Print this page

"فيروس كورونا" إذ يدفع البشرية قليلاً إلى الأمام، مُراجعاتٌ إنسانية بحثاً عن "الحقيقة"

29 آذار/مارس 2020
 
مشهدٌ آخر، نراه في مقطع الفيديو أدناه، من مشاهد (المُراجعات) الراهنة في العالَم بحثاً بشكلٍ (علمي) عن (تفسيرٍ) لما يجري راهناً فوق أرضِنا (الأم)!
ما تعيشهُ البشريةُ اليوم ليس مؤامرةً من أحد. لا حاجة للمؤامرة أصلاً، فالإنسان (يتآمر) على نفسهِ دون أن يدري أحياناً، ورغم معرفته بذلك في كثيرٍ من الأحيان، وبشكلٍ تتجاوز أضرارهُ كل مؤامرةٍ بشريةٍ ممكنة.

رغم هذا، يبحث الناسُ عن تفاسير أخرى، لأنهم يريدون أن يفهموا. فتلكَ حاجةٌ أساسيةٌ مغروسةٌ في أعماقهم، ليُمكِنَ إعمارُ الحياة. من هنا تحديداً، لا يستطيعون المضي في العيش دون أن يجدوا تفسيراً لكل شيءٍ يجري مِن حَولِهم.

ابحث في موقع (غوغل) عن عبارة conspiracy theories about coronavirus بالإنجليزية: "نظريات المؤامرة بخصوص فيروس كورونا"، وستجد ٥٥ مليون و ٥٠٠ ألف صفحة!

للمفارقة، ابحث في (غوغل) باللغة العربية عن الجملةِ أعلاه، وستجد ١٠٧ ألف صفحة! قارن الرقمين، وستجد أننا كعرب لا نبدو بحالٍ أسوأ مما هو عليه كثيرٌ من الآخرين.

على سبيل المثال، نشرت مجلة (نيوزويك) الأمريكية، منذ يومين، على صفحتها تقريراً عن الموضوع، وقبل طرحِ عدّة خيارات للإجابة، طَلَبَ كاتبُ التقرير من القراء اختيارَ الإجابة الصحيحةِ منها على سؤال: أيُّ نظريةِ مؤامرة من النظريات التالية هي الأكثرُ شيوعاً وشعبيةً في... أميركا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وانكلترا؟ الجواب: إن فيروس كورونا هو سلاحٌ بَيولوجيٌ تمَّ تطويرهُ في مختبراتَ عسكرية صينية في مدينة (ووهان) التي ظهرَ فيها الفيروس ابتداءً.

المفارقة الأخرى أن التفسير الوارد في المقطعِ أدناهُ كان من أحد التفسيرات التي طَرَحتها المجلةُ على أنها تفسيرٌ مؤامراتي؟! هذا، رغم أن في الطرح كثيراً من المَنطِق والحقائق العلمية التي يُقرُّ بها العلماء.

لكنها تبقى محاولةً (أخرى) للمراجعة والبحث عن تفسير، من مدخل (التقنية) الحديثة وآثارها على البشر، وعلى أرضهم التي يَحيونَ عليها.



لقد كانت (التَقنية) الحديثة، ولازالت، وستبقى، سلاحاً ذو حدّين. وقد تكونُ طبيعةُ التعامل معها أحدَ أكبرِ التحديات التي تواجهُ إنسانَ العصر.

لهذا، على الأرجح، يُنهي (العَالِمُ) الذي قدمَ تفسيرهُ (العِلمي) طَرحهُ بالعبارة التالية: "أترككم مع ما ستقومون به لتطوير طاقاتِكم الرّوحانية، لأن من الشاقِّ فعلاً على المرءِ أن يكون إنساناً في هذا الزمان".

ما من فائدةٍ تُرجى من محاولة الحصول على (تفسير) انطلاقاً من المنطق المؤامراتي المذكور.

فبالنسبة لكثيرٍ من الناس في الشرق والغرب مثلاً، كانت بريطانيا، ولاتزال، تُعتبرُ معقل صناعة المؤامرات في العالم. ولكن، بعد إصابةِ مَلِكَتِها ووليّ عَهدِها الأمير تشارلز، ثم وزير الصحة فيها، وأخيراً رئيس وزرائها بوريس جونسون، بوباء كورونا، سيكونُ صعباً أن نعزوَ هذه المؤامرة إلى بريطانيا.

ربما يَطرحُ أحدهم أن هذه الأخبار كاذبةٌ أصلاً، وأن هذا جزءٌ من المؤامرة أصلاً، لتسهيل مرورها وخداعِ الناس بها. والمؤكدُ حينها، أننا سنعجزُ عن الإجابة عليه!

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}. "بما كانوا يصنعون"، تقولُ آية سورة النحل.

و {هذا بلاغٌ للناسِ ولِيُنذَروا به} تقولُ آيةُ سورة إبراهيم، أبي الأنبياء.

رغم هذا، لم يكن غَرضُ القرآن أيضاً، حين أُنزلَ للبشر، {بشيراً ونَذيراً}، وعلى أنه {بيانٌ للناس}، وعن طريق رسولٍ وصَفَهُ بأنه كان {شاهِداً ومُبشِّراً ونذيرا}، ومنذ أكثر من أربعة عشرَ قرناً؛ لم يكن الغرضُ أن يوحيَ بأن مثل هذه الظواهر تدخلُ في إطارٍ نوعٍ ما من أنواع (التآمر الإلهي)!

ما يحصلُ للناس، هذه الأيام، ليس ضرباً من الانتقام الإلهي.

ما يجري ليس (تَشفّياً) من الناس، ولا هو (نِكايةً) بهم.

إنه ليس (عقوبةً) منهُ.

وليس هو بالتأكيد نوعاً من التعامل مع الإنسان بمنطق (العينِ بالعين والسِّنّ بالسن).

تلك هي، بالتحديد، القراءةُ التقليديةُ، السطحيةُ، الظاهريةُ، الحَرفيّةُ للموضوع، والتي تُشيعها الغالبيةُ العظمى ممن يعتبرونَ أنفسهم مشايخَ ورجال دين وإسلاميين. ومثلَهَا تفاسيرُ أخرى سقيمة، تُبنى على أفهامَ مُختَزلَة، للقرآن، قبل أي شيءٍ آخر.



فالخالقُ لا يَربحُ ولا يَخسرُ، ولا يَزيدُ ولا يَنقصُ، شيئاً من أفعال الناس وتصرفاتهم وقراراتهم وحقائقهم وظنونهم وأوهامهم، على هذه الأرض الصغيرة التي تُعتبر واحدةً من ١٠٠ بليون نجم في مَجرَّةِ (دَرب التبانة: Milky Way)، منها نجمٌ اسمه (WISE 1828+2650) وهو أبردُ نجمٍ معروف بدرجة حرارةٍ تتراوح بين -٢٣ و -١٢٧ درجة، وآخر اسمه (BPM 37093) نواتهُ مُكونةٌ من الألماس فيها ١٠ بليون ترليون ترليون قيراط من الألماس، ومعهما نجومٌ نيترونية عديدة، تزن ملعقةُ شايٍ من المادة المكوِّنةِ لها أكثرَ من ١٠٠ مليون طن!

أما مجرةُ دربُ التبانة نفسها، والتي تمتدُّ على مسافة ١٠٠ ألف سنة ضوئية، وتحوي داخلها (الثقب الأسود)، فإنها بحدِّ ذاتها، وُفقَ موقع وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، واحدةٌ من مئات البلايين من المجرات التي تحتوي كلُّ واحدةٍ منها على بلايين أخرى من نجومها الخاصة. ومنها، مثلاً، مجرّةُ أطلق عليها علماءُ الفلك اسم (IC 1011)، وهي واحدةٌ من أكبر المجرات المعروفة في الكون، حيث تحتوي على حوالي 100 تريليون نجم. أما أضخمُ وأكبرُ شيءٍ في الكون المعروف، حتى الآن، فقد تمَّ اكتشافهُ في شهر نوفمبر / تشرين الثاني من عام ٢٠١٣م مِن قِبَل علماء أميركيين وهنغاريين، فهو عنقودٌ مَجَرّيٌ سمّاهُ العلماء المذكورون باسم Hercules-Corona Borealis Great Wall، وهو، بكلمات أخرى، مجموعةٌ ضخمةٌ من المجرّات تجمّعت تحت تأثير الجاذبية، وبُنيتُها كبيرةٌ جداً لدرجة أن العلماء لم يتمكّنوا حتى الآن من تفسير وجودها، لكنهم يضعون احتمالاً بأن يكون طولُها ١٠ بلايين سنة ضوئية، أي أننا، كبشر، رأينها عام ٢٠١٣، كما كانت هيَ عليه قبل ١٠ بلايين سنة من سنواتنا الأرضية.

لهذا، ببساطة، يبدو الاعتقادُ بأن ما يجري على هذه الأرض الصغيرة، أياً كان، هو (انتقامٌ)، أو (تشفٍ)، أو (عقوبةٌ)، أو (نكايةٌ) من الخالق بالبشر، أمراً أقربَ بكثير إلى السخافةِ والتفاهة!

بنفس البساطة، وبوضوحٍ بالغ، يُشير القرآن إلى أن مثل الآيات المذكورة أعلاهُ إنما نَزَلَت لتُخاطِبنا، نحن البشر من كل جنسٍ ولونٍ وعرقٍ ودين.. (بلاغاً) للناس، و(إنذاراً) لهم من تبِعات ما تقترفه أيديهم، هُم، بحقِّ أنفسهم، هُم، في هذه الأرض، وُفقَ (القوانين) التي وضعَها الخالقُ لتحكُمها، فتكونَ الحياةُ فيها ممكنةً لكل أحد، دون محاباةٍ أو تحيز لفئةٍ من البشر، و(ذكرى) لمن يبحثون عن الحقيقة، خاصةً في مثل هذا الظرف الذي يمرُّ به العالم.

هذا ليس مقامَ (دعوةٍ للتدين والإيمان)، ونحن لا نمارسُ ذلك في هذا المقال.

فرغم الإغراء الشديد، في هذا الظرف، للقيام بذلك. ورغم الانتشار الواسع في العالم لدعوات (العودة إلى الدين)، إلا أن الغرضَ من الكلام ينحصر في ممارسة (النّظَرِ) و(التفكُّر)، على نفس طريق البحث عن الحقيقة في آلاء الله في الكون، قبل أن نصل حتى إلى نقطة البدء في رحلةٍ طويلةٍ أخرى من النظرِ في آلائهِ في الأنفس. وإن كان القرآنُ نفسهُ يضعُنا، مع كلِّ من يَعقِلُ أو يُريدُ أن يَعقِلَ، أمام تحدٍ صعبٍ ونحن نقرأ فيه" ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.



الطريفُ أن كثيراً من الدراسات و(المراجعات) الراهنة تبحثُ في أنواع (التنازلات) التي يقوم بها (الناطقون) باسم الأديان المختلفة للتعامل مع الواقع البشري الاجتماعي وجميع أنواع الممارسات التي فَرَضها، وفي إخفاق محاولات (تفسير) الظاهرة من خلال القراءات التقليدية السائدة، وكيف سيؤثرُ هذا في (التأويلات) و(الأفهام) التقليدية، وماهية (التأويلات) و(الأفهام) الجديدة والمتوقعة لتعاليم تلك الأديان، مما سيؤدى بدورهِ لتغييرات عميقة في الوجود الإنساني الذي لا يبدو في مقام الهروبِ من العلاقة مع الدين.

قد يكون ما يفعلهُ (فيروس كورونا) بالعالَم والبشرية هو نوعاً من فتحِ المجالِ أمام بصرِ الإنسانِ، وبصيرتهِ، لربط النقاط ببعضها: connecting the dots، في مجالات العلم والدين والفلسفة وغيرها، وتشكيلِ أجواءَ تُساعدُ الجميع على التواضعِ والمرونةِ والمُراجعة، والبحثِ سوياً، بعد سقوطِ جميعِ الموانعِ والحدودِ والجُدرانِ (الوَهميَّة) التي بَنَتها الجماعاتُ البشرية حول نفسها على مدى قرون، للتعاونِ فيما سينتج عنه خيرُ المُشترك البشري العام.

في جميع الأحوال، يبدو تطورُ الأحداث دافعاً لزيادةِ أملِ المرء بالإنسان وباجتماعه البشري. فالأرجحُ أننا أمامَ ثمَّةَ مشهدٍ يتشكلُ تدريجياً، يحملُ في طياتهِ فُسحةً لـ (الرؤية) الإنسانية بشكلٍ أوضح.

بل قد نكون، كبشرٍ، وبكلِّ ما نتجَ على هذه الأرض الصغيرة من خيرٍ أو شرٍ، عن أفعالنا وتصرفاتنا وقراراتنا وحقائقنا وظنوننا وأوهامنا، قد نكونُ أَخَذنَا بسببٍ من الأسبابِ التي وَضَعها الخالقُ لتحكمَ ذلك الاجتماع البشري، وبحيث يَدفعُنا دفعةً صغيرةً إلى الأمام.
0 تعليق 2523 قراءة
كلمات مفتاحية :
د. وائل مرزا

رئيس التحرير والمشرف العام على موقع معهد العالم للدراسات.

مواد أخرى لـ د. وائل مرزا