Print this page

"المثقفون ضد سلطة رجال الدين في إيران؟"

23 تموز/يوليو 2016
 
 كتب هذا البحث: السوسيولوجي الايراني فرهاد خسرو، والباحث الايراني المتخصص في الفكر الاسلامي الشيعي المعاصر محسن متقي.
ترجمها عن الفرنسية: وحدة الترجمة في معهد العالم للدراسات.
لدينا من جهة المثقفون التقليديون ورجال الدين والفلاسفة الذين عملوا على فك الإرتباط بين الدين والسياسة وبحثوا في الآليات الديمقراطية لبلدهم وسعوا إلى تحديد كل مجال من هذه المجالات وحمايته.
أما في الجهة المقابلة فلدينا مثقفو الأقليات من محامين وصحفيين ونشطاء الذين عملوا على تنحية القضايا الدينية جانباً والعمل على أوسع نطاق من أجل تأكيد كرامة المواطنين في حياتهم اليومية باسم العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان.
ولكن كلا الطرفين يرفضان فعلياً أي نظام قائم على سلطة رجال الدين.
لم يكن للثورة الإيرانية نتيجة واحدة فقط وهي إسقاط نظام الشاه واقامة نظام ثيوقراطي وفقاً للمذهب الشيعي. فقد ساهمت هذه الثورة بدورها في علمنة الدين ونزع الشرعية عن النظام الثيوقراطي.
إن افول عهد الشيوعية وإنتهاء الحرب الإيرانية- العراقية (1988) ووفاة آية الله الخميني (1989)، كل تلك الأحداث قد دشنت عصراً جديداً، تميّز بخيبة الأمل الثورية، وفقدان الهيبة الخاصة بسلطة رجال الدين وكذلك إعادة النظر بأدلجة الدين.
لقد شهدنا، بعد إنقضاء العقد الأول من الثورة الإيرانية، انبثاق ظاهرة المثقفين ما بعد الإسلاميين[1] وكان ذلك تحديداً في بدايات التسعينيات من القرن الماضي. اذ طالب هؤلاء المثقفون، باسم الإسلام، بفصل الموضوعات الأيديولوجية الإسلامية عن المجال السياسي.  بيد أن هذا العمل الذي أعاد النظر في التشابك الوثيق بين المجالين السياسي والمقدس الذي قام عليه الإسلام السياسي، ليس جديدا بل نجده في التراث الإسلامي.[2]
لقد حاولوا باسم الدين فصل السياسة عن الدين. هذا الفصل الذي يرتكز على الشرعية الدينية وليس على مفهوم علماني مستقل عن الدين.
إذاً، فقد طالبوا، باسم الاسلام،استقلالية الفضاء السياسي بغية الإبقاء على الدين في مجاله الخاص (أي الأمور الروحانية والإيمانية)، وأن يضمنوا للمجال السياسي وظيفته البشرية حصراً، وهو مجال قابل للنقد والتناول من زوايا مختلفة. وقد تجلى ذلك المنهج لدى كل من عبد الكريم سروش (Abdolkarim Soroush)[3] و مجتهد شابستاري (Mojtahed Shabestari)[4].إن وظيفة الدين يجب أن تكمن فقط في تبرير شرعية المجال السياسي.
 
المثقف الإيراني عبد الكريم سروش
المثقف الإيراني عبد الكريم سروش
 
 كما طالبوا بوضع الحدود بين السياسي والديني ولو انطلاقاً من المقتضيات الخاصة بالدين. وذلك لضمان الاستقلالية الروحية في حياة المؤمنين في مواجهة تقلبات السياسة وبشكل خاص في مواجهة تصوّر ثيوقراطي يرفض تلك الاستقلالية للجانب الروحي ويحاول إقحامه تماماً في المجال السياسي.
وحين أراد هؤلاء المثقفون أسلمة السياسة فقد سيّسوا الإسلام دون وجه حق، وذلك بأن نزعوا عنه البعد الروحي بغية أدلجته. إن هؤلاء المثقفين المنتمين لجيل الثورة الإيرانية، قد بدأوا تدريجياً الإبتعاد عن السلطة المهيمنة لتأسيس مقاربة جديدة للدين مغايرة لنظرية ولاية الفقيه (التي قامت على الهيمنة المطلقة للفقيه الإسلامي والتي جسّدها آية الله الخميني ومن ثم آية الله خامنئي).
لقد عارض هؤلاء المثقفون شرعية السلطة كما جاء بها رجال الدين الشيعة؛ وعلى رأس هؤلاء المعارضين نجد محسن كاديفار (Mohsen Kadivar) الذي اتهم اسلافه مبيّنا بأن أحاديث الرسول (ص) التي قامت عليها نظرية ولاية الفقيه ضعيفة ولا يمكن الوثوق بها طالما أن تاريخها يعود الى فترة متأخرة[5]. وقد كان هدفه الصريح من ذلك، تأسيس نظرة جديدة للدين تشرعن انفتاح المشهد السياسي على التعددية.
 وقد تميّزت هذه الحركة الفكرية بعدة موضوعات: نقد السلطة الدينية التي يجسدها مرشد الثورة، إقامة منهج للدين يجعله متوافقاً مع الحداثة التعددية، وضع تصور للديمقراطية الذي يفسح مجالاً للدين دون أن يكون له دور في تأسيس شرعية السلطة، مشاركة مباشرة أو غير مباشرة في عملية نزع الشرعية عن السلطة الدينية، وأخيرا علمنة الفكر الديني.
ومن المؤكد بأن هناك من التناغم ما يجمع بين هؤلاء المثقفين ولكن مناهجهم تختلف حسب نشأتهم الثقافية واهتماماتهم النظرية.
فمثلاً، نجد بأن سروش يستند الى التراث الفلسفي الغربي كما يستند الى المدرسة الصوفية في الإسلام كي يعيد النظر في مسألة تسييس الدين. فقد شرع في نقد احتكار سلطة رجال الدين[6] وذلك حين ميّز بين النص المقدس وتأويله، وبذلك يكون قد مهّد الطريق بنقد تأويلات رجال الدين دون المساس بقدسية النص أو الدين ذاته. فمن وجهة نظره، إن الإكتشافات العلمية تسمح لنا بفهم جديد للنص المقدس، الأمر الذي يؤدي الى تغيير نظرة الإنسان المؤمن لدينه. وقد عرض منهجه بالقول بأن القرآن بحد ذاته نص صامت، وأن المسلمين هم الذين يقومون بتفسيره من خلال جعله نصاً ناطقاً، وذلك حسب معارفهم وتجاربهم.
أما فيما يتعلق بنظام الحكم، فإنه يستند الى نظرية بوبر Popper حول الدولة الحديثة ونقده لأنظمة الحكم الشمولية.
وبالنسبة لسروش، فإن ممارسة السلطة بكافة أشكالها هو شأنٌ علمي وتقني ولا علاقة له بالمسائل الدينية. فلا يمكن أن يقوم نظام حكم على أساس الإسلام إلا حين تكون غالبية البلد من المسلمين. وبالرغم من ضرورة هذا الشرط الا أنه غير كافٍ، لأن أنظمة الحكم تقوم على حق المواطنين والذي لا يُعتبر مسألة دينية بل مدنية.
إن الشريعة الاسلامية، بوصفها شأناً مدنياً، يمكنها أن تساهم في الأطروحات التي تدور حول تنظيم المجتمعات، ولكنها بالمقابل لا يمكنها ان تطرح نفسها كمصدرٍ وحيد للقانون كما أنها لا تملك أية صفة مقدسة.
ويحاول سروش التوفيق بين الفكر الاسلامي والأفكار العقلانية والليبرالية للغرب. فنراه حين يعارض الإستبداد السياسي، فإنه ينتقد بشكل مكشوف سلطة ولي الفقيه محاولاً الدفاع عن نظام سياسي يجب أن يكون حيادياً في المسائل الدينية.
لقد أيّد سروش، في مؤلفاته الأولى، إمكانية قيام حكم ديمقراطي ديني قادر على استخدام كافة الوسائل التي تساهم في تطور البلاد، دون التدخّل في مجال العقيدة والإيمان. إن مثل هذا الحكم عليه أن يحافظ على حياده وأن لا يُكرهَ المواطنين على اعتناق دينٍ ما، ولا أن يكرههم على أي شيء أيضا بحجة أنه يقودهم الى الجنة. إن الحكومة الدينية لا تقوم سوى على حق المواطنين وهو حق مدني: " يجب أن لا نتوقع أن هناك اختلافاً كبيراً بين نظام حكم ديمقراطي ديني وبين باقي أشكال أنظمة الحكم الديمقراطية. فإذا كنا نسير على أقدامنا في عالم من العقلانيين، فإنه لا يمكن السير على رؤوسنا في عالم المتدينين! أين تكمن المشكلة إذا توصلت باقي الشعوب الى نفس النتائج التي توصلنا إليها نحن؟"[7]
 
 
إن المعضلة التي يحاول سروش جاهداً التغلب عليها تكمن في الآتي: كيف يمكننا أن نصل الى الديمقراطية، التي تقوم على المواطنة من دون الاعتبار للإنتماء الديني، انطلاقاً من رؤية دينية وخاصة أن الإسلام يتدخل بشكل فعال في الأمور النظرية كما أنه يحدد مسبقاً فكرته للمواطنة؟
إن حجته الجدلية المراوغة تكمن في القول بأن المتدينين هم أناس عقلاء وأن سلوكهم في مجال العلاقات الاجتماعية والسياسية لا يختلف عن سلوك باقي المواطنين العقلاء في الديمقراطيات العلمانية. وبالنتيجة، فإن "المجتمع المدني الديني" سيكون مجتمعا مدنيا فقط من حيث العلاقات السياسية والاجتماعية.
فإذا كانت هذه المعادلة صحيحة، لماذا إذاً الحديث عن "مجتمع مدني ديني" وليس عن مجتمع مدني فقط؟ إن هذه النظرة للأمور تتجاهل المشكلة الجوهرية للمواطنة والتي لا يمكن أن تتحدد في إطار الإنتماء الديني.
ولكن في هذا الإطار من السفسطة الجدلية يكمن، من جهة ما، البعد التحرري لرؤية المثقفين المتدينين من أمثال سروش. إنهم يفترضون بأنه لا تعارض بين الدين وفكرة المواطنة وبالتالي عليهما أن يتلاقيا.
إن هذا التلاقي لا يجيب عن السؤال الشائك عن علاقة السياسي بالديني من منظور إسلامي، ولكنه يكتفي بتبرير موقف دعاة الإصلاح على الصعيد الاجتماعي داخل المجتمع الإيراني. إن البعد العملي بل حتى النفعي نراه يعلو هنا على البعد اللاهوتي البحت.
فإذا كان سروش يستند إلى نظرية المعرفة في العلوم للتشكيك بقدسية النصوص التي أنتجها علماء الدين، فإننا نرى رجل دين مثل مجتهد شابستاري (Mojtahed Shabestari) يسترشد بالتيار التأويلي الفلسفي والديني كي يصل الى دعم فكرة تعدد القراءات في الإسلام ونقد "القراءة الرسمية للدين". فبالنسبة له ليس هناك من فهم للدين يمكن أن يدّعي القدسية، من منطلق أن هذا الفهم نفسه هو عبارة عن نتاج بشري وليس ديني.
وبالنسبة لمجتهد شابستاري فإن التحدي الذي واجه العالم الإسلامي يكمن في علاقته بالديمقراطية. فقد أكد على ضرورة قيام سلطة ديمقراطية، وأن ما يطرح الإشكال هو محاولة قيام ديمقراطية إسلامية. فالديمقراطية بالنسبة له ليست إسلامية كما أنها في الوقت نفسه ليست معادية للإسلام. فهي ليست سوى شكلاً من أشكال الحكم وأسلوب إدارة الفضاء العام والسياسي.
فالأمر يقتضي أن ندعم الديمقراطية لدى المسلمين وليس أن ندعم ديمقراطية إسلامية. أي أن ندعم ديمقراطية تقوم على الحرية والمساواة والتي يمكن أن يعيش في ظلها المسلمون ويمارسون شعائرهم الدينية أيضا. وبالتالي ليس علينا أن نفتش في القرآن أو في تراث المسلمين عن ديمقراطية معينة، بل علينا الدفاع بشكل عقلاني عن هذا الأسلوب في الحكم الذي يتعارض تماما مع كل أشكال الحكم الشمولي والديكتاتوري أياً كانت طبيعته.
لقد كتب شابستاري مدافعاً عن هذه الفكرة: "ليس هناك من دين حدّد شكلاً معيناً من الحكم. وتَصدقُ هذه المقولة على الإسلام أيضا. فقد كان الرسول (ص) يتبع قوانين زمانه حين كان الأمر يتعلق بشكل الحكم، كما أنه لم يؤسس لنمط معين للسلطة أو الحكم. أمّا ما نجده من مبادئ عدم المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، وبين الرجال والنساء التي نجدها في القرآن وكتب التراث وفتاوى الفقهاء، كل ذلك كان متعلقا بسياقات اجتماعية وتاريخية لذلك العصر. وبالتالي من الجائز لنا اليوم أن نفكر بطريقة مغايرة تماماً."[8]
من هنا، فهو يرفض أية محاولة لاستنباط مبادئ تنظيم مجتمعات المسلمين عن طريق اللجوء الى النصوص المقدسة أو المبادئ الدينية.
كما أن محسن كاديفار (Mohsen Kadivar)، الذي تشكّل وعيه في المدارس الفقهية وتأثر بأستاذه منتظري، نراه من جهته يبتعد عن فكرة الجمهورية الإسلامية منتقداً نظرية ولاية الفقيه كخيار وحيد لحكم البلاد. كما أننا نراه في الكثير من كتبه يستعرض مختلف التصورات حول الدولة الإسلامية، ويشدد على ضرورة وجود تعددية لمفاهيم تلك الدولة، كما يشير إلى أن موقف أنصار ولاية الفقيه هو موقف الأقلية.
 
رجل الدين الإيراني حسين منتظري
رجل الدين الإيراني حسين منتظري
 
إن كاديفار يمهد الطريق أمام نقد الدولة الإسلامية من داخلها، دون إنكار لدور الدين في الحياة السياسية للبلاد. كل ذلك انطلاقاً من منهجه الذي أسسه على تراث فقهاء الشيعة كما على العلوم السياسية.
ولكونه أحد رجال الدين المعمّمين وتلميذاً لآية الله أكبر منتظري وحامل شهادة الدكتوراة في العلوم السياسية، فإنه يمتلك كل الصفات التي تؤهله لمواجهة منظّري السلطة المطلقة اللإيرانية.
ونراه كذلك يستخدم تعدد التفسيرات للسلطة الدينية بغية تجريح القراءة الرسمية لها، كما أنه يدافع عن سلطة سياسية تقوم على العقل. إن موقفه من الديمقراطية يأتي في مفرق طرق: تصور حديث للسلطة،  يمتلك على الأقل الرغبة في المحافظة على الدين وإبقاءهُ في الفضاء العام. وبالرغم من أنه يرفض فكرة الجمهورية الإسلامية إلاّ أنه يؤيد حق الدين وقدرته على طرح آفاق وتصورات عامة للمجتمع. إن الدين لا يحارب السياسة ولكن بالمقابل عليه أن يحرص بأن لا تتعارض القوانين مع المبادئ الدينية الأساسية. إن هذا الموقف يبعده عن المدافعين عن الإسلام السياسي كما يميّزه أيضا عن بعض المثقفين المتديّنين.
وأخيرا، نجد أن اشكيفاري (Eshkevari)، الذي ينتمي الى تراث شريعتي[9]، ينسحب منه تدريجيا كي يطرح تصوراً علمانيا للسلطة السياسة. فنراه يشكك في كتاباته بالأصل الالهي للسلطة السياسية ويعتقد بأن الله (تعالى) قد فوّض سلطته للجنس البشري، وأن الإنسان بصفته خليفة الله فهو يمتلك إمكانية ممارسة سلطته وسيادته بشكل جماعي. ثم يختتم فكرته بالقول بأنه "ليس للمسلمين أي خيار سوى الديمقراطية، لأن كافة الأشكال الأخرى من الحكم قد أخفقت وأدت في الممارسة إلى الإنحطاط".
يعرض لنا اشكيفاري تحليله لشكل الحكم بالعبارات التالية: "أعتقد شخصيا بأن حكم الرسول (ص) لا علاقة له برسالته الدينية. وبعبارة أخرى، فإن ممارسته للسلطة السياسية لا تضفي عليه صفته النبوية. فإذا افترضنا عدم ذهابه إلى "المدينة المنورة"، سيكون أيضاً قد أنجز رسالته النبوية وقام بمسؤوليته بشكل كامل". "إننا نجد في القرآن الكريم فقط خمسمائة آية من أصل ستة آلاف آية، هي التي تتناول فقط الأحكام العملية... فمن الواضح إذاً أن هذه الآيات الخمسمائة ليست كافية للتعامل مع المجتمعات الحالية المختلفة جداً وإدارتها"[10]
وهو يؤكد بأن الأحكام الشرعية، وخاصة الأحكام التي تخص المجتمع، تتعلق بالسياق التاريخي لنشأة الإسلام، وبالتالي ليس هناك أي مسوّغ يدعونا إلى تطبيقها كما هي في سياقات تاريخية وجغرافية وثقافية مغايرة.
إن هؤلاء المثقفين المتديّنين قد شاركوا، كل بطريقته، في علمنة الفكر الديني الذي اتّخذ منعطفاً جديداً في ايران ما بعد الثورة. وبشكلٍ عام يمكننا أن نميّز بين نوعين متعاقبين من العلمنة في ايران اعتباراً من النصف الثاني من القرن العشرين.
في البداية، نلاحظ حركة تنادي بنزع الصفة التقليدية عن الدين وذلك عن طريق تسييسه بالمعنى الثوري (من روادها شريعتي، خميني، طالقاني، مطهري الخ..). إن هذا التسييس استطاع أن يكسر هيمنة المذهب التقليدي، بلجوئه الى فكرة "الشعب المسلم"، فتمكّنَ بذلك من أن يفتح الطريق لظهور نمطٍ جديد من التديّن تضافرت فيه المفاهيم الأساسية للمذهب الشيعي في أسلمة السياسة وتسييس الدين. وقد تعلمنت تلك الحركة تحت صيغةٍ شعبوية بحيث أن المرجعية للشعب عرّضت للخطر الرؤية المتعالية للدين.
و في مرحلة ثانية، انبثق نموذجٌ جديد من العلمنة من سماته نزع الشرعية عن الثيوقراطية الإسلامية بشكلٍ تدريجي وبداية علاقة جديدة بين الديني والسياسي قائمة على التباين مع استمرارية الحركة التي عبّرت عن النموذج الأول للعلمنة.
وهنا نجد دوراً لإضفاء الطابع الفردي للعامل الديني. كما أن التباين بين المجالين الديني والسياسي قد تمت الإشارة اليه عن طريق استحالة الانتقال من جهة الى أخرى: فالمجال الخاص هي الحياة الخاصة للإنسان المؤمن،  أما المجال العام فهو حقل المشاركة على السلطة ذات الطبيعة الدنيوية.
إن هذا التصور الثاني للعلمانية، قد حرص على التركيز على ذلك التباين بين المجالين لمنع الانتقال من جهة إلى أخرى.
منذ  حوالي عقد، نشهد ظهور  نمطٍ جديد من المثقفين، أكثر تواضعاً وأقل نزوعاً في رؤيتهم الإيديولوجية، يتبنى حقوق الإنسان إضافة الى مجموعة من المقولات الأخلاقية كما المعاهدات الدولية التي انضمت اليها إيران، بهدف وصوله الى المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين وحقوق المواطنة.
إن هذا النمط من الموقف الفكري، والذي شاركت فيه النساء بشكل فعّال كماً ونوعاً، لا يتبنى دوراً رائداً كما هو شأن المثقفين الإيرانيين (بمن فيهم الإصلاحيون المتدينون)، بل يتبنى وجهة نظر "متواضعة"، مُستهدفاً في البدء إثارة بعض القضايا الدقيقة حول موضوعات بعينها، كحق المرأة في الإجهاض وحضانة الأطفال و"حق الدم" (فالمرأة تساوي شرعاً نصف الرجل من حيث حقوق الأسرة كذلك بالنسبة لحالة القتل).
إن هؤلاء "المثقفين الوسطيين"[11] لا يهتمون كثيرا بقضايا السلطة الدينية في عمومها بقدر اهتمامهم بقضايا محددة كالفساد وتجاوزات الحكام وحقوق الإنسان وخاصة الحقوق المدنية منها ومسألة المثول أمام المحاكم الخ..
فهم أقل انشغالاً بأدلجة الاسلام أو العلمنة  من انشغالهم بإرساء أسس التعددية السياسية انطلاقاً من الواقع الملموس، مشددين على تكوين رأي عام قادر على حشد الجماهير لوضع أسس مجتمع مدني.
وفي هذا السياق، أطلقت النساء، منذ عقد، "حملة من أجل مليون توقيع"، طالبن فيها بالمساواة في الحقوق بين الرجال والنساء دون الاهتمام كثيراً بمسألة اظهار الطابع العلماني أو الديني، وقد اتسعت حملتهن لكل من يقبل بمبدأ المساواة بين الرجال والنساء من الإسلاميين أو العلمانيين رجالاً ونساءً على حدٍّ سواء.
 
 
وبالمثل، فقد تحوّل بعض الصحفيين الشباب الى روّاد المجتمع المنفتح، دون إبداء رأيهم حول طبيعة ذلك المجتمع سواء كانت دينية أم لا.
لقد أضحت المسألة الأساسية من الآن فصاعداً هي التعددية السياسية والوسائل العملية لبلوغها، أكثر من الإنشغال بالدفاع عن وجهات نظر إيديولوجية، إسلامية او علمانية.
 
إن هذا النمط من المثقفين ينشط كثيرا بين أصحاب المدوّنات من الرجال والنساء، وبين الصحفيين والمحامين، محطّمين التجانس الاجتماعي والثقافي للمثقفين التقليديين. إن عدداً من النشطاء الشباب ومن بينهم المنتمين الى الحركة الخضراء (حزيران – تموز 2009 والأعوام التالية)، قد احتشدوا للدفاع عن المواطن وكرامته، ودعوا الى تحرك سلمي، كما تجاهلوا الموضوعات الخلافية كدور الإسلام في "المدينة".
إن هذا النموذج الجديد استطاع أخيراً أن يحلّ تدريجيا محلّ "المثقفين المتديّنين" الذين شكّكوا بأولوية ولاية الفقيه ولكنهم احتفظوا بالسمات الرئيسية لمثقفي الطليعة: أولوية النظرية، والمدينة الفاضلة، والإيديولوجيا.
وقد كان "للمثقفين الوسطيين" دورٌ أساسي في هذا النمط الجديد، من أمثال المحاميتين نوشين أحمدي خاراساني (Noushin Ahmadi Khorasani) ونسرين ستوده (Nasrin Sotoudeh) والناشطة الطالبة بهاره هدايت (Bahareh Hedayat) والصحفية المناضلة في حقوق الانسان شيفا ناظار اهاري (Shiva Nazar Ahari) الخ...
لقد كانت الحركة الخضراء إلى حدٍّ كبير، حقل الممارسة والتدريب لهؤلاء الفاعلين الجدد والذين لم يهتموا كثيراً بالمسائل النظرية العامة كدور الإسلام في السياسة، بل حدّدوا لأنفسهم مهمة الدفاع عن كرامة المواطن على الصعيد الأخلاقي أكثر من الصعيد السياسي وفي الحياة اليومية للناس.
وكان من نتيجة ذلك إمتلاكهم للمرونة وسهولة تملّصهم من الجدل الدائر بين السياسي ورجل الدين الأمر الذي قد يهدد بانقسامهم، وإصرارهم على الدفاع عن المبادئ الأخلاقية لحقوق الانسان التي يؤكدون عليها سواء كانوا إسلاميين أو علمانيين.
إن هذه الحركات الاجتماعية الجديدة (وقد كانت الثورة التونسية أولى تجلياتها) هي المسرح الذي ينشط فيه الجيل الجديد من الفاعلين والذي يهدف بشكل أساسي إلى انفتاح النظام السياسي للإعتراف بحقوق المواطن.

  المراجع 
[1] هذه الظواهر قد تم وصفها بمقالين لفرهاد خوسرو: "المثقفون ما بعد الاسلاميين في ايران"
: Farhad Khosrokhavar, « Les intellectuels post-islamistes en Iran », Awal, n°11, 1994, pp. 47-59
و "المثقفون ما بعد الاسلاميين في ايران، مراجعة)
« Les intellectuels post-islamistes en Iran revisités », Revue Trimestre du Monde, 1er trimestre 1996, pp. 53-62
[2] -فرهاد خوسرو "الفرد الجديد في ايران"
Farhad Khosrokhavar, « Le nouvel individu en Iran, » Cemoti, n° 26, 1998, pp. 125-155 
Farhad Khosrokhavar, Olivier Roy, L’Iran : comment sortir d’une révolution religieuse ?, Le Seuil, 1999
فرهاد خوسرو و اوليفييه روا "كيفية الخروج من ثورة دينية؟"
[3] Forough Jahanbakhsh. Islam, democracy and religious modernism in Iran, 1953-2000, from Bazargan to Soroush, Pays-Bas : Brill Academic publishers 2001
فروغ جاهانبخش "الاسلام والديمقراطية والحداثة الدينية في ايران"
[4] Farzin Vahdat, “Post-revolutionary Discourses of Mohammad Mojtahed Shbestari and Mohsen Kadivar : Reconciling the Terms of Mediates subjectivity”, Critical Middle Eastern Studies, n° 17, Fall 2000 
فرزين فاهدات: " خطب ما بعد الثورة من محمد مجتهد شابستاري ومحسن كاديفار"
Mahmoud Sadri, « Sacral Defense of Secularism : The Political Theologies of Soroush, Shabestari, and Kadivar », International Journal of Politics, Culture and Society, Vol. 15, No. 2, Winter 2001.
محمد صدري: "دفاع مقدس عن العلمانية: المفاهيم اللاهوتية السياسية لدى سروش وشابستاري وكاديفار"
[5] Mohsen Kadivar, Nazarrieh haye Doulat dar Figh’h e Shi’eh (Les théories de l’État dans la jurisprudence chiite), 1999, Nashre e Ney Publications, Tehran
محسن كاديفار: "نظريات الدولة في الفقه الشيعي"
[6] Mehrzad Boroujerdi, Iranien intellectuals and the WestThe tormented triumph of nativism, Syracuse : Syracuse university press, 1998
مهرزاد بروجردي: "المثقفون الايرانيون والغرب: الانتصار المضطرب لأعداء الهجرة"
[7] Mohsen Mottaghi, La pensée chiite contemporaine à l’épreuve de la Révolution iranienne, Paris, L’Harmattan, 2012
محسن متقي: "الفكر الشيعي المعاصر واختبار الثورة الايرانية"
« Soroush ; un itinéraire intellectuel », Les mondes chiites et l’Iran, Sabrina Mervin (dir), Paris/Beyrouth : Karthala, 2007.
صابرينا ميرفين "العالم الشيعي وايران "
[8]مجتهد شابستاري: " نقد للنسخة الرسمية للدين"
Mojtahed Shabestari, «  Naghdi bar ghéraaté rasmi az din » (une critique de la version officielle de la religion), éd. Tarhé no, P150
[9] Shariati est l’intellectuel religieux le plus influent à la veille de la révolution islamique de 1979. Il a su donner une vision révolutionnaire du chiisme qui a légitimé l’engagement des jeunes dans la contestation du régime du chah, cette fois au nom de l’islam chiite et pas des idéologies communistes
لقد كان شريعتي المثقف الديني الاكثر تأثيرا عشية الثورة الاسلامية لعام 1979، وقد استطاع ان يقدم رؤية ثورية للتشيع الذي شرع مشاركة الشباب في تحدي نظام الشاه، وهذه المرة باسم الإسلام الشيعي وليس باسم الايديولوجيات الشيوعية.
[10] Yousofi Eshkevari H., Kherad dar ziâfat-e dîn [La raison au banquet de la religion], Téhéran : Ghassidéh, 1379/ 2000, pp. 10-38.
يوسفي اشكيفاري: "العقل في ضيافة الدين"
[11] Farhad Khosrokhavar, « Les nouveaux intellectuels en Iran », Cahiers Internationaux de sociologie, 2008/2 (n° 125)
فرهاد خوسرو: "المثقفون الجدد في ايران"

محسن متقي:

دكتوراه في علم الاجتماع وتتمحور دراساته حول كتابات المثقفين المسلمين في إيران.
SaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSave
فرهاد خسرو

عالم اجتماع ومدير الدراسات لدى EHESS "مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية"، مهتم بشؤون إيران المعاصرة والإسلام الأصولي وله كتب عديدة في هذا السياق منها كتاب " إسلام السجون" ، " إيران : كيفية الخروج من الثورة الدينية" و" الانتربولوجيا في إيران".