الرقة من العشيرة إلى المدينة: المخفر العثماني.. دويلات عابرة.. البعث والجهاديون (3-3)

22 حزيران/يونيو 2017
 
الزمن الأسدي ورحلة العشيرة إلى السياسة
العلاقة التي ربطت نظام الأسد بالعشيرة السورية عامة، والرقاوية بوجه أخص، ظلت ملتبسة وغامضة لعقود من الزمن؛ غامضة بنفس الدرجة التي كانت تكتنف غموض النظام لدى قطاعات واسعة ومهتمين كُثُر بالشأن السياسي والاجتماعي خلال نصف قرن قبل انفجار الثورة السورية، سواءً في ذلك من كان داخل سوريا أو خارجها.
كان مناط السؤال المركزي لدى كل مهتم مراقب، يدور حول مضمون ومغزى السؤال التقليدي؛ أيهما كان يستعين بالآخر في رحلة دفاعه عن نفسه، وأيهما كان يوظف الآخر لحاجاته الخاصة؟
حقيقة الأمر إن السؤال ملتبس ومضلل بحد ذاته، والأصح أن يُصاغ بصيغة مختلفة لتوجيه الهدف منه؛ كيف كان النظام يتشابك (وأحياناً يشتبك) مع الحوامل المجتمعية والجماعات الأهلية والمدنية السورية، ليتقوى بها على عزلته الداخلية وفقر قضيته التسلطية، وهشاشة رسالته الطائفية في المجتمع السوري، ودوره الوظيفي المُحَطِم والمُفتِت لكل ما يحيط به في الوسط الإقليمي، خلال تطور كل قضايا الشرق الأوسط، ابتداءً من ستينات القرن الماضي وحتى اليوم.. وكيف كانت تلك الجماعات، هي أيضاً تتشابك، وأحياناً تشتبك معه، في الدفاع عن كيانها العضوي وفق دافعية غريزة البقاء والاستمرار، والتشبث والمنافسة الاجتماعية والاقتصادية التي عاشت اختناقاً تاريخياً مزمناً، فطفقت تبحث عن مصلحة مشتركة فيما بينها وبين النظام.
هذا الخط المضطرد في صعوده ونزوله، بين النظام والطوائف السورية، وبينه وبين الإثنيات القومية والعشائر والأحزاب، والكتل الاقتصادية المستثمِرة، وحتى الأفراد المبدعين وذوي الإمكانات الخاصة، خلق صراعاً على رمزية تمثيل المجتمع، صراعاً كان ينتهي دوماً لصالح النظام، فيتغول ويصادر ويعتقل ويبطش كلما وجد أن ذلك مفيدٌ وضروريٌ في حال التعدي على رمزيته من مرحلة إلى أخرى.. لقد كان للنظام "أبَدُهُ" الخاص، الذي لا يمكن أن يتنازل عنه، لكنه "أبدٌ" متطورُ المضمون، حسب حاجة كل مرحلة اجتماعية يصل إليها المجتمع السوري، وكان المجتمع السوري في رحلة تحديه وحربه الصامتة والمضمرة، يبحث دوماً عن كل مضامينه الخاصة ورمزيته من خلال استغلال كل فرصة للتوافق وتبادل المصلحة بينه وبين النظام ..

كانت العلاقة بين النظام وبعض العشائر تصل إلى حالة من الشغف والهوى الجنوني غير المفهوم، لفترة من الزمن، وأحياناً كان يستبد الصراع وتسود الكراهية بينه وبين بعض العشائر والجماعات الأهلية، إلى حد رميها في عزلة العتمة وحظائر الإهمال والنسيان، إلى حد الذوبان والتلاشي .. الأمر الذي أملى بالضرورة أن تجد العشائر وبعض الأسر نفسها أمام خطين وخيارين: يتجاوران ويتقاطعان أحياناً على بعد ما بينهما من محتوى، وتتم تسوية مبهمة فيما بينهما دون أي اكتراثٍ أو التفات لمضمون تلك التسوية؛ الرحلة من العشيرة إلى السياسة، ومن السياسة إلى العشيرة، وكل محتوى كامن فيما بينهما، كان يحيا في رحلة البحث عما يحاول أن يُصَلِّبَ بنيانه الخاص باستقطاب الآخر والاستحواذ على مضمونه بالكلية؛ لقد كانت العشيرة والسياسة في سوريا نظام الأسد، أشبه بحيوانين وحيدين في غابة، كلٌ منهما شقيقٌ ورفيقُ الآخر، وغذاءُ كلٍ منهما يتوقف على التهام الآخر؛ مع شرط معجزٍ وأدعى إلى القنوط واليأس: أن يبقيا كلاهما على قيد الحياة بعد أن يلتهما بعضاً.

عشيرة البَرْيَج

المثال النموذجي الذي يشرح ويفسر كثيراً من هذا الغموض المبهم بين العشيرة والسياسة، قد نجده في العلاقة التاريخية التي تطورت صُعُداً، من المودة والتوافق النسبي إلى الانفجار الكبير الذي أحدث تنازعاً وصَدعَاً لا يمكن رأبه، بين عشيرة البريچ وبين نظام الأسد، وهذا الصدع المتسع ربما يجد تفسيره الخاص به والاستثنائي نوعاً، في الدور الذي لعبته شخصية "بريچ العبد الهادي الذيب"، الذي قفز فجأة إلى واجهة العشيرة، وفي ظروف استثنائية مهدت له وأمكنته من لعب دورٍ يمكن وصفه بالتاريخي حقاً، ولقد بدأ ظهور الرجل، واللحظة التاريخية المعززة لطموحاته الشخصية في قيادة العشيرة، والصعود إلى ذروتها الهرمية، حين كان فتى صغيراً يافعاً، ألفى نفسه وعشيرته أمام واقع حادث جريمة عارضة معتادة، جرى خلالها قتلُ عمه الذي كان من وجهاء وزعامات عشيرة البريچ، فما تلبث الفتى الشاب أو تردد في التخطيط لقتل قاتل عمه، وتنفيذ جريمة الأخذ بالثأر، ونيل حق الدم بيده دون مراجعة أحد ..

بعد حادثة أخذ الثأر وقتل قاتل عمه، دخل بريچ العبد الهادي الذيب السجن، وقضى عقوبة مخففة لمدة أربع سنوات، وخرج من السجن برمزية هائلة كثيفة، يُنظَر إليه بإعجاب، ويُتوَسَّل في شخصيته البطولة والرجولة، وزيادة على أن الرجل كان من أبرز ملاك الأراضي الزراعية على طرف الفرات، وذا ملكية مؤهِلة ومكانة سابقة في العشيرة، حسباً ونسباً، ألفى بريچ نفسه، وقد حاز على كامل الأهلية والرأسمال الاعتباري الضروري ليتصدر واجهة عشيرة البريچ، وبقي لديه مهمتان رئيستان وأساسيتان: المكانة السياسية التي لا يمكن أن تتيحها أو توفرها إلا السلطة الحاكمة، والتنافس الاجتماعي عبر تحالفات محسوبة؛ سواءً مع العفادلة، العشيرة الأم، أم مع العشائر الأخرى في الرقة ..

لم تُشبع مكانة الأخ الأوسط دخائل بريچ العبد الهادي الطموحة، فلقد امتلكه توقٌ عارمٌ لزعامة العفادلة جميعاً، وكانت مشيخة العفادلة الكبرى قد استقرت منذ وقت طويل في أحد أحفاد "مدلج الظاهر"، واسمه ذياب المدلج، ثم ظلت متوارثة لزمن تاريخي في أسرة "الهويدي"، والتي منحها المكانة والسمعة الجليلة لبضعة عقود شخصيتا "فيصل الهويدي"، المحنك وذي العقل السياسي والدهاء الاجتماعي المعروف بين سائر العشائر، و"علي البشير"، الجواد المضياف الذي حاز سمعة ومكانة قلما تمتع بها أحد من رؤوس عشائر ريف الرقة، فهما شيخا العفادلة التاريخيين بحق؛ فأراد بريچ أن ينافسهما الزعامة، أو يتقاسمها مع "آل الهويدي" في أقل تقدير، ولكن بعد مدافعة وسجال غير ظاهر معلن، وافق ـ مؤقتاً ـ على تفويضهما بالزعامة التاريخية، كما استقر قرار كل مشايخ عشائر العفادلة ووجهائهم على مشيخة "الهويدي"، فاكتفى بريچ، من تلك الشراكة القبَلية المؤقتة، بالمصاهرة معهم، فخطب أخت فيصل الهويدي وتزوجها، كزوجة ثانية بعد زوجته الأولى(اسمها وطنية)، وهي ابنة عمه الذي ثأر لمقتله ودخل السجن، ومن زوجته الثانية، شقيقة فيصل الهويدي، ولد له من أبنائه اللاحقين أولاد، منهم "توباد"، الذي سيلعب دوراً مفصلياً حاسماً في مرحلة داعش، والذين سيصبحون مع بعض شباب البريچ مستقبلاً أبرز أمراء التنظيم وقادته العسكريين.  
 
أما النظام، فقد كان يتيح لرموز العشائر هامشاً محدوداً، وسقفاً له نهاية قامعة للطموح؛ عضوية ما يسمى بمجلس الشعب، أو المكتب التنفيذي والبلدي للمحافظة، وهي أشبه بوظائف رمزية اعتبارية خالية من المضمون السياسي، ولا تتيح استفراغ أية طاقة سياسية أو زعامة تقليدية ذات طموح لا حدود له كما في حالة بريچ، فضلاً عن أن هذه الوسائل التقليدية التي خصصتها السلطة للعشائر بدأت تفقد بريقها بمرور الوقت وتقدم الزمن، وتعرت شكلانيتها ودورها الارتباطي الذي ينطوي على كثير من الاستخذاء والتنازل لفروع الأمن ومؤسسات السلطة الحقيقية الفاعلة، ولقد بدأ الرجل ـ بريچ العبد الهادي ـ رحلته نحو الطموح، وخطا أولى خطواته نحو السياسة في نفس الوقت الذي ابتدأ خطواته نحو زعامة العشيرة. انتسب باكراً إلى حزب الاتحاد الاشتراكي، جناح محمد الجراح (تشظي حزب الاتحاد الاشتراكي، وهو من أبرز دعاة القومية والتيار القومي العربي، فيما بعد، إلى أربعة أجنحة على الأقل)، وأصبح بسهولة مرشح العشيرة ونائبها الدائم في عضوية مجلس الشعب خلال النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، وهي السنوات الخمس المبدوءة أساساً لدى حافظ الأسد، في توجهه لتأسيس شكل الدولة ورسم صورتها المستقبلية التي ستكون عليها.

توزعت الدائرة العائلية الضيقة المحيطة ببريچ العبد الهادي، بين عدة تيارات قومية ويسارية، فقد انتسب شقيقه الأصغر"أحمد العبد الهادي الذيب" إلى الحزب الشيوعي، ثم تنقل بعد انشقاقات الشيوعيين الكثيرة في عدد من فروع الحزب المنشقة عن خالد بكداش، بدأها بالمكتب السياسي (جناح رياض الترك)، وانتهى بيوسف فيصل ويوسف نمر..ولقد كسرت وفاة أحمد العبد الهادي المبكرة من طموحاته السياسية والعشائرية التي لاحدود لها. أما بريچ الذي لم يشبع طموحَه ولا أرضى تطلعاته قدريةُ التلبث عند مكانة مجلس الشعب وتمثيلها، الذي لم يعد يحمل أي مضمون أو رمزية، وأفرغته السلطة الأسدية من كل محتوى، فلقد فتحت له نافذة الطموح باباً إلى اللانهاية؛ وإن كان باباً محفوفاً بالمغامرة، ومتوَّجاً بغار الموت والمخاطر؛ وذلك حين اتصلت به السلطات العراقية،(أو اتصل بها هو)، وعرضت عليه زعامة ومجداً "لا زوال له"، وأقنعه العراقيون بأنهم قادمون لاحتلال دمشق والإطاحة بالأسد ونظامه، وأنهم لن يتراجعوا عن هذا القرار مهما كلف الامر، وما المسألة إلا مسألة وقت ليس إلا ..

فَهِمَ بريچ من رسائل العراقيين العديدة، ومن خلال لقاءات مباشرة وغير مباشرة، أنهم يحتاجون إلى رجل قوي الشكيمة صلب الإرادة، تصطف وراءه عشيرة ذات عدد، وله القدرة على التأثير في المجتمع من حوله وفي المحافظة بأسرها، واقتنعوا بأنه الرجل المنشود والبغية المرجوة، وما عليه إلا أن يبدأ بتسليح قريته وأتباعه استعداداً لساعة الصفر التي كانت تقترب، بزعمهم ووعدهم له، حتى تكون قاعدة الانقلاب ضد الأسد ونظامه قد تكاملت عسكرياً ومدنياً.

وبالفعل شرع بريچ بالعمل والأخذ بكامل تلك الاستعدادات بنفسه، وشرع في إدخال السلاح إلى ناحية الكرامة (وهو ما يزال لحظتئذٍ عضواً في مجلس الشعب)، وكان يقود الشاحنة المحملة بالسلاح دون كلفة مرافقة شخصية أو حماية ومؤازرة.. لكن سوء الطالع كان له بالمرصاد، فلقد اكتُشِفَ أمره بأوهى الأسباب وأبسطها، ولم يكن لسلطات البعث الأمنية أي علم أو خبر بما كان يحدث وقتها عند الحدود السورية ـ العراقية (أم أنها علمت بالأمر، وقررت أن تتظاهر بأنها لم تعلم؟؟).. تصادف عبور شاحنة الأسلحة التي كان يقودها بريچ العبد الهادي، بدورية روتينية من حرس الحدود، يستقلون سيارة صغيرة، ومحدودي التسلح، وظنوا بأن السيارة هي لمهربين ينقلون بضائع ويعملون عبر القرى القريبة من الحدود، فطاردوا شاحنة بريچ المليئة بأنواع الأسلحة وأطلقوا عليها النيران.. فرفض الاستسلام والتوقف، وبادل نيرانهم بنيران، ووقع اشتباك في ظلمة ذلك الليل انتهى بإصابته في قدمه إصابة بليغة يائسة (تسببت له بعاهة دائمة في قدمه بقية حياته)، ولم ينفضَّ الاشتباك إلا بإصابة أحد حرس الدورية الذي فارق الحياة على الفور، واضطُر بريچ بعد أن اقترب من الحدود، إلى ترك السيارة التي أصابها العطب، وقفل عبر الحدود يزحف بدمائه الشاخبة في فلاة العراق حتى تمكن من الوصول إلى بغداد.

طلع النهار على ناحية الكرامة، وعلى محافظة الرقة بأسرها، بأنباء الخبر المذهل، واستعدت الكرامة للاحتمالات الأسوأ منذ ذلك الصباح، ولم تكن نذر الشؤم تلك لا مبرر لها، فقد بدأت السلطة الأسدية حملة أمنية وسلسلة تحقيقات واعتقالات ربما استمرت لسنوات. طالت الاعتقالات أعداداً كثيرة بالعشرات من رجال عشيرة البريچ وشبابهم، وزج بعضهم في السجون لفترات طويلة استمرت أكثر من عقد من الزمن. كما حكمت المحاكم الميدانية العسكرية على بعضهم بالإعدام، (مثل موسى الراشد الذيب، ابن عم بريج الذي قتل قاتل أبيه ثأراً، وشقيق زوجته الأولى "وطنية"، وابن عمه الآخر عبد الرزاق البيرم، وقد نفذ فيهما حكم الإعدام في سجن المزة العسكري)، وبعضهم الآخر بالأشغال الشاقة المؤبدة.. وأصبحت الاعتقالات والتدخلات السافرة والمضايقات والإهمال الإداري للناحية، والاضطهاد المبرمج والمخطط له سياسة ثابتة ساسها النظام ضد البريچ جميعاً، حتى أنه لم يتورع عن معاقبة البريء بالمذنب، والقريب بالبعيد، والحاضر بالفار والمسافر والمغترب ..
    
تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عبر بوابة البريج

مضى على حادثة بريچ تلك أكثر من ربع قرن، اعتقل أبناؤه الثلاثة، جابر وحسن وبوزان، لفترة جاوزت الأحد عشر عاماً، كما اعتقل معهم العشرات من أبناء الناحية. وبدا بأن نجم بريچ العبد الهادي قد أفل وطواه النسيان، وتلاشى حلم العشيرة والسياسة كلاهما، وبدأت ناحية الكرامة تذوي في عتمة الإهمال والانكسار المجتمعي. وبعد خروج المعتقلين، أوائل تسعينات القرن الماضي، كان بريچ قد قضى كل تلك الفترة لاجئاً معزولاً في العراق، ولم يصحبه في عزلته القسرية تلك إلا زوجته الثانية، وأبناؤه الأطفال، والذين شبوا عن الطوق وبلغوا الأشد في المجتمع العراقي، واختلطوا به وعرفوا السلطات والشخصيات المؤثرة القريبة من القرار السياسي العراقي آنذاك. هؤلاء الفتية الذين تربوا في العراق هم من ربطتهم صلات ذات بعد مؤثر وفاعل بالجهاز السلطوي الذي سوف يعمل على تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فيما بعد، وبعد سقوط بغداد من قبل الأمريكان في 9 نيسان عام 2003، وكان بريچ العبد الهادي قد توفي قبل هذا التاريخ بسنوات، ألفت عائلته الصغيرة نفسها مكرهة على طلب عفو إنساني للعودة إلى الوطن الأم، وقد عادت الأسرة بالفعل بعد احتلال العراق بفترة قصيرة، لكن الظروف اللاحقة؛ تَشَكُل المقاومة العراقية، وظهور تنظيمات متعددة، بعضها كان امتداداً طبيعياً مقاوماً للاحتلال يمثل النظام السابق أو مقاومين عراقيين مستقلين، وبعضها الآخر تنظيمات وأجسام سرية وُجِدت في فضاء الفوضى الشاملة ومندرجاتها، حتى اليوم لم يخلص الجدل بشأنها؛ وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي ظفر بفرصة سانحة من خلال انبثاقه عن تنظيم القاعدة، والذي وجد فرصته الذهبية مواتية في سنوات الفوضى التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين.

تأسس تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من خلطة جهاديين جاؤوا إلى العراق تحت مسمى مقاومة الاحتلال، ومن ضباط عراقيين سابقين كانوا يمتلكون الإمكانات المالية والتسليحية التي أورثها النظام السابق ومكَّنهم منها، فضلاً عن خبرة عميقة قتالية واستخباراتية لم يكونوا بحاجة إلى عون أحد فيها. ولا شك بأن التنظيم حين شرع يخطط للتغلغل في سوريا، ومن خلال المحافظات الشرقية بادئ ذي بدء، لم يكن في حساباته أكثر من البحث عن حوامل أهلية ومجتمعية يستند عليها، ويشرع في النفوذ إلى تلك القرى والمدن والبلدات التي لم يكن يعرف أهلها ولا كانوا يعرفونه؛ فطفق يبحث عن بنك أرصدته القديمة المجمدة ومعارفه الأوائل، مستفيداً من محنة الشعب السوري، ومن حجم المعاناة والنقمة التي حملتها الأجيال السابقة إلى اللاحقة، وتوارثت أحقاداً وضغائن وتصفية حسابات ظلت معلقة لعقود مضت فيما بينها وبين النظام الأسدي.

ورث زعامة العشيرة بعد وفاة بريچ، ثاني أكبر أبنائه، حسن البريچ.. والذي دخل المعتقل ولم يكن قد وصل سن البلوغ بعد (اعتقال عام 1980 وهو طفل لم يتجاوز الرابعة عشر، وقضى معظم فترة اعتقاله في سجن تدمر العسكري)، ويبدو أن هذا القرار بتكليفه بمشيخة العشيرة قد حصل بإجماع أسري وعشائري، بعد أن تمَّ استبعاد شقيقه الأكبر جابر (الذي يعاني من حالة عصابية)، ولقد شارك جابر نفسه في التشجيع على ترشيح شقيقه الأصغر لملء مكانة أبيه.

حسن البريچ شاب وسيم الطلعة، مكتمل البنيان الشخصي، هادئ، قليل الكلام، يميل إلى الاقتصاد في التعبير والحركة، ومتواضع مع حدة ذكاء فطري ونباهة غير خافية. تكتسي هالته العامة بمظاهر حزن عميق دفين لا تخفى حتى في مظهره العام، وقلما يُرى متبسماً أو مبتهجاً، يميل إلى الإصغاء لمحدثه حتى النهاية، ولا يتكلم إلا أخيراً، وإذا تكلم أوجز واقتضب.. كان مطبوع الشخصية على الحسم... لا نزعة عدوانية في شخصيته، وليس في طبعه أثر لتعصب ديني أو مذهبي، (فضلاً عن كونه حفظ القرآن كاملاً في المعتقل، وكل الأحاديث النبوية والعلوم الشرعية). لا يعلو صوته على صوت محدثه أبداً، ولم يُرَ غاضباً أو منفعلاً مرة واحدة في حياته.. ومعظم صفاته الشخصية والجسدية هذه لا تكاد تشبه أو تقارب صفات شقيقيه جابر وبوزان، ولا أخوته غير الأشقاء كـ "توباد"، الذي تنقل بين القيادة العسكرية ومكتب العشائر، والذي يعد ـ مع أخيه الآخر بوزان ـ من أكبر وأكثر المتورطين في جرائم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإجرامها ضد أهل الرقة.

ورث حسن البريچ التركة الثقيلة قبل قدوم التنظيم، فلقد أرغمته الظروف المتلاحقة على أن يرث واقعاً اجتماعياً صعباً، وبؤساً سياسياً وعشائرياً مزمناً تاريخياً، وبعد أن تمكنت التنظيم من التغلغل في المحافظة، واتخاذ الكرامة مركز دعوة ونقطة انطلاق وانتشار، وبعد أن ألفى حسن البريچ عدداً لا يستهان به من رجال عشيرته وشبابها، وقد اصطفوا في الصف الأول مع التنظيم الإرهابي، وراحوا يقودون العشيرة على حافة الخطر، أصبحت دائرة الحركة تضيق من حوله، خاصة بعد أن ظهرت خلال السنوات العشر أو العشرين الأخيرة، طبقة جديدة متفلتة، ورعيل عدمي جديد من أبناء الكرامة، وجيل بات أقرب روحاً إلى التمرد العام على ذلك الإهمال والعداء التاريخي، الذي بات منزعاً ثابتاً لدى السلطات الحاكمة في دمشق، وهو إبقاء الناحية قيد واقع يائس مفارق للأمل، وليس له مستقبل على أي مستوى أو تصور في عالم يتطور يومياً.

وقد ظهر من أبرز رموز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المعروفين كأفراد من عشيرة البريچ، ممن لعبوا أدواراً خطيرة خلال مرحلة نفوذ التنظيم في المنطقة، إما دور القتاليين أو الأمنيين أو الشرعيين الذين اصطفوا في الصف الأول إلى جانب التنظيم، وكان لهم الدور الحاسم في توطئة مروره إلى محافظة الرقة عبر بوابة القرية /الناحية / العشيرة (الكرامة).. ظهر من أبرز هؤلاء الأمثلة: بشار حسن الخضر، وكانت والدته تعمل معلمة، وقد تعرض والده لحادث سير أثناء عمله في شركة الكهرباء أدى إلى قطع ساقه وتوفي بعد فترة، وكان لديه أخوان أكبر منه وهم: (شادي أبو الحسن) ـ قتل في معركة تحرير مصفاة الكرامة في ريف الرقة ـ وأخٌ ثانٍ يدعى "علي"، (انتسب لتنظيم الدولة فترة قصيرة ثم انشق عنهم وسافر وطلب اللجوء في ألمانيا، وهو الآن مقيم في المانيا)، وأخٌ أصغر منه يدعى (حمادي).. بدأ بشار العمل المسلح مع جبهة النصرة في حلب، وعند تحرير مدينة الرقة عاد إليها، وعند إعلان تشكيل ما يسمى الدولة الإسلامية "داعش"، كان من أوائل المؤيدين لها، وقد قاتل ضد النصرة وأصبح الأمير المسؤول عن السيارات المفخخة، (ويعتقد بأنه هو المسؤول عن السيارة التي انفجرت في شارع الأماسي، في حادثة مشهورة لدى كل الرقاويين).
 
 
وقد شارك في معركة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ضد الجيش الحر في المدينة، وبعد سيطرة تنظيم الدولة على كامل المدينة عينه التنظيم أميراً على “إمارة منبج" لفترة من الزمن، ثم ظهر ثانية في المكتب الأمني في المحافظة ثانية.. ولعب دوراً مهماً في القتل والإعدامات والتعذيب وشتى الجرائم التي اقترفها التنظيم في المحافظة، كأحد رجال المهام القذرة عند تنظيم الدولة الإسلامية.. ثم هناك سالم الحمود، وهو من كبار أمراء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فترة تأسيسها في الكرامة، ومن الكادر المؤسس، الإداري والتنظيمي. وصالح سليمان الطياوي، وكان يعمل مخبراً سرياً وعميلاً لتنظيم الدولة في الكرامة قبل ظهور التنظيم علانية في الرقة، ودوره غامض في التنظيم، وله شقيق اسمه ابراهيم، كان مقرباً من هادي العكال، (وهو رئيس المحكمة الشرعية في تل أبيض، ومن أبرز الشخصيات المقربة من جبهة النصرة، وقد قتل في قصف للطيران على موقع معسكر المنخر)، وقد قتل أخوه ابراهيم معه في الغارة. وكذلك هناك عمار البلبول، وهو أمير مقاتل في تنظيم الدولة. وعيدان مبارك العيدان، وهو عنصر في التنظيم من العناصر التي كانت مسؤولة أمنياً وإدارياً عن معسكر الطلائع. والشخص الشهير بـ(أبو الياس الطياوي)، و(أبو حيدرالطياوي)، و(أبو خطيب البريجي)، وهو أمير وشرعي. ثم أبو عبد الرحمن العراقي، وهو أحد شباب عشيرة البريج، وأبو محمود الطياوي ـ وأبو يعقوب، وأحمد الغبن، وهو أمير في تنظيم الدولة يدّعي أنه من عشيرة البياطرة في الرقة، لكنه في الواقع من مواليد وإقامة ناحية الكرامة، ويعتبر من أهالي الكرامة.. وحسن العلي الرشاد، وهو دعوي وشرعي مجهول لدى التنظيم، لا يظهر باسمه أو شخصه علناً. وعيسى الجراد، وهو عنصر في التنظيم من عشيرة المرندية، ولكنه مولود ومقيم في ناحية الكرامة، ولهذا يحسب من أهل الكرامة. وعبد الرحمن الخضر الحسين، وهو من اشتغل على استقطاب المهاجرين الجهاديين في مدينة أورفا التركية، وتجميعهم وتسليمهم لعناصر الإدخال إلى الأراضي السورية، كما أنه تفرغ للعمل الأمني في تنظيم الدولة الإسلامية في مبنى المحافظة فترة من الزمن. ومحمد الأحمد المعروف باسم أبوحيدر، وهو أمني وعنصر مهام معروف في المنطقة باسم(حمادي)، ويعد من أخطر مجرمي شخصيات التنظيم المختصين بالمهام الأمنية.. كذلك هناك محمد الجاسم، أو أبو عبد الرحمن، وهو عنصر من التنظيم، وأمير حاجز "الرقة السمرة" في فترة سابقة. ومحمد النايف العساف، وهو مقاتل وأمني، عمل في فترة ماضية أميراً لحاجز المشلب، وهذا الشخص أمي بسيط، وراعي غنم سابقاً، ولقد قاتل في العراق في سنوات الالتحاق بالجهاديين في العراق. وكذلك محمود الخضر، المعروف باسم أبو ناصر الأمني، وهو من أبرز أمراء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ، وممن ساهموا وساعدوا في إدخال التنظيم إلى محافظة الرقة.

بقي أن نذكر أهم شخصيات عشيرة البريچ، فواز المحمد الحسن العيسى الكردي، المعروف باسمه الأكثر شيوعاً بين الرقاويين، أبو علي الشرعي، وكان هذا الرجل شخصاً أمياً يعمل في رعي الأغنام في القرية، ثم قفز في بدايات ظهور التنظيم ليغدو أهم شرعي للتنظيم في محافظة الرقة (أي قاضٍ يحكم بالشريعة الإسلامية)، وتم عزله منذ تاريخ نيسان 2014م، ثم تمت إعادته ليصبح القاضي الشرعي لمنطقة الكرامة. ترك رعي الأغنام وعمل مهرباً متنقلاً بين لبنان وسوريا، وتم اعتقاله في فترة ما داخل سجن صيدنايا، ليبرز بعد خروجه وبداية قدوم تنظيم الدولة الإسلامية كهُولة مرعبة لا حدود لإجرامها وتوحشها ..

أطلق سراح فواز الكردي في بداية عام 2011، مع أبي لقمان الذي سيلعب أخطر الأدوار في تاريخ تنظيم الدولة الإسلامية في محافظة الرقة...هذا الشخص، أبو علي الشرعي، تشبه شخصيته شخصية كاردينالات محاكم التفتيش في أوروبا العصور الوسطى، وله أسوأ سجل إجرامي في الرقة، حيث يقال بأن الذين نفذ فيهم حكم الإعدام مباشرة باعترافه المباشر، وبيده ـ إما بقطع الرؤوس بالسيف، أو بإطلاق النار عليهم ـ ربما تجاوز عددهم المائتين.

ثمة قواسم ومشتركات بين شخصية صدام حسين التي اكتسبت كل تلك الهالة والكاريزما، وحبتها بحظوة الظفر والشخصية القيادية محاولته اغتيال عبد الكريم قاسم، والتي انتهت الى اغتيال العراق وموت ملايين الناس، وبين شخصية بريچ العبد الهادي الذيب، التي اشتقت لنفسها طريقاً نحو زعامة عشيرة البريچ، ابتداءاً من جريمة أخذ بالثأر من قاتل عمه، وانتهاءاً بقتل أعداد لا حصر لها من أبناء الرقة عامة، ومن عشيرته خاصة.. يمكن للمرء أن يَعدَّ منها، ويصعب عليه أن يعددها.. ولسنا على دراية أو توقع أسباب النهايات والمآلات.. كل ما يمكن الوثوق به، والتأكد منه في مستقبل الكرامة، أن منخرها البازلتي البركاني سيظل سامقاً في عنان السماء، يروي للأجيال أساطير المآسي التي مرت قدماً، والتي تعبر حديثاً بالمكان والسكان، وأنَّ روح (جعفر الطيار) المقطوع اليدين، وقد سقطت من بين عضده الراية، ستظل كالشبح؛ تحوم حول الكرامة، وتطوف بها صباح مساء، ترقب المكان بحزن وشجن، وهي تندب أبناء الرقة الذين يرحلون باكراً عن هذه الدنيا كل يوم.    
معبد الحسون

باحث سوري ومعتقل سياسي سابق. ويشرف حالياً على رئاسة تحرير موقع الرقة بوست.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.