وهذا ما يجعل الانقسام والصراع قائمين على أساس زبائنيّة وإقصاء يكتسبان، بحكم الانتماءات الدينيّة المختلفة لكلّ حيّ، شحنة طائفيّة. ويمكن ملاحظة أنماط مشابهة من التدابير السكنيّة في أحياء وتجمعّات أخرى بأنحاء دمشق. ذلك أنّ تأسيس الأحياء السكنيّة المخصّصة لعائلات عناصر الجيش والمصالح الأمنيّة يوفّر للنّظام مناطق عازلة في قلب الفضاءات الحضريّة، ويُقسّم سكّانها. فالتدابير الحضريّة والمجاليّة وخصائصها الديموغرافيّة هي إحدى أبعاد التمايز الاجتماعي المعبّر عنه هوويّاً. وتقدّم عناصر الانقسامات الحضريّة التي عرضناها لمحة عن ديناميّات تموقع السكّان، من خلال الاستقطاب والتهميش، في شبكة النفوذ والسلطة.

فما هي الأبعاد الهوويّة للتموقع السياسي المختلف لهذه الأحياء إزاء الانتفاضة؟

تجسّد حالة المزّة 86 وبرزة، الانقسام الحادّ تبعاً لخطوط اجتماعيّة-اقتصاديّة تتداخل مع الانتماء أو الانتساب إلى مجموعة طائفيّة معيّنة. فكلا الحيّين يقع على هوامش المدينة اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً. غير أنّ الفرق الرئيسي بين المهاجرين الريفيّين السنّة والعلويّين يتّصل بتوظيف الطائفة كإواليّة في اشتغال مؤسّسة القمع، وبتمفصلها مع عمليّات إعادة التنظيم الاجتماعي-الاقتصادي خلال الحقبة الشعبويّة، ولاحقاً، خلال الظرفيّة النيوليبراليّة. فالانقسامات الطائفيّة تدور حول ارتباطات العلويّين بالنّظام وهي، في المجمل، لا تعبّر عن تناقضات نابعة من المعتقدات المذهبيّة. حيث يُعتبر العلويّون، بما هم جماعة، خزّاناً يزوّد النظام بـ"العضلات" مقابل جني بعض المنافع. فالعنف الموجّه تجاه العلويّين، يعود أساساً إلى موقعهم المتصوّر بوصفهم داعمين للنّظام ومستفيدين منه([23]). فحين نفحص علاقات القوة المحليّة، على نحو ما لاحظته مالون (1511:1994)، يتلاشى تضامن التابعين ووحدتهم المفترضة ونجد أنفسنا إزاء مسائل شائكة تتّصل بالتواطؤ والتراتبيّة ضمن الجماعات التابعة.

لقد تمّ تمييز التابعيّة في سوريا من خلال العلاقات مع النظام، حيث وفّرت الأحياء الفقيرة مثل المزّة 86، التي خضعت منذ تأسيسها لاستقطاب زبائني وتجسّدت فيها استراتيجيّات النظام لإذكاء الانقسامات الطائفيّة واستغلالها، جزءاً من القوّة القمعيّة التي استخدمت لردع الانتفاضة. فتبعاً لبعض الملاحظين المحليّين، التحق العديد من شباب تلك الأحياء بـ"الشبّيحة"، وهم الرجال الأقوياء المأجورون الذين يهاجمون المظاهرات نيابة عن النظام. ومن صفوف هذه الشرائح الخاضعة للاستقطاب الزبائني، يتزوّد النظام بالمتظاهرين للمشاركة في مسيرات دعم الأسد.

 دمشق القديمة ودمشق الريفيّة في الانتفاضة

إن كان جزء من المعارضة الأقوى للنّظام قد صدر من الأحياء اللانظاميّة مثل برزة والقابون، فإنّ عدداً من أحياء دمشق القديمة قد تصدّرت بدورها واجهة الاحتشاد والنشاط المعارضين. ومن أبرز هذه الأحياء حيّ الميدان وحيّ ركن الدين، وكلاهما يمثّل المجتمع الدمشقي السنّي التقليدي، بل إنّ حيّ ركن الدين يُمثّل أيضاً الحيّ الكردي التاريخي للمدينة. وسنركّز في هذا المقام على مشاركة حيّ الميدان في الانتفاضة.

فبوصفه أحد أحياء المدينة التاريخيّة، حافظ حيّ الميدان على هويّته وتركيبته الديموغرافيّة التقليديّة خلال فترة تحوّل سريع. وعلى عكس الأحياء الأخرى الواقعة داخل أسوار المدينة مثل حيّ الشاغور الجواني والقيمرية، التي هجرتها عائلاتها القديمة إمّا إلى الأحياء العصريّة أو إلى ريف دمشق، حافظ الميدان على العديد من عائلاته المؤسّسة والبارزة. فقد عُرف حيّ الميدان خصوصاً بالعائلات الدمشقيّة الحرفيّة العاملة والمتاجرة في أسواق الحميديّة والحريقة. وبفضل هذا الترابط، حافظ الميدان على درجة من التواصل في التاريخ الحضري للمدينة، حيث يجمع سكانه بين هويّة قويّة متشكّلة مجاليّاً مقترنة بأسلوب عيش محافظ، وإقامة طويلة ومتواصلة في الحيّ. وكمثال على ذلك، فإنّ شباب الحيّ الذين أجرينا معهم مقابلات بحثيّة كثيراً ما كانوا يتحدّثون عن هويّة "مِيدانيّة" لتفسير الممارسات الثقافيّة التي تحكم التفاعلات الجندريّة.

مظاهرة في حي الميدان 2012

تاريخيّاً، تميّزت العلاقة بين حيّ الميدان والنظام بالاستقلاليّة والصراع. فقد وفّرت الأنشطة الاقتصاديّة التجاريّة والحرفيّة للميدانيّين استقلاليّة نسبيّة عن النظام([24]). إلا أنّ الحيّ يحمل عداء مضمراً تجاه النظام، ويعود ذلك لانخراطه في نشاطات مناهضة ارتبطت بفترة التمرّد الإسلامي أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. وبسبب هذه النشاطات، حاول النظام اختراق حيّ الميدان لأوّل مرة بعد أن نظّم شباب من الميدان آنذاك حلقات دينيّة في بعض المساجد والتحقوا من خلالها بالمعارضة الإسلاميّة. كما فعّل النظام، خلال تلك الفترة، مشاريع لتغيير الطبيعة المجاليّة للحيّ، خصوصاً من خلال بناء طريق واسعة تقسمه إلى نصفين، ليقسّم بذلك فضاءه الممتدّ إلى قطاعين منفصلين. وكان ذلك بغرض بناء العمارات العالية الحديثة على الأطراف الممتدّة باتّجاه الطريق الجديدة، والتي غيّرت الطابع المعماري للحيّ الذي كان يتميّز في السابق بالأزقّة الضيّقة و"المنازل العربيّة" التقليديّة. وبأيّة حال، استطاعت بعض قطاعات الميدان القديمة أن تحافظ على بقائها، وفيها انتظمت أغلب مظاهرات الحيّ، إذ مثّلت الأزقّة وشبكات الجوار، فضاءً حاضناً للاحتجاجات التي نظّمها شباب الحيّ بصورة خاطفة ورفعوا فيها شعارات مندّدة بالنظام وتعلن سقوطه (مثل شعار "هنا في الميدان، سقط النظام")، وكان الهدف منها تأكيد الحضور الواسع للمعارضة في الحيّ، وحشد الدعم للانتفاضة وإبرازه.

لقد أشار الناشطون الذين أجرينا معهم مقابلات بحثيّة بعد انطلاق الانتفاضة، إلى أنّ أحقاد الحيّ ضدّ النظام تعود إلى فترة المعارضة الإسلاميّة، حيث عانت حينها العديد من عائلاته من اختفاء أبنائها قسريّاً أو اعتقالهم. وإضافة إلى هذا التاريخ، وفّرت مساجد الميدان أرضيّة خصبة لاحتشاد الشباب والتعبير عن سخطهم. ورغم أنّ بعض الناشطين في تلك المساجد كانوا من خارج حيّ الميدان، إلا أنّ الاحتجاجات التي عرفها الحيّ تركّزت في مجملها حول جوامعه الرئيسيّة والمناطق المحيطة بها (مثل جوامع الحسن ومنجك والدقّاق والمنصور). ولتفسير قدرة سكّان الميدان الفذّة على قيادة مثل هذه الحركة الاحتجاجيّة المتواصلة، يجب أن نأخذ في الاعتبار جملة من العوامل التاريخيّة والديموغرافيّة والمجاليّة.

فقد ساهم حضور العائلات المؤسّسة القديمة بالحيّ، في دعم قدرة جماعته على احتواء الانقسامات الداخليّة، وفي الحفاظ على وحدة موقفها من الانتفاضة. وقد ابتدعت لجنة التنسيق المحليّة بالحيّ، استراتيجيّات متعدّدة لاحتواء وشاة النظام (ويوسمون بـالعواينيّة)، ومن ذلك حصر قوائم بأسمائهم واستخدام العلاقات العائليّة والشراكات المهنيّة لثنيهم عن التعاون مع النظام.

وفي محاولة منهم لتفسير الهدوء النسبي لبعض الأحياء الأخرى، القديمة والجديدة على السواء، يجادل بعض الناشطين بأنّ حركة تدفّق السكّان الجدد على دمشق ورحيل العديد من سكّانها القدامى عنها، قد ساهمت في الحدّ من طاقة الاحتشاد فيها. كما لاحظوا أنّ اللحمة القويّة التي تميّز الشبكات الاجتماعيّة في البلدات المجاورة لدمشق، كانت عاملاً أساسيّاً في رفع درجة مشاركتها في الانتفاضة، حتّى أنّ بعض الناشطين يروون أنّ عديد الدمشقيّين كانوا يرتحلون نحو البلدات المجاورة لدمشق للمشاركة في الاحتجاجات. وإلى جانب هذه العوامل، يجب أن نأخذ في الاعتبار أثر الحضور المفرط لقوى الأمن في المناطق المركزيّة لدمشق. حيث لاحظ تقرير أعدّه بعض الناشطين لدراسة إمكانيّة احتلال عدد من ميادين دمشق، أنّ الميدان الرئيسي بالمدينة، وهو ساحة الأمويّين، محاصر من كلّ نواحيه بما يقارب عشرة آلاف عنصر من الحرس الجمهوري، الذي يقع مقرّه بمحاذاة الميدان مباشرة إلى جانب مقرّ قيادة جيش الطيران والقيادة العامة للجيش والأمن الجنائي والأمن السياسي وأمن الدولة. لقد كان مركز دمشق بمثابة حامية عسكريّة يستحيل على المتظاهرين العزّل اختراقها. وبهذا، فقد كانت البلدات المجاورة لدمشق، على نحو ما أبرزناه آنفاً، مواقع مقاومة متصاعدة ضدّ النظام، وهذا ما نريد إلقاء الضوء عليه بسرعة في ما يلي من بحثنا.

لقد شهدت هذه البلدات، وبعضها ملاصق للمدينة وبعضها الآخر لا يبعد عنها سوى مسافة نصف ساعة بالسيّارة، احتشاداً عارماً واحتجاجات مكثّفة. وعلى سبيل المثال، فقد حاول سكّان جوبر وسقبا، وبعض البلدات المجاورة في الغوطة الشرقيّة، الخروج في مظاهرة نحو دمشق واحتلال ميدان العباسيّين الواقع في الشمال الغربي منها. وقد احتشد في المحاولة الأولى، خلال شهر أبريل 2011، ما يقارب عشرة آلاف من سكّان القريتين المذكورتين، وسيّروا مظاهرة وصلت إلى حدود ميدان العباسيّين، قبل أن يصطدموا بقوّات الأمن التي فرّقتهم باستعمال الرشّاشات والرصاص الحيّ. وقد كان ميدان العباسيّين جاذباً للمتظاهرين، نظراً إلى وجود فرع أمني واحد فحسب في أنحائه (وهو فرع المخابرات الجويّة)، إضافة إلى أنّ جميع الأحياء والمناطق المحتشدة في المدينة كانت تقع ضمن مداره في ما بين 4 و10 كيلومترات (وهي التلّ ودوما وحرستا وجوبر وعربين والقابون وبرزة والميدان وركن الدين) (استقيت ذلك من وثيقة استراتيجيّة نشرت على موقع تنسيقيّة الثورة في حيّ الميدان، بتاريخ 1 أغسطس 2011). 

كما احتلّت البلدات البعيدة نسبيّاً عن دمشق، والتي تشكّلت حديثاً في تجمّعات حضريّة مثل داريا والمعضميّة، وكلاهما يقع في الغوطة الشرقيّة، مقدّمة الاحتجاجات اليوميّة والأسبوعيّة. ومن اللافت أنّ يكون سكّان داريا والمعضميّة في أغلبهم من الوافدين من دمشق الذين يعتبرون أنفسهم دمشقيّين أصيلين، حيث يسمّون أنفسهم شوامّ (وهو مصطلح يستعمل للإشارة إلى الهويّة الدمشقيّة الأصيلة)، كما تدعى أنهج أحيائهم الجديدة "حارات الشوامّ". إلى جانب ذلك، ينبغي الإشارة إلى أنّ دمشق كان لها دوماً علاقات قويّة بهذه البلدات، باعتبار أنّ عديد التجار الدمشقيّين يملكون فيها أراضٍ زراعيّة، كما أقاموا فيها ورشات حرفيّة مرتبطة بنشاطهم التجاري. علاوة على ذلك، كان الدمشقيّون الذين انتقلوا إلى هذه البلدات، يبحثون عن أرض معقولة الثمن لإقامة منازل تكفي لإيواء عائلاتهم الممتدّة، وبذلك أعادوا إنتاج خصائص الحياة العائليّة في دمشق القديمة. كما حافظ الدمشقيّون هناك على مهنهم التجاريّة والحرفيّة، التي اندمجت بشكل جيّد مع النشاطات الاقتصاديّة القائمة بتلك البلدات، وبذلك تطوّرت في جهة ريف دمشق قطاعات اقتصاديّة متخصّصة مثل النجارة وإنتاج الطعام المعلب والمجفّف والنسيج. والعديد من هذه الشركات هي عبارة عن ورشات صغيرة تشغّل عاملين أو ثلاث على أقصى تقدير، تبيع منتجاتها للتجّار الكبار في دمشق. وعانى العديد من هذه النشاطات من آثار سياسة التحرير الاقتصادي، وهو ما ولّد عداءً تجاه النظام لدى طبقة حافظت دائماً على درجة من الاستقلاليّة عنه. وقد برزت الروابط القويّة التي حافظ عليها الدمشقيّون مع المدينة القديمة خلال الانتفاضة، حيث كان الناشطون من داريا ينتقلون باستمرار إلى دمشق من أجل حشد الاحتجاج في حيّ الميدان والعديد من جوامع المدينة الرئيسيّة (مقابلة بحثيّة مع ناشط من داريا ينحدر من دمشق القديمة، ماي / أيار 2011)، كما ينتقل الدمشقيّون بدورهم إلى داريّا والمعضميّة للاحتجاج هناك.

لذلك، يجب علينا خلال تحليل أطر الاحتشاد في دمشق أن نأخذ في الاعتبار إعادة التشكيل الديموغرافي والمجالي الذي عرفته خلال الأربعين سنة الماضية من تاريخها. وهو إعادة تشكيل ميّزته نشأة الأحياء الجديدة اللانظاميّة في طرف المدينة، وتعيين خطوط انقسام طائفيّة في فضاءها، وانتقال سكان دمشق القديمة إلى الضواحي وبلدات ريف دمشق التاريخي المتشكلة حديثاً في تجمعات حضريّة، وتدفق المهاجرين الريفيين إلى دمشق وتوطنهم على مدى خطوط انقسام تعيد إنتاج سياسة هوويّة تقوم على تسييس الانتماء الطائفي.

 سوسيو-مجاليّة الانتفاضة السوريّة

أثارت الانتفاضة السوريّة عديد الأسئلة حول القوى الاجتماعيّة الداعمة للنّظام والمعارضة له، من ضمنها السؤال حول ما إذا كانت خطوط الانقسام الرئيسيّة في الانتفاضة ذات طبيعة دينيّة/طائفيّة. ولذلك سنفحص بعض المقترحات الأساسيّة التي نعثر عليها في قراءات عدد من محلّلي وملاحظي الشؤون السوريّة، ومن ثمّة نطرح بعض التساؤلات التي قد يتكفّل العمل البحثي المستقبلي بالإجابة عنها.

ذهب بعض المحلّلين إلى مقاربة الانتفاضة السوريّة بوصفها انتفاضة سنيّة بالأساس، مشيرين إلى وقوعها في المناطق ذات الغالبيّة السنيّة، فيما ساد هدوء نسبي المدن والمحافظات التي تقطنها غالبيّة من الأقليّات الدينيّة، مثل محافظة السويداء ذات الغالبيّة الدرزيّة (مثلاً: Rasas، 2011 ; Balanche، 2011). وقد سيقت نفس الملاحظة بخصوص المسيحيّين السوريّين الذين، بالرغم من عدم تركّزهم في محافظة بعينها، إلاّ أنّ بعض الأحياء الحضريّة في دمشق وحلب وحمص وحماة محسوبة عليهم، وهي أحياء يكاد يكون فيها الاحتجاج معدوماً. وتبعاً لذلك، جادل أحد محلّلي الشؤون السوريّة بأنّ الأقليّات الدينيّة صاغت موقفها من الانتفاضة انطلاقاً من موقعها كأقليّات، في حين كانت المشاركة السنيّة في الانتفاضة معدّلة تبعاً للانقسامات الطبقيّة، حيث نجد الطبقة العليا السنيّة مساندة للنّظام أو هي تقف موقف الحياد منه، في حين انخرطت الطبقات السنيّة السفلى بشدّة في الانتفاضة (Rasas، 2011). وعلى الرغم من أنّ مثل هذه القراءة يمكن استنتاجها من جغرافيّة الانتفاضة نفسها، إلا أنها قراءة مفرطة في التبسيط لأنها تمنح الدين، بما هو متغيّر تفسيري، وزناً يفوق بكثير وزنه الحقيقي، في حين يحتاج تحليلنا لجغرافيّة الانتفاضة إدماج عوامل أخرى.

لقد رأينا، في حالة دمشق، أنّ عوامل عدّة تدخل في صياغة تموقع مختلف القوى تجاه الانتفاضة، أهمها التاريخ المخصوص لتأسيس كلّ حيّ والتوطّن فيه، وعلاقات سكّان الحيّ بالحكومة، وسياسات الإقصاء والاحتواء التي ينتهجها النظام. ونحن لا نرى في ذلك أيّ تشبّث أصلاني بجماعة دينيّة مخصوصة، بقدر ما نرى فيه توظيف النظام سياسياً للطائفة من خلال الاستقطاب الزبائني لقطاعات من الطائفة العلويّة. بل يمكننا القول إنّ النظام قد انتهج سياسة "سيطرة طائفيّة" تسعى إلى احتواء الأفراد على أساس انتمائهم الجماعوي والولاء له. وكمثال عن ذلك، فقد ساعد نظام حافظ الأسد على الحفاظ على البنية والتراتبيّة القبليتيّن، كما اعتمد على الزعماء القبليّين لضمان الولاء والدعم له (انظر: Chatty، 2010)([25]). بل إنّ النظام، إضافة إلى الاستقطاب الزبائني، تلاعب كذلك بمخاوف الانقسام والصراع الطائفيّين. وقد تغذّت هذه المخاوف جزئيّاً من منع النظام أيّ نقاش في الفضاء العامّ حول مسائل الانتماء والهويّة الدينيّتين باسم الإيديولوجيا العلمانيّة المهيمنة، وهو ما أدّى إلى إقصاء البعد الطائفي لمؤسّسات الحكم من دائرة النقاش العامّ، وتحوّله بالتالي إلى موضوع للتوتّر والاستياء المبطّن.

ونلاحظ، في أحياء حمص المركزيّة، وجود توتّرات مشابهة لما لاحظناه في أحياء دمشق الطرفيّة، أي وجود أحياء ذات غالبيّة سنيّة انخرطت بصفة مبكّرة في الانتفاضة، وهي أحياء مجاورة لأحياء ذات غالبيّة علويّة استمرّت على ولائها للنّظام. ويبدو، من خلال القراءات المختلفة لعدد من الناشطين والملاحظين، أنّ النظام قد انتهج سياسة حشد طائفي من خلال تنشيط قوّات الأمن لعوامل الصراع بين الجماعات الطائفيّة. فقد راج، مثلاً، أنّ قوات الأمن اعتمدت سياسة موجّهة لاستقطاب رجال من الأحياء العلويّة كي تُشكل منهم ميليشيات مسلّحة (المعروفة بالشبّيحة) قصد مهاجمة الأحياء المشاركة في الانتفاضة. وبذلك ساهمت سياسة النظام التاريخيّة في استقطاب "أصحاب العضلات" من صفوف العلويّين مصعّدة بذلك التناقضات الطائفيّة بين جماعات تعايشت جنباً إلى جنب لأجيال طويلة. وفي سياق استقطاب مماثل لما يجري في أحياء دمشق الطرفيّة، اصطفّت أحياء حمص المركزيّة في مواجهة بعضها البعض، بحيث صارت الأحياء الموالية للنّظام بمثابة مناطق عازلة ضدّ الأحياء المجاورة لها المشاركة في الانتفاضة.

ويذهب فابريس بالانش (Fabrice Balanche) في تحليله لجغرافيّة الانتفاضة، إلى القول بوجود نمطين متمايزين من الانتظام الحضري الطائفي. أولهما، نمط "المدن المطوّقة"، ومثاله دمشق وحماة (حيث تقع الأحياء العلويّة على أطراف المدينة)، وثانيهما، نمط المدن "المقسّمة"، ومثاله حمص (حيث تقع الأحياء العلويّة في مركز المدينة). إلاّ أنّ هذه النظرة الجغرافيّة الخاطفة تقف عند سطح الانقسامات المجاليّة، حيث يركز لابلانش على قرب الأحياء الثائرة من "المجالات العلويّة" كي يجادل بأنّ الانتفاضة سنيّة الطابع وأنّها تُعبّر عن صراعات طائفيّة([26]). وبأيّة حال، فإنّ جلّ الديناميّات المعتملة في تلك الفضاءات مرتبطة بالسّيرورات السوسيو-سياسيّة التي ناقشناها آنفاً، وأهمّها استخدام النظام تشكيلة المجال الحضري بغرض تشظية الجسد الاجتماعي. ذلك أنّ تعيين التناقضات الطائفيّة في الفضاء الحضري يرتبط وثيقاً بديناميّات علاقات السلطة التي تتشابك فيها القوى التابعة مع الأنظمة أو الدوائر الحاكمة. ففي دمشق، يعود اصطفاف الأحياء العلويّة مع النظام إلى موقعها في أجهزة القمع، وإلى اندراجها في المشهد الحضري كامتداد للدائرة الحاكمة. وفي المقابل، يتغذّى احتشاد سكّان أحياء مثل القابون وبرزة من تجربة سكّانها المعاشة المتّسمة بالإقصاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. فالتموقع تجاه النظام، بما هو نتيجة سيرورات سوسيو-تاريخيّة وسياسيّة مخصوصة، تتقاطع مع الانتماء الطائفي، هو ما يوجّه الاقتطاب والانقسام في صفوف القوى التابعة.

 خلاصة

انتفضت القوى الشعبيّة، خلال الاحتجاجات الثوريّة في مصر وسوريا، ضدّ أشكال حكم قمعيّة معاشة يوميّاً. فقد احتشدت الطبقة الاجتماعيّة التي حُرمت من حقوقها المدنيّة والاجتماعيّة الأساسيّة بأعداد غفيرة، في كلا الموضعين، بهدف إحداث تغيير جذري في الحكم. وتشترك الأفعال الاحتجاجيّة في كلا البلدين في جملة من الخصائص الحضريّة، أهمّها مشاركة سكّان الفضاءات الحضريّة الطرفيّة والمقصيّة. إلا أنّ المقارنة الدقيقة بين الحالتين تكشف عن اختلافات دالّة بينهما.
فقد عرفت القاهرة، إلى جانب احتلال الميادين الكبرى من قبل شرائح واسعة من السكّان الحضريّين، معركة حضريّة حدثت وراء ستار أزقّة المدينة الخلفيّة، ووجّهت معارضتها في الأحياء الشعبيّة الجديدة والأحياء القديمة للمدينة، نحو مهاجمة مراكز الشّرطة، وذلك بسبب أنّ الغضب على الحكومة كان متجذّراً في تجربة التفاعل اليوميّة مع قوّات الشرطة على المستوى المحلّي في الأحياء الحضريّة. فقد كانت المعارك التي جرت في الأحياء الشعبيّة متعيّنة مجاليّاً، واستدعت تاريخاً مخصوصاً من المعارضة والعداء تجاه الحكومة. كما كانت الذاتيّات المتشكّلة مجالياً والتي تمّ تفعيلها في حرب الشوارع بالقاهرة، عنصراً أساسيّاً في صناعة الشعب، بما هو ذاتٌ جمعيّة، وفي إضفاء الفاعليّة السياسيّة عليه.
أمّا أنماط المشاركة والمعارضة الشعبيّة في دمشق وغيرها من المدن السوريّة، فتختلف بشكل دالّ عن تلك التي لاحظناها في القاهرة. وقد ركّزنا في مناقشتنا لهذه المسألة على العوامل السوسيو-مجاليّة التي ساهمت في تشظّي القوى التابعة في سوريا، وخاصّة منها تاريخ تأسيس الأحياء الشعبيّة الجديدة المرتبط بعسكرة الحكم. فقد تمّ تأسيس عدد من الأحياء في المناطق الطرفيّة لدمشق مخصّصة لإسكان ضبّاط الصفّ العسكريّين وعائلاتهم، وبحكم ممارسات واستراتيجيّات الانتداب في الجيش التي سادت منذ السبعينات، فقد كان معظم سكّان هذه الأحياء، إن لم يكن كلّهم، من العلويّين. وقد نشأت عن المماهاة بين هذه الأحياء والنظام، وخصوصاً أجهزته القمعيّة، انقسامات ضمن القطاعات الحضريّة الطرفيّة والمهمّشة والمقصيّة، مبنيّة على تقاطع الانتماء الديني مع الموقع السوسيو-سياسي. وكلّما واجه النظام معارضة، كان يستخدم التشكيلة السوسيو-مجالية للأحياء، وهو ما أدّى إلى تحويل شرائح من السكّان التابعين المهاجرين إلى عوازل حامية للنّظام. وتكشف خصائص الفضاء الحضري لدمشق عن أهميّة تاريخ وطابع التشكيلة الحضريّة في تحديد مستوى ومجرى الاحتجاج والاحتشاد الشعبي خلال الفترات الثوريّة. ذلك أنّ التمايز والانقسامات بين القوى التابعة، في دمشق، متعيّنة في إعادة التشكّل المجالي والديموغرافي الذي عرفته المدينة خلال الأربعين سنة الماضية من تاريخها.
تُلقي كلا الحالتين الضوء على جوانب من الاعتماد المتبادل بين التابع والشعبي. ففي القاهرة، يتمّ إنتاج الشعبي ضمن علاقات الخضوع والإقصاء، وكذلك من خلال ممارسات تثمين الذات وإضفاء الأصالة عليها. وفي مقابل استخدام القوى المهيمنة لخطاب تحقيري تجاه الأحياء الشعبيّة، كجزء من ممارسات الإخضاع التي تهدف إلى تبرير أفعال العنف والقمع البوليسي فيها، يتمّ حشد ذاتيّة "الشعب"، بما هو مجموعة من الذوات ذات الحقوق المشروعة. بذلك تكون الطبيعة التنازعيّة لـ"الشعبي" عنصراً مؤسّساً للتابعيّة من جهة كونها تموقعاً في حقل الصراع السياسي والاجتماعي، كما يتدخّل الشعبي بما هو هويّة في تشكيل الفاعليّة السياسيّة التابعة. فعلى نحو ما ينبّهنا ريتشارد بيتهوس (Richard Pithouse)، لا ينبغي النظر إلى هذا الضرب من الفاعليّة السياسيّة على أنّه "تعبير تلقائي من تعبيرات الثقافة" (2012)، إذ يُمكن لممارسات المقاومة وسجّلاتها أن تكون مشحونة برمزيّة ثقافيّة، غير أنّ ذلك لا ينفي أنّها تتولّد من رحم السلطة، لا من رحم التعبير عن عادات ثقافيّة متأصّلة. 
لا يحدّد التابع، بما هو موقع اجتماعي، نوعيّة السياسة التي ينخرط فيها التابعون، كما يتبيّن من دراستنا لحالة دمشق. حيث تظهر التابعيّة المتمايزة، وهي نتاج سياسات الاستقطاب والإقصاء التي فعّلها النظام السوري، في الانقسامات والصراعات المعبّر عنها هوويّاً والتي تشقّ صفوف التابعين. لذلك يجب أن ننتبه، خلال معارضتنا لأيّ طوبوغرافيا جوهرانيّة للتحضّر التابع، إلى الطرق التي يرتسم من خلالها الخضوع والمقاومة مجاليّاً.

المراجع:

Abo el-Gheit, Mohamed. 2011. Al-Fuqara awlan ya Awlad al-Kalb. (The poor come first oh progeny of a dog), Gedarea Blog, 17 June. At: http://gedarea.blogspot.co.uk/2011/ 06/normal-0-false-false-false.html (accessed 4 Sept. 2012).
Al-Hay’a al-‘Ama lil-Isti‘lamat, (General Organization for Information). 2011. Yawmiyyat Thawrat 25 Yanayir (Diary of the 25 January revolution). At: http://www. sis.gov.eg/newvr/clonem/25day.pdf (accessed 25 Jan. 2012).
Balanche, Fabrice. 2011. Géographie de la Révolte Syrienne. Outre-Terre 29, 3: 437–58.
Bayat, Asef. 2000. From Dangerous Classes to Class Rebels: Politics of the Urban Subaltern in the Global South. International Sociology 15, 3: 533–57.
 Beinin, Joel. 2001. Workers and Peasants in the Modern Middle East. Cambridge: Cambridge University Press.
Beinin, Joel. 2012. The Rise of Egypt’s Workers. Carnegie Papers. June. At: http:// carnegieendowment.org/2012/06/28/rise-of-egypt-s-workers/coh8 (accessed 2 Feb. 2013).
 Chakrabarty, Dipesh. 1992. Postcoloniality and the Artifice of History: Who Speaks for Indian Pasts? In “Imperial Fantasies and Postcolonial Histories,” special issue of Representations 37: 1–26.
Chalcraft, John. 2008. Question: What Are the Fruitful New Directions in Subaltern Studies and How Can Those Working on the Middle East Benefit from Them? International Journal of Middle East Studies 40, 3: 376–78.
Chatty, Dawn. 2010. The Bedouin in Contemporary Syria: The Persistence of Tribal Authority. Middle East Journal 64, 1: 29–49.
Crovitz, L Gordon. 2011. Egypt’s Revolution by Social Media. Wall Street Journal, 14 Feb. At: http://online.wsj.com/cloneticle/SB1000142405274870378680457613798025 2177072.html (accessed 7 Mar. 2011).
 El-Ghobashy, Mona. 2011. The Praxis of the Egyptian Revolution. Middle East Report 258 (Spring): 2–13.
Elshahed, Mohamed. 2012. A Tale of Tower and Shacks. Al-Masry al-Youm, English ed., 12 Aug. At: www.egyptindependent.com/print/1045386 (accessed 31 Aug. 2012).
Escobar, Arturo. 2001. Culture Sits in Places: Reflections on Globalism and Subaltern Strategies of Localisation. Political Geography 20, 1: 139–74.
Ezbawy, Yusry Ahmed. 2012. The Role of Youth’s New Protest Movement in the January 25 Revolution. IDS Bulletin 43, 1: 26–36.
Gelvin, James. 1998. Nationalism and Mass Politics in Syria at the Close of Empire. Berkeley: University of California Press.
 Ghannam, Farha. 2002. Remaking the Modern: Space, Relocation, and the Politics of Identity in a Global Cairo. Berkeley: University of California Press.
 Guha, Ranajit. 1988. On Some Aspects of the Historiography of Colonial India. In Ranajit Guha and Gayatri Chakravorty Spivak, eds., Selected Subaltern Studies. Oxford: Oxford University Press, 37–44.
Hinnebusch, Raymond. 1990. Authoritarian Power and State Formation in Syria: Army, Party, and Peasant. Boulder: Westview Press. 892
Hussein, Abdel-Rahman. 2012. Was the Revolution Really Non-Violent? Al-Masry al-Youm, English ed., 24 Jan. At: http://www.egyptindependent.com/node/616836 (accessed 1 Sep. 2012).
Ismail, Salwa. 2000. The Popular Movement Dimensions of Contemporary Militant Islamism: Socio-Spatial Determinants in the Cairo Urban Setting. Comparative Studies in Society and History 42, 2: 263–93.
Ismail, Salwa. 2006. Political Life in Cairo’s New Urban Quarters: Encountering the Everyday State. Minneapolis: University of Minnesota Press.
Ismail, Salwa. 2009. Changing Social Structure, Shifting Alliances and Authoritarianism in Syria. In Fred Lawson, ed., Demystifying Syria. London: Saqi Books, 13–28.
 Ismail, Salwa. 2011. The Syrian Uprising: Imagining and Performing the Nation. Studies in Ethnicity and Nationalism 11, 3: 538–49.
Ismail, Salwa. 2012. The Egyptian Revolution against the Police. Social Research 79, 2: 435–62.
 Izzat, Mahmoud. 2012. Kutayyib Ta‘limat al-Thawra: Hal Yahraq “al-Tha’ir al-Haq” Qism al-Shurta?” (Manual of the revolution: does “the true revolutionary” burn the police station?). al-Masry al-Youm, 4 Mar. At: http://www.almasryalyoum.com/ node/694866 (accessed 1 Sept. 2012).
Kandil, Hazem. 2011. Revolt in Egypt. New Left Review 68. At: http://newleftreview. org/?view=2884 (accessed 2 Apr. 2012).
 Kandil, Hazem. 2012. Why Did the Egyptian Middle Class March on to Tahrir Square? Mediterranean Politics 17, 2: 197–215.
Khoury, Philip. 1984. Syrian Urban Politics in Transition: The Quarters of Damascus during the French Mandate. International Journal of Middle East Studies 16, 4: 507–40.
Lal, Vinay. 2001. Subaltern Studies and Its Critics: Debates over Indian History. Theory and History 40, 1: 135–48.
Levinson, Charles and Margaret, Coker. 2011. The Secret Rally that Sparked an Uprising. Wall Street Journal, 11 Feb. At: http://online.wsj.com/cloneticle/SB1000142405 2748704132204576135882356532702.html (accessed 1 Sept. 2012).
 Luccini, Fabio and Davide Morandini, directors. 2011. Bulaq: Among the Ruins of an Unfinished Revolution. Documentary film (available on video). Access courtesy of the directors.
Mallon, Florencia E. 1994. The Promise and Dilemma of Subaltern Studies: Perspectives from Latin American History. American Historical Review 99, 5: 1491–515.
 O’Hanlon, Rosalind and David Washbrook. 1992. After Orientalism: Culture, Criticism, and Politics of the Third World. Comparative Studies in Society and History 34, 1: 141–67.
Pithouse, Richard. 2012. Political Agency in South Africa’s Shack Settlements. Paper presented to Conference on Urban Revolutions in the Age of Global Urbanism, Jakarta, Indonesia, 12–16 Mar.
Prakash, Gyan. 1992. Can the Subaltern Ride? A Reply to O’Hanlon and Washbrook. Comparative Studies in Society and History 34, 1: 168–84. Rasas, Sayyid. 2011.
Kharita Ijtima’iyya, Siyyasiyya, Iqtisadiyya lil-Ihtijaj fi Suriyya” (A social, political, and economic map for protests in Syria). Al-Hayat, 30 July. At: http://international.daralhayat.com/internationalarticle/292743 (accessed 15 Aug. 2011).
Roy, Ananya. 2011. Slum Dog Cities: Rethinking Subaltern Urbanism. Journal of Urban and Regional Research 35, 2: 223–38.
Singerman, Diane. 1995. Avenues of Participation: Family, Politics and Networks in Urban Quarters of Cairo. Princeton: Princeton University Press.
Spivak, Gayatri Chakravorty. 2005. Scattered Speculations on the Subaltern and the Popular. Postcolonial Studies 8, 4: 479–86.
Webber, Sara. 1998. Middle East Studies and Subaltern Studies. Middle East Studies Bulletin 31, 1: 11–16.
 
[1] - للإطلاع على نموذج من التمثّلات الإعلاميّة للثورة بوصفها حدثاً انبثق من الفايسبوك وتحقّق من خلاله، انظر: كروفيتز (Crovitz)، 2011. ولمطالعة نموذج من التحليلات التي تناولت الثورة بوصفها "انتفاضة طبقة وسطى بالأساس"، انظر: قنديل (Kandil)، 2012.
[2] - لقد أجرينا عملاً ميدانياً مطولاً في العديد من الأحياء الشعبيّة بالقاهرة ما بين سنة 1999 وأواخر سنة 2010. وقد تركّز عملنا، في مرحلة أولى، أساساً على حيّ بولاق الدكرور (انظر: Ismail، 2006). ومن ثمّ عملنا لفترة مطوّلة سنة 2010 بسوق الموسكى وحيّ الجماليّة.
[3] - لأخذ فكرة شاملة عن الاحتشاد الاجتماعي والسّياسي في السنوات السّابقة للثورة، انظر: الغوباشي (El-Ghobashy)، 2011. ولفهم الاحتشاد العمّالي ودوره في تشكيل "ثقافة الاحتجاج" التي برزت خلال الثورة، انظر: باينين (Beinin)، 2012. أما في خصوص مجموعات الاحتجاج الشبابي التي لعبت دوراً مهماً في الحشد للثورة، انظر: عزباوي (Ezbawy)، 2012.
[4] - لقد أجرينا بحثاً ميدانياً في عدد من أحياء دمشق بين نوفمبر 2004 وجوان / حزيران 2005، ركّزنا خلاله على الأحياء اللانظاميّة مثل القابون وبرزة والمزّة 86 وسابينا والقدم والدحاديل، وتخلّلته مقابلات بحثيّة مع البعض من تجّار أسواق الحميديّة والحريقة، والبعض من سكّان أحياء دمشق القديمة. وأعقبت ذلك فترة ثانية من البحث الميداني المكثّف (بين نوفمبر 2010 وأواخر ماي / أيار 2011)، أجرينا خلالها مقابلات بحثيّة مع عدد من المعارضين السياسيّين والنّاشطين الشبّان المنخرطين في الانتفاضة عبر المساهمة في تنظيم المظاهرات والعمل الثقافي.
[5] - يتواتر استخدام مقولتي "القوى الشعبيّة" و"السياسة الشعبيّة" في تحليلات السياسات الأمريكيّة اللاتينيّة والإفريقيّة كذلك.
[6] - للاطلاع على مراجعة شاملة للمسائل التي تضمنتها كتابة التاريخ الهندي، انظر: شاكرابارتي (Chakrabarty)، 1992.
[7] - يستخدم جحا (Guha)، وهو عضو مؤسّس وبارز في مجموعة دراسات التّابع، مقولتي "الشعب" و"التّابع" كمترادفين. وقد كانت العلاقة بين الشّعبي والتّابع موضوع مراجعة نقديّة في عدد خاصّ من دورية دراسات ما بعد كولونياليّة (Postcolonial Studies)، حيث اتخذ المشاركون في هذا العدد موقفاً معارضاً لما وصفته سبيفاك (Spivak) بالانزلاق من التّابع إلى الشّعبي (انظر، في هذا الشأن، الحاشية عدد 9 أدناه).
[8] - للاطلاع على أمثلة من الكتابات حول الشّرق الأوسط المتأثّرة بدراسات التّابع، انظر: باينين، 2012 ; وفيبر (Weber)، 1998. ولاستكشاف الآفاق التي انفتحت أمام بعض دارسي الشّرق الأوسط باشتباكهم تحليلياً مع دراسات التّابع، انظر: شالكرافت (Chalcraft)، 2008. ولتكوين فكرة عن تأثير دراسات التّابع على الباحثين المختصّين في أمريكا اللاتينيّة، انظر: مالون (Mallon)، 1994.
[9] - تعرّف سبيفاك التّابع على أنّه "موقع بلا هويّة"، وهو افتراض أساسي تبني عليه رفضها للانزلاق من "التّابع" إلى "الشّعبي" ونقدها الاستخدام التحليلي لمقولة "الشّعب" بوصفها نموذجاً لـ"مجرّدٍ يدّعي أنّه عينيّ". وهذا عنصر منهجي في صياغات سبيفاك: حيث تنطلق من تفرّد الفعل التّابع والطبيعة الكامنة للفاعليّة التّابعة، لتقترح فهماً للفاعليّة الجماعيّة يكون فيه الجزء متوافقاً بالكامل مع الكلّ، وذلك في نظرها شرط أساسي لمحو الاختلاف (أي تعطيل الهويّة). فيبدو أنّ سبيفاك ترى في الهويّة (والثقافة أيضاً، في مرحلة متقدّمة من تحليلها) إدعاءً جوهرانياً بالاختلاف يتضمّن، بحكم تعريفه، شحنةً رجعيّة. لذلك نجدها تحاجج بأنّ "الهويّة قد تنزلق إلى الثّقافة"، التي تغدو بدورها "متماهية مع الدّين في غالب الأحيان". وتبقى الأسباب التي تجعل ادعاءات الهويّة وممارستها تنفي التابعيّة بما هي وضعيّة وعلاقة، وتدفع إلى اعتبارها ادعاءات وممارسات رجعيّة بطبعها، غامضة. وهو ما يجعلنا نتساءل بحقّ إن كان التعريف الذي تقترحه سبيفاك للتابعيّة لا ينطبق إلا على ضرب مخصوص من السياسات "التحرّريّة"، في حين تُقصى منه ضروبٌ أخرى من السياسات "الهوويّة" أو "القوميّة". فقد صاغت سبيفاك آراءها عن "الهويّة" و"الثّقافة" و"الدّين" بشكل تعميمي، ضمن نسق جدالي أكثر من كونه تحليلياً.
[10] - كان توفير الرّفاه يشمل التعليم المجّاني والضمان الصحي العمومي والمواد الغذائيّة المدعّمة، كما كان يتضمّن، خلال الخمسينات والستينات، مشاريع إسكان مموّلة عموميّاً تسمّى "المساكن الشعبيّة". ومع التحرير الاقتصادي، لم يعد الإسكان العمومي يمثّل سوى قطاع صغير من سوق السّكن، في حين عرفت خدمات التعليم والصحّة العموميّة عمليّة خصخصة مقنّعة، كما رُفع الدّعم عن أغلب المواد الغذائيّة.
[11] - كمثال على ذلك، كتب محلّل يساري مصري في خصوص مشاركة الفقراء الحَضَر، الذين يدعوهم بـ"سكّان مدن الصّفيح"، في الاحتجاجات قائلاً: "من حسن الحظّ أنّ هذه الكتلة البشريّة الخطيرة لم يكن لها أيّ حضور في الثورة، وربّما ساهم ذلك في جعلها متحضّرة وسلميّة الطّابع" (انظر: قنديل، 2012. التّشديد يعود لي).
[12] - للإطلاع على جرد كامل لهذه الهجمات التي استهدفت مراكز الشّرطة، انظر: المصري اليوم، 30 يناير 2011 ; اليوم السّابع، 10 فبراير 2011. وبناءً على التقارير الصحفيّة ومنشورات "الهيئة العامّة للاستعلامات"، يمكننا الجزم بأنّ 25 مركز شرطة قد حُرق في الأحياء الشعبيّة للقاهرة الكبرى خلال الفترة الفاصلة بين 25 و28 يناير 2011، وهي كلّ من أحياء: السيّدة زينب والأزبكيّة وعين شمس والسّهل والبساتين ودار السّلام وحلوان والجيزة والورّاق والطالبيّة والعمرانيّة وإمبابة وبولاق الدكرور والجمّاليّة وباب الشراعيّة والعامريّة والوايلي والمرج والشرّابيّة والزاوية والزيتون والسّلام الأول والمطريّة والنهضة والكرداسة.
[13] - مثال ذلك، صرّحت نوّارة نجم، وهي إحدى الناطقين باسم الشباب الثوري في ساحة التحرير، بأنّ حرق مراكز الشرطة هي أفعال ثوريّة صميمة، وليست أفعال بلطجة. وللاطلاع على مناقشة للنزاعات التي دارت حول استخدام البلطجة خلال حكم نظام مبارك، انظر: اسماعيل، 2006. وللاطلاع على ردّ ملتزم يعرّي وصم وسائل الإعلام الجماهيريّة لتحرّكات شباب الطبقات الشعبيّة ضدّ الشّرطة خلال أيّام الاحتشاد بساحة التحرير، انظر: عزّة (Izzat)، 2012. حيث يؤكّد عزّة بأنّ الثّورة لم تكن لتنجح دون "كسر الذراع الأمنيّة لنظام مبارك"، مذكّراً بأنّ "الشّرطة كانت العدوّ الأول للشعب المصري خلال حكم مبارك". في نفس السّياق، يتحدّى محمد أبو الغيط السّرديّات السّائدة التي تنصّب حركة 6 أبريل والإخوان المسلمين على رأس قيادة الاحتجاجات، مؤكّداً أنّ شباب الطبقات الشعبيّة قد حموا المظاهرات ولعبوا دوراً مهمّاً في تشتيت قوّات الأمن (2011). ونشكر مراجع مجلّة "دراسات مقارنة في المجتمع والتّاريخ" المجهول على تنبيهنا لمدوّنة أبو الغيط.
[14] - ونعتمد في تحليل المواجهات مع الشّرطة في الأحياء الشعبيّة على: اسماعيل، 2012.
[15] - من الجدير التذكير بأنّ أحد الشعارات المركزيّة التي رفعت في ساحة التحرير كان الشّعار السياسي والاجتماعي الجّامع: "عيش، حريّة، عدالة اجتماعيّة".
[16] - في إحدى نواحي حيّ بولاق أبو العلاء، واسمها رملة بولاق، اتخذت مقاومة السّكان لمحاولات الدّولة اجلائهم، المتوافقة مع مصالح المستثمرين الخواصّ خصوصاً منهم شركة تايكون العالميّة للاتصالات التي يملكها نجيب سوريس، منحىً عنيفاً في الأشهر الأخيرة الماضية (انظر: Elshahed، 2012).
[17] - للاطلاع على تحليل مماثل، انظر: ليفينسن وكوكر (Levinson and Coker) 2011.
[18] - لقد واصل الألتراس وشباب الأحياء الشعبيّة احتشادهم ضدّ الشّرطة ووزارة الداخليّة، تشهد على ذلك معارك شارع محمد محمود وشارع المنصور بوسط القاهرة، خصوصاً خلال شهري سبتمبر ونوفمبر 2011، وفي شهر فبراير 2012 ردّاً على مذبحة بورسعيد التي قتل فيها العديد من ألتراس الأهلي. حيث يُعتقد أنّهم قتلوا على أيدي مشجّعي فريق بورسعيد المنافس، ويُشاع أنّ الشّرطة متواطئة في ذلك. 
[19] - أدّت عسكرة الانتفاضة إلى انخراط حلب فيها، حيث تحوّلت العديد من أقسام المدينة إلى ساحات معارك ضارية.
[20] - للاطلاع على رصد للاحتشاد الاحتجاجي خلال الأشهر السّتة الأولى من الانتفاضة، انظر: Ismail، 2011.
[21] - مع الاستجابة العنيفة لقوات الأمن وتنامي الاحتجاجات وتحولها نحو التركيز على اسقاط النظام، تمّ تأسيس لجان التنسيق المحليّة. وقد استعملت هذه الجماعات صفحات الفايسبوك لتبادل المعلومات حول الاحتجاجات، بذلك أصبح يتمّ تنسيق النشاط المتمركز محليّاً سريعاً بين الأحياء وتشكل من ذلك فضاء جمع ناشطين شبّان من أصول اجتماعيّة ودينيّة متعدّدة، كما التقى الناشطون بسلفييهم وعلمانييهم في مراكز الايقاف التي تبادلوا فيها الاتصالات ووسّعوا شبكات علاقاتهم ونسّقوا نشاطاتهم (محادثات شخصيّة مع ناشطين من دمشق بين مارس ومايو 2011 ; ومراسلات الكترونيّة شخصيّة مع ناشطين من دمشق وحمص وبانياس بين أكتوبر وديسمبر 2011).
[22] - مع العسكرة المطّردة للانتفاضة، تحولت هذه الأحياء والضواحي إلى مواقع تلجأ لها وتنشط فيها المجموعات المسلّحة المنضوية تحت قيادة الجيش السوري الحرّ، ونتيجة ذلك فقد أصبحت، خلال الأشهر الأخيرة، أهدافاً لقصف القوات المواليّة للنظام وعمليّاتها العسكريّة.
[23] - لا يعني ذلك أنّ العلويّين، بما هم طائفة، يحكمون سوريا أو أنّ النظام يحكم نيابةً عنهم. فالحقّ أنّ النظام كان، إلى حدود انطلاق الانتفاضة، قائماً على تحالف تاريخي ترسّخ منذ قمع التمرّد الإسلامي سنة 1982 بين الطغمة العسكريّة العلويّة المهيمنة وطبقة كبار التجّار السنيّين، الذين مكّنهم هذا التحالف من الحفاظ على مصالحهم الاقتصاديّة وتوسيعها. وقبل قيام الانتفاضة بسنوات قليلة، بدأ ذلك التحالف يتآكل نتيجة نموّ الرأسماليّة الاحتكاريّة المرتبطة بالدّائرة المضيّقة القريبة من النظام (انظر: Ismail، 2009).
[24] - لقد أشرنا آنفاً إلى أنّ التجّار الدمشقيين المتوسطين قد امتنعوا عن الدخول في شراكات تجاريّة مع الوافدين الجدد على المدينة، بما فيهم بعض الوجوه المحسوبة على النظام. وفي المجمل، بقي السوقان الأساسيان في دمشق مغلقين في وجه الغرباء (Ismail، 2009). بذلك، يمكننا الحديث عن وجود ممارسات إقصاء مجتمعيّة يتمّ خلالها توظيف الانقسامات الريفيّة-الحضريّة والممارسات الدينيّة والثقافيّة لترسيخ التميّز والتمايز الاجتماعيّين.
[25] - لقد سلّح النظام بعض العناصر القبليّة السنيّة في شمال البلاد لمواجهة المعارضة الإسلاميّة في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. وخلال الانتفاضة الحاليّة، شكّلت بعض العشائر السنيّة الحلبيّة المتحالفة مع النظام ميليشيات لقمع المتظاهرين في المدينة.
[26] - يجادل بالانش (2011 : 450) بأنّ الأقليّات تساند النظام، وأنّ الخطر الأساسي الذي يهدّد النظام يكمن في قيام "طائفة سنيّة عربيّة موحّدة". إنّ تصوير المعارضة التي يواجهها النظام بهذا الشكل، الذي يجعل محرّكها الأساسي كامناً في التضامن الطائفي السنّي، يضخّم من ثقل العامل الطائفي في تحليل الانتفاضة. فالحقّ أنّ المكوّن المدني والسّلمي الفاعل في الانتفاضة قد أسّس لأرضيّة مناهضة للطائفيّة من خلال تصريحات هيئات التنسيق وكتابات المعارضين السوريّين. علاوة على ذلك، عبّرت بعض شرائح الطائفة العلويّة، وخصوصاً الكتّاب والمثقفين العلويّين، على دعمها للانتفاضة.

ترجمة: جهاد الحاج سالم
باحث تونسي في العلوم الاجتماعية.
سلوى إسماعيل

بروفيسورة العلوم السياسية في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن.

ذات صلة