Print this page

من "سوريا الشمالية" إلى "سوريا الجنوبية": مسؤولية النخبة السياسية عما حدث في لواء اسكندرون وفلسطين (2-3)

16 أيار 2017
 
منذ شهور دخلنا في "مئوية وعد بلفور"، التي اتسمت بمبادرات ومحاضرات وكتابات وندوات (على الطريق) تحمّل الطرف الآخر أو الخارج (الاستعمار/ الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية الجديدة) مآل ما حدث مع "نكبة" 1948.
ولا شكّ أن مثل هذه المقاربة تريح وتزيح المسؤولية عن النخبة المحلية (الفلسطينية) فيما حدث وترميها على الطرف الآخر بمسمياته المختلفة.

وبعبارة أخرى يطرح هنا سؤالان أساسيان: من المسؤول عن عدم تشكّل وبروز قيادة فلسطينية متجانسة تحمل مشروعا مؤسّسيا على نمط "الوكالة اليهودية" خلال 1920-1936، ومن المسؤول عن وجود القيادة الفلسطينية في الخارج (بيروت ودمشق والقاهرة) خلال 1937-1947 التي تركت الشعب الفلسطيني يواجه مصيره في 1948 دون مؤسسات تساعده على إعلان حكومة فلسطينية على نمط "الوكالة اليهودية" التي تحولت إلى حكومة متكاملة صباح 15 أيار/ مايو 1948؟
في الجواب على السؤال الأول يعترف المؤرخ الفلسطيني د. نظام عباسي في كتابه المهم الذي صدر قبل عشرين سنة "السياسة الداخلية للحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الانتداب والحركة الصهيونية 1918-1945" أن "التنافس العائلي في فلسطين كان عقبةً كأداء أمام تحقيق وحدة وطنية صحيحة، وأدى هذا التنافس والتشاحن بين العائلات إلى إغلاق الطريق أمام بلورة الحركة الوطنية الفلسطينية من أجل إنجاز الاستقلال".

ومن المعروف أن التنافس بين كبرى العائلات الفلسطينية على المزيد من الثروة والسلطة بعد إعلان وعد بلفور والاحتلال البريطاني في 1917، الذي تحول لاحقاً إلى انتداب مقنّن من عصبة الأمم ومشروط بتنفيذ وعد بلفور، جعل رموز هذه العائلات الكبرى (الحسيني والنشاشيبي والخالدي الخ) تقبل لأجل ذلك بالتعاون مع سلطة الانتداب والوكالة اليهودية (من تحت الطاولة) والأمير عبد الله في شرق الأردن الذي كان له مشروعه الخاص. وفي المقابل، كما يشير د. عباسي، فقد عرفت تلك الجهات كيف تتعامل مع رموز تلك العائلات وتعمّق أكثر التنافس العائلي لصالحها بطبيعة الحال.

وفي هذا السياق يمكن فهم بروز شاب في مطلع العشرينات من عمره مثل محمد أمين الحسيني ليتولى مركزاً مهماً (مفتي القدس) في 1921 بعد أن استبدل البدلة الافرنجية بالجبة والعمامة وأطلق لحية خفيفة لتناسب مركزه الجديد. أما السبب في ذلك فقد كان وفاة أخيه الشيخ كامل الحسيني مفتي القدس في آذار 1921، وهو ما أشعل المنافسة بين كبار المشايخ الذين يمثلون العائلات الكبيرة (الشقيري وجار الله والخالدي والبديري). ومع أن الحسيني، الذي لم يكن قد أكمل أية مدرسة دينية معتبرة تؤهله لمثل هذا المنصب، جاء لصغر سنه وقلّة علمه في المرتبة الأخيرة في الجولة الأولى للانتخابات إلا أن سلطة الانتداب ضغطت على الشيخ حسام الدين جار الله لكي ينسحب، وتم إعادة الانتخابات لكي يفوز الحسيني بعد أن التقى بالمندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل في نيسان 1921 وعبّر له عن رغبته في التعاون مع سلطة الانتداب و"إيمانه بالنوايا الطيبة للحكومة البريطانية".

ومع وصول الحسيني الشاب إلى هذا المركز المهم احتج آل النشاشيبي فما كان من هربرت صموئيل إلا أن استدعى عميد العائلة راغب النشاشيبي وذكّره أن سلطة الانتداب هي التي عزلت موسى كاظم الحسيني عن رئاسة بلدية القدس وعينته مكانه لأجل "إيجاد توازن بين المتخاصمين"، وهو ما أشعل بالفعل التنافس والتخاصم بين آل الحسيني وآل النشاشيبي حتى 1948 الذي انعكس على المواقف السياسية بطبيعة الحال.

ومع تحول الحسيني من "مفتي القدس" إلى "المفتي الأكبر لفلسطين" دارت في 1922 معركة أخرى بين الحسينية والنشاشيبية على رئاسة "المجلس الاسلامي الأعلى" الذي شكّلته سلطة الانتداب في 1921 ليفوز بها الحسيني الذي استفاد من موارد الأوقاف لتعزيز سلطة العائلة والمتعاونين معها في كل فلسطين حتى مطلع الثلاثينات. ومع هذه الزعامة الدينية والسلطة الجديدة بفضل موارد الأوقاف التي أصبح يوزعها على المقربين، أخذ الحسيني يتطلع للزعامة السياسية أيضا وسط معارضة رموز العائلات الكبيرة والأحزاب السياسية الجديدة، وبذلك تحول التنافس والتنازع في الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في فلسطين بين كتلتين كبيرتين: المجلسيون (أي أنصار الحسيني نسبة إلى رئاسته للمجلس الاسلامي الأعلى) والمعارضة التي ضمّت كل المعارضين له من العائلات والأحزاب السياسية.

في هذا السياق جرت ثورة 1936 بعد إعلان الإضراب العام في نيسان من ذات العام، وهي التي فرضت على الطرفين التفاوض لتشكيل قيادة موحدة للشعب الفلسطيني (اللجنة العربية العليا) التي رأسها الحسيني ودخل في عضويتها ممثلون للأحزاب المختلفة (عوني عبد الهادي وحسين الخالدي وجمال الحسيني والفرد روك وراغب النشاشيبي ويعقوب فراج وعبد اللطيف صلاح ويعقوب الغصين) بينما اختير نائبا للرئيس وأمينا للمال شخصية مستقلة تمثل "المؤسسات الوطنية والاقتصادية" (أحمد حلمي عبد الباقي).

ومع أن اللجنة دعت الشعب الفلسطيني الى إنهاء الإضراب إلا أن اغتيال حاكم الجليل ل. أندروز في 29 ايلول 1939 أدى بسلطة الانتداب إلى حلّ "اللجنة العربية العليا" واعتقال معظم أعضائها (أحمد حلمي وحسين الخالدي وفؤاد سابا ويعقوب الغصين) ونفيهم الى جزيرة سيشل بينما تمكن الحسيني من الهرب إلى بيروت ومنها إلى عواصم عربية (دمشق والقاهرة وبغداد الخ) وأوربية (روما وبرلين الخ) ليدخل في رهانات إقليمية (محور سوريا مصر والسعودية المعادي للمحور الهاشمي) ودولية (ايطاليا الفاشية وألمانيا النازية) ويقطع بذلك خط الرجعة إلى القدس حتى حرب 1948.



أمين الحسيني في زيارة الى ألمانيا،1943
 
وكانت بريطانيا قد طرحت عشية الحرب العالمية الثانية "الكتاب الأبيض" الذي كان يمثل تغيراً مهماً في السياسة البريطانية تجاه فلسطين. إذ قبلت لندن بمبدأ إنهاء الانتداب وقيام دولة مستقلة في فلسطين ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة مع السماح بهجرة 75 ألف يهودي لتعتبر بذلك أنها قد وفّت بوعدها لليهود بوطن قومي. ونظراً لحرص بريطانيا لترتيب أوضاع المنطقة عشية الحرب فقد وافقت على مساعي رئيس الوزراء المصري محمد محمود لإجراء تعديلات لصالح العرب وجمع أعضاء اللجنة العربية العليا في القاهرة الذين وافقوا عليها، واتصل أحمد حلمي نائب الرئيس بالحسيني الموجود في بيروت ليعرض عليه التعديلات التي انتزعها رئيس الوزراء المصري لصالح العرب ويأخذ موافقته بالهاتف. ولكن أعضاء اللجنة ورئيس الوزراء فوجئوا في اليوم التالي بالصحف اللبنانية تنشر رفض الحسيني للأمر، ولذلك قال رئيس الوزراء المصري بمرارة لأعضاء اللجنة "اسمحوا لي أن أنسحب من المداخلة في قضيتكم، وعليكم أن تعتمدوا على أنفسكم وتعملوا ما أنتم أدرى به لمصلحتكم ولا تحملوا الدول العربية بعد الآن مشاكل غير مشاكلها".

ومع تأسيس جامعة الدول العربية في 1945 رأت الجامعة أن تكون فلسطين قضية عربية، وقامت في مؤتمر بلودان 1946 باختيار قيادة تمثل التيارات الفلسطينية المتنافسة برئاسة أمين الحسيني وعضوية أحمد حلمي وحسين الخالدي وجمال الحسيني وأميل الغوري. ولكن الحسيني سرعان ما وسّع من عنده اللجنة وضمّ إليها بعض الأعضاء المرتبطين به شخصياً، وأصبحت هذه "القيادة" الفلسطينية تعيش في الخارج (دمشق وبيروت والقاهرة) وانحصرت قراراتها بيد الحسيني في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون في أمس الحاجة اليها في الداخل، وخاصة في القدس التي لم يبق فيها سوى عضوان من "الهيئة العربية العليا": أحمد حلمي وحسين الخالدي.

في هذا الوضع جاء تبني الأمم المتحدة لقرار التقسيم في 1947 وإعلان بريطانيا عن انسحابها في 15 أيار 1948 ليجد الفلسطينيون أنفسهم دونما قيادة في الداخل، ودونما مؤسسات تعبأ الفراغ في القسم المخصص لهم على نمط ما قامت به الوكالة اليهودية التي تحولت إلى حكومة في أول يوم بعد الانسحاب البريطاني. وفي هذا الوضع تعرضت أحياء القدس لأعنف هجوم يهودي في 15-17 أيار 1948، حيث لم يبق فيها إلا عضو واحد (أحمد حلمي) من القيادة الفلسطينية (الهيئة العربية العليا) بينما كان باقي الأعضاء في بيروت ودمشق والقاهرة يصدرون أعنف البيانات والبلاغات، ولم ينقذ القدس القديمة من السقوط سوى تدخل الجيش الأردني في 18 أيار 1948 بقيادة عبد الله التل، اذ دارت أعنف المعارك مع القوات اليهودية.
        
ومع أن الملك عبد الله كرّم العضو الوحيد الذي بقي في القدس ودافع عنها (أحمد حلمي) بتعيينه حاكماً عسكرياً ومنحه رتبة لواء كجزء من ترتيب الأوضاع في القسم المخصص للعرب في فلسطين لكي ينضم لاحقاً إلى جزء الأردن، إلا أن أحمد حلمي وافق في تموز 1948 على اقتراح الجامعة العربية بأن يكون على رأس الإدارة المدنية في فلسطين التي تحولت إلى "حكومة عموم فلسطين" في ايلول 1948. ومع أن المحور المعادي للهاشميين (سوريا والسعودية ومصر) كان يؤيد بقوة "حكومة عموم فلسطين" برئاسة أحمد حلمي كنوع من المناكفة للملك عبد الله لعرقلة ضم ضفتي الأردن في دولة واحدة، إلا أنه في الوقت نفسه اشترط أن يكون الحسيني وراء الكواليس لأنه لم يعد يجد دولة عربية تقبل به بسبب جملة ممارساته خلال 1937-1947. ومع ذلك فقد تسلّل الحسيني إلى غزة لعقد "مجلس وطني" يجمع أنصاره من وراء ظهر "حكومة عموم فلسطين" في 1 تشرين الأول 1948 ليعلن نفسه رئيساً لجمهورية فلسطين حسب مذكرات رشيد الحاج ابراهيم الذي كان حاضراً هناك، ولكن اعتراض أحمد حلمي أفشل ذلك. وعلى الرغم من ذلك نجح الحسيني بواسطة أنصاره في إقرار "النظام المؤقت لحكومة عموم فلسطين" الذي اخترع كيانا أسماه "المجلس الأعلى" وجعل نفسه رئيساً للمجلس الأعلى ورئيساً للمجلس الوطني الذي يمنح الثقة لـ "حكومة عموم فلسطين".
      
أما النتيجة فكانت أن قُضي على هذا الكيان لأن الملك عبد الله في اليوم ذاته كان يتلقى عبر "مؤتمر عمّان" تفويضا من ممثلين للضفة الغربية للحديث باسم عرب فلسطين، كما أن الحكومة المصرية لم تتحمل لعبة الحسيني فأرسلت سيارة عسكرية حملته بالقوة إلى القاهرة وتحولت "حكومة عموم فلسطين" إلى "حكومة غزة" لأقل من شهر قبل أن ينتقل الوزراء إلى القاهرة ومن هناك تفرقوا الى عدة دول عربية (مصر والاردن والسعودية ولبنان).



الملك عبد الله الأول (1951-1921)

وأخيراً اكتمل الأمر بموقف حكومة اسرائيل التي كانت متحيرة بين خيارين حتى أواخر 1948: الاعتراف بحكومة فلسطينية محدودة الموارد لا تشكّل تهديداً لإسرائيل، أو القبول بطلب الملك عبد الله لضم الضفة الغربية إلى شرق الاردن. كان رأي رئيس الحكومة دافيد بن غوريون ووزير الخارجية موسى شرتوك يميل الى الرأي الأول (على ألا يكون للحسيني دوراً فيها) لأن الخيار الثاني كان يشكل قلقاً فيما لو اتحدت ضفتي الأردن مستقبلاً مع العراق، ليشكل ذلك تهديداً استراتيجياً لإسرائيل. ولكن لعبة الحسيني في غزة والتفاوض مع الملك عبد الله جعل حكومة اسرائيل تميل في شهر كانون الأول 1948 إلى الخيار الثاني، وبذلك حرم الفلسطيني من دولة خاصة بهم بسبب أخطاء زعامتهم وتشتت ولاء قياداتهم بين العواصم العربية.

ومن هذا "المولد" خرج أحمد حلمي مصراً على لقبه "رئيس حكومة عموم فلسطين" وممثلاً لفلسطين (التي لم تعد موجودة بالاسم بعد الضم الدستوري للضفة الغربية في المملكة الأردنية الهاشمية عام 1950) في جامعة الدول العربية حتى وفاته في 1963، حيث نُعي حينئذ بهذا اللقب الذي أصبح في ذمة التاريخ.
محمد م. الأرناؤوط

مؤرخ كوسوفي / سوري ، اشتغل في جامعة بريشتينا وفي عدد من الجامعات الأردنية (1974-2017) . يشتغل في تاريخ بلاد الشام والبلقان خلال الحكم العثماني والعلاقات العربية- البلقانية . من مؤلفاته "معطيات عن دمشق وبلاد الشام الجنوبية في نهاية القرن السادس عشر" و "دراسات في بلاد الشام في القرن السادس عشر" و "دراسات حول الحكومة/ الدولة العربية في دمشق 1918-1920" و "ودراسات في الصلات العربية – البلقانية في التاريخ الوسيط والحديث" و"البلقان من الشرق إلى الاستشراق" الخ .

مواد أخرى لـ محمد م. الأرناؤوط

ذات صلة