مقاتلو إسبانيا الأجانب: لواء لنكولن وإرث الحرب الأهلية الإسبانية

22 تشرين1/أكتوير 2016
 
ترجمة: صلاح الدين الملوحي

 في 28 آذار/مارس 2008 اجتمع مئات من الناس في الواجهة البحرية في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأميركية ليشهدوا إزاحة الستار[1]عن النصب التذكاري لـ لِواء أبراهام لنكولن ((Abraham Lincoln Brigade[2]؛
وهو اللواء الذي انضم إليه 2800 أمريكي من أصل 35 ألف متطوع من أكثر من خمسين بلداً أتوا للدفاع عن الجمهورية الإسبانية ضد القوات الفاشية خلال الحرب الأهلية الإسبانية.

أدت الحرب التي استمرت من عام 1936 لعام 1939 إلى وفاة حوالي نصف مليون إنسان من بينهم 750 أمريكياً، وانتهت بانتصار الوطنين بزعامة الجنرال فرانسيسكو فرانكو (Francisco Franco).

يتكون النصب التذكاري من صفوف من الزجاج الشفاف منصوبة على أعمدة من الفولاذ على طول 40 قدماً تتضمن صوراً ونصوصاً مكتوبة. ستقرأ هذه العبارة "من الأفضل أن تموت واقفاً على أن تعيش راكعاً" المنسوبة للمناضلة الإسبانية الشيوعية دولوريس إيباروري (Dolores Ibárruri).

عند إزاحة الستار خاطب العمدةُ غيفين نيوسوم (Gavin Newsom) الحشدَ قائلاً "إن روح لواء أبراهام لنكولن هي إرثٌ توارثناه"، ثم انتقل الميكروفون إلى واحد من 11 ناجياً من قدامى المحاربين الأمريكيين الذين كانوا من بين الحضور.

غادر آبي أوشيروف(Abe Osheroff ) في عمر الحادية والعشرين منزله في بروكلين للالتحاق بالقتال في إسبانيا. رغم بلوغه الـ92 عاماً فإن نظرته للعالم لم تتغير. من كرسيه المتحرك وبلهجة نيويوركية ثقيلة هدر قائلاً "لن يوقف الأوغادُ شرورَهم ولن يتوقف الجنس البشري الكريم عن كفاحه".

بعد فترة ليست طويلة من إقامة سان فرانسيسكو لنصبها التذكاري، أزالت المدينة الساحلية الإسبانية "سانتاندير" (Santander) نصباً آخر؛ إنه تمثال فرانكو وهو يمتطي صهوة جواد. فرانكو الذي حكم إسبانيا بقبضة حديدية من نهاية الحرب الأهلية عام 1939 وحتى مماته في عام 1975. 

يدل بقاء صورة فرانكو صامدة بعد أكثر من ثلاثة عقود على رحيله، على أن ليس كل الإسبان يشاطرون أوشيروف أفكاره حول الخير والشر. في الحقيقة إن كثيراً من الإسبان وحتى اليوم لازالوا ينظرون إلى حقبة فرانكو –وإلى فرانكو نفسه- بشيء من الاعتزاز.

في عام 2006 ذكرت صحيفة "إل موندو" (العالم) (El Mundo) الإسبانية بناء على استطلاع[3] أجرته، أن ثلث الجمهور الإسباني مقتنع بأن فرانكو كان محقاً بإطاحته الجمهورية. ليس مفاجئاً إذاً معرفة أنه لم يكن الجميع سعيداً برؤية تمثال فرانكو مقتلَعاً: فعندما هيّأ العمال مصابيحهم ومثاقبهم وضع عدد من المعترضين زهوراً لإحياء ذكرى محبوبهم المستبدّ، ولقد كان حماس الإدارة المحلية في المدينة منخفضاً، إذ لم تقم بإزالة التمثال إلا بعد صدور إرادة البرلمان الإسباني.

يبدو هذا التردد والتناقض في الحكم على الرجل مستغرباً بالنظر إلى المساوئ الموثقة لفترة حكم فرانكو. لكن تجنب المواجهة المباشرة مع الماضي القريب كان عنصراً حاسماً في انتقال إسبانيا من الفاشية إلى الديموقراطية.

رتّب فرانكو -لما كان في السلطة- المشهد السياسي على أن يخلفه في الحكم الملك خوان كارلوس الأول (Juan Carlos I)، ولقد اعتلى الأخير فعلاً –بعد موت فرانكو- العرش الذي ظل شاغراً منذ عام 1931.

فور استعادة الملكية، أنجز الملك ميثاقاً مع أحزاب المعارضة الإسبانية لضمان انتقال سلمي على مدار 3 سنوات إلى الديموقراطية. من بين عناصر الميثاق الأساسية كان إصدار عفو عام عن ممثلي النظام وأفراد المعارضة. ولقد حظي هذا العفو بدعم شعبي واسع.

بعد أن تحررت أخيراً من سطوة حكم فرانكو، فإن قلة من الإسبان كانت معنية بتصفية الحسابات أو تصحيح السجلات أو توفير العدالة لضحايا النظام العديدين. وكان من نتيجة ذلك أن حافظت معظم المؤسسات القائمة على وجودها وبقي جلّ المسؤولين في مواقعهم، وبذلك أيضاً غدت مهمة اكتشاف آلاف المقابر الجماعية المجهولة لمواطنين إسبان تم إعدامهم خلال الحرب ولم يكلف نظام فرانكو نفسَه عناء نبش بقاياهم، من نصيب مجموعات من المواطنين اضطلعوا بهذه المهمة في مطلع الألفية دون دعم من الدولة.

بدأت الأمور تتغير فعلياً في عام 2007 حينما نجحت مجموعات مدنية -عبر الضغط على حكومة الاشتراكيين- في إمرار قانون الذاكرة التاريخية (Historical Memory Law). تضمن القانون إجراءات لإزالة آثار ومخلفات نظام فرانكو مثل الشوارع المسماة بأسماء جنرالات "الوطنيين" ولوحات تخليد ذكرى "الشهداء" الذين سقطوا "في سبيل الله والوطن" وتماثيل الديكتاتور السابق كالذي في مدينة "سانتاندير". ونص القانون أيضاً على تقديم الحكومة الإسبانية المساعدة لأفراد العائلات الذين يبحثون عمن تبقى من ذويهم ممن قضوا في الحرب الأهلية أو على يد نظام فرانكو. ولقد سهّل القانون للمتطوعين الأجانب الذين دافعوا عن الجمهورية مثل أوشيروف الحصول على الجنسية الإسبانية.

وعلى الرغم من الشعور العام المتزايد لصالح هذه الانعطافة إلا أن مشرعي حزب يمين الوسط المعارض "حزب الشعب PP" (Partido Popular) الذي أسسه وزير سابق في حقبة فرانكو، صوّتوا ضد معظم بنود القانون. وخلال المناقشة في البرلمان شجب نائب حزب الشعب PP القانون ووصفه بأنه "غير ضروري" و "عديم الفائدة" و"بلا معنى" وأضاف أن "خرق الميثاق الدستوري سيكون باعثاً للشقاق والخلاف". تم إمرار القانون، لكن أوشيروف لم يتسنَ له التقدم لنيل الجنسية الإسبانية. مات بعد فترة قصيرة من تدشين النصب في سان فرانسيسكو وقبل أن ينفذ القانون بشكل كامل.

واليوم بات جميع أفراد لواء أبراهام لنكولن البالغ عددهم 2800 شخصاً في عداد الراحلين، لكن قصصهم عادت الحياة عبر كتاب آدم هوتشيلد (Adam Hochschild) الجديد واللافت بعنوان "إسبانيا في قلوبنا" (Spain in Our Hearts) والذي يروي فيه مصائر مجموعة من المشاركين الناطقين بالإنكليزية في الحرب، وسيغدو الكتاب بسبب صرامته البحثية وبراعته السردية بمثابة جردة حساب نموذجية للحرب الأهلية الإسبانية يوضع بعهدة الجيل القادم من الأمريكيين.

غلاف كتاب اسبانيا في قلوبنا
   غلاف كتاب اسبانيا في قلوبنا
يوضح هوتشيلد لماذا تعاكس السرديةُ التي يواصل التقدميون الأمريكيون اعتمادها عن الحرب الأهلية الإسبانية –وهي حكاية تمرد مثالي وبطولة تلتها هزيمة مأساوية- القصصَ التي تروى عن الحرب في إسبانيا.

أمر واحد يستحضر زمناً قاد فيه الالتزامُ السياسي العميق آلافاً من الأمريكيين للمجازفة بحياتهم في حرب خارجية، وهو مغاير تماماً لفهمنا الصراع السياسي العنيف الذي مزق الجماعة الوطنية وقسّم العائلات والصداقات وخلف مئات الآلاف قتلى أو منفيين وأفضى إلى أربعة عقود من القمع.

تُستدعى روايات مختلفة عندما يتعين على الضحايا والجناة وذريتهما أن يجدوا وسيلة لمواصلة العيش معاً في بلد ديموقراطي.

"أتمنى لو فزنا"

أصبح هوتشيلد وهو المؤلف لعدد من الكتب الأكثر مبيعاً والحائزة على جوائز، منها مثلاً الكتاب التأريخي للحرب العالمية الأولى (إنهاء كل الحروب To End All Wars) و التأريخي لاستعمار الكونغو (شبح الملك ليوبولد King Leopold’s Ghost)، أصبح مهتماً بالحرب الأهلية الإسبانية في منتصف الستينيات من القرن المنصرم عندما كان مراسلاً شاباً لجريدة سان فرانسيسكو كرونيكل (الوقائع) (San Francisco Chronicle).

كتب هوتشيلد في مقدمة كتابه "كان في الجريدة صحفيان كبيران في السن حاربا ضمن لواء أبراهام لنكولن. أذكر أني سألت أحدهما..... كيف بات ينظر للحرب، فأجاب وضجيج الآلات الكاتبة اليدوية وآلات البرق وأزيز الأنابيب الهوائية التي توصل المسودات إلى عمال التجميع تملأ المكان، وبشعور عارم خلافاً للمزاح المعتاد في غرفة الأخبار، "أتمنى لو فزنا".

بالنسبة لجيله كان ارتباط هوتشيلد بمقاتلي لواء لنكولن القدامى نموذجياً، ففي الستينيات والسبعينيات لم تتسنَ للناشطين اليساريين الشباب معاينة أي شيء ذي صلة بالحرب الأهلية الإسبانية التي كانت مسلمة لديهم ووسيلة اختبار لمدى الالتزام. ولغاية اليوم لاتزال المسألة الإسبانية تمثل موضوعاً أساسياً في تاريخ اليسار الأمريكي.

أفراد من الفيلق الأممي يرفعون قبضاتهم في تحية شيوعية، 193…
أفراد من الفيلق الأممي يرفعون قبضاتهم في تحية شيوعية، 193…

بدأت الحرب الأهلية الإسبانية في صيف عام 1936 بعد محاولة عسكرية فاشلة ضد الحكومة الجمهورية التي انتخبت وقتذاك بقيادة الجبهة الشعبية (Popular Front) اليسارية.

كانت نظرة المتمردين العسكريين الوطنيين المتحالفين مع الكنيسة الكاثوليكية النافذة وطبقة مُلّاك الأراضي شديدة الثراء، إلى الجبهة الشعبية العصرية والعلمانية باعتبارها تهديداً لمصالحهم الاقتصادية والسياسية وللقيم الدينية التقليدية التي تجسد من وجهة نظر هؤلاء عظمةَ إسبانيا.

بدلاً من الوقوف إلى جانب ديموقراطية زميلة ومساندة الجمهورية، اعتزلت معظم القوى الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية الصراع، فيما دعمت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية معسكر فرانكو.

رغم ذلك، شدت الحرب انتباه الجمهور على نحو واسع (شغلت الحرب أكثر من 1000 عنوان في الصفحات الأولى لجريدة نيويورك تايمز) وانقسم الرأي العام حولها بحدة.

دعم مئاتُ الآلاف من الأمريكيين ومن بينهم مشاهير الجمهوريةَ الإسبانية بطرق عدة.  وفي حالات كثيرة أدى انخراطهم بالدعم إلى آثار لاتمحى على حياتهم وأعمالهم.

أرسل الكاتب إرنست همنغواي (Ernest Hemingway) برقيات وتقارير عن الحرب وشارك بإعداد وثائقي عنها وكتب الرواية الأكثر مبيعاً "لمن تقرع الأجراس" (For Whom the Bell Tolls) والتي تجري أحداثها في إسبانيا زمن الحرب. وغطّتْ شريكته مارتا غيلهورن (Martha Gelhorn) أحداثَ الحرب لصالح مجلة كوليرز (Collier’s Magazine) وغيرها، بادئةَ مسيرتها كواحدة من أفضل مراسلات الحرب في الولايات المتحدة. وكتب الشاعر والمسرحي الأفروأمريكي لانغستون هيوز (Langston Hughes) عن الحرب الإسبانية لصالح جريدة "بالتيمور أفرو أمريكان" ( Baltimore Afro-American) مركزاً على المتطوعين الأمريكيين السود الذي نظروا للقتال ضد فرانكو على أنه امتداد للصراع ضد الاضطهاد العنصري في بلادهم. (حصل في إسبانيا لأول مرة في تاريخ العسكرية الأمريكية أن قاد الضابط الأسود أوليفر لوو "Oliver Law" وحدة قتالية تحوي ضمن صفوفها جنوداً بيض).

وعلى الرغم من أن إحدى الشخصيات الرئيسة التي تطرق لها هوتشيلد هي الكاتب البريطاني الشاب إريك بلير ((Eric Blair الذي انضم لميليشيا الجمهورية وأصيب بجروح بليغة عام 1937 (لاحقاً غدا مشهوراً باسمه المستعار جورج أورويل "George Orwell)، إلا أن هوتشيلد تجنب بالعموم التركيز على الشخصيات المعروفة جيداً، فكان الآخرون البقية من المتطوعين الذين استعرض قصصهم أقلَ شهرةً لكن ليس جاذبية وسحراً.

كان روبرت ميريمان (Robert Merriman) الابنُ -ذو الهيبة والطول الفارع- لقاطع أخشاب، مدرسَ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا-بيركيلي. وكيساري ملتزم ذهب إلى موسكو عام 1935 لإنجاز بحث عن الزراعة السوفييتية، لكن اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية حال دون إتمام بحثه. في عام 1937وصل إسبانيا وأصبح آمراً لكتيبة لنكولن التي أصبحت مع انضمام كتائب أخرى ناطقة بالإنكليزية لها الفيلقَ الأممي الخامس عشر التابع للجمهورية.

مات ميريمان في السنة التالية لوصوله في ظروف غامضة. توجد روايات متضاربة حول رحيله لكن يظهر أن وحدته تعثرت بقوات العدو خلال انسحاب فوضوي. والأرجح أنه أعدم في الميدان واستحال العثور على جثته. كان ميريمان مصدر إلهام لبطل رواية "لمن تقرع الأجراس"، ولقد تشارك هوتشيلد مع همنغواي في الافتتان بـ "الاقتصاديّ" الذي حوّله التاريخ إلى قائد عسكري بارز.

يسرد هوتشيلد أيضاً قصة الصحفي الأمريكي لويس فيشر (Louis Fischer) الذي أعد تقارير من الاتحاد السوفييتي في السنوات التي تلت الثورة الروسية وكتب متعاطفاً مع البولشفيك. غطى فيشر الحرب في إسبانيا لصالح المجلة اليسارية "الأمة" (The Nation) وخدم كمستشار غير رسمي لقيادة الجمهورية، وذلك بعد فترة قصيرة قضاها كأمين مستودع في الفيلق الأممي الخامس عشر. (لم تكن هذه الأدوار المتغيرة للمتطوعين مستغربة، ذلك أن العديد من المراسلين الأجانب في إسبانيا كما أوضح المؤرخ بول بريستون "Paul Preston" لم يقتصروا على مد يد العون بطريقة واحدة دون سواها).

لم تكن رومانسية الشباب وحدها -كما يكتب هوتشيلد- التي ساقت فيشر إلى مواقع يسارية وإنما أيضاً التعطش للتقدير والتقرب من السلطة. لكنْ وعلى إثر حملات التطهير التي قام بها ستالين فإن افتتان فيشر بالشيوعية انقلب إلى خيبة أمل، فساهم لاحقاً بمقالة في كتاب "الصنم الذي هوى" (The God That Failed)، وهو عبارة عن مجموعة شهادات لشيوعيين سابقين نشر عام 1949 وأصبح واحداً من أدبيات مناهضة الشيوعية زمن الحرب الباردة.

لازال التورط السوفييتي في الحرب الأهلية الإسبانية مسألة مثيرة للجدل إلى غاية اليوم كما كانت في ثلاثينيات القرن المنصرم. إذ زاد الدعم السوفييتي من نفوذ الحزب الشيوعي في الجمهورية، وعمل العملاء السوفييت بالتنسيق مع السلطات الجمهورية على سحق المنشقين، مكررين حملات التصفية الجارية بذات الوقت في موسكو. مع ذلك فإن سطوة موسكو في إسبانيا كما يرى هوتشيلد بقيت محدودة بخلاف المبالغات التي تم تداولها، ولقد كشف هوتشيلد زيف الفكرة الشائعة في أوساط بعض المؤرخين المحافظين بأن انتصار الجمهورية كان سيحول إسبانيا إلى دولة سوفييتة. وهو الوهم الذي عززته صورة فرانكو أثناء الحرب الباردة باعتباره المناهض للشيوعية والحارس للغرب.

اهتم هوتشيلد بشكل خاص –بالنظر لكونه صحفياً- بالطريقة التي غطى المراسلون من خلالها الحرب وبالمعادلة التي جروا عليها بين التزاماتهم السياسية وواجباتهم المهنية وبالكيفية التي أدار بها المحررون وملاك الصحف جوانب التغطية. ولقد اكتشف بأن العديد من الصحفيين كانوا عرضة للوقوع في فخ "سلوك القطيع" وتناسي أحداث هامة من قبيل المدى والأهمية اللتين حظيت بهما الثورة الاجتماعية التي حصلت في كاتالونيا وغيرها في الأشهر الأولى من الحرب عندما استولت المنظمات العمالية على مفاصل الاقتصاد وعندما "افتتح الإسبان خلال فترة قصيرة فصلاً جديداً من المعركة الطبقية الدائرة منذ قرون في أوروبا".

ولقد فجر هوتشيلد مفاجأة لم تذكرها وسائل الإعلام أثناء الحرب: وهي قصة كيف ساعد توركيلد ريبر (Torkild Rieber) النرويجي المولد والرئيس التنفيذي لشركة تكساكو للنفط (Texaco) والمولع بعدد من الديكتاتوريين الفاشيين، فرانكو للظفر بالحرب.

زوّد "ريبر" فرانكو بـ 380 ناقلة نفط مليئة بالوقود وفق بطاقات ائتمان، منتهكاً بذلك على نحو واضح قوانين الحياد التي اتخذتها الولايات المتحدة. بل ذهب ريبر أبعد من ذلك، إذ استغل شبكته العالمية للحصول على معلومات مفصلة عن خطوط سير ومواعيد ناقلات النفط المتجهة للجمهورية، ما أدى إلى قيام فرانكو وحلفائه النازيين الألمان بإغراقها.

تساؤلاتٌ أكثر من الإجابات

خدمت الألوية الأممية كوحدات مباغتة لصالح القوات الجمهورية في المعارك الرئيسية، بيد أن معظم المتطوعين كانوا يفتقرون للخبرة القتالية وكانت أسلحتهم أقل من المطلوب، ولقد أشار هوتشيلد إلى أن المتطوعين الأميركيين عانوا من نسبة وفيات أعلى مما عانته أية قوة أميركية عسكرية أخرى خلال القرن العشرين. شارك لاحقاً كثيرٌ من الناجين في الحرب العالمية الثانية وعاشوا بعدها حياة ملؤها السياسة. وبحلول الستينيات حقق العديد من هؤلاء هالة أسطورية. يكتب هوتشيلد "لقد رأيت محاربي لواء لنكولن يهتفون بحماس في المظاهرات المؤيدة للحقوق المدنية والمناهضة لحرب فييتنام وللتدخل الأمريكي في أمريكا الوسطى في الثمانينيات".

يلاحظ هوتشيلد أن "جميعنا نحن المعنيين بالعدالة الاجتماعية نشعر بالحاجة لأسلافَ سياسيين"، ولقد وجد يسار مابعد الحرب الأمريكي ضالَّته في متطوعي لواء لنكولن.

لكنه (أي هذا اليسار) ورث عنهم أيضاً في بعض الأحيان النظرة الضيقة والحزبية المفرطة للصراع. (لما عاد أحد قادة لواء لنكولن ميلتون وولف "Milton Wolff" إلى إسبانبا في عام 2006، زار مقبرة حربية قرب غانديسا Gandesa في كاتالونيا، وبعد أن تعثر خطأً بشواهد قبور لجنود موالين لفرانكو سأل بازدراء "هؤلاء فاشيون؟ لايوجد ما يكفي منهم!").

تنبع الخلافات الدائمة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حول معنى الحرب وإرثها من عدة مصادر: منها أولاً: أن الصراع كان معقداً إلى حد كبير، إذ أن طيفاً واسعاً من القوى الخارجية كان منخرطاً بالحرب، ففي صفوف كلا الطرفين وُجد الكثير من الفاعلين السياسيين المختلفين: فوضويين واشتراكيين وتنويعات شتى من الشيوعيين، جميعهم يقاتلون لأجل الجمهورية. وعلى الجانب الآخر اصطف كل من الفاشيين والكاثوليك وراء الوطنيين.

ثانياً: صيغت كل السرديات حول الصراع في زمن الحرب الباردة عندما دخلت الولايات المتحدة في تحالف رسمي مع إسبانيا الفرانكوية، ونتيجة لذلك اصطبغت حتماً معظم روايات الحرب بالأيديولوجيا.

تصر الروايات الدينية المحافظة على أنه ما كان أمام فرانكو من خيار سوى التمرد على الجمهورية لحماية إسبانيا من الشيوعية.

يؤكد التصور اليميني للصراع على الطبيعة الثورية للجمهورية ويجادل بأن الجمهوريين والداعمين الدوليين كانوا مختطفين من قبل حركة شيوعية عالمية تخضع بدورها لتصورات ستالين المنحرفة.

بالمقابل يلوم الجناح اليساري المناهض لستالين السلطاتِ الجمهوريةَ التي هيمنت عليها الرؤى الشيوعية على خسارة الحرب نتيجة ممارسات الفوضويين العنيفة وعديمة الرحمة بتأميم المصانع والعقارات وباضطهاد كل من يعارض خط الحزب.

وُجدت أخيراً رواية سادت في أوساط محاربي لواء لنكولن (ومعظمهم كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي أو زملاء اشتراكيين سافروا معاً) تشدد على الشرعية القانونية للجمهورية وقسوة الفاشية الفرانكوية وحكمة قَبول الدعم السوفييتي.

ينقل لنا هوتشيلد هذه السرديات ببراعة وحساسية، ورغم أنه لا يخفي إعجابه بهؤلاء المتطوعين -مثل ميريمان- الذين وهبوا حياتهم للقيم التقدمية إلا أنه بالمقابل لا يتردد في إبداء الخجل من السمات غير الجديرة بالاعتزاز التي اتصفت بها السياسات اليسارية في تلك الحقبة. يقر هوتشيلد بأنه لدينا من التساؤلات حول الحرب الأهلية الإسبانبة أكثرَ مما لدينا من الإجابات، وخصوصاً عند ملامستنا لمسألة التدخلات الدولية التي لاتزال تحظى بالراهنية، إذ مافتئ سؤال الحكمة من تدخل القوى الكبرى في النزاعات البعيدة يطرح نفسه.

ماضٍ لا يمضي

من البداهة أن يكون للنقاش الدائر في إسبانبا حول الحرب الأهلية خط سيره المتفرد.

برّر فرانكو تمرده على الجمهورية عام 1936 بأنها حرب صليبية لحماية إسبانيا من الشيوعية والجمهورياتية والماركسية واليهودية والماسونية وغيرها من المذاهب "الشائنة".

بعد هزيمة حلفاء فرانكو الفاشيين في الحرب العالمية الثانية باتت إسبانيا معزولة من قبل المجتمع الدولي. لكن توقيع إسبانيا في بداية الخمسينيات لمعاهدة مع الولايات المتحدة ودخولها عام 1955 إلى الأمم المتحدة ساعداها في تحسين مكانتها الدولية.

بحلول الستينيات ومع ازدهار الاقتصاد الإسباني وتسويق نظام فرانكو لنفسه كضامن للاستقرار والسلام، طرأ تحول على السردية السائدة حول الحرب؛ بات العديد من الإسبان ميالين للرؤية الفرانكوية القائلة إن الفوضى التي رافقت أعوام الجمهورية قد أفسحت المجال لثلاث سنوات من الجنون الجماعي. ومع موت فرانكو ساعد التخوف الواسع من نشوب صراع أهلي جديد في توفير السند الشعبي لحل وسط بين النظام والمعارضة، فقدم الطرفان تنازلات كبيرة.

لسنوات عديدة اعتبر التحول الديموقراطي في إسبانيا نموذجاً للاعتدال والمنطق السليم وكان بمثابة باعث كبير للاعتزاز الوطني. لكن مع حلول التسعينيات بدأ عدد متزايد من الإسبان بالتساؤل حول لماذا لم يتم حتى اللحظة تحديد المسؤولين عن آلاف الحالات التي جرت فيها انتهاكات لحقوق الإنسان أثناء وبعد الحرب.

في العقد التالي اندلعت مجموعة من المعارك الثقافية حول عدة مسائل منها الإجهاض وزواج المثليين وحرب العراق ووحدة الدولة الإسبانية.

لكن وبشكل مفاجئ وضمن بيئة سياسية غدت أكثر استقطاباً، بدا وكأن الإجماع الوطني حول الماضي القريب –أو على الأقل فقدان الرغبة بالجدال حوله- ينزلق هارباً من أيدي الإسبان.

جهر اليسار بما كان يخفيه خجلاً؛ عاقداً الصلات بين حزب الشعب PP (الذي حكم من 1996 إلى 2004) وإرث فرانكو. بالمقابل اتهمت الأجنحةُ اليمينية الحكومةَ الاشتراكية التي حكمت من 2004 إلى 2011 بتكرار السياسات العدائية التي كانت تتبعها الجمهورية القديمة. وفي غضون ذلك استنكرت شبكة المنظمات المدنية التي أصبحت أكثر اتساعاً ما أسمته "اتفاق الصمت" وبدأت حملة للكشف عن جثامين ضحايا "الوطنيين" في المقابر الجماعية المجهولة.

أسفرت ضغوط هذه المنظمات عن صدور قانون الذاكرة التاريخية في عام 2007 وعن قيام قاض إسباني رفيع المستوى –في السنة التالية- بمحاولة (باءت بالفشل في نهاية المطاف) لفتح تحقيق جنائي في أكثر من مئة ألف جريمة قتل واختفاء قسري ارتكبت في الفترة من منتصف الثلاثينيات وحتى الخمسينيات من القرن المنصرم.

تشهد السياسة الإسبانية اليوم تغييرات كبيرة لم تعرفها البلاد طوال الـ35 عاماً الفائتة، إذ تطوّرَ عدم الارتياح من اعتماد التحول الديموقراطي على العفو (وهو عدم الارتياح الذي عبر عنه لأول مرة من قبل حركة الذاكرة التاريخية) إلى استياء واسع النطاق من آلية عمل النظام السياسي مابعد فرانكو.

في ربيع عام 2011 خرج الآلاف من الإسبان إلى الشوارع ملتفين حول شعار "الديموقراطية الحقيقية الآن!" (Democracia real ya!)، منتظمين حول الحزب اليساري المناهض للتقشف بوديموس "نحن نستطيع" (Podemos) الذي يستوحي أفكاره من الجمهورية ويميل لإنهاء العفو.

وحتى في أوساط المحافظين بدأت بعض الأصوات تعترف بأن إعادة النظر في الماضي لا تعني فتح جروح قديمة.

انتخبت مدريد في عام 2015 مجلساً محلياً تقدميَّ النزعة لإدارة المدينة ترأسَتْه القاضية المتقاعدة والناشطة الشيوعية السابقة مانويلا كارمينا (Manuela Carmena) التي تعهدت بتطبيق قانون الذاكرة التاريخية الصادر عام 2007 والذي تجاهله مَن سبقها في منصب العمدة.

من المؤكد أنه لازالت حتى اليوم العشرات من شوارع مدريد تحمل أسماء فرانكو وجنرالاته. غير أن العاصمة الإسبانية اختارت في نوفمبر الماضي موقعاً لساحة خصصتها للمتطوعين الأجانب الذين قاتلوا ضد الجنرالات. أصبح اسم الساحة: ساحة الألوية الأممية (la Plaza de las Brigadas Internacionales).

المصدر:  Foreign Affairs

المراجع:

1 انظر الرابط
 
2 انظر الرابط
 
3 انظر الرابط
 
* الصورة الرئيسية: مقاتلون جمهوريون في إلغيتا Elgeta (إقليم الباسك شمال إسبانيا) أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، حوالي عامي 1936 و1937

صلاح الدين الملوحي
مترجم وباحث سوري، كندا.
SaveSaveSaveSave
سيباستيان فابر

بروفيسور الدراسات الإسبانية في كلية اوبرلين ، الولايات المتحدة الأميركية.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.